الفهرس العام

المَسلَكُ الثّالثُ فيِ الأُموُرِ المُتَأخِرَةِ عَن قَتلِهِ عليهِ السَلاَمُ



  ينشرون فيقتلهم الحسين عليه السلام ، ثم ينشرون فلا يبقى من ذريتنا أحد إلا قتلهم ، فعند ذلك يكشف الغيط وينسى الحزن ) .
  ثم قال الصادق عليه السلام : ( رحم الله شيعتنا ، هم والله المؤمنون وهم المشاركون لنا (1) في المصيبة بطول الحزن والحسرة ) .
  وعن النبي صلى الله عليه وآله أنه قال : ( اذا كان يوم القيامة تأتي فاطمة عليها السلام في لمة من نسائها .
  فيقال لها : ادخلي الجنة .
  فتقول : لا أدخل حتى أعلم ما صنع بولدي من بعدي .
  فيقال لها : أنظري في قلب القيامة ، فتنظر إلى الحسين عليه السلام قائماً ليس عليه رأس ، فتصرح صرخة ، فأصرخ لصراخها وتصرخ الملائكة لصراخها ) .
  وفي رواية أخرى : ( وتنادي وا ولداه ، واثمرة فؤاداه ) .
  قال : ( فيغضب الله عز وجل لها عند ذلك ، فيأمر ناراً يقال لها هبهب قد أوقد عليها ألف عام حتى اسودت ، لا يدخلها روح أبداً ولا يخرج منها غم أبداً .
  فيقال لها : التقطي قتلة الحسين عليه السلام ، فتلتقطهم ، فإذا صاروا في حوصلتها صهلت وصهلوا بها وشهقت وشهقوا بها وزفرت وزفروا بها .
  فينطقون بألسنة حداد ذلقة ناطقة : يا ربنا بم أوجبت لنا النار قبل عبدة الأوثان ؟
  فيأتيهم الجواب عن الله عز وجل : ليس من علم كمن لا يعلم ) .

---------------------------
(1) ع : قد والله شركونا .

الملهوف على قتلى الطفوف _186_

  روى هذه الحديثين ابن بابويه في كتاب عقاب الأعمال (1) ـ (2) .

---------------------------
(1) محمد بن علي بن الحسين بن موسى بن بابويه القمي ، يعرف بالشيخ الصدوق ، محدث كبير ، لم ير في القميين مثله ، نزل بالري ، توفي سنة 381 هـ ودفن بالري ، له عدة مؤلفات .
وكتاب عقاب الأعمال تعرض فيه لذكر عقاب الأعمال المنهي عنها ، طبع مع ثواب الأعمال له عدة مرات .
رياض العلماء 5 | 119 ، الكنى والألقاب 1 | 212 ، تنقيح المقال 3 | 154 ، الأعلام 6 | 274 .
(2) جاء بعد هذا في ع :
ورأيت في المجلد الثلاثين من تذييل شيخ المحدثين ببغداد محمد بن النجار في ترجمة فاطمة بنت أبي العباس الأزدي بإسناده عن طلحة قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله يقول : إن موسى بن عمران سأل ربه قال : يا رب إن أخي هارون مات فاغفر له ، فأوحى الله إليه : يا موسى بن عمران ، لو سألتني في الأولين والآخرين لا جبتك ، ما خلا قاتل الحسين بن علي بن أبي طالب صلوات الله وسلامه عليهما .

الملهوف على قتلى الطفوف _ 187 _

المَسلَكُ الثّالثُ
فيِ الأُموُرِ المُتَأخِرَةِ عَن قَتلِهِ عليهِ السَلاَمُ

الملهوف على قتلى الطفوف _ 189 _

  وهي تمام ما أشرنا إليه .
  قال : ثم إن عمر بن سعد لعنه الله بعث برأس الحسين عليه الصلاة والسلام في ذلك اليوم ـ وهو يوم عاشوراء ـ مع خولي بن يزيد الأصبحي وحميد بن مسلم الأزدي (1) إلى عبيد الله بن زياد ، وأمر برؤوس الباقين من أصحابه وأهل بيته فقطعت وسرح بها مع شمر بن ذي الجوشن لعنه الله وقيس بن الأشعث وعمرو بن الحجاج ، فأقبلوا بها حتى قدموا الكوفة .
  وأقام ابن سعد بقية يومه واليوم الثاني إلى زوال الشمس ، ثم رحل بمن تخلف من عيال الحسين ، وحمل نساءه على أحلاس أقتاب الجمال بغير وطاء ولا غطاء مكشفات الوجوه بين الأعداء ، وهن ودائع خير الأنبياء ، وساقوهن كما يساق سبي الترك والروم في أسر المصائب والهموم .

---------------------------
(1) في تنقيح المقال 1 | 380 : حميد بين مسلم الكوفي ، لم أقف فيه إلا على عد الشيخ رحمه الله إياه في رجاله من أصحاب السجاد عليه السلام ، وظاهره كونه إمامياً ، إلا أن حاله مجهول .
وفي مستدركات علم الرجال 3 | 289 : حميد بن مسلم الكوفي ، عد من مجاهيل اصحاب السجاد عليه السلام ، وهو ناقل جملة من قضايا كربلاء على نحو يظهر منه أنه كان في وقعة الطف ... وكان من جند سليمان بن صرد من طرف المختار في مقتل عين الوردة في حرب اهل الشام لطلب ثار الحسين عليه السلام .
أقول : أحتمل تعدد حميد بن مسلم : أحدهما كان في واقعة الطف ونقل بعض الوقائع وأرسل عمر ابن سعد رأس الحسين معه ومع جماعة إلى عبيد الله بن زياد ، مما يدل على أنه كان من أعوان عمر بن سعد ، والثاني إمامي من أصحاب الامام السجاد ومن جند سليمان بن صرد .

الملهوف على قتلى الطفوف _ 190 _

  ولله در القائل :
يصلى على المبعوث من آل هاشم      ويـغزى بنوه إن ذا لعجب (1)ii
  وروي : أن رؤوس أصحاب الحسين عليه السلام كانت ثمانية وسبعين رأساً ، فاقتسمتها القبائل ، لتتقرب بذلك إلى عبيد الله بن زياد وإلى يزيد بن معاوية :
  فجاءت كندة بثلاثة عشر رأساً ، وصاحبهم قيس بن الأشعث .
  وجاءت هوازن باثني عشر رأساً ، وصاحبهم شمر بن ذي الجوشن .
  وجاءت تميم بسبعة عشر رأساً .
  وجاء بنو أسد بستة عشر رأساً .
  وجاءت مذحج بسبعة رؤوس .
  وجاء سائر الناس بثلاثة عشر رأساً .
  قال الراوي : ولما انفصل ابن سعد (2) عن كربلاء ، خرج قوم من بني أسد ، فصلوا على تلك الجثث الطواهرالمرملة بالدماء ، ودفنوها على ما هي الآن عليه .
  وسار ابن سعد بالسبي المشار إليه ، فلما قاربوا الكوفة اجتمع أهلها للنظر إليهن .
  قال الراوي : فاشرفت امرأة من الكوفيات ، فقالت : من أي الاسارى أنتن ؟
  فقلن : نحن أسارى آل محمد صلى الله عليه وآله .
  فنزلت من سطحها ، فجمعت ملاء (3) وأزراً ومقانع ، فأعطتهن ، فتغطين .

---------------------------
(1) جاء في ع بعد هذا :
وقال آخر :
أترجو  أمة قتلت حسيناً      شفاعة جده يوم الحساب
(2) ب : عمر بن سعد .
(3) ر : ملاحف خ ل .

الملهوف على قتلى الطفوف _ 191 _

  قال الراوي (1) : وكان مع النساء علي بن الحسين عليه السلام ، قد نهكته العلة ، والحسن بن الحسن المثنى (2) ، وكان قد واسى عمه وإمامه (3) في الصبر على الرماح (4) ، وإنما ارتث وقد أثخن بالجراح (5) .
  وكان معهم أيضاً زيد (6) وعمرو (7) ولدا الحسين السبط عليه السلام .

---------------------------
(1) الراوي ، من ع .
(2) الحسن بن الحسن بن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ، يعرف بالمثنى ، وابنه الحسن يعرف بالمثلث ، كان جليلاً فاضلاً ورعاً ، وكان يلي صدقات أمير المؤمنين عليه السلام في وقته ، تزوج من أبنة عمه فاطمة بنت الحسين عليه السلام ، حضر مع عمه الحسين يوم الطف ، وحارب وجرح وشافاه الله، أمه خولة بنت منظور الفرازي ، توفي نحو سنة 90 هـ بالمدينة ، ولم يدع الإمامة لا ادعاها له مدع ، بخلاف ابنه الحسن المثلث .
تسمية من قتل مع الحسين : 157 ، تهذيب ابن عساكر 4 | 162 ، الأعلام 2 | 187 ، معجم رجال الحديث 4 | 301 .
(3) وإمامه ، لم يرد في ر .
(4) ع : في الصبر على ضرب السيوف وطعن الرماح .
(5) جاء بعدهذا في ع :
وروى مصنف كتاب المصابيح : أن الحسن بن الحسن المثنى قتل بين يدي عمه الحسين عليه السلام في ذلك اليوم سبعة عشر نفساً وأصابه ثمانيةعشرجراحة ، فوقع ، فأخذه خاله أسماء بن خارجة ، فحمله إلى الكوفة وداواه حتى برء ، وحمله إلى المدينة .
(6) زيد بن الحسن بن علي بن أبي طالب عليه السلام ، أبو الحسن الهاشمي ، من أصحاب السجاد عليه السلام ، جليل القدر ، كريم الطبع ، طريف النفس ، كثير البر ، كان يلي صدقات رسول الله صلى الله عليه وآله ، وذكر بعض المؤرخين أنه تخلف عن عمه الحسين فلم يخرج معه إلى العراق ، مات سنة 120 هـ ، لم يدع الإمامة ولاأدعاها له مدع من الشيعة ولا غيرهم .
معجم رجال الحديث 7 | 339 ، وبالنقل عن : رجال الشيخ ، والإرشاد للمفيد ، والعمدة للسيد منها ، والبحار 46 | 329 .
(7) ذكر في مختصر تاريخ دمشق 19 | 198 باسم : عمر بن الحسن بن علي بن أبي طالب ، خرج معه

الملهوف على قتلى الطفوف _ 192 _

  فجعل أهل الكوفة ينحون ويبكون .
  فقال علي بن الحسين عليه السلام : ( أتنوحون وتبكون من أجلنا ؟!! فمن الذي قتلنا ؟!! ) .
  قال بشير بن خزيم الأسدي (1) ونظرت إلى زينب ابنت علي عليه السلام يومئذ ، فلم أر خفرة قط أنطق منها ، كأنها (2) تفرغ من لسان أمير المؤمنين عليه السلام ، وقد أومأت إلى الناس أن اسكتوا (3) ، فارتدت الأنفاس وسكنت الأجراس ، ثم قالت :
  الحمد لله ، والصلاة على جدي (4) محمد وآله الطيبين الأخيار .
  أما بعد ، يا أهل الكوفة ، ياأهل الختل والغدر ، أتبكون ؟! فلا رقأت (5) الدمعة ، ولا هدأت الرنة ، إنما مثلكم كمثل التي نقضت غزالها من بعد قوة أنكاثاً ، تتخذون أيمانكم دخلاً بينكم .
  ألا وهل فيكم إلا الصلف والنطف (6) ، والصدر والشنف ، وملق الإماء ، وغمز الأعداء ؟! أو كمرعى على دمنة ، أو كفضة على ملحودة ، ألا ساء ما قدمت لكم أنفسكم أن سخط الله عليكم وفي العذاب أنتم خالدون .

---------------------------
عمه الحسين بن علي إلى العراق، وكان فيمن قدم به دمشق مع علي بن الحسين، ولد محمداً وانقرض ولده ، وكان رجلاً ناسكاً من أهل الصلاح والدين.
(1) ر : شبير بن خزيم الاسدي .
في مستدركات علم الرجال 2 | 37 : بشير بن جزيم الأسدي ، لم يذكروه ، وهو راوي خطبة مولاتنا زينب عليها السلام بالكوفة .
(2) ر : كأنما .
(3) ر : اسكنوا .
(4) ب .ع : أبي .
(5) ر : فلا رقت .
(6) ر : والظلف .

الملهوف على قتلى الطفوف _ 193 _

  أتبكون وتنتحبون ؟! إي والله فأبكوا كثيراً ، واضحكوا قليلاً ، فلقد ذهبتم بعارها وشنارها (1) ، ولن ترحضوها بغسل بعدها أبداً ، وأنى ترحضون قتل سليل خاتم النبوة ، ومعدن الرسالة ، وسيد (2) شباب أهل الجنة ، وملاذ خيرتكم ، ومفرغ نازلتكم ، ومنار (3) حجتكم ، ومدرة سنتكم .
  ألاساء ما تزرون ، وبعداً لكم سحقاً ، فلقد خاب السعي ، وتبت الأ يدي ، وخسرت الصفقة وبؤتم بغضب من الله، وضربت عليكم الذلة والمسكنة .
  ويلكم يا أهل الكوفة ، أتدرون (4) أي كبد لرسول الله فريتم ؟! وأي كريمة له أبرزتم ؟! وأي دم له سفكتم ؟! وأي حرمة له انتهكتم ؟! لقد جئتم بها صلعاء عنقاء سوداء فقماء (5) .
  وفي بعضها : خرقاء شوهاء ، كطلاع الأرض وملاء السماء .
  أفعجبتم أن مطرت (6) السماء دماً ، ولعذاب الآخرة أخزى وأنتم لا تنصرون ، فلا يستخفنكم المهل ، فانه لا يحفزه البدار ولا يخاف فوت الثار ، وإن ربكم لبالمرصاد .
  قال الراوي (7) : فوالله لقد رأيت الناس يومئذ حيارى يبكون ، وقد وضعوا أيديهم في أفواههم .

---------------------------
(1) ب : وسنآنها .
(2) ب : خاتم الأنبياء وسيد .
(3) ر : ومعاذ .
(4) ر : ويلكم أتدرون يا أهل الكوفة .
(5) ر : عنقاء سواآء فقماء ناداء .
(6) ب : قطرت .
(7) الراوي ، من ع .

الملهوف على قتلى الطفوف _ 194 _

  ورأيت شيخاً واقفاً إلى جنبي يبكي حتى اخضلت لحيته وهو يقول : بأبي أنتم وأمي كهولكم خير الكهول ، وشبابكم خير الشباب ، ونساؤكم خير النساء ، ونسلكم خير نسل ، لا يخزى ولا يبزى .
  وروى زيد بن موسى (1) قال : حدثني أبي ، عن جدي عليهما السلام قال : خطبت فاطمة الصغرى عليها السلام بعد أن ورد من كربلاء ، فقالت :
  الحمد الله عدد الرمل والحصى ، وزنة العرش إلى الثرى ، أحمده وأؤمن به وأتوكل عليه ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأن محمداً صلى الله عليه وآله عبده ورسوله ، وأن ذريته (2) ذبحوا بشط الفرات بغير ذحل ولا ترات (3) .
  اللهم إني أعوذ بك أن أفتري عليك الكذب ، وأن أقول عليك خلاف ما أنزلت من أخذ العهود لوصية علي بن أبي طالب عليه السلام ، المسلوب حقه ، المقتول بغير ذنب ـ كما قتل ولده بالأمس ـ في بيت من بيوت الله، فيه معشر مسلمة بألسنتهم ، تعساً لرؤوسهم ، ما دفعت عنه ضيماً في حياته ولا عند مماته ، حتى قبضته إليك (4) محمود النقيبة ، طيب العريكة ، معروف المناقب ، مشهور (5)

---------------------------
(1) زيد بن موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين العلوي الطالبي ، ثائر ، خرج في العراق مع أبي السرايا ، توفي نحو سنة 250 هـ .
الأعلام 3 | 61 ، الكامل في التاريخ 6 | 104 ، مقاتل الطالبيين : 534 ، جمهرة الأنساب : 55 .
(2) ب : ولده . ع : أولاده.
(3) ر : من غير دخل ولا تراث . ع : بغير ذحل ولا تراب .
الذحل : الحقد والعداوة ، يقال : طلب بذحلة أي : بثاره . والموتور : الذي قتل له قتيل فلم يدرك بدمه ، تقول منه : وتره يتره وتراً وتيرة .
الصحاح 4 | 1701 ، 2 | 483 .
(4) ر : قبضه الله إليه .
(5) ر : مشهود .

الملهوف على قتلى الطفوف _ 195 _

  المذاهب ، لم تأخذه اللهم فيك لومة (1) لائم ولا عذل عاذل ، هديته يا رب للغسلام صغيراً ، وحمدت مناقبه كبيراً ، ولم يزل ناصحاً لك ولرسولك صلواتك عليه وآله حتى قبضته إليك ، زاهداً في الدنيا ، غير حريص عليها ، راغباً في الآخرة ، مجاهداً لك في سبيلك ، رضيته فاخترته وهديته (2) إلى صراط مستقيم .
  أما بعد ، يا أهل الكوفة ، يا أهل المكر والغدر (3) والخيلاء ، فإنا أهل بيت ابتلانا الله بكم ، وابتلاكم بنا ، فجعل (4) بلاءنا حسناً ، وجعل علمه عندنا وفهمه لدينا ، فنحن عيبة علمه ووعاء فهمه وحكمته وحجته على أهل الأرض في بلاده لعباده ، أكرمنا الله بكرامته وفضلنا بنبيه محمد صلى الله عليه وآله على كثير ممن خلق تفضيلاً بيناً .
  فكذبتمونا ، وكفرتمونا ، ورأيتم قتالنا حلالاً وأمولنا نهباً ، كأننا أولاد ترك أو كابل ، كما قتلتم جدنا بالأمس ، وسيوفكم تقطر من دمائنا أهل البيت ، لحقد متقدم ، قرت لذلك (5) عيونكم ، وفرحت قلوبكم ، افتراء على الله ومكراً مكرتم (6) ، والله خير الماكرين .
  فلا تدعونكم أنفسكم إلى الجذل بما أسبتم من دمائنا ونالت أيديكم من أموالنا ، فان ما اصابنا من المصائب الجليلة والرزايا العظيمة (7) في كتاب من

---------------------------
(1) ر : لم تأخذه في الله لومة .
(2) ر : رضيته فهديته .
(3) ر : يا أهل الغدر .
(4) ر : فوجد .
(5) ب : بذلك .
(6) ر : مكرتموه .
(7) ر : والرزء العظيم .

الملهوف على قتلى الطفوف _ 196 _

  قبل أن نبرأها ، إن ذلك على الله يسير ، لكيلا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما أتاكم ، والله لا يحب كل مختال فخور .
  تباً لكم (1) ، فانتظروا اللعنة والعذاب ، فكأن قد حل بكم ، وتواترت من السماء نقمات ، فيسحتكم بعذاب (2) ويذيق بعضكم بأس بعض ثم تخلدون في العذاب الأليم يوم القيامة بما ظلمتمونا ، ألا لعنه الله على الظالمين .
  ويلكم ، أتدرون أية يد طاعنتنا منكم ؟! وأية نفس نزعت (3) إلى قتالنا ؟! أم بأية رجل مشيتم إلينا تبغون محاربتنا ؟!
  قست والله قلوبكم ، وغلظت أكبادكم ، وطبع على أفئدتكم ، وختم على أسماعكم و أبصاركم (4) ، وسول لكم الشيطان وأملى لكم وجعل على بصركم غشاوة فأنتم لا تهتدون .
  فتباً لكم يا أهل الكوفة ، أي ترات (5) لرسول الله صلى الله عليه وآله قبلكم وذحول (6) له لديكم بما عندتم (7) بأخيه علي بن أبي طالب عليه السلام جدي وبنيه وعترة النبي الأخيار (8) صلوات الله وسلامه عليهم ، وافتخر بذلك مفتخركم فقال :
نحن قتلن علياً وبني علي(9)      بـسـيوف هـنـدية ورمـاح

---------------------------
(1) أمثالكم ، بدلاً من : تباً لكم ، في ر .
(2) ب : فيسحتكم بما كسبتم .
(3) ر : ترغب .
(4) ب . ع : سمعكم وبصركم .
(5) ر : تراث .
(6) ر . ع : ودخول ، والمثبت من ب .
(7) ر : غدرتم .
(8) ب : وعترة النبي الطاهرين الأخيار . ع : وعترته الطيبين الأخيار .
(9) ر : وعلياً وولده قد قتلنا .

الملهوف على قتلى الطفوف _ 197 _

وسبينا نساءهم (1) سبي تُركِ      ونـطـحناهم فــأي iiنـطـاح
  بفيك أيها القائل الكثكث والأثلب (2) ، افتخرت بقتل قوم زكاهم الله وأذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا ، فأكظم واقع كما أقعى أبوك ، فإنما لكل امرء ما اكتسب وما قدمت يداه .
  أحسدتمونا (3) ـ ويلاً لكم ـ على ما فضلنا الله (4) .
  شعر :
فـما  ذنـبنا إن جـاش دهـراً iiبحورنا      وبحرك ساج لا يواري الدَّعامصا (5)
  ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء ، والله ذو الفضل العظيم ، ومن لم يجعل الله له نوراً فما له من نور .
  قال : وارتفعت الأصوات بالبكاء ، وقالوا : حسبك يابنة الطيبين ، فقد أحرقت قلوبنا وانضحت نحورنا (6) واضرمت اجوافنا ، فسكتت .

---------------------------
(1) ر : نساءه .
(2) الكثكث : فتاة الحجارة والتراب ، وكذا الأثلب يأتي بهذا المعنى .
الصحاح 1 | 290 كثث ، و 94 ثلب .
وفي نسخة ب : ولك الأثلب .
(3) ب : حسدتمونا .
(4) ب : الله عليكم ، ولفظ : شعر ، لم يرد في ب .
(5) ر : وبحرك ناج ما يواري ...
وذكر الجوهري الشطر الأول هكذا : فما ذنبنا إن جاش بحر ابن عمكم ، وقال : الدعموص : دويبة تغوص في الماء .
الصحاح 3 | 1040 دعمص .
(6) ر : وانضجت نحورنا .
وفي الصحاح 1 | 412 نضح الشجر : إذا تفطر ليخرج ورقه .
وفي ب : وانضجت نحورنا واضرمت اجوافنا ، فسكتت عليها وعلى أبيها وجدتها السلام .

الملهوف على قتلى الطفوف _ 198 _

  قال : وخطبت أم كلثوم ابنت علي عليهما السلام في ذلك اليوم من وراء كلتها ، رافعة صوتها بالبكاء ، فقالت :
  يا أهل الكوفة ، سوءاً (1) لكم ، مالكم خذلتم (2) حسيناً وقتلتموه وانتهبتم أمواله وورثتموه وسبيتم نساءه ونكبتموه ؟! فتباً لكم وسحقاً .
  ويلكم ، أتدرون أي دواه دهتكم ؟ وأي وزر على ظهوركم حملتم ؟ وأي دماء سفكتموها ؟ وأي كريمة اهتضمتموها (3) ؟ وأي صبية سلبتموها ؟ وأي أموال نهبتموها ؟ قتلتم خير رجالات بعد النبي صلى الله عليه وآله ، ونزعت الرحمة من قلوبكم ، ألا إن حزب الله هم الغالبون وحزب الشيطان هم الخاسرون .
  ثم قالت :
قـتلتم أخـي صبراً فويل iiلأمكم      سـتجزون نـاراً حـرها iiيتوفد
سـفكتم دمـاء حـرم الله سفكها      وحـرمها الـقرآن ثـم iiمـحمد
ألا فـابشروا بـالنار إنـكم غداً      لفي  قعر نار حرها يتصعد (4)ii
وإني لأبكي في حياتي على أخي      عـلى خير من بعد النبي iiسيولد
بـدمع  غـزير مستهل iiمكفكف      عـلى  الـخد مـني دائب(5) ليس
  قال الراوي (6) : فضج الناس بالبكاء والنحيب والنوح ، ونشر النساء

---------------------------
(1) ع : سوئة .
(2) ر : ماخذلتم ، والمثبت من ع .
(3) ع : اصبتموها .
(4) ع : لفي سقر حقاً يقيناً تخلدوا .
(5) ع : دائماً .
(6) الراوي ، من نسخة ع .

الملهوف على قتلى الطفوف _ 199 _

  شعورهن ، وحثين (1) التراب على رؤوسهن ، وخمش وجوههن ، ولطمن خدودهن ، ودعون بالويل والثبور ، وبكى الرجال ونتفوا لحاهم (2) ، فلم ير باكية وباك أكثر من ذلك اليوم .
  ث م ، أن زين العابدين عليه السلام أومأ إلى الناس أن اسكتوا ، فسكتوا ، فقام (3) قائماً ، فحمد الله وأثنى عليه وذكر النبي بما هو أهله فصلى عليه ، ثم قال :
  ( أيها الناس من عرفني فقد عرفني ، ومن لم يعرفني فأنا أعرفه بنفسي : أنا علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب ، أنا ابن المذبوح بشط الفرات من غير ذحل ولا ترات (4) ، أنا ابن من انتهك حريمه وسلب نعيمه وانتهب ماله وسبي عياله ، أنا ابن من قتل صبراً وكفى بذلك فخراً .
  أيها الناس ، ناشدتكم الله هل تعلمون أنكم كتبتم إلى أبي وخدعتموه وأعطيتموه من أنفسكم العهد والميثاق والبيعة وقاتلتموه وخذلتموه ؟! فتباً لما قدمتم لأنفسكم وسوءاً (5) لرأيكم ، بأية عين تنظرون إلى رسول الله صلى الله عليه وآله اذ يقول لكم : قتلتم عترتي وانتهكتم حرمتي فلستم من أمتي ؟! ) .
  قال الراوي (6) : فارتفعت اصوات الناس من كل ناحية ، ويقول بعضهم لبعض : هلكتم وما تعلمون .
  فقال : ( رحم الله أمرءاً قبل نصيحتي وحفظ وصيتي في الله وفي رسوله وأهل

---------------------------
(1) ع : ووضعن .
(2) ونتفوا لحاهم ، لم يرد في ر ، واثبتناه من ع .
(3) ر : فقال .
(4) ر : من غير دخل ولا تراث .
(5) ع : وسوءة .
(6) الراوي ، من ع .

الملهوف على قتلى الطفوف _ 200 _

  بيته ، فان لنا في رسول الله أسوة حسنة ) .
  فقالوا بأجمعهم : نحن كلنا يابن رسول الله سامعون مطيعون حافظون لذمامك غير زاهدين فيك ولا راغبين عنك ، فأمرنا بأمرك يرحمك الله، فإنا حرب لحربك وسلم لسلمك ، لنأخذن يزيد ونبرأ ممن ظلمك وظلمنا .
  فقال عليه السلام : ( هيهات هيهات ، أيها الغدرة المكرة ، حيل بينكم وبين شهوات أنفسكم ، أتريدون أن تأتوا إلي كما أتيتم إلى أبي من قبل ؟! كلا ورب الراقصات ، فان الجرح لما يندمل ، قتل أبي صلوات الله عليه بالأمس وأهل بيته معه ، ولم ينسني ثكل رسول الله صلى الله عليه وآله وثكل أبي وبني أبي ، ووجده بين لهواتي (1) ، ومرارته بين حناجري وحلقي ، وغصصه تجري في فراش صدري .
  ومسألتي أن لا تكونوا لنا ولا علينا ) .
  ثم قال :
(
لا  غـرو إن قـتل الـحسين iiوشيخه      قد كان خيراً من حسين وأكرما (2)
فـلا  تـفرحوا يـا أهل كوفان iiبالذي      أصـاب  حـسيناً كـان ذلـك iiأعظما
قـتيل  بـشط الـنهر روحـي iiفداؤه      جــزاء  الـذي أراده نـار iiجـهنما
)   ثم قال عليه السلام : ( رضينا منكم رأساً برأس فلا يوم لنا ولا علينا ) .
  قال الراوي (3) : ث م، أن ابن زياد جلس في القصر ، وأذن إذناً عاماً ، وجيء برأس الحسين عليه السلام فوضع بين يديه ، وأدخل نساء الحسين وصبيانه إليه .

---------------------------
(1) في متن ر : لهاتي ، وفي حاشيتها : لهواتي خ .
(2) كذا في ب . ع . وفي ر :
فلا غرو من قتل الحسين فشيخه      أبـوه  عـلي كان خيراً iiوأكرما
(3) الراوي ، من ع .

الملهوف على قتلى الطفوف _ 201 _

  فجلست زينب ابنت عي متنكرة ، فسأل عنها ، فقيل : هذه زينب ابنت علي .
  فأقبل عليها وقال : الحمد لله الذي فضحكم وأكذب أحدوثتكم !!!
  فقالت : إنما يفتضح الفاسق ويكذب الفاجر ، وهو غيرنا .
  فقال ابن زياد : كيف رأيت صنع الله بأخيك وأهل بيتك ؟
  فقالت : ما رأيت إلا جميلاً ، هؤلاء قوم كتب الله عليهم القتل ، فبرزوا إلى مضاجعهم ، وسيجمع الله بينك وبينهم ، فتحاج وتخاصم ، فانظر لمن الفلج يومئذ ، هبلتك (1) أمك يابن مراجانة .
  قال الراوي (2) : فغضب وكأنه (3) هم بها .
  فقال له عمرو بن حريث (4) : أيها الأمير إنها إمرأة ، والمرأة لا تؤاخذ بشيء من منطقها .
  فقال لها ابن زياد : لقد شف الله قلبي من طاغيتك الحسين والعصاة المردة من أهل بيتك !!!
  فقالت : لعمري لقد قتلت كهلي ، وقطعت فرعي ، واجتثثت أصلي ، فان كان هذا شفاؤك (5) فقد اشتفيت .

---------------------------
(1) ب : ثكلتك .
(2) الراوي ، من ع .
(3) ر : فكأنه .
(4) ر : عمر بن حريث .
وهو : عمرو بن حريث بن عمرو بن عثمان بن عبد الله المخزومي ، روى عن أبي بكر وابن مسعود ، وروى عنه ابنه جعفر والحسن العرني والمغيرة بن سبيع وغيرهم ، كانت داره مأوى لأعداء أهل البيت ولي الكوفة لزياد بن أبيه ولأبنه عبيد الله، مات سنة 85 هـ .
سير اعلام النبلاء 3 | 417 ـ 419 ، الأعلام 5 | 76
(5) ب . ع : شفاك . ر : فإن كان هذا شفاؤك فقد أشفيت .

الملهوف على قتلى الطفوف _ 202 _

  فقال ابن زياد لعنه الله: هذه سجاعة ، ولعمري لقد كان أبوك شاعراً (1) .
  فقالت : يا بن زياد ما للمرأة والسجاعة (2) .
  ثم التفت ابن زياد لعنه الله إلى علي بن الحسين فقال : من هذا ؟
  فقيل : علي بن الحسين .
  فقال : أليس قد قتل الله علي بن الحسين ؟!
  فقال له علي : ( قد كان لي أخ يسمى علي بن الحسين قتله الناس ) .
  فقال : بل الله قتله .
  فقال له علي : ( الله يتوفى الأنفس حين موتها )(3) ) .
  فقال ابن زياد : وبك جرأة على جوابي ، إذهبوا به فاضربوا عنقه .
  فسمعت به عمته زينب ، فقالت : يا بن زياد ، إنك لم تبق منا أحداً ، فان كنت عزمت على قتله فاقتلني معه .
  فقال علي لعمته : ( اسكتي يا عمة حتى أكلمه ) .
  ثم أقبل إليه فقال : ( أبالقتل تهددني يا بن زياد ، أما علمت أن القتل لنا عادة وكرامتنا الشهادة ) .
  ثم أمر ابن زياد بعلي بن الحسين عليهما السلام وأهل بيته فحملوا إلى بيت في جنب (4) المسجد الأعظم .
  فقالت زينب ابنت علي : لا يدخلن علينا عربية إلا أم ولد أو مملوكة ، فإنهن سبين كما سبينا .

---------------------------
(1) ر : ... هذه شجاعة ولعمري لقد كان أبوك شجاعاً ، ع : ... لقد كان أبوك شاعراً سجاعاً .
(2) ر : والشجاعة .
(3) الزمر 39 : 42 .
(4) ب : ... وأهله فحملوا إلى دار إلى جنب .

الملهوف على قتلى الطفوف _ 203 _

  ثم أمر ابن زياد برأس الحسين عليه السلام ، فطيف به في سكك الكوفة .
  ويحق لي أن أتمثل هنا أبياتاً (1) لبعض ذوي العقول ، يرثي بها قتيلاً من آل الرسول صلى الله عليه وآله فقال :
رأس ابـن بـنت مـحمد iiووصـيه      لـلـناظرين  عـلـى قـناة iiيـرفع
والـمـسلمون  بـمـنظر iiوبـسمع      ا مـنـكـر مـنـهم ولا iiمـتـفجع
كـحلت بـمنظرك الـعيون iiعـماية      واصــم  رزؤك كـل أذن iiتـسمع
أيـقظت أجـفاناً وكـنت لـها iiكرى      وأنـتم عـيناً لـم تـكن بـك تهجع
مــا  روضــة إلا تـمنت iiأنـها      لك حفرة ولخط قبرك مضجع (2)
  قال الراوي (3) : ثم أن ابن زياد لعنه الله صعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه ، وقال في بعض كلامه : الحمد لله الذي أظهر الحق وأهله ونصر أمير المؤمنين وأشياعه ، وقتل الكذاب ابن الكذاب !!! .
  فما زاد على هذا الكلام شيئاً ، حتى قام إليه عبد الله بن عفيف الأزدي (4) ـ وكان من خيار الشيعة وزهادها ، وكانت عينه اليسرى قد ذهبت يوم الجمل والأخرى يوم صفين ، وكان يلازم المسجد الأعظم فيصلي فيه إلى الليل ـ فقال : يا بن مرجانة ، إن الكذاب ابن الكذاب أنت وأبوك ، ومن استعملك وأبوه ، يا عدو الله، أتقتلون أولاد (5) النبيين وتتكلمون بهذا الكلام على منابر المسلمين (6) .

---------------------------
(1) ب : ههنا بأبيات .
(2) هذا البيت في ب مقدم على البيت الذي قبله .
(3) الراوي ، من ع .
(4) في أنساب الأشراف صفحة 210 : عبد الله بن عفيف الأزدي ثم الغامدي ، كان شيعياً ، وكانت عينه اليسرى ذهبت يوم الجمل واليمنى يوم صفين ، وكان لا يفارق المسجد الأعظم .
(5) ب . ع : أبناء .
(6) ب . ع : المؤمنين .

الملهوف على قتلى الطفوف _ 204 _

  قال الراوي (1) : فغضب ابن زياد وقال : من هذا المتكلم ؟
  فقال : أنا المتكلم يا عدو الله، أتقتل الذرية الطاهرة التي قد أذهب الله عنها الرجس (2) ، وتزعم أنك على دين الإسلام .
  وا غوثاه ، أين أولاد المهاجرين والأنصار ينتقمون (3) منك ومن طاغيتك اللعين ابن اللعين على لسان محمد رسول رب العالمين ؟
  قال الراوي (4) : فازاداد غضب ابن زياد لعنه الله، حتى انتفخت اوداجه وقال : علي به ، فتبادرت الجلاوزة (5) من كل ناحية ليأخذوه ، فقامت الأشراف من الأزد من بني عمه ، فخلصوه من أيدي الجلاوزة وأخرجوه من باب المسجد وانطلقوا به إلى منزله .
  فقال ابن زياد : اذهبوا إلى هذا الأعمى ـ أعمى الأزد، أعمى الله قلبه كما أعمى عينه ـ فأتوني به .
  قال : فانطلقوا إليه ، فلما بلغ ذلك الأزد اجتمعوا واجتمعت معهم قبائل اليمن ليمنعوا صاحبهم .
  قال : وبلغ ذلك ابن زياد فجمع قبائل مضر وضمهم إلى محمد بن الأشعث وأمرهم بقتال القوم .
  قال الراوي (6) : فاقتتلوا قتالاً شديداً ، حتى قتل بينهم جماعة من العرب .

---------------------------
(1) الراوي ، من ع .
(2) ر : ... ذرية الطاهرة الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا . والمثبت من ب . ع .
(3) ع : لينتقمون .
(4) الراوي ، من ع .
(5) ب : فبادر إليه الجلاوزة .
(6) الراوي ، من ع .

الملهوف على قتلى الطفوف _ 205 _

  قال : وصل أصحاب ابن زياد لعنه الله إلى دار (1) عبد الله بن عفيف ، فكسروا الباب واقتحموا عليه .
  فصاحت ابنته : أتاك القوم من حيث تحذر .
  فقال : لا عليك ناوليني سيفي، فناولته إياه ، فجعل يذب عن نفسه ويقول :

أنا أبن ذي الفضل عفيف الطاهر      عـفيف  شـيخي وابن أم iiعامر
كـم  دارع مـن جمعكم iiوحاسر      وبـطل  جـدلته مغاور (2)ii
  قال : وجعلت ابنته تقول : يا ابت ليتني كنت رجلاً أخاصم بين يديك هؤلاء القوم الفجرة (3) ، قاتلي العترة البررة .
  قال : وجعل القوم يدورون عليه من كل جهة ، وهو يذب عن نفسه وليس (4) يقدر عليه أحد ، وكلما جاؤوه من جهة قالت : يا أبت جاؤوك من جهة كذا ، حتى تكاثروا عليه وأحاطوا به .
  فقالت ابنته : وا ذلاه يحاط بأبي وليس له ناصر يستعين به .
  فجعل يدير سيفه ويقول :
أقسم  لو يفسح لي عن iiبصري      ضاق عليكم موردي ومصدري
  قال الراوي (5) : فما زالوا به حتى أخذوه ، ثم حمل فأدخل على ابن زياد .
  فلما رآه قال : الحمد لله الذي أخزاك .

---------------------------
(1) دار ، لم يرد في ر .
(2) ر : جندلته مغاور ، ب : جدلته مغادر .
(3) ب : أخاصم بين يديك اليوم هؤلاء الفجرة .
(4) ب . ع : فلم .
(5) الراوي ، من ع .

الملهوف على قتلى الطفوف _ 206 _

  فقال له عبد الله بن عفيف : يا عدو الله، بماذا أخزاني الله (1) .
والله  لـو يـفسح لـي عـن iiبصري      ضاق عليكم موردي ومصدري (2)
  فقال له ابن زياد : ماذا تقول يا عبد الله في أميرالمؤمنين عثمان بن عفان (3) ؟
  فقال : يا عبد بني علاج ، يا بن مرجانة ـ وشتمه (4) ـ ما أنت وعثمان بن عفان أساء أم أحسن (5) ، وأصلح أم أفسد ، والله تعالى ولي خلقه يقضي بينهم وبين عثمان بالعدل (6) والحق ، ولكن سلني عنك وعن أبيك وعن يزيد وأبيه .
  فقال ابن زياد : والله لا سألتك عن شيء أو تذوق الموت غصة بعد غصة .
  فقال عبد الله بن عفيف : الحمد لله رب العالمين ، أما أني قد كنت أسأل الله ربي أن يرزقني الشهادة من قبل أن تلدك أمك ، وسألت الله أن يجعل ذلك على يدي العن خلقه وأبغضهم إليه ، فلما كف بصري يئست من الشهادة ، والآن فالحمد لله الذي رزقنيها بعد اليأس منها ، وعرفني الإجابة بمنه (7) في قديم دعائي .

---------------------------
(1) جاء بعد هذا في نسخة ر كلمة شعر .
(2) ب . ع :
والله  لو فرج لي عن iiبصري      ضاق عليك موردي ومصدري
(3) ب . ع : فقال ابن زياد : يا عدو الله ما تقول في عثمان بن عفان .
وعثمان هو : ابن عفان بن أبي العاص بن أمية ، أسلم بعد البعثة ، صارت إليه الخلافة بعد موت عمر سنة 23 هـ ، نقم عليه الناس اختصاصه أقاربه من بني أمية بالولايات والأعمال وتقسيم الأموال الكثيرة بينهم ، فحصروه في داره وقتلوه سنة 35 هـ .
ابن الأثير حوادث سنة 35 ، شرح نهج البلاغة 2 | 61 ، البدء والتاريخ 5 | 79 ، الأعلام 4 | 210 .
(4) لفظة : وشتمه ، لم ترد في ر .
(5) ب : ما أنت وعثمان إن أساء أم أحسن .
(6) ر : والله علي ولي خلقه يقضي بينهم بالعدل .
(7) ب . ع : منه .

الملهوف على قتلى الطفوف _ 207 _

  فقال ابن زياد : اضربوا عنقه ، فضربت عنقه وصلب في السبخة (1) .
  قال الراوي (2) : وكتب عبيد الله بن زياد إلى يزيد بن معاوية يخبره بقتل الحسين وخبر أهل بيته ، وكتب أيضاً إلى عمرو بن سعيد بن العاص (3) أمير المدينة بمثل ذلك .
  فأما عمرو ، فحين وصله الخبر صعد المنبر وخطب الناس وأعلمهم ذلك ، فعظمت واعية بني هاشم ، وأقاموا سنن المصائب والمآتم ، وكانت زينب بنت عقيل بن أبي طالب (4) تندب (5) الحسين عليه السلام وتقول :
مـاذا تـقولون إذ قـال النبي لكم      مـاذا فـعلتمو أنـتم آخـر iiالأمم
بـعترتي  وبـأهلي بـعد iiمفتقدي      مـنهم أسارى ومنهم ضرجوا iiبدم
ماكان  هذا جزائي إذ نصحت iiلكم      أن تخلفوني بسوء في ذوي رحمي

---------------------------
(1) في معجم البلدان 3 | 30 : السبخة بالتحريك واحدة السباخ : الأرض الملح النازة ، موضع بالبصرة ... والسبخة من قرى البحرين .
أقول : لم أجد في كتب البلدان واللغة من ذكر أن السبخة موضع بالكوفة ، ولكن يوجد موضع بين مسجد السهلة ومسجد الكوفة كان يعرف بين الناس بالسبخة ، وقيل : المراد بالسبخة هنا : الكناسة .
(2) الراوي ، من ع .
(3) عمرو بن سعيد بن العاص بن أمية بن عبد شمس الأموي ، كان والي مكة والمدينة لمعاوية وابنه يزيد ، وقدم الشام ، فلما طلب مروان بن الحكم الخلافة عاضده عمرو ، فجعل له ولاية العهد بعد ابنه عبد الملك ، ولما ولي عبد الملك أراد خلعه من ولاية العهد ، فنفر عمرو ، ولم يزل عبد الملك يتربص به حتى تمكن منه فقتله سنة 70 هـ .
الإصابة ترجمة رقم 6850 ، فوات الوفيات 2 | 118 ، تهذيب التهذيب 8 | 37 ، الأعلام 4 | 78 .
(4) في أنساب الأشراف صفحة 221 : كانت زينب هذه عند علي بن يزيد بن ركانة من بني المطلب بن عبد مناف ، فولدت له ولداً ، منهم عبدة ولدت وهب بن وهب أبا البختري القاضي .
(5) ر : تندب على .

الملهوف على قتلى الطفوف _ 208 _

  قال : فلما جاء الليل سمع أهل المدينة هاتفاً ينادي ويقول :
أيـها الـقاتلون ظـلماً iiحـسيناً      ابـشـروا بـالعذاب iiوالـتنكيل
كـل مـن في السماء يبكي عليه      من نبي وشاهد ورسول (1)
قـد  لـعنتم على لسان ابن iiداود      ومـوسى  وصـاحب iiالإنـجيل
  وأما يزيد بن معاوية ، فإنه لما وصل إليه كتاب ابن زياد ووقف عليه ، أعاد الجواب إليه يأمره فيه بحمل رأس الحسين عليه السلام ورؤوس من قتل معه ، وبحمل أثقاله ونسائه وعياله .
  فاستدعى ابن زياد بمحفر بن ثعلبة العائذي (2) ، فسلم إليه الرؤوس والأسارى والنساء ، فسار بهم محفر إلى الشام كما يسار بسبايا الكفار ، يتصفح وجوههن أهل الأقطار .
  روى ابن لهيعة (3) وغيره حديثنا أخذنا منه موضع الحاجة ، قال : كنت أطوف بالبيت ، فإذا أنا برجل يقول : اللهم اغفر لي وما أراك فاعلاً .

---------------------------
(1) ع :
أيـها  القاتلون جهلا ًحسيناً      ابـشروا  بالعذاب والتنكيل
كل أهل السماء يدعو عليكم      مـن نـبي ومـالك iiوقبيل
(2) اختلفت النسخ والمصادر في ضبطه اسمه ، فالمثبت من ع . وفي ر : مجفر ، وفي ب : مخفر .
وهو محفر بن ثعلب بن مرة بن خالد ، من بني عائذة ، من خزيمة بن لؤي ، من رجال بني أمية في صدر دولتهم .
نسب قريش : 441 وفيه : مخفر ، جمهرة الانساب : 165 ، الأعلام 5 | 291 .
(3) ر . ع : فروى ابن لهيعة ، والمثبت من ب .
وابن لهيعة : عبد الله بن لهيعة بن فرعان الحضرمي المصري ، ابوعبد الرحمن ، محدث مصر وقاضيها ، ومن كتاب للحديث والجماعين للعلم والراحلين فيه ، توفي بالقاهرة سنة 174 هـ .
الولاة والقضاة 368 ، النجوم الزاهرة 2/ 77 ، ميزان الاعتدال 2 : 64 ، الأعلام 4 : 115 .

الملهوف على قتلى الطفوف _ 209 _

  فقلت له : يا عبد الله اتق الله ولا تقل مثل هذا ، فان ذنوبك لو كانت مثل قطر الأمصار وورق الأشجار فاستغفرت الله غفرها لك ، إنه غفور رحيم .
  قال : فقال لي : أدن مني حتى أخبرك بقصتي ، فأتيته ، فقال : إعلم أننا كنا خمسين نفراً ممن سار مع رأس الحسين إلى الشام ، فكنا إذا أمسينا وضعنا الرأس في تابوت وشربنا الخمر حول التابوت ، فشرب أصحابي ليلة حتى سكروا ، ولم أشرب معهم ، فلما جن الليل سمعت رعداً ورأيت برقاً ، فإذا أبواب السماء قد فتحت ، ونزل آدم ونوح وابراهيم وإسحاق وإسماعيل ونبينا محمد صلى الله عليه وآله وعليهم أجمعين ، ومعهم جبرئيل وخلق من الملائكة .
  فدنا جبرئيل من التابوت ، فأخرج الرأس وضمه إلى نفسه وقبله ، ثم كذلك فعل الأنبياء كلهم ، وبكى النبي صلى الله عليه وآله على رأس الحسين وعزاه الأنبياء .
  وقال له جبرئيل : يا محمد ، إن الله تعالى أمرني أن أطيعك في أمتك ، فان أمرتني زلزلت الأرض بهم ، وجعلت عاليها سافلها كما فعلت بقوم لوط .
  فقال النبي صلى الله عليه وآله : لا يا جبرئيل ، فإن لهم معي موقفاً بين يدي الله يوم القيامة .
  ثم جاء الملائكة نحونا ليقتلونا .
  فقلت : الأمان يا رسول الله.
  فقال : اذهب ، فلا غفر الله لك (1) (2) .

---------------------------
(1) ب : فان لهم معي موقفاً بين يدي الله يوم القيامة ، قال : ثم صلوا عليه ، ثم أتى قوم من الملائكة وقالوا : إن الله تبارك وتعالى أمرنا بقتل الخمسين ، فقال لهم النبي : شأنكم بهم ، فجعلوا يضربون بالحربات ، ثم قصدني واحد منهم بحربته ليضربني ، فقلت : الأمان الأمان يا رسول الله، فقال : اذهب لا غفر الله لك ، فلما اصبحت رأيت أصحابي كلهم جاثمين رماداً .
(2) جاء بعد هذا في نسخة ع :

الملهوف على قتلى الطفوف _ 210 _

  قال الراوي (1) : وسار القوم برأس الحسين عليه السلام ونسائه والأسرى (2) من رجاله ، فلما قربوا من دمشق دنت أم كلثوم من الشمر ـ وكان من جملتهم (3) ـ فقالت : لي إليك حاجة .
  فقال : وما حاجتك ؟
  قالت إذا دخلت بنا البلد فاحملنا في درب قليل الناظرة ، وتقدم إليهم أن يخرجوا هذه الرؤوس من بين المحامل وينحونا عنا ، فقد خزينا من كثرة النظر (4) إلينا ونحن في هذه الحال .
  فأمر في جواب سؤالها : أن تجعل الرؤوس على الرماح في أوساط المحامل ـ بغياً منه وكفراً ـ وسلك بهم بين النظارة على تلك الصفة ، حتى أتى بهم إلى باب دمشق ، فوقفوا على درج (5) باب المسجد الجامع حيث يقام السبي .
  وروي (6) أن بعض التابعين لما شاهد رأس الحسين عليه السلام بالشام أخفى نفسه شهراً من جميع أصحابه ، فلما وجدوه بعد إذ فقدوه سألوه عن سبب ذلك ، فقال :

---------------------------
ورأيت في تذييل محمد بن النجار شيخ المحدثين ببغداد ، في ترجمة علي بن نصر الشبوكي ، باسناده زيادة في هذا الحديث ما هذا لفظه : قال : لما قتل الحسين بن علي وحملوا برأسه جلسوا يشربون ويجيء بعضهم بعضاً برأس ، فخرجت يد وكتبت بقلم الحديد على الحائط :
أترجو  أمة قتلت حسيناً      شفاعة جده يوم الحساب
قال : فلما سمعوا بذلك تركوا الرأس وهزموا .
(1) الراوي ، من ع .
(2) ر : والأسارى ، والمثبت من ب . ع .
(3) ر : وكانت في جملتهم ، والمثبت من ب . ع .
(4) ر : الناظر .
(5) درج ، لم يرد في ر .
(6) ب . ع : فروي .

الملهوف على قتلى الطفوف _211_

  ألا ترون ما نزل بنا ، ثم أنشأ يقول :
جاؤوا برأسك يا بن بنت محمد      متزملاً بدمائه تزميلا (1)ii
وكـأنما  بك يا بن بنت iiمحمد      قـتلوا جـهاراً عامدين رسولا
قـتلوك عـطشاناً ولما iiيرقبوا      فـي  قـتلك التنزيل iiوالتأويلا
ويـكبرون بـأن قـتلت وإنما      قـتلو بـك الـتكبير iiوالتهليلا(2)
  قال الراوي (3) : جاء شيخ ، فدنا من نساء الحسين عليه السلام وعياله ـ وهم في ذلك الموضع ـ وقال (4) : الحمد لله الذي قتلكم وأهلككم وأراح البلاد من رجالكم وأمكن أمير المؤمنين منكم !!!
  فقال له علي بن الحسين عليهما السلام : ( يا شيخ ، هل قرأت القرآن ؟ ) .
  قال نعم .
  قال : ( فهل عرفت هذه الآية : ( قل لا أسألكم عليه أجراً إلى قُل لَّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى )(5) ؟ )
  قال الشيخ : قد قرأت ذلك .
  فقال له علي عليه السلام : ( نحن (6) القربى يا شيخ ، فهل قرأت في بني إسرائيل :

---------------------------
(1) ع : مترملاً بدمائه ترميلاً .
(2) ب :
جاؤوا برأسك يا بن بنت محمد      قـتلوا جـهاراً عامدين رسولا
قـتلوك عـطشاناً ولما iiيرقبوا      فـي  قـتلك التأويل iiوالتنزيلا
ويـكبرون بـان قـتلت وإنما      قـتلوا  بـك التكبير iiوالتهليلا
(3) الراوي ، من ع .
(4) ب : وعياله أقيموا على درج باب المسجد ، فقال ...
(5) الشورى 42 | 23 .
(6) ب . ع : فنحن .

الملهوف على قتلى الطفوف _212_

  ( وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ ) ؟ (1) ) .
  فقال الشيخ : قد قرأت ذلك .
  فقال : ( فنحن القربى يا شيخ ، فهل قرأت هذه الآية : ( وَاعْلَمُواْ أَنَّمَا غَنِمْتُم مِّن شَيْءٍ فَأَنَّ لِلّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى ولذي القربى ) ؟ (2) ) .
  قال : نعم .
  فقال عليه السلام : ( فنحن القربى (3) يا شيخ ، وهل (4) قرأت هذه الآية : ( إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا ) ؟ (5) ) .
  قال الشيخ : قد قرأت ذلك .
  فقال عليه السلام : ( نحن أهل البيت الذين خصنا الله بآية الطهارة يا شيخ ) .
  قال الراوي (6) : بقي الشيخ ساكتاً نادماً على ما تكلم به ، وقال تالله (7) إنكم هم ؟!
  فقال علي بن الحسين عليهما السلام : ( تالله (8) إنا لنحن هم من غير شك ، وحق جدنا رسول الله صلى الله عليه وآله إنا لنحن هم ) .
  قال : فبكى الشيخ ورمى عمامته ، ثم رفع رأسه إلى السماء وقال : اللهم إني

---------------------------
(1) الأسراء 17 | 26 .
(2) الأنفال 8 | 41 .
(3) ر : نحن أهل القربى .
(4) ر : ولكن هل ، والمثبت من ب .
(5) الأحزاب 33 | 33 .
(6) الراوي ، من ع .
(7) ب . ع : بالله .
(8) ر : وبالله .

الملهوف على قتلى الطفوف _213_

  أبرء إليك من عدو آل محمد صلى الله عليه وآله من الجن والإنس .
  ثم قال : هل لي من توبة ؟
  فقال له : ( نعم ، إن تبت تاب الله عليك وأنت معنا ) .
  فقال : أنا تائب .
  فبلغ يزيد بن معاوية حديث الشيخ ، فأمر به فقتل .
  قال الراوي (1) : ثم أدخل ثقل الحسين عليه السلام ونساؤه ومن تخلف من أهله على يزيد ، وهم مقرنون (2) في الحبال .
  فلما وقفوا بين يديه وهم على تلك الحال قال له علي بن الحسين عليهما السلام : ( أنشدك الله يا يزيد ، ما ظنك برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لو رآنا على هذه الصفة (3) ) ، فأمر يزيد بالحبال فقطعت .
  ثم وضع رأس الحسين عليه السلام بين يديه ، وأجلس النساء خلفه لئلا ينظرن إليه ، فرآه علي بن الحسين عليه السلام فلم يأكل الرؤوس بعد ذلك أبداً .
  وأما زينب ، فإنها لما رأته أهوت إلى جيبها فشقته ، ثم نادت بصوت حزين يقرح القلوب : يا حسيناه ، يا حبيب رسول الله، يا بن مكة ومنى ، يا بن فاطمة الزهراء سيدة النساء ، يا بن بنت المصطفى .
  قال الراوي (4) : فأبكت والله كل من كان حاضراً في المجلس ، ويزيد ساكت .
  ثم جعلت امرأة من بني هاشم كانت في دار يزيد تندب الحسين عليه السلام وتنادي :

---------------------------
(1) قال الراوي ، لم يرد في ر .
(2) ر : مقرنين ، بدلاً من : وهم مقرنون .
(3) ب : الحالة .
(4) الراوي ، من ع .

الملهوف على قتلى الطفوف _ 214 _

  يا حسيناه ، يا حبيباه ، يا سيداه ، يا سيد أهل بيتاه ، يا بن محمداه ، يا ربيع الأرامل واليتامى ، يا قتيل أولاد الأدعياء .
  قال الراوي (1) : فأبكت كل من سمعها .
  قال : ثم دعا يزيد بقضيب خيزران ، فجعل ينكث به ثنايا الحسين عليه السلام .
  فأقبل عليه أبو برزة الأسلمي (2) وقال : ويحك يا يزيد ، أتنكت بقضيبك ثغر الحسين عليه السلام ابن فاطمة ؟! أشهد لقد رأيت النبي صلى الله عليه وآله يرشف ثناياه وثنايا أخيه الحسن ويقول : أنتما سيدا شباب أهل الجنة ، قتل الله قاتليكما ولعنه وأعد له جهنم وساءت مصيراً .
  قال الراوي (3) : فغضب يزيد وأمر بإخراجه ، فأخرج سحباً .
  قال : وجعل يزيد لعنه الله ليتمثل بأبيات ابن الزبعري (4) ويقول :
لـيـت أشـيـاخي بـبـدر iiشـهدوا      جزع (5) الخزرج من وقع الأسل
فـأهـلوا (6) واسـتهلوا iiفـرحاً      ثــم  قـالوا : يـا يـزيد لا iiتـشل
قــد قـتـلنا الـقرم مـن iiسـاداتهم      وعـدلـنـاه بــبـدر iiفـاعـتـدل

---------------------------
(1) الراوي ، من ع .
(2) فضلة بن عبيد بن الحارث الأسلمي ، غلبت عليه كنيته ، اختلف في اسمه ، صحابي ، من سكان المدينة ثم البصرة ، شهد مع علي عليه السلام النهروان ، مات بخراسان سنة 65 هـ .
تهذيب التهذيب : 10 | 446 ، الإصابة ترجمة رقم 8718 ، الأعلام 8 | 33 .
(3) الراوي ، من ع .
(4) عبد الله بن الزبعري بن قيس السهمي القرشي ، أبوسعد ، شاعر قريش في الجاهلية ، كان شديداً على المسلمين ، إلى أن فتحت مكة فهرب إلى نجران ، مات سنة 15 هـ .
الأعلام 4 | 87 ، وراجع من ذكره من مصادر ترجمته .
(5) ر : وقعة . والمثبت من ع .
(6) ع : لأهلوا .

الملهوف على قتلى الطفوف _ 215 _

لـعـبت  هـاشـم بـالملك فـلا      خـبـر جـاء ولا وحـي iiنـزل
لـست  مـن خـندف إن لم iiأنتقم      من بني أحمد ما كان فعل (1)
  قال الراوي (2) : فقامت زينب ابنت علي عليه السلام وقالت (3) :
  الحمد لله رب العاليمن ، وصلى الله على محمد (4) وآله أجمعين ، صدق الله كذلك يقول : ( ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاؤُوا السُّوأَى أَن كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَكَانُوا بِهَا يَسْتَهْزِؤُون ) (5) ، أظننت يا يزيد ـ حيث أخذت علينا أقطار الأرض وآفاق السماء فأصبحنا نساق كما تساق الإماء (6) ـ أن بنا على الله هواناً ، وبك عليه كرامة !! وأن ذلك لعظيم خطرك عنده !! فشمخت بأنفك ونظرت في عطفك (7) ، جذلاً (8) مسرورا ً، حين رأيت الدنيا لك مستوسقة ، والأمور متسقة ، وحين صفا لك ملكنا وسلطاننا ، فمهلاً مهلاً ، أنسيت قول الله عزوجل : ( ٌ وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِّأَنفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُواْ إِثْمًا وَلَهْمُ عَذَابٌ مُّهِين ) (9) .
  أمن العدل يا بن الطلقاء تخديرك إماءك ونساءك وسوقك (10) بنات رسول

---------------------------
(1) البيتين الأخيرين لم يردا في ر ، ووردا في ع .
(2) الراوي ، من ع .
(3) ب . ع : بنت علي بن أبي طالب عليه السلام ، فقالت .
(4) ب . ع : رسوله .
(5) الروم 30 | 10 .
(6) ب : الأسارى. ع : الأسراء . والمثبت من ر .
(7) ر : ونظرت إلى فيء عطفك .
(8) ب . ع : جذلان .
(9) آل عمران 3 | 178 .
(10) ب . ع : تحديرك حرائرك وإماءك وسوقك .

الملهوف على قتلى الطفوف _ 216 _

  الله سبايا ؟‍‍‍‍‍‍‍ ‍!، قد هتكت ستورهن ، وأبديت وجوههن ، تحدو بهن الأعداء من بلد إلى بلد ، ويستشرفهن (1) أهل المنازل والمناهل (2) ، ويتصفح وجوههن القريب والبعيد ، والدني والشريف ، ليس معهن من رجالهن ولي، ولا من حماتهن حمي .
  وكيف ترتجى مراقبة من (3) لفظ فوه أكباد الأزكياء ، ونبت لحمه بدماء الشهداء ؟!
  وكيف يستظل في ظلمنا (4) أهل البيت من نظر إلينا بالشنف والشنآن والإحن والأضغان ؟!
  ثم تقول غير متأثم ولا مستعظم :
فأهلوا (5) واستهلوا فرحاً      ثـم قـالوا: يـا يزيد لا iiتشل
  منتحياً (6) على ثنايا أبي عبد الله عليه السلام سيد شباب أهل الجنة تنكتها بمخصرتك .
  وكيف لا تقول ذلك ، وقد نكأت القرحة ، واستأصلت الشأفة ، بإراقتك دماء ذرية محمد صلى الله عليه وآله ونجوم الأرض من آل عبد المطلب ؟! وتهتف بأشياخك ، زعمت أنك تناديهم !
  فلتردن وشيكاً موردهم ، ولتودن أنك شللت وبكمت ولم تكن قلت ما قلت

---------------------------
(1) ر : ويتشرفهن .
(2) ب . ر : المناهل والمناقل .
(3) ر : وكيف ترجو مراقبة ابن من .
(4) ب : وكيف يستبطأ في بغضنا . ع : وكيف ويستبطأ في بغضاء .
(5) ب : و أهلوا ، ع : لا هلوا .
(6) ر : متخنيا .

الملهوف على قتلى الطفوف _ 217 _

  وفعلت ما فعلت .
  اللهم خذ بحقنا ، وانتقم ممن ظلمنا ، واحلل غضبك بمن (1) سفك دماءنا وقتل حماتنا .
  فوالله ما فريت إلا جلدك ، ولاحززت (2) إلا لحمك ، ولتردن على رسول الله صلىالله عليه وآله بما تحملت من سفك دماء ذريته ، وانتهكت من حرمته في عترته ولحمته ، وحيث يجمع الله شملهم ويلم شعثهم ، ويأخذ بحقهم ( وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ ) .
  وحسبك بالله حاكماً ، وبمحمد صلى الله عليه وآله خصيماً ، وبجبرئيل ظهيراً ، وسيعلم من سول لك ومكنك من رقاب المسلمين ، بئس للظالمين بدلاً وأيكم شر مكاناً وأضعف جنداً .
  ولئن جرت علي الدواهي مخاطبتك ، أني لأستصغر قدرك ، وأستعظم تقريعك ، واستكثر توبيخك ، لكن العيون عبرى ، والصدور حرى .
  ألا فالعجب كل العجب لقتل حزب الله النجباءبحزب الشيطان الطلقاء ، فهذه الأيدي تنضح (3) من دمائنا ، والأفواه تتحلب من لحومنا ، وتلك الجثث الطواهر الزواكي تتناهبها (4) العواسل وتعفوها أمهات الفراعل ، ولئن أتخذتنا مغنماً لتجدنا وشيكاً مغرماً ، حين لا تجد إلا ما قدمت يداك ، وما ربك بظلام للعبيد ، فإلى الله المشتكى ، وعليه المعول .

---------------------------
(1) ر : واحلل غضبنا على من .
(2) ب : ولا جززت .
(3) ب . ع : تنطف .
(4) ب . ع : تنتابها .

الملهوف على قتلى الطفوف _ 218 _

  فكد كيدك ، واسع سعيك ، وناصب (1) جهدك ، فوالله لا تمحو ذكرنا ، ولا تميت وحينا ، ولا تدرك أمدنا ، ولا ترحض عنك عارها .
  وهل رأيك إلا فندا ، وأيامك إلا عددا ، وجمعك إلا بددا ، يوم ينادي المناد : ألا لعنة الله على الظالمين .
  فالحمد لله الذي ختم لأولنا بالسعادة والمغفرة ، ولآخرنا بالشهادة والرحمة .
  ونسأل الله أن يكمل لهم الثواب ، ويوجب لهم المزيد ، ويحسن علينا الخلافة ، إنه رحيم ودود ، وحسبنا الله ونعم الوكيل .
  فقال يزيد لعنه الله:
يا  صيحة تحمد من iiصوائح      ما أهون الموت على النوائح
  قال الراوي : ثم استشار أهل الشام فيما يصنع بهم .
  فقالوا : لا تتخذ من كلب سوء جروا .
  فقال له النعمان بن بشير : أنظر ما كان الرسول يصنع بهم فاصنعه بهم .
  ونظر رجل من أهل الشام إلى فاطمة ابنت الحسين عليه السلام ، فقال : يا أميرالمؤمنين هب لي هذه الجارية .
  فقالت فاطمة لعمتها : يا عمتاه أيتمت وأستخدم ؟ (2)
  فقالت زينب : لاحبا ، ولا كرامة لهذا الفاسق .
  فقال الشامي : من هذه الجارية ؟
  فقال له يزيد لعنه الله: هذه فاطمة ابنت الحسين ، وتلك عمتها زينب ابنت علي .
  فقال الشامي : الحسين بن فاطمة وعلي بن أبي طالب !!

---------------------------
(1) ر : واجهد .
(2) ر : واستخدمت . والمثبت من ع .

الملهوف على قتلى الطفوف _ 219 _

  قال : نعم .
  فقال الشامي : لعنك الله يا يزيد ، تقتل عترة نبيك وتسبي ذريته ، والله ما توهمت إلا أنهم سبي الروم (1) .
  فقال يزيد : والله لألحقنك بهم ، ثم أمر به فضرب عنقه .
  قال الراوي (2) : ودعا يزيد لعنه الله بالخاطب ، وأمره أن يصعد المنبر فيذم الحسين وأباه صلوات الله عليهما ، فصعد ، وبالغ في ذم أمير المؤمنين علي بن أبي طالب والحسين الشهيد ، والمدح لمعاوية ويزيد .
  فصاح به علي بن الحسين عليه السلام : ( ويلك أيها الخاطب ، اشتريت مرضاة المخلوق بسخط الخالق ، فتبوأ مقعدك من النار ) .
  ولقد أحسن ابن سنان الخفاجي (3) في وصف أمير المؤمنين صلوات الله وسلامه عليه وأولاده، حيث يقول :
أعلى  المنابر تعلنون iiبسبه      وبسيفه نصبت لكم أعوادها
  قال الراوي (4) : ووعد يزيد لعنه الله علي بن الحسين عليهما السلام في ذلك اليوم أنه يقضي له ثلاث حاجات .
  ثم أمر بهم إلى منزل لا يكنهم من حر ولا بردٍ ، فأقاموا فيه حتى تقشرت وجوههم ، وكانوا مدة مقامهم في البلد المشار اليه ينحون على الحسين عليه السلام .

---------------------------
(1) ر : سبي ترك الروم .
(2) الراوي ، من ع .
(3) عبد الله بن محمد بن سعيد بن سنان ، أبو محمد الخفاجي الحلبي ، شاعر ، أخذ الأدب عن أبي العلاء وغيره ، مات بالسم سنة 466 هـ .
الأعلام 4 | 122 ، وذكر من مصادر ترجمته : فوات الوفيات 1 | 233 ، النجوم الزاهرة 5 | 96 .
(4) الراوي ، من ع .

الملهوف على قتلى الطفوف _ 220 _

  قالت سكينة : فلما كان في اليوم الرابع من مقامنا رأيت في المنام ، وذكرت مناماً طويلاً تقول في آخره : ورأيت امرأة راكبة في هودج ويدها موضوعة على رأسها ، فسألت عنها ، فقيل ل ي : فاطمة ابنت محمد أم أبيك .
  فقلت : والله لأنطلقن إليها ولأخبرنها ما صنع بنا ، فسعيت مبادرة نحوها ، حتى لحقت بها ووقفت بين يديها أبكي وأقول :
  يا أمتاه جحدوا والله حقنا ، يا أمتاه بددوا والله شملنا ، يا أمتاه استباحوا والله حريمنا ، يا أمتاه قتلوا والله الحسين أبانا .
  فقالت لي : كفي صوتك يا سكينة ، فقد قطعت نياط قلبي ، وأقرحت كبدي ، هذا قميص أبيك الحسين لا يفارقني حتى ألقى الله به .
  وروى ابن لهيعة ، عن أبي الأسود محمد بن عبد الرحمن (1) قال : لقيني رأس الجالوت (2) فقال : والله، إن بيني وبين داود عليه السلام سبعين (3) أباً ، وإن اليهود تلقاني فتعظمني ، وأنتم ليس بينكم وبين نبيكم إلا أب واحد قتلتم ولده (4) .
  وروي عن زين العابدين عليه السلام أنه قال : ( لما أتوا برأس الحسين عليه السلام إلى يزيد لعنه الله، كان يتخذ مجالس الشرب ، ويأتي برأس الحسين عليه السلام ويضعه بين يديه

---------------------------
(1) أبو الأسود محمد بن عبد الرحمن بن نوفل بن الأسود بن نوفل القرشي الأسدي ، نزل مصر وحدث بها كتاب المغازي لعروة بن الزبير ، روى عن علي بن الحسين والنعمان بن أبي عياش وطائفة ، وروى عنه حبوة بن شريح ومالك بن أنس وآخرون ، مات سنة بضع وثلاثين ومائة .
سيرة أعلام النبلاء 6 | 150 ترجمة رقم 62 .
(2) لم يذكروه .
(3) ب . ع : السبعين .
(4) ب : وأنتم ليس بينكم وبين ابن نبيكم إلا أب واحد قتلتموه . ع : وأنتم ليس بين ابن نبيكم وبينه إلا أب واحد قتلتم ولده .

الملهوف على قتلى الطفوف _ 212 _

  ويشرب عليه .
  فحضر ذات يوم في مجلسه رسول ملك الرم ، وكان من أشراف الروم وعظمائهم ، فقال : يا ملك العرب ، هذا رأس من ؟
  فقال له يزيد : مالك ولهذا الرأس ؟
  فقال : إني إذا رجعت إلى ملكنا يسألني عن كل شيء رأيته ، فأحببت أن أخبره بقصة هذا الرأس وصاحبه ، حتى يشاركك في الفرح والسرور .
  فقال له يزيد لعنه الله: هذا رأس الحسين بن علي بن أبي طالب .
  فقال الرومي : ومن أمه ؟
  فقال : فاطمة ابنت رسول الله.
  فقال النصراني : أف لك ولدينك ، لي دين أحسن من دينك ، إن أبي من حوافد داود عليه السلام ، وبيني وبينه آباء كثيرة ، والنصارى يعظمونني ويأخذون من تراب أقدامي تبركاً بي بأني من حوافد داود عليه السلام ، وأنتم تقتلون ابن بنت نبيكم ، وليس بينه وبين نبيكم إلاأم واحدة ، فأي دين دينكم ؟!!
  ثم قال ليزيد : هل سمعت حديث كنيسة الحافر ؟
  فقال له : قل حتى أسمع .
  فقال : إن بين عمان (1) والصين (2) بحر مسيره ستة أشهر (3) ليس فيها

---------------------------
(1) بضم أوله وتخفيف ثانيه وآخره نون ، اسم كورة عربية على ساحل بحر اليمن والهند ... وأكثر أهلها خوارج أباضية ... وأهل البحرين بالقرب منهم بضدهم .
وعمان : بالفتح ثم التشديد : بلد في طرف الشام ، وكانت قصبة أرض البلقاء ...
معجم البلدان 4 | 150 ـ 151 .
(2) الصين بالكسر وآخره نون : بلاد في بحر المشرق ، مايله إلى الجنوب ، وشماليها الترك .
معجم البلدان 3 | 444 .
(3) ب . ع : مسيرة سنة .

الملهوف على قتلى الطفوف _ 222 _

  عمران إلا بلدة واحدة في وسط الماء ، طولها ثمانون فرسخاً في ثمانين فرسخاً ، ما على وجه الأرض بلدة أكبر منها ، ومنها يحمل الكافور والياقوت ، أشجارهم العود والعنبر ، وهي في أيدي النصارى ، لا ملك لأحد من الملوك فيها سواهم ، وفي تلك البلدة كنائس كثيرة ، أعظمها كنيسة تسمى كنيسة الحافر ، في محرابها حقة ذهب معلقة ، فيها حافر يقولون : إنه حافر حمار كان يركبه عيسى (1) ، وقد زينوا حول الحقة بالذهب والديباج ، يقصدها في كل عام عالم من النصارى ، ويطوفون حولها ويقبلونها ويرفعون حوائجهم إلى الله تعالى عندها (2) ، هذا شأنهم ودأبهم بحافر حمار يزعمون أنه حافر حمار كان يركبه عيسى نبيهم ، وأنتم تقتلون ابن ابنت نبيكم ، فلا بارك الله فيكم ولا في دينكم .
  فقال يزيد : اقتلوا هذا النصراني لئلا يفضحني في بلاده .
  فلما احس اليصراني بذلك ، قال له : أتريد أن تقتلني ؟
  قال : نعم .
  قال : إعلم أني رأيت البارحة نبيكم في المنام يقول : يا نصراني أنت من أهل الجنة ، فتعجبت من كلامه ، وأنا أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله.
  ثم وثب إلى رأس الحسين عليه السلام ، وضمه إلى صدره وجعل يقبله ويبكي حتى قتل ) .
  قال : وخرج زين العابدين عليه السلام يوماً يمشي في أسواق دمشق ، فاستقبله المنهال بن عمرو (3) ، فقال : كيف أمسيت يا بن رسول الله ؟

---------------------------
(1) ر : نبيهم عيسى .
(2) عندها ، من ع .
(3) في ر : المنهال بن عمر .
وهو : المنهال بن عمرو الأسدي ، عده الشيخ بهذا العنوان تارة في أصحاب الحسين عليه السلام ،

الملهوف على قتلى الطفوف _ 223 _

  قال : (أمسينا كمثل بني اسرائيل في آل فرعون ، يذبحون أبناءهم ويستحيون نساءهم .
  يا منهال أمست العرب تفتخر على العجم بأن محمداً عربي ، وأمست قريش تفتخر على سائر العرب بأن محمداً منها ، وأمسينا معشر أهل بيته ونحن مغصبون مقتلون مشردون ، فإنا لله وانا إليه راجعون مما أمسينا فيه يا منهال ) .
  ولله در مهيار (1) حيث يقول :
يـعظمون  لـه أعواد منبره      وتحت أقدامهم أولاده وضعوا
بـأي حـكم بـنوه iiيتبعونكم      وفخركم  أنكم صحب له iiتبع
  ودعا يزيد يوماً بعلي بن الحسين عليهما السلام وعمرو بن الحسن (2) ، وكان عمرو صغيراً يقال : إن عمره إحدى عشرة سنة .

---------------------------
وأخرى في أصحاب علي بن الحسين عليه السلام ، وعده بزيادة كلمة مولاهم في أصحاب الباقر عليه السلام ، وعده في أصحاب الصادق عليه السلام أيضاً قائلاً : المنهال بن عمرو الأسدي مولاهم كوفي ، روى عن علي ابن الحسين وأبي جعفر وأبي عبد الله عليهم السلام .
وعده البرقي في أصحاب علي ابن الحسين عليه السلام .
روى عن الاصبغ ، وروى عنه علي بن عباس ...
معجم رجال الحديث 19 | 8 .
(1) مهايار بن مرزويه ، أبو الحسن أو أبو الحسين ، الديلمي ، شاعر كبير ، في معانيه ابتكار وفي اسلوبه قوة ، فارسي الأصل ، من أهل بغداد ، أسلم على يد الشريف الرضي ، وهو شيخه وعليه تخرج في الشعر والأدب، توفي في بغداد سنة 428 هـ .
الأعلام 7 | 317 ، وذكر من مصادر ترجمته : تاريخ بغداد 13 | 276 ، المنتظم 8 | 94 ، البداية والنهاية 12 | 41 ، وغيرها .
(2) ع : الحسين .
ومرت ترجمته في هامش رقم (11) من هذا الفصل .

الملهوف على قتلى الطفوف _ 224 _

  فقال له : أتصارع هذا ، يعني ابنه خالداً (1) ؟
  فقال له عمرو : لا ، ولكن أعطني سكيناً وأعطه سكيناً ، ثم أقاتله .
  فقال يزيد لعنه الله:
شنشنة أعرفها من أخزم      هل  تلد الحية إلا iiالحية
  وقال لعلي بن الحسين عليه السلام : أذكر حاجتك الثلاث التي وعدتك بقضائهن ؟
  فقال له :
  ( الأولى: أن تريني وجه سيدي ومولاي الحسين فأتزود منه وأنظر إليه وأودعه .
  والثانية : أن ترد علينا ما أخذ منا .
  والثالثة : إن كنت عزمت على قتلي أن توجه مع هؤلاء النسوة من يردهن إلى حرم جدهن صلى الله عليه وآله ) .
  فقال : أما وجه أبيك فلن تراه أبداً ، وأما قتلك فقد عفوت عنك ، وأما النساء فلا يردهن إلى المدينة غيرك ، وأما ما أخذ منكم فإني أعوضكم عنه أضعاف قيمته .
  فقال عليه السلام : ( أما مالك فلا نريده ، وهو موفر عليك ، وإنما طلبت ما أخذ منا ، لأن فيه مغزل فاطمة بنت محمد ومقنعتها وقلادتها وقميصها ) .
  فأمر برد ذلك ، وزاد عليه مأتي دينار ، فأخذها زين العابدين عليه السلام وفرقها على الفقراء والمساكين .

---------------------------
(1) خالد بن يزيد بن معاوية بن أبي سفيان ، أبو هاشم القرشي الأموي ، روى عن أبيه وعن دحية ولم يلقه ، قيل : توفي سنة 84 هـ أو 85 هـ ، وقيل سنة 90 هـ .
سير أعلام النبلاء 4 | 382 .

الملهوف على قتلى الطفوف _ 225 _

  ثم أمر برد الاسارى وسبايا البتول (1) إلى أوطانهم بمدينة الرسول .
  وأما رأس الحسين عليه السلام ، فروى أنه أعيد فدفن بكربلاء مع جسده الشريف صلوات الله عليه ، وكان عمل الطائفة على هذا المعنى المشار إليه .
  ورويت آثار كثيرة مختلفة غير ما ذكرناه تركناها لئلا نفسخ (2) ما شرطناه من اختصار الكتاب .
  قال الراوي (3) : ولما رجع نساء الحسين عليه السلام وعياله من الشام وبلغوا إلى العراق ، قالوا للدليل : مر بنا على طريق كربلاء .
  فوصلوا إلى موضع المصرع ، فوجدوا جابر بن عبد الله الأنصاري (4) رحمه الله وجماعة من بني هاشم ورجالاً من آل الرسول صلى الله عليه وآله قد وردوا لزيارة قبر الحسين عليه السلام ، فوافوا في وقت واحد وتلاقوا بالبكاء والحزن واللطم ، وأقاموا المآتم المقرحة للأكباد ، واجتمعت إليهم نساء ذلك السواد ، وأقاموا على ذلك أياماً .
  فروي عن أبي جناب الكلبي (5) قال : حدثني الجصاصون قالوا : كنا نخرج

---------------------------
(1) ع : وسبايا الحسين عليه السلام .
(2) ب . ع : تركنا وضعها كيلا ينفسخ .
(3) الراوي ، من ع .
(4) جابر بن عبد الله بن عمرو بن حزام الخزرجي الأنصاري السملي ، المتوفى سنة 78 هـ ، صحابي ، روى عن النبي ( ص ) الكثير ، وروى عنه جماعة من الصحابة ، غزا تسع عشرة غزوة ، كانت له في أواخر أيامه حلقة في المسجد النبوي يؤخذ عنه العلم .
رجال الشيخ : 72 ، الأعلام 1 | 213، الإصابة 1 | 213 ،تهذيب الأسماء 1 | 142 .
(5) في النسخ المتعمدة : أبي حباب الكلبي ، والمثبت هو الصحيح .
وهو يحيى بن أبي حية الكلبي الكوفي ، حدث عن أبيه والشعبي وأبي إسحاق السبيعي وغيرهم ،

الملهوف على قتلى الطفوف _ 226 _

  الجبانة (1) في الليل عند مقتل الحسين عليه السلام ، فنسمع الجن ينحون عليه فيقولون :
مسح الرسول iiجبينه      فله بريق في iiالخدود
أبواه من علياً قريش      جـده خـير الجدود
  قال الراوي (2) : ثم انفصلوا من كربلاء طالبين المدينة .
  قال بشير بن حذلم (3) : فلما قربنا منها نزل علي بن الحسين عليهما السلام ، فحط رحله وضرب فسطاطه وأنزل نساءه .
  وقال : ( يا بشر (4) ، رحم الله أباك لقد كان شاعراً ، فهل تقدر على شيء منه ؟ ) .
  قلت : بلى يا بن رسول الله إني لشاعر .
  قال : ( فادخل المدينة وانع أبا عبد الله عليه السلام ) .
  قال بشر : فركبت فرسي وركضت حتى دخلت المدينة ، فلما بلغت مسجد

---------------------------
روى عنه عبد الرحمن المحرابي وغيره .
الإكمال 2 | 134 .
(1) بالكسر ثم التشديد ، وهي عدة محال بالكوفة ، منها جبانة كندة مشهورة ، وجبانة السبيع كان بها يوم للمختار ابن عبيد ، وجبانة ميمون ... وجبانة عرزم ... وجبانة سالم ... وغير هذه ، وجميعها بالكوفة .
معجم البلدان 2 | 99 ـ 100 .
(2) الراوي ، من ع .
(3) في ر : بشر بن خديم ، وفي ب : بشير بن حذلم ، وفي ع : بشير بن جذلم .
ولم أجد من ترجمه أو ضبط اسمه ، نعم ذكره بعض المتأخرين معتمداً في ترجمته على كتاب الملهوف .
(4) ب : يا بشير ، وكذا في الموارد الآتية .

الملهوف على قتلى الطفوف _ 227 _

  النبي صلى الله عليه وآله رفعت صوتي بالبكاء ، وأنشأت أقول :
يا أهل يثرب لا مقام لكم بها      قتل  الحسين فأدمعي iiمدرار
الجسم  منه بكربلاء iiمضرج      والرأس منه على القناة iiيدار
  قال : ثم قلت : هذا علي بن الحسين مع عماته وأخواته قد حلوا بساحتكم ونزلوا بفنائكم ، وأنا رسوله إليكم أعرفكم مكانه .
  قال : فما بقيت في المدينة مخدرة ولا محجبة إلا برزن من خدورهن ، مكشوفة شعورهن مخمشة وجوههن ، ضاربات (1) خدودهن ، يدعون بالويل والثبور ، فلم أر باكياً ولا باكية أكثر من ذلك اليوم ، ولا يوماً أمر على المسلمين منه بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وآله .
  وسمعت جارية تنوح على الحسين وتقول :
نـعـى  سـيـدي نــاع نـعـاه iiفـأوجعا      فـأمـرضني  (2) نـاع نـعاه iiفـأفجعا
أعـيني جـودا بـالمدامع (3) iiواسـكبا      وجــودا بـدمـع بـعـد دمـعـكما iiمـعا
على من دهى (4) عرش الجليل فزعزعا      وأصـبح أنـف الدين والمجد أجدعا (5)

---------------------------
(1) ر : لاطمات .
(2) ب . ع : وأمرضني .
(3) ب . ع : فعيني جودا بالدموع .
(4) ر : وهى .
(5) ب . ع : فأصبح هذا المجد والدين أجدعا .

الملهوف على قتلى الطفوف _ 228_

عـلى ابن نبي الله وابن iiوصيه      وإن كان عنا شاحط الدار أشسعا
  ثم قالت : أيها الناعي جددت حزننا بأبي عبد الله عليه السلام ، وخدشت منا قروحاً لما تندمل ، فمن أنت يرحمك الله ؟
  قلت: أنا بشير بن حذلم (1) وجهني مولاي علي بن الحسين ، وهو نازل موضع كذا وكذا مع عيال أبي عبد الله الحسين عليه السلام ونسائه .
  قال : فتركوني مكاني وبادروا ، فضربت فرسي حتى رجعت إليهم ، فوجدت الناس قد أخذوا الطرق والمواضع ، فنزلت عن فرسي وتخطيت رقاب الناس ، حتى قربت من باب الفسطاط ، وكان علي بن الحسين عليهما السلام داخلاً ، فخرج ومعه خرقة يمسح بها دموعه ، وخلفه خادم معه كرسي ، فوضعه له وجلس عليه وهو لا يتمالك من العبرة ، فارتفعت اصوات الناس بالبكاء وحنين الجواري والنساء ، والناس (2) من كل ناحية يعزونه ، فضجت تلك البقعة ضجة شديدة .
  فأومأ بيده أن اسكتوا (3) ، فسكنت فورتهم .
  فقال عليه السلام ( الحمد لله رب العالمين ، الرحمن الرحيم ، مالك يوم الدين ، بارئ الخلائق أجمعين ، الذي بعد فارتفع في السموات العلى ، وقرب فشهد النجوى ، نحمده على عظائم الأمور ، وفجائع الدهور ، وألم الفواجع ، ومضاضة اللواذع ، وجليل الرزء ، وعظيم المصائب الفاظعة الكاظة الفادحة الجائحة .

---------------------------
(1) ر : بشر بن خديم . ع : بشير بن جذلم .
(2) قوله : وحنين الجواري والنساء والناس ، لم يرد في ر .
(3) ر : اسكنوا .

الملهوف على قتلى الطفوف _ 229 _

  أيها القوم (1) ، إن الله تعالى وله الحمد ابتلانا بمصائب جليلة ، وثلمة في الاسلام عظيمة : قتل أبو عبد الله عليه السلام وعترته ، وسبي نساؤه وصبيته ، وداروا برأسه في البلدان من فوق عامل السنان ، وهذه الرزية التي لا مثلها (2) رزية .
  أيها الناس ، فأي رجالات منكم يسرون بعد قتله ؟! (3) أم أية عين منكم تحبس دمعها وتضن عن انهمالها ؟!
  فلقد بكت السبع الشداد لقتله ، وبكت البحار بأمواجها ، والسموات بأركانها ، والأرض بأرجائها ، والأشجار بأغصانها ، والحيتان في لجج (4) البحار ، والملائكة المقربون وأهل السموات أجمعون .
  أيها الناس ، أي قلب لا ينصدع (5) لقتله ؟! أم أي فؤاد لا يحن إليه ؟! أم أي سمع يسمع (6) هذه الثلمة التي ثلمت في الاسلام ولا يصم ؟!
  أيها الناس ، أصبحنا مطرودين مشردين مذودين شاسعين عن الأمصار ، كأننا أولاد ترك أو كابل (7) ، من غير جرم اجترمناه ، ولا مكروه ارتكبناه ، ولا ثلمة في الاسلام ثلمناها ، ما سمعنا بهذا في آبائنا الأولين ، إن هذا إلا اختلاق .
  والله، لو أن النبي صلى الله عليه وآله تقدم إليهم في قتالنا كما تقدم إليهم في الوصاية (8) بنا لما

---------------------------
(1) ب : الناس .
(2) ر : ما مثلها .
(3) جاء في ع بعد هذه العبارة : أم أي فؤاد لا يحزن من أجله .
(4) ب . ع : ولجج .
(5) ر : لا يتصدع .
(6) ر : سمع .
(7) ر : أيها الناس أصبحنا مشردين مذودين شاسعين على الأمصار... ب . ع : أيها الناس أصبحنا مطرودين مشردين مذودين وشاسعين عن الأمصار كأنا أولاد ترك وكابل .
(8) كذا في ع . وفي ر : الوصاة ، وفي ب : الوصاءة .

الملهوف على قتلى الطفوف _ 230 _

  زادوا (1) على ما فعلوا بنا ، فإنا لله وأنا إليه راجعون ، من مصيبة ما أعظمها وأوجعها وأفجعها وأكظها أفظعها وأمرها وأفدحها ، فعند الله نحتسب فيما أصابنا وابلغ بنا ، إنه عزيز ذو انتقام ) .
  قال الراوي (2) : فقام صوحان بن صعصعة بن صوحان (3) ـ وكان زمناً ـ فاعتذر إليه صلوات الله عليه بما عنده من زمانة رجليه ، فأجابه بقبول معذرته وحسن الظن به وشكر له وترحم على أبيه .
  قال علي بن موسى بن جعفر بن محمد بن طاووس جامع هذا الكتاب : ثم إنه صلوات الله عليه رحل إلى المدينة بأهله وعياله ، نظر إلى منازل قومه ورجاله ، فوجد تلك النازل تنوح بلسان أحوالها ، وتبوح بإعلان الدموع وإرسالها ، لفقد جماتها ورجالها ، وتدب عليهم ندب الثواكل ، وتسأل عنهم أهل المناهل ، وتهيج أحزانه على مصارع قتلاه ، وتنادي لأجلهم : وا ثكلاه ، وتقول :
  يا قوم ، أعينوني على النياحة والعويل ، وساعدوني على المصاب الجليل ، فان القوم الذين أندب لفراقهم وأحن إلى كرم أخلاقهم ، كانوا سمار ليلي ونهاري ، وأنوار ظلمي وأسحاري ، وأطناب شرفي وافتخاري ، وأسباب قوتي وانتصاري ، والخلف من شموسي وأقماري .

---------------------------
(1) ب : ازدادوا .
(2) الراوي ، من ع .
(3) أما أبوه صعصعة بن صوحان ، فأكثر كتب التاريخ ذكرته وانه من أصحاب أمير المؤمنين عليه السلام ، وأما الابن صوحان ابن صعصعة ، فلم أجد من ترجمه حسب تفحصي ، وبعض من ترجمه اعتمد في ترجمته على هذا المقطع من كتاب الملهوف .

الملهوف على قتلى الطفوف _ 231 _

  كم ليلة شردوا بإكرامه (1) وحشتي ، وشيدوا بإنعامهم حرمتي ، واسمعوني مناجاة أسحارهم ، وأمتعوني بإيداع أسرارهم ؟
  وكم يوم عمروا ربعي بمحافلهم ، وعطروا طبعي بفضائلهم ، وأورقوا عودي بماء عهودهم ، وأذهبوا نحوسي بنماء سعودهم ؟
  وكم غرسوا لي من المناقب ، وحرسوا محلي من النوائب ؟
  وكم أصبحت بهم أتشرف على المنازل والقصور ، وأميس في ثوب الجذل والسرور ؟
  وكم أعاشوا في شعابي من أموات الدهور ، وكم انتاشوا على أعتابي من رفات (2) المحذور .
  فقصدني فيهم سهم الحمام ، وحسدني عليهم حكم الأيام ، فأصبحوا غرباء بين الأعداء ، وغرضاً لسهام الإعتداء ، وأصبحت المكارم تقطع بقطع أناملهم ، والمناقب تشكو لفقد شمائلهم ، والمحاسن تزول بزوال أعضائهم ، والأحكام تنوح لوحشة أرجائهم .
  فيالله من ورع أريق دمه في تلك الحروب ، وكمال نكس علمه بتلك الخطوب .
  ولئن عدمت مساعدة أهل المعقول ، وخذلني عند المصاب جهل العقول ، فإن لي مسعداً من السنن الدارسة والأعلام الطامسة ، فإنها تندب كندبي وتجد مثل وجدي وكربي .
  فلو سمعتم كيف ينوح عليهم لسان حال الصلوات ، ويحن إليهم إنسان

---------------------------
(1) ر : بإلمامهم .
(2) ر : رقاب .

الملهوف على قتلى الطفوف _ 232 _

  الخلوات ، وتشتاقهم طوية المكارم ، وترتاح إليهم ندية الأكارم ، وتبكيهم محاريب المساجد ، وتناديهم ميازيب الفوائد (1) ، لشجاكم سماع تلك الواعية النازلة ، وعرفتم تقصيركم في هذه المصيبة الشاملة .
  بل ، لو رأيتم وجدي وأنكساري وخلو مجالسي وآثاري ، لرأيتم ما يوجع قلب الصبور ويهيج أحزان الصدور ، ولقد شمت بي من كان يحسدني من الديار وظفرت بي أكف الأخطار .
  فيا شوقاه إلى منزل سكنوه ، ومنهل (2) أقاموا عنده وأستوطنوه ، ليتني كنت إنساناً أقيهم حز السيوف ، وأدفع عنهم حر الحتوف ، وأحول بينهم وبين أهل الشنآن (3) ، وأرد عنهم سهام العدوان .
  وهلا إذ فاتني شرف تلك المواساة الواجبة ، كنت محلاً لضم جسومهم الشابحة ، وأهلاً لحفظ شمائلهم من البلاء ، ومصوناً من روعة هذا الهجر والقلاء .
  فآه ثم آه ، لو كنت مخطأ لتلك الأجساد ومحطاً لنفوس أولئك الأجواد ، لبذلت في حفظها غاية المجهود ، ووفيت لها بقديم العهود ، وقضيت له بعض الحقوق الأوائل ، ووقيتها جهدي من وقع تلك الجنادل وخدمتها خدمة العبد المطيع ، وبذلت لها جهد المستطيع ، وفرشت لتلك الخدود والأوصال فراش الإكرام والإجلال ، وكنت أبلغ منيتي من أعتناقها ، وأنور ظلمتي بإشراقها .
  فيا شوقاه إلى تلك الأماني ، ويا قلقاه لغيبة أهلي وسكاني ، فكل حنين يقصر عن حنيني ، وكل دواء غيرهم لا يشفيني ، وها أنا قد لبست لفقدهم أثواب

---------------------------
(1) ر : وتدبهم ميازيب الفوائد ، ع : وتناديهم مارب .
(2) ر : وسهل .
(3) ع : أشفي غيظي من أهل السنان .

الملهوف على قتلى الطفوف _ 233 _

  الأحزان ، وأنست من بعدهم بجلباب الأشجان ، ويئست أن يلم بي التجلد والصبر ، وقلت : يا سلوة الأيام موعدك الحشر .
  ولقد أحسن ابن قتة (1) رحمة الله عليه ، وقد بكى على المنزال المشار إليها (2) ، فقال :
مــررت عـلـى أبـيـات آل iiمـحمد      فـلـم  أرهــا أمـثـالها يـوم iiحـلت
فــلا  يـبـعد الله الـديـار iiوأهـلـها      وإن أصبحت منهم برغمي (3) تخلت
ألا  إن قـتـلى الـطف مـن آل iiهـاشم      أذلــت  رقــاب الـمـسلمين iiفـذلت
وكـانـوا  غـياثاً ثـم أضـحوا iiرزيـة      لـقـد عـظمت تـلك الـرزايا iiوجـلت
ألـم تـر أن الـشمس أضـحت iiمريضة      لـفـقد  حـسـين والـبـلاد iiاقـشعرت
  فاسلك أيها السامع بهذا المصاب مسلك القدوة من حملة الكتاب .
  فقد روي عن مولانا زين العابدين عليه السلام ـ وهو ذو الحلم الذي لا يبلغ الوصف إليه ـ أنه كان كثير البكاء لتلك البلوى ، عظيم البث والشكوى .
  فروي عن الصادق عليه السلام إنه قال : ( إن زين العابدين عليه السلام بكى على أبيه أربعين سنة ، صائماً نهاره قائماً ليله ، فإذا حضره الإفطاء جاء غلامه بطعامه وشرابه فيضعه بين يديه ، فيقول : كل يا مولاي ، فيقول : قتل ابن رسول الله جائعاً ، قتل ابن رسول الله عطشاناً ، فلا يزال يكرر ذلك ويبكي حتى يبل طعامه من دموعه

---------------------------
(1) في ر : ابن قبة ، وفي ع : ابن قتيبة ، والصحيح : ابن قتة .
وهو سليمان بن قتة العدوي التيمي ، مولى بني تيم بن مرة ، توفي بدمشق سنة 126 هـ ، وكان منقطعاً إلى بني هاشم .
سير أعلام النبلاء 4 | 596 ، وذكر أن قتة اسم أمه ، وذكره أيضاً وفي أدب الطف 1 | 54 .
(2) ر : على المنزل المشار إليه .
(3) ع : بزعمي .

الملهوف على قتلى الطفوف _ 234 _

  ويمتزج شرابه منها ، فلم يزل كذلك حتى لحق بالله عز وجل ) .
  وحدث مولى له عليه السلام أنه برز إلى الصحراء يوماً ، قال : فتبعته ، فوجدته قد سجد على حجارة خشنة ، فوقفت وأنا أسمع شهيقه وبكاءه ، وأحصيت عليه ألف مرة يقول : ( لا إله إلا الله حقاً حقاً لا إله إلا الله تعبداً ورقاً لا إله إلا الله إيماناً وصدقاً ) .
  ثم رفع رأسه من سجوده ، وأن لحيته ووجهه قد غمرا من الدموع .
  فقلت : يا مولاي ، أما آن لحزنك أن ينقضي ؟ ولبكائك أن يقل ؟
  فقال لي : ( ويحك ، إن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليهم السلام كان نبياً ابن نبي ابن نبي له اثنى عشر ابناً ، فغيب الله سبحانه واحداً منهم فشاب رأسه من الحزن واحدودب ظهره من الغم والهم وذهب بصره من البكاء وابنه (1) حي في دار الدنيا ، وأنا رأيت (2) أبي وأخي وسبعة عشر من أهل بيتي صرعى مقتولين ، فكيف ينقضي حزني ويقل بكائي ؟! ) .
  وها أنا أتمثل وأشير إليهم صلوات الله وسلامه عليهم ، فأقول :
مـن  مخبر الملبسينا بانتزاحهم      ثوباً  من الحزن لا يبلى iiويبلينا
إن الزمان الذي قد كان يضحكنا      بـقربهم صـار بالتفريق يبكينا
حـالت  لـفقدانهم أيامنا iiفغدت      سـوداً  وكانت بهم بيضاً ليالينا
  وهاهنا منتهى ما أردناه وآخر ما قصدناه ، ومن وقف على ترتيبه ورسمه مع أختصاره وصغر حجمه عرف تمييزه على أبناء جنسه وفهم فضيلته في نفسه .
  والحمد لله رب العالمين وصلاته وسلامه على محمد وآله الطيبين الطاهرين .

---------------------------
(1) ر : وولده .
(2) ب : فقدت .