النقطة السادسة : كيف نعدل المزاج؟ :
مما تقدم ظهر أهمية هذا البحث في علم التربية وأنه يعد من أهم المباحث التي يجب أن يتناولها الباحث في التربية ، ولا سيما أنه متى اعتدل المزاج لم نحتج إلى شيء آخر نقوم بإصلاحه : لأنه متى صلح المزاج صلحت النفس والبدن ، وهو المراد في علم التربية الدينية والدنيوية .
والآن نطرح سؤالاً كيف يمكن لنا أن نصلح المزاج وأن نعدله ؟
وفي الجواب نقول ما يلي :
أولاً : إزالة كل أمر يوجب التوتر سواء كان من غضب أو فرح شديد ، ويراعى في أموره الوسيطة.
ثانياً : تهيؤ النفس إلى الراحة وعدم تعريضها إلى العناء الشديد ، من الرياضات الشرعية أو غيرها بشكل لا يتحمله الفرد بحسب مزاجه .
ثالثاً : مراعاة الأطعمة المناسبة للجسد بما يوافق حاجته وعدم الإفراط أو التفريط سواء في الأكل أو المنع منه ، ويلاحظ كل على حسب مزاجه من الحرارة والبرودة واليبوسة والرطوبة ، وقد ذكر ابن سينا في ( القانون ) فراجع .
رابعاً : السعي إلى ترويح النفس والجسد من خلال التعرض إلى الأجواء المناسبة والطيبة الملائمة لهما ، كالذهاب إلى الرياض الخضراء والتعرض إلى النسيم العليل وما يوافق الهواء الصافي .
خامساً : ترويض النفس والبدن على الملكات الأخلاقية الفاضلة وقهر البدن على ذلك .
سادساً : ترويض البدن على الجوع غير المؤذي للإنسان بحيث يحصل على فوائده كما ذكر ذلك المناوي صاحب ( فيض القدير شرح الجامع الصغير ) ج 2 ، ص 104 قال :
عبقـرية مبكـرة
لأطفالنا
ـ 247 ـ
( تنبيه قال ابن العربي : للجوع حال ومقام ، فحاله الخشوع والخضوع والذلة والافتقار وعدم الفضول وسكون الجوارح وعدم الخواطر الرديئة ، هذا حال الجوع للسالكين أما حاله للمحققين فالرقة والصفاء والمؤانسة والتنزه عن أوصاف البشرية بالعزة الإلهية والسلطان الرباني ، ومقامه المقام الصمداني ، وهو مقام عال له أسرار وتجليات ، فهذا فائدة الجوع للمريد لا جوع العامة فإنه جوع صلاح المزاج وتنعيم البدن بالصحة فقط ) .
سابعاً : تعليم الإنسان قبول القضاء والقدر وأن ما يقع عليه وكان خارجاً من يده أن فيه خيراً له حتى يحصل على حالة الاطمئنان وهي توجب استقرار النفس لما يحدث لها من المصائب مما يلزم تحمل البدن العناء ، فلا يخرج عن حد الاستواء وعن حد الاعتدال .
ثامناً : الاستفادة من النسيان الذي يوجد عند الإنسان للمحافظة على اعتدال المزاج ، وذلك أنه قد يعرض للطفل الصغير ما يكدر صفو عيشه لأنه فقد شيئاً او أحب أمراً ولم يحصل عليه فتراه يبكي بكاء ، ولكن سرعان ما ينساه الطفل لانشغاله بأمر آخر ، عندها يلزم على المربين أن يستفيدوا من هذه النعمة العظيمة في الحفاظ على نفسية الطفل وعدم تذكيره بالأمور التي توجب له الحزن والبكاء فتسوء أخلاقه ، بل يجب أن يستفاد من تلك الحالة بأن يقوموا هم بتنسيته الأمور التي يجب ألآن لا يذكرها لتأثيرها على نفسيته أو على سلوكه. ونحن عندما نلاحظ الطفل الصغير نجده سرعن ما ينسى ويغفل عما كان يريده سابقاً ، وما جعل الله فيه هذه الميزة إلا من أجل ما ذكرنا ، فتأمل .
وهناك أمور كثيرة تساعد فيها على اعتدال المزاج في النفس والبدن فتعمل ليكون عندها الجسد والروح قابل للملكات والاستعداد لما توجه إليه .
عبقـرية مبكـرة
لأطفالنا
ـ 248 ـ
وهناك مطالب كثيرة في مباحث المزاج أعرضنا عنها ابتغاء الاختصار الذي عهدنا أنفسنا به : فإذا أردتها فراجعها في المطولات .
عبقـرية مبكـرة
لأطفالنا
ـ 249 ـ
الباب الثاني
الفصل العاشر
عبقـرية مبكـرة
لأطفالنا
ـ 251 ـ
الانسان الكامل
اعلم ـ سددك الله ـ أن كل ما تقدم من الفصول والمعارف التي مصدرها معادن اللوح المحفوظ ، ومعادن العظمة والإشراقات الإلهية لخلفائه في أرضه ، ومن سار في طريقهم ما هي إلا مقدمة لهذا الفصل الذي نحن بصدده ، ومع كونه المهم في ما تقدم إلا أننا نذكره إشارة واختصاراً لأن التفصيل فيه والتحقيق يأخذ المباحث الكثيرة ويحتاج إلى الصمدي في العلوم الإلهية ، والمعارف الحق ، ونحن نقتفي بآثارهم والعلوم التي توصلوا إليها لنقدمها لك في هذا الفصل بشكل نقاط كأسلوبنا في هذا الكتاب .
النقطة الأولى : حقيقة الإنسان .
إن الإنسان له حقائق وكل حقيقة من الحقائق في مرتبة معينة من الوجود فالإنسان له ثلاث مراتب وكل مرتبة لها مراتب بحسبها لا نتعرض لها .
المرتبة الأولى : الوجود المادي : وهو العالم المشهود أنزل مراتب الوجود ويتميز عن غيره بتعلق الصورة الموجودة فيه بالمادة وارتباطها بالقوة والاستعداد .
المرتبة الثانية : الوجود المثالي : وهو ما يسمى بعالم البرزخ لتوسطه بين العقل المجرد والجوهر المادي والخيال المنفصل لاستقلاله عن الخيال الحيواني المتصل به ، وهو عالم مفارق للمادة دون آثارها ، كما ذهب إلى ذلك السيد الطباطبائي في ( بداية الحكمة ) .
المرتبة الثالثة : الوجود المجرد : وهو حقيقة الإنسان كما هي من العوالم التي تشكلت حقيقته وظهرت بها عليه يوم القيامة من التجرد عن المادة آثارها .
عبقـرية مبكـرة
لأطفالنا
ـ 252 ـ
ومن خلال هذه النظرة السريعة يجب علينا في عالم التربية أن ننظر إلى الطفل ليس في عالم واحد ، بل إلى العوالم الأخرى وفي النشأة الثانية ، فمتى كانت التربية ناظرة إلى تلك العوالم كانت التربية صحيحة ، أي أنه يجب أن ننظر إلى الطفل لا بما هو مادة فقط بل بما هو في النشآت الأخر ، ومن هنا قال أحد العلماء الأجلاء : إنه ليس من الصعب أن يكون الإنسان عالماً ومن الصعب أن يكون إنساناً.
أقول : وعنى ذلك العالم الجليل أن يكون الإنسان إنساناً كاملاً لا صورة الإنسان فتامل .
النقطة الثانية :
أن الروح لما تنزلت إلى عالم المادة احتاجت إلى ما تستطيع من خلاله في هذا العالم من العمل في العالم المادي فكان الجسد هو آلة الروح في الحياة الدنيا : فإن النفس محبوسة في هذا البدن ، وإن البدن المادي ليس هو الإنسان الحقيقي في تلك المرتبة ، ومن هنا نجد الروية تقول ( ان الله لا ينظر إلى صوركم بل ينظر إلى قلوبكم ) أي إلى حقائق وجودكم ، وإن هذا البدن الذي نحن فيه ما هو إلا لبس في عالم الدنيا وعندما نصل إلى مرحلة أخرى ألطف وأرق نخلع لباس البدن المادي ، ويبقى عندنا البدن المثالي الذي هو ألطف من البدن المادي ، ومن هنا يجب أن نهتم في حقيقة الإنسان لا ظاهره في عالم التربية ، فقد يكون الإنسان صحيحاً في الجسد المادي إلا أنه في الجسد المثالي وفي عالم التجرد معوق ومشوه .
وهذا واضح جداً : فقد قال الله تعالى عن لسان البعض في يوم القيامة مخاطباً الله سبحانه وتعالى : ( ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكاً ونحشره يوم القيامة اعمى * قال رب لم حشرتني أعمي وقد كنت بصيراً )
(1) .
**************************************************************
(1) طه : آية 124 ـ 125 .
عبقـرية مبكـرة
لأطفالنا
ـ 253 ـ
فإن الآية الشريفة واضحة في أن الإنسان قد يكون في هذا العالم صحيحاً معافا إلا أنه في عالم المثال وعالم الشهود يوم القيامة حقيقته هو العمى ، وأن هذا العمى ليس اعتباطياً بل له سبب وهو إعراض عن ذكر الله في عالم الدنيا ، فمن يشرب سماً قاتلاً فإن بدنه يتلف ويموت وسبب موته هو شرب السم ، وكذلك العمى في الأخرى سببه الإعراض عن ذكر الله.
فإذا تقرر ذلك عرف أنه يجب على المربي وعلى الوالدين أن يحافظا على ابنهما في جميع العوالم وليس في عالم واحد ، وذلك من خلال التربية والتعليم والتأديب بما جاء عن الله وعن الرسول وأهل بيته صلوات الله عليهم أجمعين ، بل حتى الإنسان الكامل كرسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم )يحتاج إلى مؤدب يؤدبه ، ولكن المؤدب له هو الخالق لأن نبينا محمد ( صلى الله عليه وآله وسلم ) لا يستطيع أحد أن يعلمه شيئاً ، لأن حقيقته الوجودية أكمل من أي حقيقة أخرى فهو خاتم الأنبياء والمرسلين بل هو أدنى من قاب قوسين من الحقيقة الكاملة ومع ذلك نجد الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله يقول بعد نزول قوله تعالى : ( خذ العفو وأمر بالعرف واعرض عن الجاهلين ) قال صلوات الله عليه وعلى آله : ( أدبني ربي بمكارم الأخلاق ) صدق رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وسلم ، فكان المؤدب له هو الله لأنه الكمال المطلق ، وكان النبي هو المؤدب لأهل بيته وأصحابه وهم المؤدبون لنا ونحن المؤدبون لأبنائنا بما أدبنا رسول الله( صلى الله عليه وآله وسلم ) .
النقطة الثالثة : الوصول إلى مرتبة الإنسان الكامل :
لكي يكون الإنسان إنساناً كاملاً لا بد أن يكون عبدالله سبحانه وتعالى ، لأن الكمال الحقيقي الذي ينشده الإنسان لنفسه هو افتقاره لله سبحانه وتعالى ،
عبقـرية مبكـرة
لأطفالنا
ـ 254 ـ
وحقيقة ظهور الافتقار تكمن في حقيقة العبودية والتذلل لله جل جلاله ، وذلك لأنه متى كان الإنسان عبداً لله سبحانه وتعالى كان كاملاً : لأنه عندها يتحلى بأخلاق الله كما جاءت بها الرواية : ( تخلفوا بأخلاق الله ) وفعل الله هو الكمال ، فيكون المتخلق بها كاملاً وهو المراد من وجوده ومن خلقه ، قال تعالى : ( وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون ) ، صدق الله العلي العظيم ، فعليه لابد أن يسلك المربي بولده مسلك التأدب والتعليم وذلك باتباع المنهج القويم الذي جاء عن الله وأن يحبب في نفسية الطفل حب الله وحب رسوله وحب كل أمر أمر به الإسلام.
فقد روي : ( أن النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم )وسلم على غلام دون البلوغ وبش له وتبسم فرحاً بالنبي ، فقال النبي له : أتحبني يا فتى ؟
فقال : إي والله يا رسول الله.
فقال له : مثل عينيك ؟
فقال : أكثر.
فقال النبي : مثل أبيك ؟
فقال : أكثر.
فقال : مثل أمك ؟
قال : أكثر.
فقال : مثل نفسك ؟
فقال : أكثر والله يا رسول الله.
فقال : أمثل ربك ؟
عبقـرية مبكـرة
لأطفالنا
ـ 255 ـ
فقال : الله الله الله يا رسول الله ليس هذا لك ولا لأحد ، فإنما أحببتك لحب الله، فالتفت النبي إلى من كان معه وقال : هكذا كونوا حبوا الله لإحسانه إليكم وانعامه عليكم واحبوني لحب الله ) .
ولا يصل الفرد إلى هذا المقام إلا بالتعلم والعلم الإلهي ، فقد قال الله تعالى : ( أو من كان ميتاً فاحييناه وجعلنا له نوراً يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها كذلك زين للكافرين ما كانوا يعملون )
(1).
فإن الإنسان هو ميت وإن كان متحركاً : إذ الحياة المرادة ليس بالمصطلح عليها عندنا : فالحياة الحقيقية التي يجب أن ينشدها الإنسان هي بالإيمان بالله سبحانه وتعالى ، والإيمان هوالعلم والاعتقاد بوجود خالق له وبصفاته وتخلق بأخلاقه فمتى صار عالماً كان حياً ومتى كان حياً كان له نور يمشي به بين الناس ، ولذلك يقال : ( الناس موتى وأهل العلم أحياء ) ، ولا يكون له نور إلا إذا اتحد العلم بوجوده بحيث يصح ان يصدر منه نورا ، ولا يتحد العلم بالعالم إلا إذا كان جزءاً منه فصار به عقلاً فعال ، ومتى كان عقلاً فعلاً كان عبقرياً ، وبذلك يصح أن يكون الولد حياً بحياة لا يموت بها بالبدن ، صح عندها أن يطلب الله أن يرزقه ولداً ويقول كما علمنا الله عن لسان المؤمنين ، قال تعالى : ( والذين يقولون ربنا هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين واجعلنا للمتقين إماما ) ، وقال : ( وزكريا إذ نادى ربه رب لا تذرني فرداً وأنت خير الوارثين ) ، صدق الله العلي العظيم .
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
وبهذا نكون قد انتهينا من كتابنا الموسوم بـ ( عبقرية مبكرة لأطفالنا ) في تاريخ 4 / 4 / 1423 من الهجرة المباركة في قم المقدسة.
**************************************************************
(1) الأنعام : 122 .