إلاّأنّ عبد اللّه بن أُبيّ رئيس المنافقين استغل الموقف فأثار الاَنصار ضدّ المهاجرين ، على أساس أنّهم أقلّ مكانة منهم ، ممّا تركت كلماته أثرها في نفوسهم ، إذ أنّهم ما زالوا يعانون من بقايا العصبية الجاهلية ، وكادت الحركة أن توجه ضربة قاضية إلى صرح الوحدة الاِسلامية والاِخوة الاِيمانية ، ولكن زيد بن الاَرقم ظهر من بين فتيان المسلمين ليرد عليه بالكلمات القوية : « أنت واللّه الذليل القليل المبغض في قومك ، ومحمّد في عز من الرحمن ومودة من المسلمين ، واللّه لا أحبك بعد هذا أبداً » ، ثمّ سار إلى النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) يخبره بما حدث من المنافق ، فأراد الرسول أن يهدّىَ الاَوضاع ، فأمر بالرحيل في ساعة من النهار لم يكن يرتحل فيها عادة ، كما أنّه سار ليلاً ونهاراً دون إستراحة إلاّللصلاة ، وذلك حتى يشغلهم عن الذي حدث من عبد اللّه بن أُبيّ المنافق ، وقد طلب ابنه عبد اللّه من النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) أن يسمح له بقتل أبيه ، حيث كان مسلماً حقيقياً أفضل من أبيه ، ولكن الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) قال : « بل نترفق به ونحسن صحبته ما بقي معنا » ، فما كان من المسلمين إلاّ أن توجّهوا باللوم على ابن أُبيّ ، فلحقه من ذلك ذل ّشديد بين الناس ، فلم يعبأ به أحد ، ولم يعد له أي ّدور ، وعاش بقية حياته محتقراً بين الناس ، وقد تزوّج الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) « الجويرية بنت الحارث بن أبي ضرار » التي كانت من بين سباياهم ، فأسلمت وأسلم أهلها ، ثمّ أطلق الباقون وهم مائة عائلة من بني المصطلق ، إذ اعتبروا من أصهار النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، وأطلق جميع أسرى بني المصطلق رجالاً ونساء بفضل هذا الزواج المبارك ، وبفضل سياسة النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) الحكيمة ، وفي هذه السنة خرج جماعة من قريش تنشد اللجوء إلى الحبشة خوفاً من قوة المسلمين ، وكان فيهم عمرو بن العاص ، الذي قدم الهدايا الكثيرة إلى الملك ، الذي نصحه بأن يعلن إسلامه ، إذ لا مفر من انتشار الاِسلام في بلاده ، فاضطر إلى أن يسلم على يديه ، وكتم أمره عن أصحابه (1) .

5 ـ قصة الاِفك
  يرى أكثر المحدّثين المفسرين أنّالقصة ترتبط بالسيدة عائشة زوجة الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، ويذكرون أحداثاً لا يتلاءم بعضها مع عصمة الرسول الاَعظم ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ولذا لا يمكن القبول بها (2) بينما يذهب آخرون إلى المعني فيها هو مارية القبطية زوجة رسول اللّه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وأُمّ إبراهيم ، ففي رواية البخاري التي نقلها عن السيدة عائشة ، ما يتنافى بقوة مع عصمة النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، لاَنّها تكشف عن أنّه وقع ( صلى الله عليه وآله وسلم ) فريسة بأيدي الشائعات الكاذبة إلى درجة أنّه غيّر سلوكه تجاه السيّدة عائشة ، بعد أن شكّ في عفافها وشاور أصحابه في أمرها (3) .
  إنّ مثل هذا الموقف مع شخص بريء لا يوجد أي دليل على تهمته ، لا يتنافى فقط مع مقام العصمة النبوية ، بل حتى مع مقام الموَمن العادي .

---------------------------
(1) لاحظ الاِختلاف في الموقف هنا و في أوّل عهد الاِسلام بمكة .
(2) الدر المنثور : 5 ـ 24 .
(3) صحيح البخاري : 6 ـ 102 ، تفسير سورة النور .

السيرة المحمدية _ 101 _

   كما أنّ الآية 12 و 14 من سورة النور توبخ أُولئك الذين وقعوا فريسة الشائعات وظنوا السوء ، ممّا يعني أنّهذا العتاب والتوبيخ كان يعم الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) أيضاً لو صحت رواية البخاري هذه ، ولذا فإنّه يُرفض كل ّالرواية المذكورة في شأن النزول الذي يتناقض مع عصمة الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، وأمّا بالنسبة لرواية البخاري الاَُخرى بشأن النزول ، والتي ينقلها عن عائشة ومفادها : أنّه حدث شجار وصدام بين الاَوس والخزرج أمام الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) حينما كان يخطب على المنبر ، فاتّهموا بعضهم بعضاً بسبب قضية الاِفك ، حتى أشار عليهم ( صلى الله عليه وآله وسلم ) بالسكوت فهدّأهم حتى انصرفوا ، فهي كذلك لا تتناسب مع أحداث التاريخ الصحيح ، إذ أنّ « سعد بن معاذ » رئيس الاَوس كان قد توفّي قبل حادثة الاِفك ، التي جرت وقائعها بعد أحداث معركة بني قريظة ، وقد صرح بذلك البخاري نفسه في صحيحه (1) في باب معركة الاَحزاب وبني قريظة ، فكيف يمكن أن يحضر مجلس النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ويجادل سعد بن عبادة في قضية الاِفك التي وقعت بعد أحداث بني قريظة بعدّة شهور ؟ ولذا فمن المهم أن نعرف أنّ حزب النفاق حاول أن يزلزل النفوس بإلقاء التهمة والبهتان إلى إمرأة صالحة ذات مكانة وأهمية في المجتمع الاِسلامي ، وقد فسر قوله تعالى : ( الذي تولّى كبره ) بأنّ الذي تحمل القسط الاَكبر من هذه العملية الخبيثة هو : « عبد اللّه بن أُبي » فهو الذي قاد هذه العملية الرخيصة الخطرة ، كما صرحت بذلك السيدة عائشة نفسها (2) ، فقد كان « عبد اللّه بن أُبي » يعمل بتجارة الجواري ويضعهن تحت تصرف الرجال للزنا بهن ، فيجني أرباحاً طائلة من وراء هذه التجارة البغيضة ، حتى بعد انتشار الاِسلام في المدينة ، ولما كان يكرههن على البغاء ، واشتكت إحدى نسائه من ذلك ، فقد نزلت الآية الكريمة تشجب عمله الدنيء : ( وَلا تُكرِهُوا فَتَياتِكُمْ عَلى البِغاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الحَياةِ الدُّنيا ) (3) وعندما حدث العداء بينه وبين ابنه بعد واقعة بني المصطلق ، عمد إلى فعل كلّ ما يشفي غليله ويذهب غيظه ، كترويج الشائعات الكاذبة انتقاماً من المجتمع الاِسلامي ، ليعمل على بلبلة الرأي العام ويشغله بالتوافه من القضايا ، ويصرفه عن القضايا المهمة والمصيرية ، إذ أنّ سلاح الشائعات يعتبر من الاَسلحة المدمرة ، وتستخدم في تشويه سمعة الاَفراد الصالحين والمجتمع أيضاً .

---------------------------
(1) صحيح البخاري : 5 ـ 113 .
(2) السيرة النبوية : 2 ـ 297 ، وقد فطن ابن هشام لهذه الناحية فترك ذكر سعد بن معاذ بينما غفل عنها البخاري في صحيحه .
(3) النور : 33 .

السيرة المحمدية _ 102 _

  أمّا الرواية الاَُخرى ، فترى أنّ المقصود من الآية مارية القبطية ، حيث اتهم فردٌ يدعى جريح بعد وفاة ابنها إبراهيم بأنّه هو والد إبراهيم وليس النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) فأرسل ( صلى الله عليه وآله وسلم ) الاِمام علياً ليقتله ، فصعد جريح إلى نخلة خوفاً من علي ( عليه السلام ) وفتكه به ، فتعقّبه عليُّ ، فرمى بنفسه من فوقها فبدت عورته ، فإذا ليس له ما للرجال ولا له ما للنساء ، فرجع علي ( عليه السلام ) إلى النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) فأخبره بما رأى ، فقال النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : الحمد للّه الذي صرف عنّا السوء أهل البيت (1) ، وجميع هذه الروايات ضعيفة فلا يمكن القبول بها في شأن نزول آيات الاِفك .

6 ـ الحديبية : رحلة دينية سياسية
  كانت السنة 6 هـ تقترب من نهايتها حينما رأى الرسول في المنام أنّه دخل الكعبة وحلق رأسه وأخذ مفتاح البيت ، فقص ( صلى الله عليه وآله وسلم ) روَياه على أصحابه ، وتفاءل بها خيراً (2) ، إنّ هذه الرحلة الروحانية انتجت مصالح اجتماعية وسياسية ، عزّزت مكانة المسلمين في الجزيرة العربية وساعدت على نشر الدين الاِسلامي فيها ، وذلك لاَنّ :
ـ القبائل العربية المشركة تصورت أنّ النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) خالف كلّ عقائد العرب وتقاليدهم الموروثة بما فيها الحج والعمرة ، فأكد بذلك الصلح وتجنّب القتال في الشهر الحرام أنّه لا يعارض تلك الطقوس الدينية ، بل يعتبرها فريضة مقدسة مثل والد العرب الاَكبر « إسماعيل بن إبراهيم » ويعمل على المحافظة على هذه التقاليد الدينية ، ممّا قلل من مخاوفهم تجاه الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ودعوته ، ولما لم يكن يحمل أسلحة معه على أساس حرمة الاَشهر الحرم ، فإنّ ذلك غيّر من نظرة هوَلاء تجاه دعوة الاِسلام حين شاهدوا الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وهو يحرّم القتال في الشهر الحرام ، ويدعو إلى رعاية هذه السنّة الدينية القديمة ، وستكون مناسبة يتمكن المهاجرون فيها من زيارة وطنهم وأهاليهم وأقربائهم ، أمّا إذا منعتهم قريش من الدخول فإنّ سمعتها هي تتعرض للخطر ، ويتضح عدوانُها ، وينكشف للجميع بطلان مواقفها ، نظراً لموقفها السّيىَ تجاه جماعة مسالمة أرادت أداء مراسم العمرة فقط ، وإذا نجح المسلمون في سعيهم بأداء مناسك العمرة ، فإنّه سيكون أفضل إعلام لجميع مناطق العرب ، إذ أنّ نداء الاِسلام سينتشر في تلك البقاع والمناطق التي لم يصلها دعاة النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ومبلغوه حتى هذا الوقت ، ولذا فإنّ الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) أمر أصحابه بالتهيّوَ للعمرة داعياً القبائل المجاورة التي لم تزل على كفرها وشركها إلى مرافقة المسلمين في هذه الرحلة وبلغت أعدادهم ألف وأربعمائة أو 1600 أو 1800 ، أحرموا في ذي الحليفة فشاع في الجزيرة العربية أنّ المسلمين متجهون صوب مكة للعمرة في شهر ذي القعدة .

---------------------------
(1) بالرغم ما ذكر عن الاِمام علي ( عليه السلام ) أنّه لم ينظر إلى عورة قط، ولذا قيل عنه كرم اللّه وجهه .
(2) مجمع البيان : 9 ـ 126 .

السيرة المحمدية _ 103 _

  وعند عُسفان ، أخبروا الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) بأنّ قريشاً ترفض السماح لهم بالدخول إلى مكّة ، كما أرسلت كتيبة من أفرادهم بقيادة : خالد بن الوليد ، لتنفيذ الاَوامر المعلنة ، فغيّر الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) طريقه حتى لا يلتقي بخالد ، سالكاً طرقاً وعرة حتى وصل الحديبية ، التي بركت فيها ناقة الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) فنزلوا في ذلك المكان ، إلاّأنّ خالد بن الوليد تمكن من الوصول بكتيبته وحاط بهم وحاصر موكبهم ، ولكن النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) لم يكن قد جاء ليحارب في سبيل دخول مكة ، ولم يكن هذا هدفه ، ولذا فإنّ التفاوض كان من أفضل الحلول لهذه المشكلة ، فقال ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : « لا تدعوني قريش اليوم إلى خُطة يسألونني فيها صلة الرحم إلاّأعطيتهم إيّاها » ، فبلغ ذلك مسامع الجميع ، فقرروا إرسال عدد من أفرادهم إلى الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) للتعرف على هدفه الاَصلي من رحلته ومجيئه إلى مكة ، فبعثوا إليه بأربعةأشخاص لتفهّم موقف الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) فقال لهم ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : « إنّا لم نجىَ لقتال أحد ولكنّا جئنا معتمرين » ، إلاّأنّ المندوبين أكدوا للمسلمين أنّ قريشاً لن تقبل بدخولهم مكة : « يعاهدون اللّه لا تدخلها عليهم عنوة أبداً » ، فذهبت كلّ تلك المفاوضات سدى دون جدوى ، ممّا جعل الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) يرسل مندوباً عنه إلى قريش يوضح الصورة الصحيحة لهدفهم ، وهو زيارة بيت اللّه وأداء مناسك العمرة ، إلاّأنّقريشاً ـ خلافاً لكلّالاَعراف الدولية والاجتماعية ـ والتي تقضي بحماية السفراء واحترامهم ، عمدت إلى عقر الجمل الذي قدم عليه السفير والمندوب النبوي ، بل كادوا أن يقتلوه أيضاً ، لولا تدخل جماعة من قادة العرب ، فخلّت سبيله ليعود إلى النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، كما أنّ قريشاً أرسلت كتيبة لاِرهاب الرسول وجماعته وإرعابهم ونهب شيء من أموالهم ، إلاّ أنّ الوضع لم يكن في صالحهم فقد أسرهم المسلمون وكانوا خمسين فرداً ، فتدخل النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وعفا عنهم و خلّى سبيلهم ، ليوَكد لهم أنّه جاء يريد السلام ، وأنّ هوَلاء ينشدون الحرب والقتال ، واختار الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) « عمر بن الخطاب » لمهمة سفارة أُخرى لقريش ، لاَنّه لم يكن قد أراق دم أيّمن المشركين حتى ذلك الوقت ، ولكنّه اعتذر عن تحمّل هذه المسوَولية المحفوفة بالمخاطر قائلاً : « يا رسول اللّه ، إنّي أخاف قريشاً على نفسي ، وليس بمكة من بني عدي من يمنعني ، ولكنّي أدلّك على رجل أعزّ بها منّي عثمان بن عفان » (1) .

---------------------------
(1) السيرة النبوية : 2 ـ 315 ، كما أنّ بينه وبين أبي سفيان قرابة ، فهو أموي .

السيرة المحمدية _ 104 _

  إلاّ أنّ قريشاً ألقت القبض على عثمان وحبسوه ، لعلّهم يتوصلون إلى حلّ فيطلقوه ليبلغ الرسول رأيهم ، فلمّا أبطأ عثمان عنهم ، وأوجد ذلك قلقاً شديداً في نفوس المسلمين ، وخاصة إنّه أُشيع أنّ عثمان قتل ، فإنّ المسلمين ثاروا وقرروا الانتقام والقتال ، ممّا دعا النبي إلى أن يجدّد بيعته مع المسلمين ، فبايعوه تحت الشجرة على الاستقامة والثبات والوفاء ، وحلفوا ألاّ يتخلّوا عنه أبداً ، وأن يدافعوا عن حياض الاِسلام حتى النفس الاَخير ، وسميت هذه البيعة : بيعة الرضوان ، التي ذكرها القرآن الكريم بقوله : ( لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا ) (1) ، وبذا فإنّ موقف المسلمين تحدّد في : إمّا دخول مكة وزيارة بيت اللّه ، وإمّا القتال فيما لو تصلب موقف قريش الرافض لذلك ، ولكن « عثمان بن عفان » رجع إليهم وأخبرهم أنّ اليمين التي التزمت بها قريش بمنعهم من دخول مكة هذا العام ، هي التي تجعلهم في موقف متصلب رافض ، وأنّهم سيرسلون إلى الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) من يتفاوض معه في هذا الشأن ، وكُلّف سهيل بن عمرو بإنهاء هذه المشكلة ، ونتج عن التفاوض بين الطرفين عقد صلح شامل و واسع بينهما ، وفي الوقت الذي كان المندوب القرشي يتصلب في بعض البنود و المواد ، فإنّ النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) كان يتساهل معه ويتنازل عنها ، ممّا كان له أثر بعيد ، فالتسامح الذي أبداه الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) في تنظيم وثيقة الصلح ، لا يعرف له نظير في تاريخ العالم ، لاَنّه أظهر بجلاء أنّ رسول اللّه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) لم يقع فريسة بيد الاَهواء والاَغراض الشخصية والعواطف والاَحاسيس العابرة ، فكان يعلم أنّ الحقائق لا تتبدل ولا تتغير بالكتابة والمحو ، وهو ما جعله يتسامح مع مفاوض قريش الذي تصلب في مطالبه غير الشرعية ، وذلك حفاظاً على أصل الصلح وحرصاً على السلام ، وقد حدث خلال ذلك ، أنّ طلب المندوب القرشي بأن يمسح الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ما كتبه : « بسم اللّه الرّحمن الرّحيم » ويكتب بدلاً منه : باسمك اللّهمّ ، كما طلب مسح كلمة « رسول اللّه » وإبدالها بمحمد بن عبد اللّه ، فأجابه الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) إلى ذلك ، أمّا صلح الحديبية ، فكان من أبرز بنوده :
1 ـ وقف القتال عشر سنين بين الطرفين .
2 ـ من قدم إلى النبي من قريش دون إذن وليّه ، يردّه عليهم ، ومن جاء قريشاً من محمّد لا يردّوه إليه .
3 ـ السماح بدخول أيّ طرف في التحالف مع أيّة أطراف .
4 ـ يرجع المسلمون هذا العام على أن يقدموا العام القادم للعمرة .
5 ـ لا يُستكره أحدٌ على ترك دينه ، ويعبد المسلمون اللّه بمكة بحرية وأمان .
6 ـ احترام الطرفين لاَموالهم ، فلا خيانة ولا سرقة .
7 ـ لا تعين قريشٌ على محمّد وأصحابه أحداً ، سواء بسلاح أو أفراد (2) .

---------------------------
(1) الفتح : 18 .
(2) بحار الاَنوار : 20 ـ 352 ، السيرة الحلبية : 3 ـ 21 ـ مجمع البيان : 9 ـ 117 .

السيرة المحمدية _ 105 _

  ثمّ كتبت الوثيقة بنسختين ، ووقع عليها نفر من شخصيات قريش والمسلمين شهوداً عليها ، وتسلم سهيل بن عمرو نسخة قريش ، واحتفظ النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) بالنسخة الاَُخرى ، وكثيراً ما اعترض المسلمون على بعض البنود ، كالبند القاضي بتسليم كلّ مسلم سار إلى الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) من قريش ، والعكس ، فأوضحه الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، « من جاءهم منّا فأبعده اللّه ، ومن جاءنا منهم رددناه إليهم ، فلو علم اللّه الاِسلام من قلبه جعل له مخرجاً » ، فلا قيمة لاِسلام وإيمان من يترك المسلمين ويهرب لاجئاً عند المشركين ، إذ أنّه يوَكد بفعله أنّه لم يوَمن حقّاً بالاِسلام ، ولذا لم يكن هناك حاجة لقبوله في جماعتهم ، وهذا الميثاق يوَكد نزاهة الاِسلام وروحه وحقيقة تعاليمه ، وأنّه لم يُطلَب نشره بقوة وإجبار ، كما يذكره الاَجانب وغيرهم دوماً ، وبعد الانتهاء من تلك المراسيم وعودة جماعة قريش ، قام الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) بنحر ما كان معه من الهدي في نفس ذلك المكان وحلق ، وأدّى الآخرون نفس العملية ، ثمّ عادوا إلى المدينة بعد 19 يوماً من البقاء في أرض الحديبية ، وكان لهذه المعاهدة نتائج وآثار بعيدة المدى ، كان من أبرزها وأهمها :
1 ـ تهيّأت الاَرضية لنشر الاِسلام في المناطق المختلفة ، بعد استقرار الاَمن والسلام بين المسلمين وقريش ، فقد كان يقضي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) أكثر وقته في العمل على إفشال الموَامرات والدفاع عن المدينة والدخول في حروب .
2 ـ كان لاعتراف قريش بالكيان الاِسلامي رسمياً ، دوره في منح القبائل حريتها في الانضمام إلى المسلمين إذا شاءوا .
3 ـ زال الستار الحديدي الذي ضربه المشركون حول المسلمين في المدينة ، فتمكن الناس من الارتحال إلى المدينة والتعرف عليها وعلى تعاليم الاِسلام العليا ، ممّا فسح المجال لهم في اعتناق الاِسلام كما تمكن المسلمون من السفر إلى مكة وأجزاء أُخرى ، ممّا ساعد في نشر الاِسلام في تلك الجهات .
4 ـ التحق عددٌ كبير من روَوس الشرك والكفر كـ « خالد بن الوليد و عمرو ابن العاص » بالمسلمين واعتنقوا الاِسلام قبل فتح مكة .
5 ـ زال الحاجزُ النفسي بين قريش و المسلمين ، حين أثبت الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) لهم بأنّه معدن عظيم من معادن الخلق الاِنساني الكريم ، بعد صبره وتجلده وتحمّله تصلّب قادة المشركين وتعنّتهم ، فقد شاهدوا موقف النبي الاَكرم ( صلى الله عليه وآله وسلم ) في مخالفته لآراء المعرضين من جماعته لبعض البنود عند توقيع العقد ، وذلك في رغبة صادقة منه لاِقرار السلام بين الجانبين ، فأبطل بذلك كلّ الدعايات والاِشاعات المغرضة التي رُوِّجت ضدّه و ضدّ دعوته المباركة ، وأثبت أنّه حقّاً رجل سلام وداعية خير للبشرية ، حتى لو سيطر على مقاليد الجزيرة العربية ، فإنّه سيعامل أعداءه باللطف والحسنى والتسامح ، ويوَكد ذلك قول الاِمام الصادق ( عليه السلام ) بعد ذلك : « وما كان قضية أعظم بركة منها » ، إذ لم يكد النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) أن يصل إلى المدينة حتى نزلت سورة الفتح التي وعدت المسلمين وبشّرتهم بالانتصار ، ممّا اعتبر مقدمة لفتح مكة ( انّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبيناً ) (1) .

---------------------------
(1) بحار الاَنوار : 20 ـ 263 ـ زاد المعاد : 2 ـ 126 .

السيرة المحمدية _ 106 _

  وكانت المادة الثانية من المعاهدة ، والتي اختلف حولها المسلمون ، هي التي تسبّبت في الفتح بعد ذلك ، لاَنّ قريشاً طلبت من النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) بعد فترة قصيرة من توقيع المعاهدة بإلغاء تلك المادة التي تنص : على الحكومة الاِسلامية أن تعيد كلّمسلم هارب من مكة إلى قريش ، وليس عليها أن تعيد كلّهارب من المسلمين ، ولما أثارت هذه المادة المسلمين ، فإنّ النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) طمأنَهم حينما ذكر لاَحدهم : « إنّ اللّه جاعلٌ لك ولمن معك من المستضعفين فرجاً ومخرجاً » ، ذلك أنّ بعض هوَلاء المسلمين الهاربين تمكّنوا من تأسيس عصابة خاصة في مراكز بعيدة عن مكة والمدينة ، للنيل من قوافل قريش التجارية والتعرض لها وقتل من يقع في أيديهم ، الاَمر الذي أقلق بال قريش ، فراسلوا النبي صطالبين منه إلغاء هذه المادة للتخلص ممّا هم فيه من قلق وتوتر ، فوافق الرسول الكريم ( صلى الله عليه وآله وسلم ) على ذلك ، ولذلك انضم هوَلاء المسلمون المتفرّقون إلى جماعة المسلمين بالمدينة ، إلاّ أنّ النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) لم يقبل بإعادة المسلمات ، كما حدث « لاَُمّ كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط » التي هاجرت إلى المدينة فطلبوها ، ولكن النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) قال : « إنّ اللّه نقض العهد في النساء » (1) ، وقد جاء كلّذلك كما حكى القرآن الكريم في سورة الممتحنة : ( يا أَيُّهَا الّذينَ آمَنُوا إِذا جاءَكُمُ المُوَْمناتُ مُهاجِراتٍ فامْتَحِنُوهُنَّ اللّهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِهنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُوَْمِناتٍ فَلا تَرْجعُوهُنََّّ إِلَى الكُفّارِ لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لهُنَّ وَآتُوهُمْ ما أَنْفَقُوا ) (2) .


1 ـ أحداث السنة السابعة من الهجرة
ـ إعلان النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) عن عالمية رسالته ـ أحداث خيبر ـ قصة فدك ـ عمرة القضاء .
2 ـ أحداث السنة الثامنة من الهجرة
ـ معركة موَته ـ غزوة ذات السلاسل ـ فتح مكة ـ معركة حنين ـ غزوة الطائف .

---------------------------
(1) المغازي : 2 ـ 631 ، السيرة النبوية : 2 ـ 323 .
(2) الممتحنة : 10 .

السيرة المحمدية _ 107 _

أحداث السنة السابعة من الهجرة

1 ـ إعلان النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) عن رسالته عالمياً
 كان من نتائج المعاهدة السابقة ، أنّها أعطت الفرصة للنبيليفتح باب الاتّصال مع زعماء وملوك العالم وروَساء القبائل ورجال الدين المسيحي ، فوجّه إليهم الرسائل عبر سفرائه ورسله ، وهي خطوة اتّخذها الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) بعد 19 عاماً من الصراع مع قريش المتعنّتة ، فقد أشغلته الجبهة الداخلية ومشكلاتها وأجبرته على أن يصرف كثيراً من وقته في ترتيب البيت الاِسلامي ، وشوَون الدفاع عن حياض الاِسلام وكيان المسلمين ، ولدينا الآن نصوص 185 رسالة وكتاب من قِبَل رسول اللّه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) أرسلها إلى عدّة أطراف وشخصيات محلية وعالمية تدعوهم إلى تقبّل الدين الاِسلامي ، كما تتضمن عقد مواثيق عقدها مع روَساء القبائل ، قام بجمعها وضبطها أرباب السير وكُتّاب التاريخ ، وهي تكشف عن أُسلوب الاِسلام في الدعوة والتبليغ ، وأنّه يعتمد على المنطق والبرهان ، لا على السيف و القهر ، وعلى الاِقناع لا الجبر (1) ، فالدعوة الاِسلامية كانت عالمية منذ ظهور الدعوة المحمدية ، ويمكن الرد على المستشرقين المعادين للاِسلام ، والذين يوَكدون على عدم عالمية الدعوة المحمّدية ، وينظرون إليها بعين الشكّوالريبة ، في محاولة للتعتيم على الحقيقة ، فإنّ القرآن الكريم يظهر بوضوح في آياته التي تشهد بأنّ النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) دعا البشر عامة إلى التوحيد وإلى مبادىَ رسالته ، ولم يقتصر في ذلك على العرب :
ـ ( وَما أَرْسَلْناكَ إِلاّ كافّةً للنّاسِ بَشيراً وَنَذِيراً ) (2) .
ـ ( وَما هُوَ إِلاّ ذِكْرٌ لِلْعالَمين ) (3) .
ـ ( لِيُنْذِرَمَنْ كانَ حَيّاً ) (4) .
ـ ( هُوَ الّذي أَرْسَلَرَسُولَهُ بِالهُدى وَدِينِ الحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُون ) (5) ، ولذا فإنّ النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) اختار ستة أفراد من خيرة أصحابه حملوا كتبه إلى الملوك ، تضمنت دعوته العالمية ، إلى مختلف جهات الاَرض ، فتوجه سفراء الهداية ورسل الدعوة المحمّدية في وقت واحد إلى : إيران والروم والحبشة ومصر واليمامة والبحرين والحيرة ، واتّخذ من هذا اليوم الذي كتب فيه الرسائل خاتماً من فضة نقشه ثلاثة أسطر : محمّد رسول اللّه ، في الاَعلى لفظة الجلالة ، وتليه كلمة رسول ثمّيليه اسمه الشريف ، فختم به الكتب ، كما أنّه ختم تلك الرسائل بالشمع أو الطين إمعاناً في السرية وحفاظاً عليها من التزوير .

---------------------------
(1) أفضل ما تناول الموضوع من مصادر كتابان :
أ ـ ، الوثائق السياسية للبروفيسور محمد حميد اللّه حيدر آبادي الاَُستاذ بجامعة باريس .
ب مكاتيب الرسول للعلاّمة المحقّق الشيخ علي الاَحمدي ، و هو يمتاز بتحقيقات وتحليلات أدبية وتاريخية وسياسية إسلامية في غاية الاَهمية .
2 ـ سبأ: 28 .
3 ـ القلم : 52 .
4 ـ يس: 70 .
5 ـ التوبة: 33 .

السيرة المحمدية _ 108 _

  ومن أبرز مبعوثيه ورسله إلى العالم :
1 ـ دحية بن خليفة الكلبي : بعثه إلى قيصر الروم في القسطنطينية ، وقد توجه إلى بصرى حيث كان معه رسالة إلى حاكمها ، فساعده في الوصول إلى بيت المقدس التي كان قيصر الروم قد اتجه إليها ، ولما قيل له أنّعليه أن يسجد عند مقابلة قيصر ، رفض على أساس أنّه لا يسجد لغير اللّه : « إنّما جئتكم من قِبَلِ نبي لاَبلّغ ملككم بأن عهد عبادة البشر قد انقضى وانتهى ، وأنّه لا يحق السجود إلاّ للّه وحده ، فكيف يمكنني ذلك وأنا أحمل هذه الرسالة التوحيدية إليكم ؟ » (1) ، وقرأ ترجمان القيصر كتاب النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) إليه : « بسم اللّه الرّحمن الرّحيم ، من محمّد بن عبد اللّه إلى هرقل عظيم الروم ، سلام على من اتّبع الهدى ، أمّا بعد ، فإنّما عليك إثم الاَريسيين ، و ( يا أَهْلَ الكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ أَلاّ نَعْبُدَ إِلاّ اللّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنا بَعْضاً أَرْباباً مِنْ دُونِ اللّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهدوا بِأَنّا مُسْلِمُون ) (2) ، محمد رسول اللّه » ، وكان قيصر قد حصل على معلومات وافية عن الرسول من أبي سفيان الذي كان متواجداً في هذا الوقت في الشام في تجارته ، كما كتب إلى أحد علماء الروم يسأل عنه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) فأجابه : « هذا النبي الذي كنّا ننتظره ، بشّرنا به عيسى بن مريم » ، ولذا فإنّه دعا قومه إلى الاِيمان به صوب الاِسلام ، إلاّأنّهم رفضوا ذلك وثاروا عليه ، فأسكتهم ، ثمّ أمر بإكرام دحية ، وكتب جواباً على رسالة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم ) وأرسل معه هدية إليه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) .

2 ـ عبد اللّه بن حذافة السهمي : إلى البلاط الفارسي
   حكم فارس خسرو برويز ثاني ملك بعد أنو شيروان ، فجلس على العرش مدّة 32 عاماً قبل الهجرة النبوية ، وتميز عهده بالاضطراب وعدم الاستقرار ، بالرغم من أنّ النفوذ الاِيراني قد امتدّ حتى شمل آسيا الصغرى حتى مشارف القسطنطينية ، كما استولى على صليب عيسى المقدس عند النصارى وأحضره إلى المدائن ، إلاّ أنّ الاَحوال السيّئة وأساليب الحكم غير الصحيحة أدّت إلى ضعف هذه الدولة وخروج المستعمرات من تحت نفوذها ، ممّا ساعد على اجتياح الروم لاَراضي إيران ، وهروب الامبراطور خسرو برويز، الذي أثار بذلك السخط عليه ، فقتله ابنه شيرويه ، وبرويز هذا هو الامبراطور الذي اشتهر بأنّه مزّق رسالة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وعامل رسوله بجفاء وسوء أدب ، وفيما يلي نص الرسالة إليه : «بسم اللّه الرّحمن الرّحيم ، من محمّد رسول اللّه إلى كسرى عظيم فارس ، سلام على من اتبع الهدى وآمن باللّه ورسوله ، وأشهد أن لا إله إلاّ اللّه وحده لا شريك له وأنّمحمّداً عبده ورسوله ، أدعوك بدعاية اللّه ، فإنّي أنا رسول اللّه كافة لاَنذر من كان حياً ، ويحق القول على الكافرين ، أسلم تسلم ، فإن أبيت فعليك إثم المجوس» ، وقد مزق الاِمبراطور الكتاب عند قراءة أوّل جملة منها ودون أن يعلم ما كان فيها ، ثمّ أمر بإخراج الرسول من قصره ، وعندما أُخبر النبي «صلى الله عليه وآله وسلم» بذلك قال : «اللّهمّ مزّق ملكه» ، (3)

---------------------------
1 ـ طبقات ابن سعد : 1 ـ 259 .
2 ـ آل عمران : 64 .
3 ـ طبقات ابن سعد : 1 ـ 260 .

السيرة المحمدية _ 109 _

  منه (1) ، إلاّأنّ اليعقوبي ، ينفرد برأي آخر ، بأنّ الامبراطور الفارسي أرسل هدية من حرير ومسك إلى النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، ويوافقه على رأيه أحمد بن حنبل فقط الذي قال : أهدى كسرى لرسول اللّه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) فقبل أمّا الاِمبراطور المغرور فإنّه طلب من واليه على اليمن باذان ـ التي كانت تتبع فارس ـ بأن يقبض على هذا النبي ويبعثه إليه ، فأرسل هذا إليه فارسين طلبا من النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) أن يسلّم نفسه للامبراطور الفارسي أو يقتلاه ، فردّ عليهما بأن عرض ( صلى الله عليه وآله وسلم ) عليهما الاِسلام ، على أن يعودا إليه في اليوم التالي ، وفي هذه الفترة ، تخلص ابن الامبراطور الفارسي منه بقتله ، فأخبر اللّه تعالى نبيه بذلك ، فذكره للفارسين قائلاً : إنّ ربّي قد قتل ربّكما ليلة كذا من شهر كذا بعد ما مضى من الليل كذا ، وسلط عليه شيرويه فقتله ، وكانت الليلة الثلاثاء من العاشر من جمادى الاَُولى 7هـ ، فطلبا السماح لهما بإخبار ملكهم باذان في اليمن بما جرى ، فسمح لهما الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : « نعم أخبراه ذلك عني ، إنّ ديني و سلطاني سيبلغ ما بلغ ملك كسرى وينتهي إلى منتهى الخف والحافر ، وقولا له : إن أسلمت أعطيتك ما تحت يديك ، وملكتك على قومك » ، ولما تأكد الوالي باذان في اليمن من صحة أقوال النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وما حدث بفارس ، فإنّه أعلن إسلامه مع جميع أعضاء حكومته ـ وهم من الفرس ـ وكتب بذلك إلى النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) (2) .
3 ـ حاطب بن أبي بلتعة ، إلى مصر :
  وقد نصت الرسالة إلى المقوقس حاكم مصر : « أسلم يوَتك اللّه أجرك مرّتين ، فإن توليت فإنّما عليك إثم القبط » ، وقد توجه الرسول إلى الاِسكندرية حيث كان يعيش هناك في قصر شامخ ، وكان متسامحاً ، ممّا جعل حاطباً يتناول في خطابه إيّاه صورة الاِسلام وقوّة النبيّص كما ذكر التوراة والاِنجيل ، وأنّ الاِسلام هو الصورة الاَكمل لدين المسيح ، ثمّ إنّ المقوقس طلب منه أن يصف الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ويبين مضمون دعوته ، فقال ، بعد أن سمع وصفه : « كنت أعلم أنّ نبياً بقي ، وكنت أظن أنّ مخرجه بالشام فأراه قد خرج من أرض العرب ، والقبط لا تطاوعني في اتّباعه ، وسيظهر على البلاد ، وينزل أصحابه من بعد بساحتنا هذه حتى يظهروا على ما هاهنا » ، ثمّ كتب كتاباً إلى النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : « أمّا بعد فقد قرأت كتابك وفهمت ما ذكرت فيه وما تدعو إليه ، وقد أكرمتُ رسولك وبعثتُ إليك بجاريتين لهما مكان عظيم في القبط ، وبثياب ، وأهديت إليك بغلة لتركبها ، والسلام عليك » (3) ، وحينما تسلم النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) كتابه وهداياه قال : « ضنّ بملكه ولا بقاء لملكه » (4) .

---------------------------
(1) مسند أحمد بن حنبل : 1 ـ 96 .
(2) بحار الاَنوار : 20 ـ 391 .
(3) طبقات ابن سعد : 1 ـ 260 .
(4) طبقات ابن سعد : 1 ـ 260 .

السيرة المحمدية _ 110 _

4 ـ عمرو بن أمية الضميري ، إلى الحبشة .
  اختير عمرو لتسليم كتاب النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) إلى نجاشي الحبشة الملك العادل ، وكان النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) قد أرسل إليه من قبل رسائل بشأن المهاجرين المسلمين للاعتناء بهم ورعايتهم ، وشمل كتابه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) هذه المرة دعوته إلى الدين : « أحمد اللّه الذي لاإله إلاّهو الملك القدّوس السَّلام الموَمن المهيمن ، وأشهد أنّ عيسى بن مريم روح اللّه وكلمته ، وإنّي أدعوك إلى اللّه وحده لا شريك له ، والموالاة على طاعته وأن تتبعني وتوقن بالذي جاءني ، فإنّي رسول اللّه وإنّي أدعوك وجنودك ، وقد بلّغت ونصحت فاقبلوا نصيحتي ، والسلام على من اتّبع الهدى » (1) ، ونظراً للعلاقات الطيبة بين الطرفين ، فإنّ الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) بدأ كتابه بالسلام عليه ومرسلاً تحياته الشخصية ، في حين أنّه لم يفعل هذا في الكتب الاَُخرى التي أُرسلت إلى كسرى و قيصر والمقوقس ، فقد خصّه بالسلام عليه دون غيره من الزعماء ، أمّا النجاشي فقد اعترف بنبوة النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : « أشهد باللّه أنّه للنبي الذي ينتظره أهل الكتاب ، وإنّ بشارة موسى براكب الحمار كبشارة عيسى براكب الجمل ، وأنّه ليس الخبر كالعيان ، ولكن أعواني من الحبشة قليل ، فانظرني حتى أُكثّر الاَعوان ، وأُليّن القلوب ، ولو استطيع أن آتيه لاَتيته » (2) ، وكتب بذلك كتاباً إلى النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ذكر فيه : « إلى محمّد رسول اللّه من النجاشي ، سلام عليك يا نبي اللّه ورحمة اللّه وبركاته ، الذي لاإله إلاّ هو الذي هداني إلى الاِسلام ، أشهد أنّك رسول اللّه وقد بايعتك وبايعت ابن عمك وأسلمت على يديه للّه ربّ العالمين ، فإنّي أشهد أنّ ما تقول حقّ ، والسلام عليك ورحمة اللّه وبركاته » (3) ، كما بعث إليه بهدايا خاصة .
5 ـ شجاع بن وهب : إلى أمير الغساسنة :
  انزعج ملكها « الحارث بن أبي شمر الغساني » ممّا قرأ في آخر الكتاب : « وإنّي أدعوك أن توَمن باللّه وحده لا شريك له يبقى ملكك » ، فقال : من ينتزع منّي ملكي ؟ أنا سائر إليه ولو كان باليمن جئته ، وأعدّ الجيوش واستعرض قوته العسكرية أمام سفير النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) إرعاباً وتخويفاً ، ثمّ أرسل إلى قيصر يخبره بنواياه ، إلاّ أنّ قيصر هدّأ من ثائرته وكتب إليه يمنعه من السير إلى رسول الاِسلام ، ممّا كان له الاَثر في تغيير موقفه ، فأكرم السفير ومنحه هدايا ثمينة ، ووجهه نحو المدينة معززاً مكرماً ، وأبلغ السلام إلى النبي الاَكرم ( صلى الله عليه وآله وسلم ) .

---------------------------
1 ـ السيرة الحلبية : 3 ـ 248 ، إعلام الورى : 45 .
2 ـ السيرة الحلبية : 3 ـ 248 ، الطبقات الكبرى : 1 ـ 259 .
3 ـ تاريخ الطبري : 2 ـ 294 ، بحار الاَنوار : 20 ـ 392 .

السيرة المحمدية _ 111 _

   إلاّ أنّ النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) لم يقبل بأُسلوبه الدبلوماسي غير الصادق ، فقال : باد ملكه ، أي أنّ ملكه سيزول عمّا قريب ، فمات الحارث في السنة 8 هـ أي بعد عام واحد (1) .

6 ـ سليط بن عمرو إلى ملك اليمامة : هوذة بن علي الحنفي :
  ونص خطابه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) إليه « إعلم إنّ ديني سيظهر إلى منتهى الخف والحافر ( أي يعم الشرق والغرب ) فأسلم تسلم واجعل لك ما تحت يديك » ، وقد استطاع السفير بما أُوتي من قوّة في المنطق وشجاعة أدبية وخبرة بالاَسفار ، أن يقنع ملك اليمامة بقبول مبادئه وأهدافه ، كما نصحه أحد الاَساقفة بتقبل الدين الجديد ، وأنّه هو النبي الذي بشّر به الاِنجيل ، فكتب كتاباً إلى النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) قال فيه : « ماأحسن ما تدعو إليه وأجمله ، وأنا شاعر قومي وخطيبهم ، والعرب تهاب مكاني ، فاجعل إليّبعض الاَمر اتّبعك » أي أنّه طلب أن يجعله النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) خليفة من بعده ، فقال الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : لا ولا كرامة ، لو سألني سيابة من الاَرض ما فعلت ، اللّهمّ أكفنيه (2) ، آثار تلك الرسائل ونتائجها أصبح هوَلاء السفراء والرسل دليلاً قاطعاً على عالمية الرسالة الاِسلامية ، إذ أنّ شعوباً كبرى تعرفت على النبي العربي محمّد ( صلى الله عليه وآله وسلم ) الذي تأثر به معظم هوَلاء القادة والملوك ، فأصبح ظهوره ( صلى الله عليه وآله وسلم ) حديث الاَوساط والمحافل الدينية بالاِضافة إلى المراكز السياسية ، فقد تمكنت هذه الرسائل من إثارة مشاعر تلك الشعوب المتحضرة ودفعتهم إلى البحث والتحقيق حول من بشّر به التوراة والاِنجيل ، وتسابقت أفواجٌ وفرقٌ عدة من رجال الدين وغيرهم بالقدوم إلى المدينة لدراسة أوضاع الدين الجديد والتعرف على مبادئه .

2 ـ أحداث خيبر : بوَرة الخطر .
  تقع خيبر على بعد 32 فرسخاً من المدينة ، وهي منطقة واسعة خصبة ، سكنها اليهود وبنوا فيها الحصون والقلاع المتينة ، وبلغ عدد سكانها 20 ألف فرد ، ولما كانوا ممّن اشتركوا في جيش الاَحزاب وساعدوا المشركين في حربهم ضدّ النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) والمسلمين ، فإنّ النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) أسرع للقضاء عليهم وعلى خطرهم نحو الاِسلام والمسلمين ، إذ هم أشدّ تعصباً لدينهم ، من تعصب قريش للوثنية ، فقد كان يعلن ألف مشرك وثني إسلامهم في مقابل يهودي واحد ، كما أنّ النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) تخوّف من استغلال جهات أُخرى معادية كالقيصر أو كسرى ، لهوَلاء اليهود في القضاء على الدولة الاِسلامية ، إذ لا يستبعد منهم ذلك ، وخاصة أنّهم كانوا المحرّضين لقريش في محاربة المسلمين ، ولذا فقد أعدَّ النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) لغزو آخر مركز من مراكز اليهود في الجزيرة العربية وقال : لا تخرجوا معي إلاّ راغبين في الجهاد أمّا الغنيمة فلا ، فخرج معه ألف و 600 مقاتل .
---------------------------
(1) السيرة الحلبية : 3 ـ 255 ، طبقات ابن سعد : 1 ـ 261 .
(2) نفس المرجع السابق ، سيابة من الاَرض : أي قطعة من الاَرض .

السيرة المحمدية _ 112 _

  وعندما وصل إلى المنطقة ، قطع الطريق عن أيّة إمدادات عسكرية تأتي من الشمال وذلك بقطع خط الارتباط بين قبائل غطفان وفزارة ويهود خيبر ، فلم تستطع هذه القبائل أن تمد حلفاءها اليهود بأيّ شيء طوال شهر هو مدّة الحصار (1) ، ولمّا كانت حصونهم وقلاعهم متينة وقوية وممتنعة بمتاريس قوية شديدة ، فإنّه كان لابدّ لفتحها من استخدام تكتيك عسكري مناسب ، فكان أوّل عمل قام به الرسول هو احتلال كلّ النقاط والطرق الحساسة ليلاً ، بالسرعة والسرية ، أمّا اليهود فقد قرروا في اجتماعهم العسكري أن يضعوا الاَطفال و النساء في حصن ، والذخيرة من الطعام في حصن آخر ، بينما يستقر المقاتلون على الاَبراج يدافعون عن القلاع والحصون ، في الوقت الذي يخرج أبطالهم ليقاتلوا المسلمين ويبارزونهم خارج الحصون ، ولذلك فإنّهم تمكنوا من مقاومة الجيش الاِسلامي لمدّة شهر ، بحيث كانت محاولة فتح كلّحصن تستغرق عشرة أيّام دون نتيجة ، وقد فتح أوّل حصن وهو ناعم بعد أن استشهد في معاركه : محمود بن مسلمة الاَنصاري ، وهو أحد فرسان المسلمين ، وجرح خمسون مقاتلاً نقلوا إلى منطقة مخصصة للتمريض والعلاج ، حيث سمح لبعض نساء بني غفار بالحضور إلى خيبر للمساعدة في التمريض والتضميد وتقديم خدمات أُخرى في المعسكر ، ثمّ جرى فتح حصن القموص وأُسرت فيه «صفية بنت حيي بن أخطب» التي أصبحت زوجة للرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) فيما بعد ، ولكن الجوع استولى على المسلمين فاضطروا بسببه إلى تناول ما كره أكله من الاَنعام ، وكادوا أن يهلكوا ، فأمر الرسول ص أن توَخذ شاتان من غنم اليهود إضطراراً ، وأطلق البقية ـ من الاَغنام ـ لتدخل الحصن بأمان ، وقد سمح النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) بذلك للاضطرار الذي يباح معه المحذور بقدره ، فدعا ربّه : « اللّهمّ إنّك قدعرفت حالهم ، وأن ليست بهم قوّة ، وأن ليس بيدي شيء أعطيهم إيّاه ، فافتح عليهم أعظم حصونها عنهم غناء وأكثرها طعاماً » (2) ، ثمّ بعث رجالاً معروفين من صحابته لفتح الحصون ، إلاّ أنّ شيئاً جديداً لم يتم ، فقال ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : « لاَعطينّ الراية غداً رجلاً يحبّ اللّه ورسولَه ويحبُه اللّه ورسولُه ، يفتح اللّه على يديه ، ليس بفرار ـ أو كرّار غير فرّار ـ » (3) فبات كلّواحد يتمنى أن يكون هو صاحب هذا النوط الخالد العظيم ، وعندما بلغ الاِمام عليّاً ( عليه السلام ) مقالة النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) و هو في خيمته قال : « اللّهم لا معطي لما منعت ولا مانع لما أعطيت » ، وفي الصباح طلب النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) علياً فقيل أنّ به رمد ، فأُتي به إلى النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) فمرر يده الشريفة على عينيه ودعا له بخير فعوفي من ساعته ، فدفع إليه اللواء ودعا له بالنصر ، وأمره أن يبعث إلى اليهود قبل قتالهم ، من يدعو روَساء الحصون إلى الاِسلام ، فإن أبوا و رفضوا ، أمرهم بتسليم أسلحتهم إلى الحكومة الاِسلامية ليعيشوا تحت ظلّها بحريّة وأمان شريطة أن يدفعوا (4) لجزية ، وإذا رفضوا قاتلهم .

---------------------------
(1) الاَمالي للطوسي : 164 ، ويرى ابن هشام في سيرته : 2 | 328 أنّ خروج النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) إلى خيبر كان في شهر محرم ، بينما ذهب ابن سعد في الطبقات : 2 ـ 77 أنّه كان في جمادى الثانية 7هـ ، ولما كان إرسال الرسل و المندوبين عنه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) في شهر محرم ، فإنّ الرأي الثاني هوالاَقرب إلى الصحة .
(2) السيرة النبوية : 2 ـ 322 .
(3) مجمع البيان : 9 ـ 120 ـ السيرة الحلبية : 2 ـ 37 ـ السيرة النبوية : 2 ـ 334 ـ إمتاع الاَسماع : 1 ـ 314 .
(4) صحيح مسلم : 5 ـ 195 ـ صحيح البخاري : 5 ـ 18 .

السيرة المحمدية _ 113 _

  ثمّ قال ( صلى الله عليه وآله وسلم ) للاِمام علي (عليه السلام) : « لئن يهدي اللّه بك رجلاً واحداً خير من أن يكون لك حمر النعم » (1) ، ومن ثمّ توجه الاِمام علي ( عليه السلام ) إلى القلعتين المحصنتين سلالم والوطيح ، والتي عجز المسلمون وقوادّهم عن فتحهما ، فخرج إليه الحارث ، أخو مرحب ، فقاتله الاِمام ( عليه السلام ) و سقط على الاَرض جثة هامدة بضربة من ضربات الاِمام ( عليه السلام ) المشهورة ، ممّا أغضب مرحب أخيه فخرج غارقاً في الدروع والسلاح ليقاتل علياً ( عليه السلام ) الذي تمكن من شقّ رأسه نصفين ، فكانت ضربة قوية بحيث أفزعت من كان مع مرحب من أبطال اليهود ، ففروا لاجئين إلى الحصن ، وبقي آخرون منهم قاتلوا علياً منازلة ، فقضى عليهم الاِمام ( عليه السلام ) ثمّ لحق بالفارين إلى الحصن ، فضربه أحدهم فطاح ترسه من يده ، إلاّ أنّ الاِمام ( عليه السلام ) تناول باباً كان على الحصن فانتزعه من مكانه واستخدمه ترساً يحمى نفسه حتى فرغ من القتال ، وبعد ذلك حاول ثمانية من أبطال المسلمين ، كان منهم أبو رافع مولى النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) أن يقلبوا ذلك الباب أويحرّكوه فلم يقدروا (2) ، ونقل الشيخ المفيد في إرشاده بسند خاص عن أمير الموَمنين علي ( عليه السلام ) بخصوص الباب ، قوله : « لما عالجتُ باب خيبر جعلته مجناً لي فقاتلتهم به ، فلمّا أخزاهم اللّه وضعتُ الباب على حصنهم طريقاً ثمّ رميتُ به في خندقهم » (3) ، وأمّا الموَرخون فقد نقلوا قضايا عجيبة حول قلع باب خيبر وعن بطولات الاِمام ( عليه السلام ) في فتح الحصن ، إلاّ أنّ جميعها لا تتمشى ولا تتيسر مع القدرة البشرية المتعارفة ، ولا يمكن أن تصدر منها ، حتى أنّ الاِمام ( عليه السلام ) نفسه يرفع كلّ شك في هذا بقوله : « ما قلعتها بقوّة بشريّة ، ولكن قلعتها بقوّة إلهية ، ونفسي بلقاء ربّها مطمئنة رضية » (4) ، وهكذا انتهت الحرب بانتصار المسلمين ، الذي كان وراءه ثلاثة عوامل أساسية :
1 ـ التخطيط العسكري والحربي الدقيق .
2 ـ حصولهم على معلومات وافرة عن العدو وأسراره .
3 ـ بطولة الاِمام علي ( عليه السلام ) ، فقد تمكّن النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) من تحييد قبيلة غطفان ومنعها من إمداد المساعدات لليهود ، كما تعرف على أحوالهم وأوضاعهم في حصون خيبر ، سواء العسكرية منها أو النفسية للمقاتلين والاَفراد ، بالاِضافة إلى بطولة الاِمام علي ( عليه السلام ) الذي قال : « فلم يبرز إليّ أحد منهم إلاّقتلته ، ولا يثبت لي فارس إلاّ طحنته ، ثمّ شددت عليهم شدّة الليث على فريسته حتى أدخلتهم جوف مدينتهم مسدداً عليهم ، فاقتلعت باب حصنهم بيدي حتى دخلت عليهم مدينتهم وحدي أقتل من يظهر فيها من رجالها وأسبي من أجد من نسائها ، حتى افتتحتها وحدي ولم يكن لي فيها معاون إلاّاللّه وحده » (5) ، ثمّ أمر الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) بأن تجمع الغنائم كلّها في مكان واحد ، وأن ينادى : أدّوا الخيط والمخيط ، فإن الغلول عار وشنار ونار يوم القيامة (6) ، فالاِسلام يشدّد على أهمية الاَمانة ، حتى اعتبر ردّ الاَمانة مهما صغرت من علائم الاِيمان ، والخيانة من علائم النفاق .

---------------------------
(1) السيرة الحلبية : 2 ـ 37 .
(2) تاريخ الطبري : 2 ـ 94 ، السيرة النبوية : 2 ـ 349 ، تاريخ الخميس : 2 ـ 47 .
(3) إرشاد المفيد : 62 .
(4) بحار الاَنوار : 21 ـ 40 .
(5) الخصال : 369 باب السبعة .
(6) وسائل الشيعة : باب جهاد النفس ، المغازي : 2 ـ 681 .

السيرة المحمدية _ 114 _

  وفي لحظات الفرح بالانتصار على اليهود ، رجعت مجموعة من مسلمي الحبشة المهاجرين إليها بقيادة جعفر بن أبي طالب ، فاستقبله النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وقبّل ما بين عينيه وقال : ما أدري بأيّهما أُسرّ ، بفتح خيبر أم بقدوم جعفر ، ثمّ إنّه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) علّمه الصلاة المعروفة بصلاة جعفر الطيّار (1) ، وبالنسبة لقتلى الجانبين ، فقد بلغ عدد شهداء المسلمين 20 فرداً ، بينما سجّل التاريخ أسماء 93 رجلاً هم قتلى اليهود (2) ، وبعد ذلك تمّ الاتّفاق بين الطرفين على :
1 ـ قبول النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) لطلب اليهود بأن يسكّنهم في خيبر كما كان الوضع .
2 ـ ترك أراضيهم وبساتينهم لهم .
3 ـ حصول المسلمين على نصف محاصيلها سنوياً ، فالنبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) لم يجبرهم على شيء بل تركهم أحراراً في ممارسة شعائرهم والبقاء على ما كانوا يعتقدونه من أُصول دينهم ، إذ أنّه لم يحارب أهل خيبر إلاّعندما تحولت إلى بوَرة خطرة للموَامرات والكيد للاِسلام والمسلمين ، فقد أمدّوا الكفار والمشركين بكلّما يحتاجون للقضاء على الحكومة الاِسلامية الناشئة ، ممّا اضطر معه النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) إلى إعلان الحرب عليهم وقتالهم وتجريدهم من السلاح ليعيشوا تحت ظل الدولة الاِسلامية ، ويدفعوا الجزية لقاء دفاع الحكومة الاِسلامية عنهم وحمايتهم من الاَعداء ، وهو ما يعني حماية أنفسهم وأنّأموالهم موَمنة لهم من قبل المسلمين ، وعند جمع الغنائم حصل المسلمون على قطعة من التوراة طلب اليهود إعادتها ، فأمر النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) بإعادتها إليهم ، ممّا يكشف عن احترام النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) للشرائع والاَديان الاَُخرى ، وقد توجه النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) بعد خيبر إلى وادي القرى التي شكلت مركزاً آخر لليهود ، ففتحها وعقد صلحاً مع أهلها على غرار معاهدة خيبر ، وبذا فإنّ الحجاز طهُرت من فتنة اليهود ، وجرّدوا من أسلحتهم ، ووضعوا تحت حماية المسلمين ومراقبتهم (3) ، إلاّ أنّ بعضهم خطّط بعد فترة من الهدوء والاستقرار ، للتخلص من النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) فقدّمت زينب بنتُ الحارث شاة مشوية سمّمت كتفها التي يحبها النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) فأثّربه السم بعد ذلك وتوفي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) من أثره ، ولم ينتقم منها النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) بل عفا عنها ، فالنبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) لم يكن كبعض القادة والزعماء الذين يصبغون الاَرض بدماء من ظنّ أنّهم قصدوا قتله ، أو يملاَون السجون بهم ، أو يخضعونهم لاَشد أنواع العذاب والتعذيب الجسدي والنفسي .

---------------------------
(1) فروع الكافي : 1 ـ 129 ، الخصال : 2 ـ 82 ، إمتاع الاسماع : 1 ـ 325 .
(2) بحار الاَنوار : 21 ـ 32 .
(3) الكامل في التاريخ : 2 ـ 150 .

السيرة المحمدية _ 115 _

  3 ـ قصة فدك وتبعد فدك عن المدينة بما يقرب من 140 كم ، وهي منطقة زراعية خصبة ، اعتبرت نقطة ارتكاز هامة لليهود بعد خيبر ، وقد تميّزت العلاقات بين رئيسها يوشع بن نون و القيادة الاِسلامية بالسلام والاَمان ، حيث تعهد بأن يسلم نصف محاصيلها سنوياً إلى الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ليعيشوا تحت راية الحكومة الاِسلامية ، على ألا يقوموا بأي أمر يعكر صفو السلام و الاَمن بين الطرفين ، وتتعهد الحكومة الاِسلامية في مقابل ذلك بتوفير الاَمن في المنطقة كلها (1) ، ومن الجدير بالذكر أنّ الاَراضي التي يسيطر عليها المسلمون بالحرب والقتال ، تعود ملكيتها إلى عامّة المسلمين بإدارة القائد الاَعلى للاَُمّة ، أمّا الاَراضي التي لا يستخدمون القوّة في احتلالها ، فتصبح ملكاً للرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) والاِمام من بعده يتصرف فيها كما يشاء ، فيهبها أو يوَجرها ، وعلى هذا الاَساس وهب رسول اللّه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) فدكاً لابنته الطاهرة فاطمة الزهراء ( عليها السلام ) ، حيث ابتغى من وراء ذلك تحقيق أمرين :
1 ـ أن يستفيد منها الاِمام في أداء واجباته ومتطلبات الناس عندما يدير الحكم من بعده ، إذ أنّه سيكون في حاجة إلى ميزانية كبيرة .
2 ـ وأن تعيش أُسرة النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) بعده بصورة تليق بمقامه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وشرفه ومكانته السامية ، وفي ذلك يذهب معظم العلماء والمفسرين والمحدّثين الشيعة وبعض علماء السنّة ، أنّه عند نزول قوله تعالى : ( وَآتِ ذَا القُربى حَقَّهُ وَالمِسْكينَ وابنَ السَّبِيل ) (2) أوصى النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) فدكاً إلى ابنته الزهراء ( عليها السلام ) ، ولذلك فقد أعاد المأمون العباسي بعد فترة من هذا الوقت ، فدكاً إلى أبناء الزهراء ( عليها السلام ) بعد توضيح شأن نزول هذه الآية له ، كما أنّ الاِمام علياً ( عليه السلام ) قد صرّح بملكيته لفدك في إحدى رسائله إلى واليه على البصرة : « عثمان بن حنيف » : « بلى كانت في أيدينا فَدَك من كلّ ما أظلته السماء فشحّت عليها نفوسُ قوم ، وسخت عنها نفوسُ قوم آخرين ونعم الحكم اللّه » (3) ، فدك بعد النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) عندما حُرمت ابنة رسول اللّه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) من ملكها الخاص بعد وفاة أبيها ( صلى الله عليه وآله وسلم ) عمدت إلى إثبات حقّها و استرداد ملكها من جهاز الدولة ، عن طريق القانون ، فأحضرت الدلائل بالرغم من أنّه لا يُطلب من فرد له يد على شيء ـ أي يكون تحت تصرفه ـ أن يقيم دليلاً على ملكيته ذلك الشيء .

---------------------------
(1) السيرة النبوية : 2 ـ 353 ؛ إمتاع الاسماع : 1 ـ 331 ؛ فتوح البلدان : 42 .
(2) الاِسراء : 26 .
(3) نهج البلاغة : الكتاب 45 .

السيرة المحمدية _ 116 _

  وكان شاهدها : الاِمام علي ( عليه السلام ) و أُمّ أيمن التي شهد لها النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) بأنّها من نساء الجنة (1) إضافة إلى رباح الذي كان النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) قد أعتقه حسب رواية البلاذري (2) إلاّ أنّ كلّ ذلك لم ينفع في إرجاع الاَرض إلى صاحبتها ، وفي العصر الاَموي وزع معاوية بن ابي سفيان فدكاً بين ثلاثة : مروان بن الحكم ، عمرو بن عثمان ، و يزيد ، وعندما حكم مروان استولى عليها تماماً ووهبها لابنه عبد العزيز الذي سلّمها لولده عمر ، الذي أزال أوّل بدعة وهي إعادة فدك إلى بني فاطمة ( عليها السلام ) فقد كان الخليفة المعتدل ، ولكن حكّام بني أُميّة تداولوها ثانية حتى نهاية دولتهم ، أمّا في العصر العباسي فقد ردّها السفاح أبو العباس إلى عبد اللّه بن الحسن ابن الحسن ، ثمّ قبضها أبو جعفر المنصور من بني الحسن ، ثمّ ردّها المهدي ابنه إليهم ، حتى جاء المأمون فردّها على أصحابها الشرعيين بصورة رسمية ، وقد استغل الاَمويون والعباسيون فدكاً استغلالاً سياسياً بجانب الاستفادة الاقتصادية و اضطرب أمرها بين السلب والردّ .
4 ـ عمرة القضاء (3) بعد مضي عام و احد على توقيع معاهدة صلح الحديبية ، وعلى ضوء المادة التي تسمح للمسلمين بأداء العمرة في العام التالي ، فقد قرروا التوجه إلى مكّة ، وخاصّة أنَّهم كانوا قد تركوها سبعة أعوام بعدوا فيها عن وطنهم ، فاستعد ألفان للانضمام إلى النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) في أداء العمرة ، كان من ضمنهم شخصيات بارزة ملازمة له ( صلى الله عليه وآله وسلم ) طوال فترة وجوده في المدينة ، وكان ذلك يوم الاِثنين 6 من شهر ذي القعدة ، كما أنّ النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) تحسباً لاَي طارىَ أعدّ مائتين من الاَفراد مسلّحين وضعهم خارج مكة على مقربة من الحرم للتدخل في أية مشكلة تصدر حيالهم ، وفي مكة خرج الاَهالي منها إلى روَوس الجبال وقالوا : لا ننظر إلى محمد ولا إلى أصحابه ، فكانوا يراقبون المشهد من بعيد ، وقد بهرت أصوات المسلمين مكبّرين كلَّ سكان مكة وسحرت قلوبهم وجلبت عطفهم على المسلمين ، مثلما أرعب اتّحادهم ونظامهم والتفافهم حول النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) أفئدة المشركين ، وطاف الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) بالبيت على راحلته ، وأمر عبد اللّه بن رواحة أن يردّد هذا الدعاء بلحن ونغم خاص : « لاإله إلاّ اللّه وحده وحده ، صدق وعده ، ونصر عبده ، وأعزّ جنده ، وهزم الاَحزاب وحده » فردّدها المسلمون وراءه .

---------------------------
(1) الاِصابة : 4 ـ 432 .
(2) فتوح البلدان : 44 .
(3) سميت عمرة القضاء لاَنّها كانت بدلاً عن العمرة التي منع النبي والمسلمون عنها في العام السابق لها .

السيرة المحمدية _ 117 _

   ثمّ أمر ( صلى الله عليه وآله وسلم ) بلالاً أن يوَذن على ظهر الكعبة لصلاة الظهر ، فانزعجوا بسبب الاَذان ، وأحرجتهم مضامينه التي كانت ضدّ ما يحملونه من معتقدات باطلة موروثة ، وبعد أداء المناسك ، ذهب المهاجرون إلى منازلهم التي تركوها منذ سبعة أعوام فجدّدوا اللقاء بأقربائهم ، إلاّأنّ تأثير أوضاع المسلمين في نفوس أهل مكة ، وتخوّفهم من إحداث إنقلاب روحيّ فيهم ، إذ أنّ هذه الرحلة الدينية ، اعتبرت دعائية وإعلامية ، أثّرت في نفوس عدد من أهل مكّة فدخلوا الاِسلام ، ممّا دعا إلى أن يطلب زعماء قريش من النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) مغادرة مكة بعد انقضاء المدّة المحددة و المقررة بينهم : « إنّه قد انقضى أجلك فاخرج عنّا » ، وممن تأثر بالوضع ، ميمونة أُخت زوجة العباس ـ أُمّ الفضل ـ لما شهدت من مشاعر المسلمين ، فطلبت الزواج من النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) الذي وافقها ، فقوى بذلك علاقاته مع قريش ، إلاّ أنّهم لم يسمحوا للنبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) بالاحتفال بمناسبة الزواج في مكّة ، فطلب ( صلى الله عليه وآله وسلم ) من أبي رافع أن يُحضِر زوجته بعد ذلك ، وبذا فقد تحقَّقت روَيا النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) قبل عام من هذا ، في أنّه دخل البيت وحلق رأسه ، ونزلت آية الفتح التي تناولت تحقيق هذا الوعد : ( لَقَدْ صَدَقَ اللّهُ رَسُولَهُ الرُوَيا بِالحَقِّ لَتدخُلُنَّ المَسْجِدَ الحَرامَ إِنْ شاءَ اللّهُ آمِنينَمُحَلِّقينَ رءُوسكُمْ وَمُقَصِّرينَ لا تَخافُون فَعَلمَ ما لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذلِكَ فَتْحاً قَرِيباً ) (1) .

أحداث السنة الثامنة من الهجرة

  1 ـ معركة موَتة بعد وقوع الاَحداث السابقة ، واستقرار الاَمن في الحجاز بين المسلمين وقريش والاَطراف المعادية الاَُخرى ، وضعف نفوذ اليهود وسطوتهم ، فكّر النبي الاَكرم ( صلى الله عليه وآله وسلم ) في أن يركز في دعوته على سكان مناطق الحدود عند الشام ، فوجه لهذا الغرض « حارث بن عمير الاَزدي » يحمل كتاباً إلى أمير الغساسنة : الحارث بن أبي شمر الغساني ، الذي حكم بصرى ، فقبض على سفير النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) في موَتة وقتله مخالفاً بذلك كلّ الاَعراف الدولية التي تقضي باحترام السفراء وحصانتهم ، ممّا أغضب الرسول والمسلمين ، فقرر الاقتصاص من قاتل سفيره ، وبالاِضافة إلى ذلك ، فإنّ النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) كان قد بعث في شهر ربيع الاَوّل من هذه السنة 15 رجلاً إلى منطقة ذات أطلاح من أرض الشام خلف وادي القرى ، لدعوة الناس إلى الاِسلام ، إلاّ أنّ الاَهالي قتلوهم عن آخرهم موَثرين عز الشهادة على ذل الاَسر ، إلاّجريحاً منهم تمكن من الوصول إلى النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ليخبره بالحادث .

---------------------------
(1) الفتح : 27 .

السيرة المحمدية _ 118 _

  وقد أثر هذان الحادثان على الوضع السياسي بين الجانبين ، فأمر النبيّ ( صلى الله عليه وآله وسلم ) بالخروج إلى الجهاد في شهر جمادى ، ووجه جيشاً قوامه 3 آلاف مقاتل لتأديب هوَلاء المخربين والغدرة ، وعين القائد عليهم « جعفر بن أبي طالب » فإن قتل فزيد ابن حارثة ، فإن أصيب ، فعبد اللّه بن رواحة ، فإن اصيب فليرتضي المسلمون بينهم رجلاً عليهم ، وقد خرج النبيّ ( صلى الله عليه وآله وسلم ) بنفسه مع جماعة من أصحابه مشيّعاً لهم وودّعهم قائلاً : « دفع اللّه عنكم وردكم سالمين غانمين صالحين » ، ومن الموَكد أنّ القائد الاَوّل لهذا الجيش كان جعفراً ثمّزيداً فعبد اللّه ، فلا مجال لتغيير الوضع الذي ذهب إليه بعض الرواة والمحدّثين ، الذين اختلقوا ترتيباً آخر ، بوضع زيد كقائد ثمّ جعفر كمعاون له ثمّ ابن رواحة ، إذ أنّ وضع هذا الترتيب بهذا الشكل أُقرّ لدوافع سياسية وأغراض أُخرى لا مجال لذكرها هنا ، وتبعهم في ذلك كتاب السيرة دون تمحيص وتحقيق (1) ، وفي الشام أعدّ الحاكم الحارث 100 ألف فارس لاِيقاف تقدّم المسلمين ، كما أعدّ القيصر 100 ألف آخرين في البلقاء كقوّة احتياطيّة تتدخل عند اللزوم (2) ، ومن الواضح أنّه لم يكن هناك أيّتكافوَ بين الجيشين الاِسلامي والروماني ، سواء في نوعية المعدات الحربية والاَجهزة القتالية أو وسائل النقل أو عدد الجنود ، والاَرض وساحة المعركة الغريبة عن المسلمين ، وقيامهم بدور الهجوم لا الدفاع الذي اتّخذه الروم ونفذوه في أرضهم وبلادهم ، وقد تواجه الجيشان في منطقة مشارف ، ولكن المسلمين تراجعوا نحو موَتة ، فبدأت المبارزات الفردية أوّلاً ، فقُتل جعفر بعد مبارزة شجاعة ، ثمّ قُتل زيد بن حارثة ، وأيضاً ابن رواحة ، فاختار الجنود خالد بن الوليد قائداً ، فعمد إلى استخدام تكتيك عسكري لم يعرف من قبل ، إذ أمر بالعسكر أن يحدث بعض التغييرات في صفوفه بالليل دون صوت ، ويذهب عدد منهم إلى مكان بعيد ثمّ يلتحقوا بالمسلمين عند الصباح مكبرين ، فيظن العدو بوصول إمدادات عسكرية بشرية جديدة إلى جانبالمسلمين ، ولذا تمكن المسلمون من مواجهتهم وقتالهم ، وقتل أعداد كبيرة منهم ، فهدأت الاَحوال ، فرجع الجيش الاِسلامي مستفيداً من هذا التكتيك ونَجَوا بأنفسهم من خطر فناء ساحق وأكيد (3) ، إلاّ أنّ المسلمين في المدينة رفضوا منطق الانسحاب من المعركة وفضلوا الاستشهاد في ساحة المعارك على الانسحاب ، فهم كانوا يعدون الموت والشهادة في سبيل اللّه أفضل من الانسحاب ، وقد تأثر النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) لشهادة جعفر وبكى بشدة ، فكان كلّما تذكر جعفراً وزيداً بكى (4) .

---------------------------
(1) السيرة النبوية : 2 ـ 380 .
(2) المغازي : 2 ـ 760 ؛ السيرة النبوية : 2 ـ 375 .
(3) السيرة النبوية : 2 ـ 381 ، 14 بحار الاَنوار : 21 ـ 54 ؛ المغازي : 2 ـ 766 .

السيرة المحمدية _ 119 _

2 ـ غزوة ذات السلاسل
  إنّ الاطّلاع المبكر على أسرار العدو العسكرية ، ومعرفة حجم طاقاته ومبلغ استعداداته واكتشاف خططه ، يعد من العوامل الجوهرية الموَثرة في الانتصار عليه ، والنبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) هو أوّل من ابتكر في تاريخ الاِسلام جهازاً خاصاً بهذا العمل في صورة منظمة ، وتبعه الخلفاء من بعده ، حين استعانوا بجواسيس وعيون للعمل في المجالات العسكرية والاِدارية ، واستطاع الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) في غزوة ذات السلاسل أن يطفىَ نار فتنة باستخدام معلومات دقيقة علمها عن العدو ، قبل أن يخسر الكثير بغير ذلك ، فقد علم من عناصر المخابرات الخاصة به ( صلى الله عليه وآله وسلم ) أنّ أعداداً كبيرة متحالفة تجمعوا في منطقة وادي اليابس هدفوا إلى التوجّه نحو المدينة للقضاء على قوّة الاِسلام والمسلمين ، وقتل النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) والاِمام علي ( عليه السلام ) خاصة ، فأمر الرسول بنداء « الصلاة جامعة » أي دعوة الناس إلى الاجتماع به ( صلى الله عليه وآله وسلم ) فقال ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : « يا أيّها الناس ، إنّهذا هو عدو اللّه وعدوكم قد عمل على أن يبيِّتكم فمن لهم ؟ » ، فخرجت جماعة بقيادة أبي بكر ساروا مسافة حتى واجهوا قبيلة بني سليم الذين قاوموا القوّة الاِسلامية ، فقرر أبو بكر الانسحاب والرجوع من حيث أتى ، إلاّ أنّ النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) لم يقبل بهذا الوضع، فانزعج لعودة الجيش بهذه الصورة المهينة ، فأمر عمر بن الخطاب بتولّي القيادة ، ولكنّه لم يحارب أيضاً لقوة العدو فانسحب أيضاً إلى المدينة ، وطلب عمرو بن العاص من النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) أن يبعثه إلى هوَلاء الاَعداء على أساس أنّه من دهاة العرب ، إلاّ أنّ بني سليم قاتلوه فهزموه وقتلوا عدداً من جماعته ، فلم ييأس النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ونظم جماعة جديدة واختار الاِمام علياً ( عليه السلام ) قائدها ، فاستعد الاِمام ( عليه السلام ) وتعصب بعصابة كان يشدها على جبينه في اللحظات الصعبة ، ولبس بردين يمانيين ، وحمل رمحاً هندياً ، ثمّ توجه نحو الهدف سالكاً طريقاً غير معروفة ولا مطروقة حتى يعمّي بذلك على العدو ، فتمكن من الانتصار عليهم وذلك للاَسباب التالية :
1 ـ لم يشعر العدو بتحركاته ، وذلك لتغييره مسيره ، واستخدامه أُسلوب الكتمان في ذلك ، إذ سار ليلاً وكمن نهاراً واستراح خلاله .
2 ـ كما أنّه فاجأ العدو حين صعد بجنوده إلى قمة الجبال ثمّ انحدر بهم بسرعة فائقة إلى الوادي مركز إقامة بني سليم ، فأحاطوا بهم وهم نيام ، وحاصروهم وأسروا منهم ، وفرّ آخرون .
3 ـ ثمّ أنّ شجاعة الاِمام علي ( عليه السلام ) وبسالته النادرة أرعبت العدو ، وأفقدته القدرة على المواجهة والمقاومة ، حيث فرّوا من أمامه تاركين الغنائم وراءهم .

السيرة المحمدية _ 120 _

  وبذا فإنّ النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) استقبله بحفاوة وقال له عندما نزل من فرسه : « إركب فإنّ اللّه ورسوله راضيان عنك » ، وكانت تضحية الاِمام ( عليه السلام ) وشجاعته من الاَهمية بحيث نزلت فيها سورة العاديات كاملة : ( وَالعادِياتِ ضَبْحاً * فَالمُورياتِ قَدحاً * فَالمُغِيراتِ صُبْحاً * فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعاً * فَوسَطْنَ بهِِ جَمْعاً ) (1) ، وهناك عدد من الموَرّخين كالطبري ، نقلوا هذه الواقعة بنحو آخر مختلف عمّا ذكرناه ، فلا يبعد أن تكون ذات السلاسل اسماً لغزوتين ، وقد نقل كلٌّ من الفريقين ـ السنّة والشيعة ـ واحدة منها وأعرض عن الاَُخرى لاَسباب خاصّة (2) .

3 ـ فتح مكّة
  أخلّت قريش باتفاقية الحديبية ونقضتها ، حينما زودت قبيلة بني بكر بالاَسلحة ، وهي من كنانة المتحالفة معها ، وحرضتهم على أن يبيتوا لخزاعة المتحالفين مع المسلمين فيغيروا عليهم ليلاً ، يقتلون فريقاً ويأسرون آخرين ، و أُبلغ النبيبما حدث لخزاعة على أيدي بني بكر ، فوعدهم النصرة ، ولكن قريشاً ندمت على فعلتها من تأليب بني بكر على خزاعة ، واشتراكهم معها في العدوان ، فأرسلوا زعيمهم أبا سفيان إلى المدينة لتطييب خاطر النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وتسكين غضبه وتأكيد احترام قريش لمعاهدة الصلح ، إلاّ أنّه عندما وصل إلى بيت ابنته أُمّ حبيبة زوجة الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، لم يجد التقدير والاحترام المطلوب لديها على أساس أنّه مشرك نجس ، فتوجه إلى الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وكلّمه حول إمكانية تجديد العهد ، فلم يرد عليه وهو ما يعني عدم اعتنائه به ، فسار إلى بعض أصحابه يطلب منهم أن يشفعوا له عند الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وإقناعه بتجديد ميثاق الصلح ، ولكن دون جدوى ، فذهب إلى منزل الاِمام علي ( عليه السلام ) والسيدة فاطمة الزهراء ( عليها السلام ) فرد عليه الاِمام ( عليه السلام ) : « واللّه لقد عزم رسول اللّه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) على أمر ما نستطيع أن نكلّمه » ، فالتفت إلى السيدة الزهراء ( عليها السلام ) وهو يطلب شفاعتها أو شفاعة الحسنين لدى النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : يا ابنة محمد ، هل لك أن تأمري و بُنَيّك هذا فيجير بين الناس فيكون سيد العرب إلى آخر الدهر ؟ فقالت ( عليها السلام ) وهي تعلم بنواياه الشريرة : « ذلك إلى رسول اللّه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وإنّهما صبيان وليس مثلهما يجير » (3) .

---------------------------
(1) العاديات : 1 ـ 5 .
(2) تاريخ الطبري : 2 ـ 315 ؛ السيرة الحلبية : 3 ـ 190 ؛ المغازي : 2 ـ 769 .
(3) إمتاع الاَسماع : 1 ـ 359 .

السيرة المحمدية _ 121 _

  فطلب النصيحة من الاِمام ( عليه السلام ) فقال له : « ما أجد لك شيئاً أمثل من أن تقوم فتجير بين الناس ـ أي تعطي الاَمان للمسلمين ـ ثمّ إلحق بأرضك » ، فأدّى ما طلبه منه ، ورجع إلى مكّة وأخبر سادة قريش بما صنع ، فاجتمعوا للتشاور فيما يطفىَ غضب المسلمين ويثني الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) عن عزمه (1) ، أمّا النبيّ الاَكرم ( صلى الله عليه وآله وسلم ) فقد أعلن التعبئة العامة بهدف فتح مكة ، وتحطيم أقوى قلعة من قلاع الوثنية ، وإزالة حكومة قريش الظالمة ، التي كانت أقوى الموانع والعقبات في طريق تقدم الدعوة الاِسلامية وانتشار الاِسلام ، وطلب من اللّه سبحانه و تعالى في دعائه أن يعمي عيون قريش وجواسيسهم كيلا يعلموا بحركة المسلمين وهدفهم : « اللّهم خُذ على قريش أبصارهم فلا يروني إلاّبغتةً ولا يسمعون بي إلاّ فجأة » (2) ، واجتمع في مطلع شهر رمضان الكثيرون ، فقد شاركت قبائل وطوائف مختلفة في هذا الفتح العظيم ، اشتهر منهم : ـ المهاجرون : 700 + 3 ألوية إضافة إلى 300 من الخيل ، وقد ساعد النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) و المسلمون هذه المغنية من قبل ، عندما تركت عملها في مكة واتجهت إلى المدينة ، ورغم ذلك فإنّها خانتهم بعملها جاسوسة تعمل لصالح قريش ، ممّا جعل النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) يطلب من الاِمام علي ( عليه السلام ) والمقداد والزبير أن يلحقوا بها ويدركوها ويصادروا منها الكتاب ، وتمكّنوا من اللحاق بها عند روضة الخاخ ـ الخليقة ـ إلاّ أنّها أنكرت وجود كتاب لديها في رحلها ، فهددها الاِمام ( عليه السلام ) : لتخرجنّ لنا هذا الكتاب أو لنكشفنّك ، فاستخرجت الكتاب (3) .
ـ الاَنصار : 4000 + ألوية كثيرة إضافة إلى 700 من الخيل .
ـ قبيلة مزينة : ألف مع مائة فرس ، ولواءان .
ـ قبيلة جهينة : 800 مع خمسين فرساً و 4 ألوية .
ـ قبيلة بني كعب : 500 مع ثلاثة ألوية .
  هذا بالاِضافة إلى اشتراك عدد آخر من قبائل غفار وأشجع وبني سليم (4) ، ويذكر ابن هشام ، أنّ جميع من شهد فتح مكّة من المسلمين بلغوا عشرة آلاف ، من بني سليم 700 ، ويقول بعضهم ألف ، ومن بني غفار 400 ، ومن أسلم 400 ، ومن مزينة ألف و 300 نفر ، وسائرهم من قريش والاَنصار وحلفائهم وطوائف العرب من تميم وقيس وأسد (5) .

---------------------------
(1) المغازي : 2 ـ 780 ؛ السيرة النبوية : 2 ـ 389 ؛ بحار الاَنوار : 21 ـ 102 .
(2) المغازي : 2 ـ 796 .
(3) المغازي : 2 ـ 800 ؛ إمتاع الاِسماع : 1 ـ 364 .
(4) السيرة النبوية : 4 ـ 63 .
(5) بيّن القرآن الكريم ذلك في عدّة آيات من سورة الممتحنة .

السيرة المحمدية _ 122 _

   إلاّ أنّ أخبار هذه الحملة الكبيرة وصلت إلى قريش ، فقد أخبر جبرائيل ( عليه السلام ) النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) أنّ أحد المسلمين أرسل كتاباً إلى قريش يخبرهم فيه بتوجههم إلى مكة ، وأنّ امرأة تدعى « سارة » وهي مغنية ، تريد توصيل الكتاب لهم لقاء حصولها على مال ، وهكذا أعد النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) للحركة الكبرى ، دون أن يعلم أحد وجهته على وجه التحديد ، وكان ذلك في يوم 10 رمضان ، وفي الطريق أفطر على الماء وأمر جنده بالاقتداء به : « إنّكم مصبحوا عدوكم ، والفطر أقوى لكم » ، إلاّ أنّ البعض منهم أمسك عن الاِفطار ظناً منهم أنّ الجهاد أفضل في حالة الصوم ، فغضب النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ولذلك قال عنهم : « أُولئك العصاة » (1) ، وفي هذا الوقت ، خرج العباس بن عبد المطلب من مكة متوجهاً إلى المدينة ليلتحق بالرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) خلال الطريق ، فهو سيوَدي دوراً بارزاً هاماً في عملية الفتح العظيم ، كما التحق به عدوّان له أحجما عن الاِيمان برسول اللّه والاستجابة لدعوته و هما : أبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب وعبد اللّه بن أبي أُمية بن المغيرة ، فقد كانا من أشدّ المعارضين للرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) والموَذين له ، بالرغم من أنّ أبا سفيان هذا كان ابن عمّ الرسول ص وأخاه من الرضاعة ، وعبد اللّه هو أخو أُمّ سلمة ابنةعاتكة عمّة الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، وحاولا مقابلة النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) إلاّ أنّه لم يأذن لهما ، ولم تنفع الوسائط في ذلك ، إلاّما ذكره لهما الاِمام علي ( عليه السلام ) ، بأن يقولا للنبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : ( قالُوا تاللّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللّهُ عَلَيْنا وَإنْ كُنّا لخاطِئين ) (2) فسوف يعفو عنهما كما فعل يوسف ( عليه السلام ) مع إخوته ، وقد حدث ما اقترحه الاِمام (عليه السلام) فقبل إسلامهما ، وحينما وصل الجيش الاِسلامي إلى مشارف مكّة ، عمد النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) إلى إرعاب أهلها وتخويفهم بإشعال النيران فوق الجبال والتلال ، وزيادة في التخويف وإظهار القوة ، أمر بأن يشعل كلّفرد منهم ناراً في شريط طويل على الاَرض ، وهنا اتّجه « العباس بن عبد المطلب » ليوَدّي دوره العملي لصالح الطرفين ، فيقنع قريشاً بالتسليم وعدم المقاومة ، إذ أخبرهم بقوّة المسلمين وعددهم ومحاصرتهم لمكّة المكرمة ، واصطحب معه أبا سفيان حتى يطلب له الاَمان و لهم كذلك من الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، فأجاره عند الوصول إلى معسكر المسلمين ، خاصة عندما حاول « عمر بن الخطاب » أن يقضى عليه ـ أي يقتل أبا سفيان ـ كما أنّه حاول إعادة قتله أمام النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) على أساس أنّه عدو للّه فلا بدّأن يقتل .

---------------------------
(1) وسائل الشيعة : 7 ـ 124 ؛ السيرة الحلبية : 3 ـ 90 ؛ المغازي : 2 ـ 802 .
(2) يوسف : 91 .

السيرة المحمدية _ 123 _

  وتحدث النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) في خيمته مع أبي سفيان قائلاً : « ألم يأن لك أن تعلم أنّه لاإله إلاّاللّه ؟ » فقال أبو سفيان : بأبي أنت و أُمّي ما أحلمك وأكرمك وأوصلك ، واللّه لقد ظننت أن لو كان مع اللّه إله غيره ، لقد أغنى عني شيئاً بعد ، فقال الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : « ألم يأن لك أن تعلم أنّي رسول اللّه ؟ » فقال : أما واللّه فإنّ في النفس منها حتى الآن شيئاً ، فغضب العباس من عناده و قال : أسلم واشهد ألاّ إله إلاّاللّه وأنّ محمّداً رسول اللّه قبل أن يُضرب عنقك ، فشهد شهادة الحقّ وأسلم ودخل في عداد المسلمين ، فارتفع بذلك أكبر سد ، وانزاح أكبر مانع من طريق الدعوة الاِسلامية ، ومع ذلك فقد أمر النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) العباس بحبسه لاَنّه لم يأمن جانبه بعد ، قبل أن يتم فتح مكّة : « يا عباس احبسه بمضيق الوادي عند خطم الجبل ـ أي أنفه ـ حتى تمر به جنود اللّه فيراها » ، فطلب العباس من النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : إنّ أبا سفيان رجل يحب الفخر فاجعل له شيئاً ، فاستجاب له النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وقال : « من دخل دار أبي سفيان فهو آمن ، ومن أغلق عليه بابه فهو آمن ، ومن دخل المسجد فهو آمن ، ومن طرح السلاح فهو آمن » . وذلك بالرغم من أخلاق أبي سفيان المنحدرة وأعماله السيئة تجاه النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) والمسلمين ، طيلة السنوات الماضية » ، وكان النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) قد عزم على أن يفتح مكة دون إراقة دماء وإزهاق أرواح وتسليم العدو دون شروط ، وقد تم ذلك نتيجة التخطيط السليم ، وتحييد موقف أبي سفيان العدائي وهوقائد قريش ، ولما كانت القطع العسكرية الاِسلامية تمر من أمام أبي سفيان ، كان العباس يوضح له اسمها وخصوصياتها ، فمرت كتيبة النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) فقال للعباس : ما لاَحد بهوَلاء قبل ولا طاقة يا أبا الفضل ، واللّه لقد أصبح ملك ابن أخيك الغداة عظيماً ، فرد عليه العباس موبخاً : ويحك يا أبا سفيان ، ليس بملك ، إنّها النبوة ، وحينئذٍ أطلق النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) أبا سفيان ليرجع إلى مكّة فيخبرهم بما رأى من قوّة الجيش الاِسلامي ، ويحذرهم من مغبة المواجهة والمقاومة ، والتسليم للاَمر الواقع بإلقاء السلاح والاستسلام دون قيد أو شرط ، فصاح في أهل مكّة : يا معشر قريش ، هذا محمّد قد جاءكم فيما لا قبل لكم به ، أو قال : هذا محمّد في عشرة آلاف ، فمن دخل دار أبي سفيان فهو آمن ، ومن ألقى السلاح فهو آمن ، ومن دخل المسجد فهو آمن ، ومن أغلق بابه فهو آمن .

السيرة المحمدية _ 124 _

  وأضاف النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) إلى ذلك : و من دخل تحت لواء أبي رويحة فهو آمن ، وهو موقع خامس عينه الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) للتأمين من القتل ، وأدّى كلّ ذلك إلى إضعاف نفوس أهل مكّة ، حتى القياديين الاَعداء ، ركنوا إلى المطالبة بالتسليم دون مقاومة ، وبالرغم من أنّالنبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) قد أمر جنوده بعدم بدء القتال ، فلا يقاتلوا إلاّمن قاتلهم ، إلاّ أنّه أمر بقتل عشرة من الاَفراد وإن وجدوا تحت أستار الكعبة وهم :
1 ـ عكرمة بن أبي جهل .
2 ـ هبار بن الاَسود .
3 ـ عبد اللّه بن أبي السرح .
4 ـ قيس بن حبابة الكندي .
5 ـ الحويرث بن نقيند .
6 ـ صفوان بن أمية .
7 ـ وحشي بن حرب ، قاتل حمزة .
8 ـ عبد اللّه بن الزبعرى .
9 ـ حارث بن طلالة .
10 ـ عبد اللّه بن خطل .
   وأربعة نساء (1) ، وكان كلّواحد من هوَلاء إمّا قتل أحداً ، أو ارتكب جناية أو شارك في موَامرة أوحرب ضدّ الاِسلام والمسلمين ، وفي دخول مكّة أخذ النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) الحيطة والحذر ، ففرّق الجنود ، على أن يدخلوها من أسفلها ، وآخرون يتخذون طريقاً من أعلاها ، وأعداداً أُخرى تدخل من جميع المداخل والطرق الموَدية إلى داخل مكّة ، فدخلت الفرق كلّها مكّة دون قتال ، إلاّ ما حدث مع جبهة خالد بن الوليد ، الذي قابلته مقاومة صغيرة تمكن من السيطرة على الوضع بعد هروب المعتدين ، أمّا النبي الاَكرم ( صلى الله عليه وآله وسلم ) فقد دخل مكة من ناحية أذاخر وهي أعلى نقطة في مكّة ، فضربت له قبة من أدم بالحجون ـ عند قبر عمّه العظيم أبي طالب ـ ليستريح فيها ، فقد أبى أن ينزل في بيت من بيوتها ، واغتسل بعد الاستراحة ، فركب راحلته القصواء متوجهاً إلى المسجد الحرام لزيارة بيت اللّه المعظم والطواف به على راحلته ، حيث لم يترجل ، وكبّـر فكبّـر المسلمون ، حتى ارتجت مكة لدويّصوتهم ، فسمعه المشركون الذين تفرّقوا في الجبال ينظرون المشهد المثير .

---------------------------
(1) السيرة النبوية : 2 ـ 410 ؛ تاريخ الخميس : 2 ـ 90 .