كان أوّل عمل رأى النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) أن يقوم به قبل أي عمل آخر ، هو أن يبني محلاً للمسلمين ليتسنّى لهم أن يعبدوا اللّه فيه ويذكروه في أوقات الصلوات ، مضافاً إلى أنّه كان هناك حاجة أكيدة لمركز يجتمع فيه أعضاء حزب الاِسلام ـ حزب اللّه ـ كلّ أُسبوع في يوم معيّن ، ويتشاوروا في مصالحهم وشوَونهم ، بجانب أدائهم صلاة العيد فيه مرّتين كلّعام ، ولم يكن المسجد في عهد الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) للعبادة فحسب ، بل لتُلقى فيه العلوم والمعارف الاِسلامية والتربوية ، إضافة إلى الاَُمور القضائية والفصل بين الخصومات وإصدار الحكم على المجرمين ، فكان بمنزلة المحكمة في هذا اليوم ، كما استخدمه الشعراء في إلقاء قصائدهم أمام الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) الذي اتّخذه قاعة لاِلقاء خطبه الحماسية والجهادية في تعبئة المسلمين ضدّ الكفّار والمشركين ، ممّا يبين أنّ النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) أراد بذلك أن يعلن للجميع أنّ دينه ليس مجرّد أمر معنوي لا يتصل بالاَُمور الدنيوية ، بل هو دين شامل كامل يهتم بالتقوى وشوَون المعيشة والاَوضاع الاجتماعية ، وقد استمرت أغلبية المساجد على هذا المنوال حتى مطلع القرن 4 هـ حيث كانت تتحول في غير أوقات الصلاة إلى مراكز لتدريس العلوم المتنوعة ، بل إنّها حتى بعدما فصلت المراكز العلمية عن المساجد فيما بعد ، بقيت المدارس تبنى بجانب المساجد ، الاَمر الذي جسّد الصلة الوثيقة والارتباط الاَقوى بين العلم والدين ، وفي بناء المسجد اشترك النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) بنفسه في عملية البناء ، ينقل الحجارة واللبن ، ويردّد وهو يعمل : « لا عيش إلا ّعيش الآخرة ، اللّهم ارحم الاَنصار والمهاجرة » ، وكان « عمار بن ياسر » ممّن عمل بشدّة و قوّة مع الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) في البناء ، إذ كان يحمل اللبن والاَحجار بدل النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وبدل الآخرين ، حتى شكا إليه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) فعلهم وقال : يا رسول اللّه قتلوني يحملون عليّ ما لا يحملون ، فقال له النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : « ويح ابن سمية ليسوا بالذين يقتلونك ، إنّما تقتلك الفئة الباغية » (1) .
   وبنى كذلك بجانب المسجد صُفَّة يسكن فيها الفقراء والمهاجرون المحرومون ، وكلف « عبادة بن الصامت » بأن يعلّمهم الكتابة وقراءة القرآن .

---------------------------
(1) السيرة الحلبية : 2 ـ 71 ، تاريخ الخميس : 1 ـ 345 .

السيرة المحمدية _ 76 _

   ثمّ بعد ذلك بنيت منازله ومنازل أصحابه حول المسجد ، وفي هذه البيئة الجديدة ، واجه النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ثلاث مشكلات أو قضايا أساسية :
1 ـ قريش و الوثنيين في شبه الجزيرة العربية .
2 ـ اليهود في المدينة أو خارجها ، مع توافر الاَموال لديهم .
3 ـ الاختلاف بين المهاجرين والاَنصار ، و بين الاَنصار أنفسهم ـ الاَوس والخزرج ـ أي الجبهة الداخلية ، وقد تمكّن الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) من التغلّب على تلك المشكلات والقضايا بأساليب حكيمة وسياسية محنّكة ، فبالنسبة إلى التناقضات بين فئات المجتمع ، فقد عالجها بالموَاخاة بين المهاجرين والاَنصار ، حينما جمعهم الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وقال لهم : « تآخوا في اللّه أخوين أخوين » ، فأصبح هذا التآخي والوحدة بين الاَطراف المتنازعة ، طريقاً لحلّ المشكلات الاَُخرى ، كما اختار عليّاً ( عليه السلام ) أخاً لنفسه وقال : « يا عليّ أنت أخي في الدُّنيا والآخرة » ، أمّا مشكلة يهود يثرب ، فإنّ النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) أدرك أنّه ما لم تصلح الاَوضاع الداخلية في المدينة ، ومالم يضم اليهود إلى جانبه ، أي أن يقيم وحدة سياسية متوسعة ، فإنّ شجرة الاِسلام لن تتمكن من النمو ، بالاِضافة إلى أنّه لن يتمكن من معالجة القضية الاَُخرى وهي خطر قريش ، ومن هنا رأى النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) أن يتقدّم بالتفاهم معهم بعقد معاهدة تعايش سلمي ودفاع مشترك بين الاَنصار والمهاجرين ، يوقّع عليها اليهود أيضاً ، وتعتبر هذه المعاهدة من أهمّ الاَعمال ، ومسنداً تاريخياً قوي الدلالة ، تكشف عن مدى التزام الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) بمبادىَ الحرية و العدالة ، كما تكشف عن حنكته السياسية حيث استفاد من هذه الوسيلة من أجل إيجاد جبهة متحدة قوية في وجه الحملات الخارجية ، فهي في الواقع واحدة من أكبر الانتصارات السياسية التي أحرزتها الحكومة الاِسلامية الناشئة في ذلك الوقت ، بل هي أعظم معاهدة تاريخية على الاِطلاق .

السيرة المحمدية _ 77 _

  وهي نموذج كامل لرعاية الاِسلام وحرصه على مبدأ حرية الفكر والاعتقاد ، وضرورة التعاون ، وتوضيح حدود صلاحيات واختيارات القائد ومسوَولية الموقعين عليها ، وقد احترم فيها النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) دين اليهود وثرواتهم في إطار شرائط معينة ، وبالاِضافة إلى التعاهد مع يهود يثرب ، فإنّ النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) عقد مع طوائف اليهود الاَُخرى : بني قريظة ، بني النضير ، وبني قينقاع ، معاهدات مماثلة فيما بعد ، كان من أهمّ بنودها : ، عدم الاعتداء على الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) و أصحابه ، فإن فعلوا فإنّ الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) في حلّ من سفك دمائهم وسبي ذراريهم ونسائهم والاستيلاء على أموالهم ، إلاّ أنّ اليهود تميّزوا بمجادلة النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وطرح الاَسئلة العويصة عليه بغية إحراجه وزعزعة إيمان المسلمين به ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، ولكن جميع تلك المخططات باءت بالفشل ، و قلّ تأثيرها في صفوف المسلمين ، بل إنّها ساعدت في الواقع على إقبال بعضهم على الاِسلام ، كما حدث لعبد اللّه بن سلام الذي كان من علماء اليهود و أحبارهم ، أعلن إسلامه بعد سلسلة مناظرات و مجادلات مطوّلة ، كما التحق بعده عالم آخر منهم هو « المخيريق » ، ولم يكتف اليهود بذلك أنّهم استخدموا أُسلوب الموَامرات والدسائس مثل : « فَرِّق تسد » لاِضعاف المسلمين ، وذلك باستغلال رواسب الماضي بين الاَوس والخزرج ، وإثارة العداء بينهم ، وإقامة العلاقات السرية مع مشركي الاَوس والخزرج والمنافقين ، واشتراكهم صراحة في اعتداءات قريش على المسلمين في الحروب التي دارت بين الطرفين ، فقدموا كلّدعم ومساندة للوثنيين والعمل لصالحهم ، كما اشتهروا بنقض العهود والمواثيق ، الاَمر الذي أدّى إلى وقوع مصادمات وحروب مستمرة بينهم و بين المسلمين ، نتج عنه إنهاء الوجود اليهودي في المدينة ، أمّا المشكلة الاَخيرة والمرتبطة بإعتداءات قريش ، فإنّ الفصل القادم يتناولها بالتفصيل ، وقد أقام النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) في المدينة ، منذ ربيع الاَوّل من السنة الاَُولى للهجرة إلى شهر صفر من السنة الثانية .
   وأسلم في هذه الفترة من تبقّى من الاَوس والخزرج ، و لم يبق دار من دور الاَنصار إلاّ أسلم أهلُها ، ماعدا بعض الفروع والعوائل ممّن بقوا على شركهم ، إلاّ أنّهم أسلموا بعد معركة بدر (1) .

---------------------------
(1) السيرة النبوية : 1 ـ 50 .

السيرة المحمدية _ 78 _

أحداث السنة الثانية من الهجرة
  تميّزت هذه الفترة بالاستعراضات العسكرية ، والمناورات الحربية ، واستعراض القوّة ، التي أمر بها الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) منذ الشهر الثامن من الهجرة حتى رمضان من السنة الثانية ، وهي أوّل مناورات عسكرية في تاريخ المسلمين ، كما تميزت الفترة بحدثين عظيمين كان لهما الاَثر الكبير في حياة المسلمين وهما : واقعة بدر الكبرى ، وتغيير جهة القبلة ، وقد راج في كتابات الموَرّخين وكتاب السيرة ، مصطلح الغزوة ، والسريّة ، فالغزوة هي تلك العمليات العسكرية التي كان يقودها النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) بنفسه ، أمّا السريّة فهي مجموعات عسكرية صغيرة يقودها أحد قوّاده ، دون أن يشترك فيها الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، وقد أعد أوّل لواء عسكري بقيادة « حمزة بن عبد المطلب » حيث سيّره النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) مع ثلاثين فرداً إلى سواحل البحر الاَحمر حيث تمر في طرقاته قوافل قريش التجارية ، ولم يحدث أيّ قتال بينهم ، وبعث النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بسرية أُخرى بقيادة « عبيدة بن الحارث بن عبد المطلب » في ستين فرداً بهدف التعرض لقافلة قريش التجارية ، إلاّ أنّ قتالاً لم يجر بين الاَطراف ، كما بعث سرية قادها « سعد بن أبي وقاص » لرصد تحركات قريش ، أمّا في شهر صفر من السنة 2 هـ فقد أناب على المدينة « سعد بن عبادة » وقاد بنفسه مجموعة من المهاجرين والاَنصار لملاحقة ركب قريش التجاري واعتراضه ، حتى بلغ « الاَبواء » ، ولكنّه رجع دون أن يلقى أحداً منهم (1) ، وخرج أيضاً في شهر ربيع الاَوّل من السنة نفسها مع 200 فرد حتى وصل إلى « بواط » قرب ينبع ـ على بعد 90 كم من المدينة ـ ولكنّه لم يظفر بقافلة قريش بقيادة « أُميّة بن خلف » ، كما أنّه خرج في شهر جمادى الاَُولى لاعتراض أكبر قافلة تجارية لقريش خارجة من مكة نحو الشام ، بقيادة « أبي سفيان » إلاّ أنّه لم يلتق بهم في « ذات العشيرة » ، أمّا « عبد اللّه بن جحش » فقد بعثه الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) في شهر رجب على رأس أفراد ، لملاحقة قافلة قريش التجارية ، فنزل نخلة ـ بين مكة والطائف ـ و تقابل مع قافلة قرشية بقيادة ـ « عمرو بن الحضرمي » فباغتهم المسلمون وقاتلوهم واستولوا على أموالهم بالاِضافة إلى القبض على أسيرين ، إلاّ أنّ الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) انزعج لحدوث القتال في شهر رجب الحرام ، وخاصة عندما استغلت أطراف عدّة كاليهود وقريش هذه القضية للتشهير بالرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وإنّه استخدم الشهر الحرام فسفك فيه الدماء وأخذ الاَموال .

---------------------------
(1) تاريخ الخميس : 1 ـ 363 .

السيرة المحمدية _ 79 _

  وكذلك المسلمون فقد عابوا على عبد اللّه بن جحش فعلَتَه هذه ، إلاّ أنّ آية قرآنية نزلت فأبعدت تلك المخاوف والحيرة التي أصبح فيها المسلمون ، وقد غنم المسلمون منها ، فكانت أوّل غنيمة حصل عليها المسلمون ، وأمّا الاَسيران فلم يقبل النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) إطلاق سراحهما إلاّ بعد أن تطلق قريش سراح أسيرين مسلمين ، فتم تبادل الاَسرى بين الطرفين (1) ، وبذا فإن الهدف من تلك العمليات العسكرية الصغرى ، وإرسال القوات الصغيرة ، كان هو تحصيل وجمع المعلومات عن لعدو ورصد تحركاته وخططه ، وليس كما ادّعى المستشرقون ، إنّها لمصادرة أموال قريش والسيطرة عليها لتقوية نفسه ، إذ أنّ السرايا لم يتعد عدد أفرادها عن الستين أو الثمانين رجلاً ، بينما كان يحرس قوافل قريش أعداد أكبر من ذلك ، كما أن ّالهدف منها لم يكن لمجرّد القتال وسفك الدماء أو الانتقام ، لاَنّ الاَعداد لم تكن كافية لاِجراء قتال أو حرب مع العدو ، ويوَكد ذلك انزعاج النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) من حدوث القتال الذي جرى بين « ابن جحش » وبين أفراد من قريش ، لاَنّه : « ما أمرهم رسول اللّه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) بالقتال في الشهر الحرام ولا غير الشهر الحرام ، وإنّما أمرهم أن يتحسّسوا أخبار قريش » (2) ، كما أنّ النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) لم يستخدم في تلك الغزوات الصغرى أحداً من الاَنصار ، وذلك أنّهم بايعوه في « العقبة » على الدفاع عن المسلمين ، فالمعاهدة بينهم كانت دفاعية ، وقد تعهدوا بموجبها بالدفاع عن النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) إذا قصده عدو ، وبالرغم من ذلك ، فإنّه إذا خرج بنفسه قائداً للعمليات ، فإنّه كان يأخذ معه جماعة من الاَنصار ، تقوية لروابط الاِخوة والوحدة بين المهاجرين والاَنصار ، ويوَكد ذلك إنّه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) لم يشركهم في عمليات قتالية هجومية ابتداء ، إلاّما حدث بعد ذلك في معركة بدر ، وهكذا فإنّ النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) استهدف من تلك السرايا والعمليات العسكرية التفتيشية ، وعقد الاتفاقات والمعاهدات العسكرية مع القبائل المتواجدة على خطوط التجارة المكية ، هو إعلام قريش بقوّة المسلمين عسكرياً ، وإنّ جميع طرق التجارة المكية أصبحت في متناول يده ، بحيث غدا في إمكانه أن يشل إقتصاد مكة ويهدد خطوطهم ، خاصة أنّ التجارة كانت عمود الاِقتصاد المكي وأمراً حيوياً لهم ، ولذا كان على قريش في هذه الحالة أن تعيد النظر في مواقفها العدائية ، وحساباتها في ضوء الاَحوال الجديدة ، فتترك للمسلمين حرية الدعوة والعقيدة ، وتفتح لهم الطريق لزيارة بيت اللّه الحرام ، ونشر التوحيد في أنحاء الجزيرة العربية وخاصة الحجاز .

---------------------------
(1) المغازي : 1 ـ 13 ، السيرة النبوية : 1 ـ 603 .
(2) المغازي : 1 ـ 16 .

السيرة المحمدية _ 80 _

1 ـ تغيير اتّجاه القبلة
   أمّا الحدث الآخر الهام في هذه الفترة فكان تحويل القبلة إلى الكعبة ، فقد تمّ في الشهر 17 من الهجرة ، أي في شهر رجب ، حين أصبحت قبلة للمسلمين بمعنى انّهم غدوا يتوجهون إلى المسجد الحرام أثناء الصلوات بدل بيت المقدس ، فقد صلّى الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) 13 عاماً في مكّة نحو بيت المقدس ، ولمّا زاد إيذاء اليهود للرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) بعد تنامي قوّة المسلمين وانتشار الاِسلام ، وقولهم : « أنت تابع لنا تصلّي إلى قبلتنا » (1) فاغتمَّ الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) لذلك وشق عليه ، فانتظر فرجاً ووحياً من جانب اللّه ، حتى نزلت الآية : ( قَدْنَرْى تَقَلُّبَ وَجْهكَ فِي السَّماءِ فَلَنُوَلّيَنَّكَ قِبلَةً تَرضاها ) (2) ، فكان تغيير القبلة واحداً من مظاهر الابتعاد عن اليهود و اجتنابهم ، كما أنّ اتّخاذ الكعبة قبلة ، كان من شأنه كسب رضا العرب واستمالة قلوبهم ، وترغيبهم في الاِسلام ، تمهيداً لاعتناق دين التوحيد ، ونبذ الاَصنام ، وخاصة أنّ الكعبة كانت موضع احترام العرب وتقديسهم منذ أن رفع النبي إبراهيم ( عليه السلام ) قواعدها ، وقد تمّ التحويل خلال الركعة الثانية من صلاة الظهر ، حين أخذ جبرائيل ( عليه السلام ) يد النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وأداره نحو المسجد الحرام ، فتبعه الرجال والنساء في المسجد ، فتوجه الرجال مكان النساء واتخذت النساء مكان الرجال (3) .

2 ـ معركة بدر
  كان من أساليب النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) في الحروب ، جمع المعلومات حول استعدادات العدو ، ومدى تهيّئه ومكان تواجده وتمركزه ، ومعنويات أفراده ، وهي مسائل تحظى بالاَهمية في المجال العسكري حتى اليوم ، وحيث إنّ المعلومات التي تجمعت لدى الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) توَكد أنّ قافلة كبرى لقريش شارك فيها كلّ أهل مكّة بأموالهم ، ويحمل بضائعها ألف بعير ، وتقيّم بخمسين ألف دينار ، ويقودها أبو سفيان بن حرب ، في أربعين رجلاً ، وحيث إنّ أموال المسلمين كانت قد صودرت في مكة على أيدي قريش ، فإنّ الوقت كان مناسباً للمسلمين لاستعادة أموالهم ، بالاحتفاظ بأموال قريش إلى أن يعيدوا إليهم أموالهم المصادرة ، وإلاّ فإنّهم يتصرفون في هذا المال كغنائم حرب يقسمونها فيما بينهم .

---------------------------
(1) أو قولهم : مادرى محمد وأصحابه أين قبلتهم حتى هديناهم . مجمع البيان : 1 ـ 255 .
(2) البقرة : 144 .
(3) بحار الاَنوار : 19 ـ 201 .

السيرة المحمدية _ 81 _

   ولذا فإنّ النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) خرج في 313 رجلاً ، كان منهم 82 من المهاجرين ، و170 من الخزرج ، و61 من الاَوس ، في يوم الاثنين الثامن من شهر رمضان ، قاصداً تحقيق ذلك الهدف ، وعقد رايتين سلم إحداهما إلى مصعب بن عمير والاَُخرى وهي العقاب إلى الاِمام علي ( عليه السلام ) ، فوصل إلى « وادي ذفران » (1) ، ونظراً لتخوف أبي سفيان من التعرض لهجوم من جانب المسلمين ، فقد أرسل أحد رجاله إلى مكّة يستغيث بهم لنصرته ، ممّا دعا أهلها إلى الاستعداد والتجهّز للخروج بقيادة روَسائهم وعظمائهم ، وكان ذلك مفاجأة للنبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) الذي لم يعدّ رجاله للحرب والمواجهة العسكرية ، بل لهجوم يحصل منه على الاَموال المصادرة ، فعقد مجلساً للشورى استطلع فيه آراء رجاله في الانسحاب من الموقع إلى المدينة ، أو مجابهة العدو القائم عسكرياً ؟ فاتّفق الجميع على المواجهة بالسير لملاقاة العدو رغم عددهم القليل ، فتحركوا نحو بدر (2) ، وبالاَُسلوب العسكري السليم عرف النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) مكان العدو ، وعددهم وزعماءهم كما عرف موعد وصولهم إلى ماء بدر ، فقال لاَصحابه : « هذه مكة قد ألقت إليكم بأفلاذ كبدها » (3) ، إلاّ أنّ أبا سفيان علم بملاحقة المسلمين له ومطاردتهم لقافلته ، فابتعد عن بدر عند رجوعه من الشام واتّخذ جهة ساحل البحر الاَحمر ، وبعث أحدهم يخبر قريشاً بإمكانية الاِفلات من يد محمّد ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وأصحابه ، ولكنّ « أبا جهل » أصرّ على مواصلة التقدم نحو يثرب وعدم الرجوع إلى مكة قائلاً : واللّه لا نرجع حتى نرد بدراً ، فنقيم عليه ثلاثاً ، فننحر الجُزُر ـ الاَباعر ـ ونطعم الطعام ونسقي الخمر ، وتعزف لنا القيان والمغنيات ، وتسمع بنا العرب وبمسيرنا وجمعنا ، فلا يزالون يهابوننا أبداً بعدها ، وكان لكلماته أثرها في تشجيعهم على السير نحو المدينة ، فنزلوا في بدر ، أمّا في الجانب الاِسلامي فقد تقدّم الحباب بن المنذر باقتراح ، على السير إلى أدنى ماء من القوم ، ودفن العين والآبار ، وبناء حوض يُملاَ بالماء يستخدمونه للشرب ، كما اقترح سعد بن معاذ بناء برج عسكري يقود منه النبي العمليات العسكرية ، ويشرف على سيرها ، فيكون مأمناً له من كيد الاَعداء ، أمّا قريش فقد تحركت باتجاه بدر صباح يوم 17 من شهر رمضان ، فاستطلعوا أخبار المسلمين ، فعرفوا عددهم وعدتهم ، إلاّ أنّه حدث انقسام في الرأي بينهم ، حول الموقع ، حين دعا بعض زعمائهم إلى ترك الموقع والعودة إلى مكة دون إجراء أي قتال أو إبداء أي عمل عدائي ضدّ المسلمين ، كان من بينهم : عتبة بن ربيعة ، الذي طلب منهم العودة إلى مكّة دون حرب ، إلاّ أنّ أبا جهل تمكّن من تغيير الموقف لصالح الحرب فحمّسهم للقتال .

---------------------------
(1) كانت تمر به قافلة قريش التجارية ، ويقع على مرحلتين من بدر .
(2) المغازي للواقدي : 1 ـ 48 ، السيرة النبوية : 1 ـ 615 .
(3) السيرة النبوية : 1 ـ 617 .

السيرة المحمدية _ 82 _

  وكان التقليد المتَّبع عند العرب في الحروب ، أن يُبدأ القتال بالمبارزات الفردية، ثم ّتقع بعدها الحملات الجماعية ، فدعا ثلاثة من صناديد قريش ، المسلمين إلى المبارزة وهم : عتبة ، وشيبة ، وهما ابنا ربيعة بن عبد شمس ، والوليد بن عتبة بن ربيعة ، فخرج إليهم من المسلمين ثلاثة من الاَنصار هم : عوف ومعاذ ابنا الحارث ، وعبد اللّه بن رواحة ، إلاّ أنّ قريشاً رفضت منازلتهم وطلبت أفراداً من مكة ، فأمر النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) عبيدة بن الحارث وحمزة وعلياً بالمبارزة ، فبارز حمزة شيبة ، وبارز عبيدة عتبة ، وعليّ بارز الوليد ، ثمّ اتّجه حمزة وعلي بعد الفراغ من قتل خصميهما إلى عتبة وقتلاه ، وبعد هذه المبارزة بدأ الهجومُ العام وتزاحفوا ، فعدّل النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) الصفوف ورجع إلى العريش ـ برج القيادة ـ فكان ينزل بين الحين والآخر ويحرضهم على القتال والمقاومة ، فقد كان لكلماته أثرها العميق في النفس ، والشوق إلى الجنّة بالشهادة ، أمّا خسائر الحرب ، في الاَرواح والاَموال ، فإنّ المسلمين فقدوا 14 رجلاً ، بينما قُتل من المشركين سبعون ، وأُسر منهم سبعون ، كان من أبرزهم : النضر بن الحارث ، عقبة بن أبي معيط ، وسهيل بن عمرو ، والعباس بن عبد المطلب ، وأبو العاص بن الربيع ـ صهر النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، وقد دفن شهداء بدر في جانب من أرض المعركة ، ولا تزال قبورهم موجودة ، أمّا قتلى المشركين فأمر الرسولبإلقائهم في البئر ، ووقف ( صلى الله عليه وآله وسلم ) عليها فخاطب القتلى قائلاً : « يا أهل القليب ، بئس عشيرة النبي كنتم لنبيكم ، كذبتموني وصدقني الناس ، وأخرجتموني وآواني الناس وقاتلتموني ونصرني الناس ، ثمّ قال : هل وجدتم ما وعدكم ربّكم حقّاً ، فإنّي قد وجدت ما وعدني ربّي حقّاً » (1) ، ثمّ صلّى العصر بالناس وغادر أرض المعركة ـ أرض بدر ـ قبل غروب الشمس ، وقسّم الغنائم بينهم أثناء الطريق على قدم المساواة ومنح ذوي الشهداء أسهماً منها ، كما وزع خمسها على المشاركين في المعركة ، فربما لم تكن آية الخمس قد نزلت بعد آنذاك ، أو فعل ذلك لمصلحة خاصة ، كما قرر أسهماً لاَشخاص لم يحضروا المعركة ، لاَسباب خاصة بهم منعتهم من الاشتراك فيها ، أو لمهمات خاصة أُنيطوا بها في المدينة والطرقات ، وبعث عبد اللّه ابن رواحة ، وزيد بن حارثة ، إلى المدينة يبشرون أهلها بالانتصار ، إلاّ أنّهما علما هناك بوفاة ابنة النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) زوجة عثمان بن عفان ، فامتزجت الاَفراح بالاَحزان ، في الوقت الذي تخوف فيه المشركون واليهود والمنافقون من الانتصار الكبير من جانب آخر .

---------------------------
(1) السيرة النبوّية : 1 ـ 639 ، السيرة الحلبية : 2 ـ 180 ، إنّ مسألة محادثة الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) مع روَوس الشرك في البئر من مسلّمات التاريخ والحديث ، وقد أشار إليه كثير من المؤرّخين والمحدّثين ، أبرزهم : صحيح البخاري ج 5 في معركة بدر ، صحيح مسلم : 8 ، كتاب الجنة ، سنن النسائي : 4 ، باب أرواح الموَمنين ، مسند الاِمام أحمد : 2 ـ 131 ، المغازي : 1 ـ 112 ، بحار الاَنوار : 19 ـ 346 .

السيرة المحمدية _ 83 _

   أمّا بالنسبة لاشتراك العباس بن عبد المطلب في المعركة ، فإنّ ذلك كان أمراً خاصاً ، لاَنّه كان قد أسلم وكتم إسلامه مخافة قومه وكره خلافهم مثل أخيه أبي طالب ، فكان يساعد النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ويخبره بمخططات العدو ونوايا وتحركاته واستعدادته ، مثلما عمل في معركة أُحد ، وفي مكة ، تحولت بيوتها إلى مأتم كبير وناحت قريش على قتلاها ، إلاّ أن ّأبا سفيان منعهم من النوح والبكاء على القتلى ، وحثّهم على الاستعداد للثأر والانتقام من محمد وأصحابه ، فقال : الدهن والنساء عليّ حرام حتى أغزو محمّداً ، وقد ساعدت عوامل كثيرة في انتصارالمسلمين ببدر ، كان أهمّها :
1 ـ عدم معرفة المسلمين بما لدى المشركين من إمكانيّات بشرية و قتالية ، فواجهوا الاَمر الواقع وتعاملوا من دون أن يثبطهم شيء .
2 ـ تقليل عد المسلمين في أعين المشركين ، وعدد المشركين في أعين المسلمين في أوّل القتال ، وتكثير عدد المسلمين في أعين الكفّار أثناء الحرب .
3 ـ الاَُمور الغيبية ، مثل مساعدة المطر ونزوله في هذه الفترة ، ومساعدة الملائكة ، وتثبيت قلوب الموَمنين بواسطة هوَلاء الملائكة ، وإلقاء الرعب في قلوب الكفّار ، حيث تشير الآيات القرآنية في سورة الاَنفال وآل عمران إلى كلّ ذلك .

نتائج وآثار معركة بدر
  أعلن النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) قراراً تاريخياً بعد المعركة خاصاً بأُسلوب المعاملة مع الاَسرى ، وذلك بأنّ من علّم منهم عشرة من الصبيان ، الكتابة والقراءة ، كان ذلك فداوَه ويخلى سبيله دون أن يوَخذ منه مال (1) ، وإنّ من دفع فدية قدرها 4000 درهم إلى ألف ، خلّى سبيله ، ومن كان فقيراً لا مال له ، أفرج عنه دون فداء ، وإن الباب مفتوح أمامهم للدخول في الاِسلام لينعموا في كنفه مع المسلمين ، ولقد أحدث هذا القرار ردّ فعل كبير لدى عائلات مكة ، دفعهم إلى تقديم الفداء إلى المسلمين لاِطلاق سراحهم ، وكان « أبو العاص بن الربيع » من ضمن الاَسرى ، وهو زوج زينب ابنة الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) التي تزوّجها في الجاهلية ، وثبت على دينه بعد إيمان بنات النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) كلّهم ، فبعثت زينب في فدائه بمال فيه قلادة كانت هدية أُمّها السيدة خديجة « عليها السلام » لها ليلة زفافها ، فلمّا رأى الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) القلادة ، تذكّر زوجته الوفية وبكى بشدة ، ممّا أثر في المسلمين فأطلقوا سراحه دون أخذ الفدية ، وأخذ ( صلى الله عليه وآله وسلم ) على أبي العاص الميثاق بأن يخلّي سبيل زينب ويبعثها إلى المدينة ففعل ، مع إعلانه الاِسلام فيما بعد ، ويعتبر تعليم الاَولاد من قبل الاَُسارى المتعلمين ، أوّل عملية تعليمية لمكافحة الاَُمّية ، وهي أعظم خطوة حضارية وثقافية .

---------------------------
(1) السيرة الحلبية : 2 ـ 193 .

السيرة المحمدية _ 84 _

  كما أنّه كان لانتصار المسلمين أثر كبير على المراكز السياسية المتناثرة في شبه الجزيرة العربية ، فكما كان له أثره القوي على قريش وأهلها ، فإنّه هدد مراكز أُخرى في المدينة وخارجها ، كاليهود الذين أبدوا تخوفهم من تطور قوّة المسلمين ، وخاصّة يهود بني قينقاع ، الذين بدأوا بتدبير الموَامرات ، وممارسة الاَعمال العدوانية ضدّ المسلمين ، وإعلان الحرب الباردة بنشر الاَكاذيب وبث المعلومات المزيفة ، وإطلاق الشعارات القبيحة لتحقيرهم وتخريب سمعتهم وإضعاف معنوياتهم ، إلاّ أنّهم بذلك ، كانوا قد أعلنوا نقضهم لمعاهدة التعايش السلمي التي عقدها معهم الرسول الكريم ( صلى الله عليه وآله وسلم ) إبان قدومه إلى المدينة ، وبالرغم من ذلك فإنّ النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) حاول النصيحة بأن يتعايشوا معهم دون إظهار أيّ عمل تخريبي أو سيّىَ ، وذلك لاَنّ النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) لم يكن يريد أن يرفع السلاح ويحاربهم حتى يحافظ على الاَمن والاستقرار في يثرب ، إذ لم يكن من المصلحة تفجير الموقف في هذه الفترة الحرجة ، إلاّ أنّهم أصروا على موقفهم العدائي ، دون أن يقتنعوا بالتغيير أو التخلّي عن موَامراتهم ، ممّا اضطر الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) إلى استخدام السلاح والقوة في الفرصة المناسبة ، وقد حدثت تلك المناسبة ، عندما اعتدى يهوديٌ على امرأة عربية في السوق ، بإظهار عورتها والضحك عليها ، فقتله رجلٌ مسلمٌ ، فاجتمع عليه عددٌ من اليهود فقتلوه ، ممّا اعتبر الشرارة الاَُولى في إعلان الحرب عليهم ، فسارعوا إلى حصونهم وقلاعهم خوفاً من هجوم المسلمين ، فحاصرهم النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) خمسة عشرة ليلة ، قذف اللّه في قلوبهم الرعب ففقدوا القدرة على المقاومة ، ونزلوا عند حكم النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وهو الجلاء عن المدينة ، على أن يتركوا أسلحتهم وأموالهم ودروعهم ، فخرجوا من المدينة إلى منطقة « أذرعات » في أطراف الشام (1) ، واضطرت قريش في هذه السنة إلى أن تغيّر طريقها التجاري إلى الشام ، خوفاً من تعرض المسلمين لهم ، فاتفقت على أن تتخذ طريق العراق ، إلاّ أنّالمسلمين علموا بذلك ، فأرسل الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) زيد بن حارثة في مائة نفر ، تمكّنوا من الاستيلاء على القافلة ، وتقسيم الاَموال على المسلمين ، بعد فرار القوم .
   ولاَهمية معركة بدر التي هي من المعارك الكبرى للاِسلام ، اكتسب المشاركون فيها منزلة خاصة بين المسلمين ، فقد دعوا بالبدريين .

---------------------------
(1) المغازي : 1 ـ 177 ، طبقات ابن سعد : 2 ـ 28 .

السيرة المحمدية _ 85 _

3 ـ العمليّات العسكريّة الصغيرة
  وقد جرت في هذه السنة أيضاً عدّة غزوات ، كان أهمها :
غزوة قرقرة الكُدْر : قرقرة الكدر ناحية بين المعدن و المدينة يسكنها قبيلة بني سلم حيث بلغ النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) أنَّ القبيلة المذكورة تتهيّأ للهجوم على يثرب فخرج ( صلى الله عليه وآله وسلم ) بنفسه لتأديبهم ، إلاّ أنّهم تفرقوا .
غزوة السويق : وذلك عندما قتل أبو سفيان رجلاً من الاَنصار وأجيراً له ، وحرق بيتاً وزرعاً ، على أساس أنّ له نذراً للثأر من المسلمين بعد معركة بدر ، بأن لا يقارب زوجته مالم يثأر لقتلى بدر فهاجمه المسلمون ، إلاّ أنّه فرّ وترك وراءه أكياس السويق (1) .
غزوة ذي أمّر : وهو واد بطريق المدينة ، وقد جرت عندما أعدّت قبيلة غطفان هجوماً على المدينة ، فخرج الرسول لمحاربتهم ، ولكنّهم فرّوا وهربوا .
   وأراد أحدهم أن يتخلّص من النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وهو مستريح تحت شجرة في وادي ذي أمّر ، إلاّ أنّ النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) تمكّن من السيطرة عليه بفعل معجزة إلهية ، فأسلم الرجل .

4 ـ زواج السيدة فاطمة الزهراء ( عليها السلام )
  تقدّم أشراف العرب للزواج من السيّدة فاطمة سيّدة النساء ( عليها السلام ) إذ تصوّروا أنّ كونهم ذوي ثروة ومكانة اجتماعية مرموقة توَهلهم لذلك ولا يُرد لهم طلب ، ولكنّهم أخطأوا في تصوّرهم ، فلم يعلموا أن ّزوج فاطمة ( عليها السلام ) لا يكون إلا كفوَها في التقوى والفضل والاِيمان والاِخلاص ، وليس المال والثروة والجاه ، ولمّا كان الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) يرد الخطّاب بقوله : « أمرها بيد اللّه » فقد أدركوا أنّ زواجها ليس سهلاً و بسيطاً ، إلاّ أنّ الاِمام علي ( عليه السلام ) حينما تقدّم إلى النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) يخطبها وافق على طلبه وقال : « يا عليّ إنّه قد ذكرها قبلك رجال فذكرت ذلك لها ، فرأيت الكراهة في وجهها ، ولكن على رسلك حتى أخرج إليك » ، فدخل على السيّدة الزهراء( عليها السلام ) قائلاً : « إنّ علي بن أبي طالب من قد عرفت قرابته، وفضله وإسلامه، وإنّي قد سألت ربّي أن يزوّجك خير خلقه وأحبّهم إليه ، وقد ذكر من أمرك شيئاً ، فما ترين ؟ » ، فسكتت السيدة فاطمة ( عليها السلام ) ولم ير الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) في وجهها كراهة ، فقال : « اللّه أكبر ، سكوتها إقرارها » (2) .

---------------------------
(1) المغازي : 1 ـ 182 ، طبقات ابن سعد : 2 ـ 30 .
(2) بحار الاَنوار : 43 ـ 93 .

السيرة المحمدية _ 86 _

  ولما لم يكن الاِمام عليّ ( عليه السلام ) يملك مالاً ، أمره النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ببيع درعه لصرفه على نفقات الزواج ، وكان مهرها 500 درهم ، وسكن أوّل الاَمر في منزل أحد الصحابة بصورة موَقتة ، وعمل فرحاً وزفافاً جميلاً ، وأطعم فيه كل ّالمسلمين ، ونقل ابن بابويه ، أنّ النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) أمر بنات عبد المطلب ونساء المهاجرين والاَنصار أن يمضين في صحبة فاطمة ( عليها السلام ) وأن يفرحن ويرجزن ويكبّرن ويحمدن ولا يقولن ما لا يرضي اللّه ، ثمّ دعا لهما النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : « اللّهمّ إجمع شملهما ، وألّف بين قلوبهما ، واجعلهما وذرّيتهما من ورثة جنّة النعيم ، وارزقهما ذرّيةً طاهرةً طيّبةً مباركةً ، واجعل في ذرّيتهما البركة ، واجعلهم أئمّة يهدون بأمرك إلى طاعتك ، ويأمرون بما يرضيك ، اللّهمّ إنّهما أحبّ خلقك إليّ فأحبّهما، واجعل عليهما منك حافظاً، وإنّي أُعيذهما بك وذرّيتهما من الشيطان الرّجيم » (1) ، فكانت أفضل زيجة في الاِسلام وأكثرها خير وبركة ، إذ أنجبا أفضل الاَولاد والبنات وأطهرهم : الحسن والحسين السبطان، وزينب ( عليهم السلام ) التي اشتهرت في نصرة أخيها بكربلاء ، أمّا ما دسّه أصحاب الاَقلام المأجورة وذوو النفوس الضعيفة والقلوب الحاقدة من أباطيل و ترّهات حول وجود خلاف وتنازع بين الزوجين الطاهرين ، فتكذّبه الاَحاديث الكثيرة عن رسول الّله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) حول مكانتهما وعُلوّ شأنهما ، نقتطف منها ما يلي :
ـ ( أحبّ الناس إلى رسول اللّه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) من النساء فاطمة ومن الرجال عليّ ) .
ـ ( خير رجالكم علي بن أبي طالب ، وخير نسائكم فاطمة بنت محمّد ) (2) .

---------------------------
(1) بحار الاَنوار : 43 ـ 96 ـ 11 4 .
(2) للمزيد من الاِطّلاع ، راجع سيد المرسلين : 2 ـ 110 ـ 120 .

السيرة المحمدية _ 87 _


1 ـ أحداث السنة الثالثة من الهجرة
ـ الدفاع عن الحرية والكرامة .
ـ معركة أُحد .
ـ غزوة حمراء الاَسد .

2 ـ أحداث السنة الرابعة من الهجرة
ـ النتائج السلبية لمعركة أُحد .
ـ غزوة بني النضير .
ـ غزوة ذات الرقاع .
ـ تحريم الخمر .

أحداث السنة الثالثة من الهجرة

1 ـ معركة أُحد
   وهي سنةالدفاع عن الحرية والكرامة ، وقد وقعت فيها معركة أُحد التي تعدّ من أعظم المعارك في الاِسلام ، فقد قرر كفّار قريش إعلان الحرب على النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) على أن تتكفّل قريش نفقاتها ، فأعدّت 4 آلاف مقاتل ، إضافة إلى النساء اللائي هدفوا من اشتراكهن : تحريض الرجال على القتال ، والصمود وعدم الفرار ، وإشعال الحماس في النفوس ، وإنّ فرار الرجال يعني أسرهن ، فتصبح الغيرة والحمية سبباً للمقاومة والصمود ، كما اشترك في الجيش عدد من العبيد والرقيق طمعاً في العتق الذي وعدوا به متى ما نصروا أسيادهم ، مثل وحشي الحبشي (1) ، إلاّ أنّ العباس بن عبد المطلب الذي عاش بين قريش كاتماً إيمانه ، كتب تقريراً مفصلاً عن تلك الاستعدادات وأرسله مع رجل غفاري إلى النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) الذي أخبر أصحابه بالاَمر .

---------------------------
(1) بحار الاَنوار : 20 ـ 96 .

السيرة المحمدية _ 88 _

   ثمّ عقد النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) في يوم الجمعة اجتماعاً عسكرياً للتشاور مع القادة وأهل الخبرة في وسائل مواجهة العدو ، فأشار « عبد اللّه بن أُبي بن سلول » ـ من منافقي المدينة ـ بالقتال داخل المدينة ، أي لا يخرج المسلمون منها بل يقاتلونهم حرب الشوارع ، إلاّ أنّ فتيان المسلمين شجبوا هذا الرأي وأقروا الخروج من المدينة لملاقاة العدو ، بعد أن أيّد الرأي السابق أكابر أصحاب الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) من المهاجرين والاَنصار ، وكان حمزة و سعد بن عبادة على رأس القائلين بلقاء العدو خارج المدينة ، فأيّد النبيرأي الاَكثرية بالخروج للحرب ، إذ أنّ محاصرة العدوّ للمدينة وسيطرته على مداخلها وطرقاتها وسكوت جنود الاِسلام على ذلك ، من شأنه أن يقتل الروح القتالية والفروسية في أبناء الاِسلام المجاهدين ، وكان جيش الكفّار قد وصل أطراف المدينة ، حتى استقر قرب جبل أُحد ، يوم الخميس ، الخامس من شهر شوال ، فاستعد النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) بأن لبس لامته والدرع وتقلّد السيف واعتمّ ، فخرج من بيته ، ممّا آثار المسلمين وهزّهم بشدّة حتّى تصوّر بعضهم أنّهم قد أجبروه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) على الخروج ، فطلبوا منه المعذرة وإجراء أيّ فعل يقصده ، فقال ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : « ما ينبغي لنبي إذا لبس لامته أن يضعها حتى يقاتل » (1) ، ثمّ صلّى الناس الجمعة ، وخرج على رأس ألف مقاتل قاصداً أُحد ، وكان ( صلى الله عليه وآله وسلم ) قد رفض اشتراك جماعة من اليهود الذين تحالفوا مع « عبد اللّه بن أُبيّ بن سلول » معهم ، فانعزل عن الجيش وعاد بثلث الناس كلّهم من الاَوس المتحالفين معه ، إلى المدينة ، بحجّة أنّ الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) أخذ برأي الفتية والشباب ، ولذا لم يشترك اليهودُ والمنافقون في هذه الحرب ، وفي يوم السبت 7 من شهر شوال ، اصطف الجيش الاِسلامي أمام قوى الشرك المعتدية ، فجعل ظهره إلى جبل أُحد كمانع طبيعي يحفظ الخلف ، ووضع جماعة من الرماة عند ثغرة في الجبل ، عليهم « عبد اللّه بن جبير » وطلب منهم الالتزام بالموقع : « إلزموا مكانكم لا تبرحوا منه إن كانت لنا أو علينا فلا تفارقوا مكانكم » ، إلاّ أنّ المسلمين انهزموا بعد انتصارهم في بداية المعركة نتيجة تجاهل هوَلاء الرماة لاَوامر النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) حين أخلوا هذا الموقع الاستراتيجي .

---------------------------
(1) السيرة النبوية : 2 ـ 23 ، المغازي : 1 ـ 214 ، طبقات ابن سعد : 2 ـ 38 .

السيرة المحمدية _ 89 _

  وكانت قريش قد أعدّت تسعة رجال شجعان من بني الدار لحمل الراية ، قتلهم الاِمام علي ( عليه السلام ) جميعاً ، كما قتل غلامهم حين برز أيضاً (1) ، وبذا فإنّ النتيجة الاَوّلية كانت هزيمة الكفّار مخلِّفين وراءهم غنائم وأموالاً كثيرة ، فانتصر المسلمون على عدوّهم القوي عدداً وعدّة ، لاَسباب منها :
ـ أنّهم قاتلوا في مرضاة اللّه ، ونشر عقيدة التوحيد ، دون أن يهدفوا إلى مصلحة مادية ، ولكنّهم انهزموا بعد انتصارهم الساحق لاَسباب كان أهمها :
   تغيّر أهدافهم ، فقد اتجهت أنظارهم إلى الغنائم في أرض المعركة ، ونسوا أوامر النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وتعاليمه بالتمسّك بها مهما حدث ، وخاصة أُولئك الرماة الحامين ظهر المسلمين على جبل أُحد ، حين تركوا مواقعهم ونزلوا إلى الساحة يريدون جمع الغنائم قائلين : « ولِمَ نقيم هنا من غير شيء وقد هزم اللّه العدو ، فلنذهب ونغنم مع إخواننا » ، وهو الاَمر الذي استغله « خالد بن الوليد » الذي كان آنذاك مع المشركين و كان يترصّد خلوّ الثغرة من الرماة ، فقتل باقي الرماة وكانوا عشرة من خمسين ، ثمّ هاجم المسلمين الغافلين عن الوضع السّيىَ والذين انشغلوا بجمع الغنائم ، فتفرقت جموعهم ، واجتمع جنود قريش الهاربون فقاتلوا المسلمين قتالاً ضارياً ، حتى قُتِلَ منهم سبعون رجلاً ، وعندما قتل أحد أبطال المشركين من قريش ، حامل لواء الاِسلام : « مصعب بن عمير » ظنّ أنّه الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) فصاح : قتلت محمداً ، فانتشر الخبر بين المسلمين وقريش الذين سرّوا بذلك فصاحوا : ألا قد قتل محمد ، فاضطر المسلمون ـ بعد انفراط القيادة ، وإشاعة الفوضى والهرج والمرج في الجيش ـ إلى أن يهرب معظمهم إلى الجبل تاركين أرض المعركة ، إلاّعدداً قليلاً منهم ، وكان خمسة من صناديد قريش قد تعاهدوا على أن يضعوا نهاية لحياة النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) مهما كلّفهم الاَمر ، وهم :
1 ـ عبد اللّه بن شهاب ، الذي جرح جبهة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) .
2 ـ عتبة بن أبي وقاص ، الذي رمى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بأحجار فكسر رباعيته .
3 ـ ابن قميئة الليثي ، الذي رمى وجنتي الرسول وجرحهما .
4 ـ عبد اللّه بن حميد، الذي حمل على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فقتله أبو دجانة بطل الاِسلام .
5 ـ أُبي بن خلف، الذي قتله الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) بيده عندما حمل عليه ، وقد دلّت مواقف الرسول الكريم ( صلى الله عليه وآله وسلم ) في هذه المعركة وغيرها على شجاعته وقوّته ، وقد أكدها الاِمام علي ( عليه السلام ) قائلاً : « كنّا إذا احمرّ البأس ، اتّقينا برسول اللّه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) فلم يكن أحد أقرب منّا إلى العدو منه » (2) .

---------------------------
(1) بحار الاَنوار : 20 ـ 81 .
(2) شرح نهج البلاغة ، فصل في غريب كلامه ، رقم 9 .

السيرة المحمدية _ 90 _

  ومن هنا فإنّ سلامة النبي الاَكرم ( صلى الله عليه وآله وسلم ) في هذه الحرب بل وفي عامة الحروب تعود في أكثر أسبابها إلى : حسن دفاعه عن دينه وعن نفسه ، وإلى شجاعته وبأسه في المعارك ، إضافة إلى تضحية تلك القلة من أصحابه الاَوفياء الذين بذلوا غاية جهدهم للحفاظ على حياته وسلامته واشتهر من هوَلاء :
1 ـ الاِمام علي ( عليه السلام ) الذي بلغ 26 عاماً من عمره ، حيث قتل 12 من رجال قريش ، والباقي وهم عشرة قتلهم باقي المسلمين ، وهنا سمع هتاف بين السماء والاَرض يقول : لا فتى إلاّ عليّ ولا سيف إلاّ ذو الفقار .
2 ـ أبو دجانة ، الذي جعل من نفسه ترساً يقي النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) من سيوف الكفّار .
3 ـ حمزة بن عبد المطلب ، الذي دأب على حماية الرسول( صلى الله عليه وآله وسلم ) من أذى المشركين دائماً في الظروف القاسية ، إلاّ أنّ وحشي العبد قتله في هذه المعركة .
4 ـ أُمّ عمارة ، نسيبة المازنية ، وقد باشرت القتال وذبت عن الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) بالسيف ، ورمت بالقوس حتى جُرِحت ، وقد أُعجب النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) بشجاعتها فأشاد بموقفها يوم أُحد : « لمقام نسيبة بنت كعب اليوم خير من فلان وفلان » فطلبت منه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) أن يدعو لها بالجنة فقال ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : « بارك اللّه عليكم من أهل بيت رحمكم اللّه ، اللّهمّ اجعلهم رفقائي في الجنة » ، وقد استغل أبو سفيان وقريش انتصارهم فاعتمدوا الاِعلام المزيف في ذلك ، بأنّ آلهتهم أعظم من إله المسلمين ، قاصداً من ذلك التأثير النفسي ، فقد رأى أنّ الحملة النفسية والحرب الباردة يمكنها أن تحطم إيمان المسلمين ، أمّا هند زوجة أبي سفيان ، فقد مثلت مع بعض النساء بجثث المسلمين ، من قطع الاَنوف وجدع الآذان وسمل العيون وقطع الاَصابع والاَرجل والمذاكير ، نكاية بالمسلمين وإطفاءً للحقد الدفين ، وقد بقرت هند صدر حمزة وأخرجت كبده ولاكته بين أسنانها ، دون أن تستطيع أكله فعُرفت بآكلة الاَكباد ، كما عرف أبناوَها فيما بعد ببني آكلة الاَكباد .
   وقال الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) عندما شاهد عمّه حمزة : « ما وَقفتُ موقفاً قط أغيظ إليّ من هذا » .

السيرة المحمدية _ 91 _

  وهكذا غادر كفّار قريش أرض المعركة إلى مكة ، أمّا المسلمون ، فبعد أن صلّى بهم النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) الظهر والعصر ، دفنوا الشهداء واحداً واحداً أو اثنين اثنين ، عند جبل أُحد (1) ، أمّا الشهداء فكانوا ما بين 70 أو 81 مسلماً على روايات مختلفة ، ولم يتجاوز عدد قتلى قريش 22 فرداً ، وأمّا النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) فقد عالجته السيدة فاطمة ( عليها السلام ) والاِمام علي ( عليه السلام ) حينما رجع إلى المدينة .

غزوة حمراء الاَسد
   إلاّ أنّ الوضع لم يستقر ، بل أنّ الاَحداث استمرت إلى يوم الجمعة حيث غزوة « حمراء الاَسد » (2) ، ذلك أنّ اليهود والمنافقين أتباع « عبد اللّه بن أُبي » استغلوا الوضع الخطير الذي أصبح فيه المسلمون ، وكانوا قد سرّوا لما أصابهم ، ووجدوا البيوت حزينة يسمع منها أنين الجرحى والبكاء على الموتى والشهداء ، ولما كان هناك خوف أن يوَدّي ذلك إلى ضعف الجبهة الداخلية ، إذ أنّ انهيار الوحدة والانسحاب في هذه الجبهة أخطر بكثير من تعرض البلاد لهجوم خارجي ، ولذا فقد أمر ( صلى الله عليه وآله وسلم ) بملاحقة العدو في نفس هذه الليلة حتى يرهب العدو ويبلغه قوة المسلمين واتحادهم وأنّ ما أصابهم لم يوهنهم عن عدوهم (3) ، فخرج الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) بأصحابه إلى « حمراء الاَسد » مخلفاً على المدينة : ابن أُمّ مكتوم ، وقد استطاع « معبد بن أبي معبد الخزاعي » رئيس بني خزاعة ، الذي ارتبط بعلاقات ودية طيبة مع الرسول والمسلمين بالرغم من كفره وشركه ، من أن يخوّف أبا سفيان ويرعبه بما ذكره له عن قوّة المسلمين ، وأعدادهم وملاحقتهم لقريش ، ممّا دعاه إلى الانصراف عن مهاجمة المدينة مرّة أُخرى ، وفي هذه السنة ( 3 هـ ) ، أيضاً بعث الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) أيضاً السرايا ، واشتهرت منها :
  سرية محمد بن مسلمة ، عندما انزعج كعب بن الاَشرف لانتصار المسلمين في بدر ، وحاول إثارة قريش عليهم ، فبدأ بإيذاء نساء المسلمين ، ممّا جعل الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) يقرر التخلّص منه ، فأرسل إليه محمّد بن مسلمة ، الذي أعدّ خطة محكمة للقضاء عليه ، فقتلوه بمساعدة أخيه بالرضاعة « أبو نائلة » ، كما تخلّصوا من مفسد آخر هو : « أبو رافع سلام بن أبي الحقيق اليهودي » الذي قام بنفس دور كعب بن الاَشرف في إيذاء الرسول والمسلمين ، وفي هذه السنة، ولد السبط الاِمام الحسن ( عليه السلام ) في 15 من شهر رمضان .

---------------------------
(1) السيرة النبوية : 2 ـ 98 ، بحار الاَنوار : 20 ـ 131 .
(2) تبعد عن المدينة ثمانية أميال .
(3) مجمع البيان : 2 ـ 235 .

السيرة المحمدية _ 92 _

أحداث السنة الرابعة من الهجرة

1 ـ النتائج السلبية لمعركة أُحد
  بالرغم من إظهار المسلمين قوتهم ، ومطاردتهم للعدو ومنعهم من مهاجمة المدينة ، فإنّ المنافقين واليهود والمشركين أعدّوا الموَامرات ضدّ الاِسلام والمسلمين ، وجهزوا العدّة لمحاربتهم،مثل قبيلة «بني أسد » التي أرادت الهجوم على المدينة لنهبها ، فأرسل الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) 150فرداً بقيادة أبي مسلمة الذي تمكن من القضاء عليهم والتخلّص منهم ، ومن المعروف أنّ النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) كان يرسل الدعاة و المبلغين من قرّاء القرآن الكريم ، والمسلمين بالاَحكام الاِسلامية والتعاليم النبوية ، لينقلوا تلك التعاليم والاَحكام إلى الناس في المناطق البعيدة والاَماكن النائية ، كما كان يبعث من جانب آخر ، السرايا والمجموعات العسكرية للقضاء على محاولات التمرد والموَامرات ، ليتسنّى لهوَلاء المبلغين والدعاة في ضوء الاَمن والحرية والاَمان ، الدعوة إلى الاِسلام وإرساء دعائم الحكومة الاِسلامية في القلوب ، وتنوير الاَفكار وإيقاظ العقول ، إلاّ أنّه كان يحدث أنّ بعض القبائل المتوحشة والمتخلفة فكرياً وأخلاقياً كانت تعتدي على هوَلاء المبلغين وتقتلهم بصورة مفجعة مأساوية (1) ، مثلما قامت به جماعة من قبيلة « عضل والقارة » الذين طلبوا القرّاء من الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وغدروا بهم أثناء الطريق إلى مكان سكنهم ، ومن قبلهم طلب أبو براء العامري في شهر صفر من هذه السنة ، من الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) أن يبعث رجالاً إلى نجد يدعوهم للاِسلام مع أنّه لم يسلم ، فقال الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : « إنّي أخشى عليهم أهل نجد » ، ولكن أبا براء أعلن عن استعداده لاِجارتهم وضمان أمنهم فقال : أنا لهم جار ، فبعث النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) أربعين رجلاً من أصحابه الخيار من حفظة القرآن وأحكام الاِسلام بقيادة « المنذر بن عمرو » و معه كتاب إلى « عامر بن الطفيل » أحد زعماء نجد ، الذي قرر الغدر بهم ، فقتل رسول المنذر ، وطلب من بني عامر قتل المبلّغين ، إلاّ أنّهم رفضوا على أساس أنّ لهم عقداً وجواراً مع أبي براء ، فاستصرخ عليهم قبائل « بني سليم » الذين أجابوه ، فأحاطوا بالدعاة وقاتلوهم حتى قتلوهم عن آخرهم بعد أن قاوموا بقوّة وبسالة عظيمة ، وتسمّى هذه الحادثة بجريمة بئر معونة ، التي لم ينسها الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) فكان يذكر شهداءها فترة من الزمان (2) كما أنّ تلك الحادثتان : الرجيع وبئر معونة، تركتا آثاراً سيئة ، وخلفتا موجة من الحزن والاَسى في نفوس المسلمين .

2 ـ غزوة بني النضير
  لقد طلب النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) من يهود بني النضير المساهمة في دفع دية اثنين قتلا خطأ ، بموجب الاتفاقية المعقودة بين الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) واليهود ، والتي تقضي بالتعاون فيما بينهم في تسديد الدية ،

---------------------------
(1) السيرة النبوية : 2 ـ 169 ، طبقات ابن سعد : 2 ـ 55 .
(2) السيرة النبوية : 2 ـ 183 ، إمتاع الاَسماع : 1 ـ 170 .

السيرة المحمدية _ 93 _

  إلاّ أنّهم أضمروا له الشر ، حينما سار إليهم الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) في عدد قليل من أصحابه ، وقصدوا قتله غدراً ، وذلك بإلقاء صخرة عليه من فوق البيت الذي أستند الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) إلى جداره ، ولكنّه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) علم بموَامراتهم سواء من تحركاتهم المشبوهة ، أو بخبر جاء من السماء ، فترك المكان مسرعاً بالعودة إلى المدينة ، دون أن يخبر أصحابه الذين انتظروه طويلاً دون جدوى ، وقد أخبرهم عند عودتهم بالسبب : « همت اليهود بالغدر بي فأخبرني اللّه بذلك فقمت » ، ورداً على الموقف الغادر لليهود ، فقد أمر الرسولالمسلمين بالاِعداد لحربهم ، وبعث رسالة إليهم مع « محمّد بن مسلمة » يبلغ فيها سادتهم : « قد نقضتم العهد الذي جعلت لكم بما هممتم به من الغدر بي ، أخرجوا من بلادي ، فقد أجّلتكم عشراً ، فمن رُئي بعد ذلك ضربت عنقه » ، وكان حكم الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) هذا مطابقاً لما جاء في الميثاق الذي عقد بينهم عند دخوله المدينة : « ألاّ يعينوا على رسول اللّه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ولا على أحد أصحابه بلسان ولا يد ولا بسلاح في السر والعلانية ، واللّه بذلك عليهم شهيد ، فإن فعلوا فرسول اللّه في حلّ من سفك دمائهم وسبي ذراريهم ونسائهم وأخذ أموالهم » ، إلاّ أنّالمنافقين برئاسة « عبد اللّه بن أُبيّ » اتّصلوا ببني النضير يعرضون عليهم المساعدة والتعاون ، بعدم تنفيذ أوامر الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) بالخروج من المدينة ، ممّا دفعهم إلى اللجوء إلى حصونهم ، والاِعداد للحرب ومقاومة الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) حتى لا يسيطر المسلمون على ديارهم وبساتينهم وممتلكاتهم ، وأرسل « حيي بن أخطب » إلى الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : إنّا لا نبرح من دارنا وأموالنا فاصنع ما أنت صانع ، فما كان من النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) إلاّأن خرج إليهم ، بعد أن استخلف على المدينة « ابن أُمّ مكتوم » وسار لمحاصرة بني النضير ، فاستمر الحصار ست ليال على رواية ابن هشام ، أو 15 يوماً حسب الروايات الاَُخرى ، وأمر الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) بقطع النخيل المحيطة بحصونهم ، وإلقاء النار عليهم ، حتى يكرهوا البقاء في تلك الديار بعد إعدام بساتينهم ، فدفعهم ذلك فعلياً إلى الرضوخ لمطالب الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) بالجلاء عن موطنهم ، على أن تحمل إبلهم ما لهم من مال دون أن يأخذوا السلاح والدروع ، فرضى النبي ص بذلك ، فخرج جماعة منهم إلى خيبر وأُخرى إلى الشام ، أمّا تقسيم أموالهم فحيث إنّ المسلمين غنموها دون قتال ـ و هو الفيء ـ فانّه يعود أمره إلى الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) خاصة يضعه حيث يشاء ويصرفه فيما يرى من مصالح الاِسلام ، وقد فعل النبي ذلك وقسم المزارع والبساتين على المهاجرين فقط دون الاَنصار ، وذلك لما حرموا من ممتلكاتهم وثرواتهم في مكة ، وقد أيده في ذلك : سعد بن عبادة و سعد بن معاذ (2) ، وقد جرت هذه الحادثة في ربيع الاَوّل 4 هـ وأوردتها سورة الحشر في القرآن الكريم .

---------------------------
(1) طبقات ابن سعد : 2 ـ 57 ، إمتاع الاَسماع : 1 ـ 178 .
(2) إمتاع الاَسماع : 1 ـ 182 .

السيرة المحمدية _ 94 _

3 ـ غزوة ذات الرقاع
  جاء الخبر إلى النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) أنّ قبائل بني محارب و بني ثعلبة من قبائل غطفان ، أعدتا للهجوم على المدينة ، فسار إليهم النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وأدّبهم ، دون أن يحدث قتال ، وأصاب بعض الغنائم ، كما خرج النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) في قوّة بلغت 1500 فرد من المحاربين قاصداً بدراً لملاقاة أبي سفيان ، الذي كان قد قرر في أُحد أن يلتقي بهم في هذه السنة ، إلاّ أنّهم تخوفوا من مواجهة المسلمين ، وذلك من أظهر الصور لحكمة النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) في إجراءاته العسكرية ، فقد أظهر قوته وعزيمته أمامهم ، ممّا كان له أثره القويّ في نفوس الاَعداء .
4 ـ تحريم الخمر
   وقد حرّمت في أربع مراحل تدريجية ضمن آيات أربع أظهرت الاستياء من الخمر ، فبدأت من مرحلة مخففة حتى انتهت إلى مرحلة الاِعلان عن التحريم القطعي ، فالآيات الاَربع منعت من الخمر ، بعد أن وصفتها بالرجس وإنّها نظير الميسر وانّها عمل شيطاني ، مناقض للفلاح ومسبب للعداوة والبغضاء ، وبذا فقد استطاع النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) بهذه الآيات أن يطهر مجتمعه من أدران هذه العادة الشريرة التي انتشرت في البيئة بقوة ، وكانت آفة متفشية ومتجذرة في المجتمع ، بحيث إنّ معالجتها كانت تحتاج إلى وقت طويل وأُسلوب مدروس ، وقد تحتم أن يعالَج هذا الوباء الاجتماعي من خلال إعداد الناس لمرحلة التحريم النهائي والقطعي تماماً ، كما يفعل الطبيب للمرضى الذين يطول بهم المرض ولذا فإنّها حرمت في أربع مراحل ، وفي هذه السنة ولد السبط الاَصغر للنبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) أي الاِمام الحسين ( عليه السلام ) في 3 شعبان ، كما توفيت السيدة فاطمة بنت أسد أُمّ الاِمام علي ( عليه السلام ) . وأمر الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) زيد بن حارثة أن يتعلم السريانية من اليهود (1) .


1 ـ أحداث السنة الخامسة من الهجرة
ـ غزوة دومة الجندل ـ غزوة الاَحزاب .
ـ غزوة بني قريظة ـ زواج الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) بزينب بنت جحش .

2 ـ أحداث السنة السادسة من الهجرة
ـ اليهود ـ قبيلة بني لحيان .
ـ بنو غطفان ـ غزوة بني المصطلق .
ـ قصة الاِفك ـ الحديبية .

---------------------------
(1) إمتاع السماع : 1 ـ 187 ، تاريخ الخميس : 1 ـ 464 .

السيرة المحمدية _ 95 _

أحداث السنة الخامسة من الهجرة

1 ـ غزوة دومة الجندل (1)
   خرج الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) في ألف من المسلمين إليها لما ذكر عن أهلها من أنّهم يظلمون الناس والتجار وينوون الاِغارة على المدينة ، إلاّ أنّ الاَهالي تركوها وهربوا منها عند اقتراب المسلمين منها ، فأقام بها النبيأيّاماً ثمّ عاد إلى المدينة في 20 من شهر ربيع الثاني ، دون حدوث قتال .
2 ـ غزوة الاَحزاب
  بعد أن أجلى الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) يهود بني النضير عن المدينة ، قرر زعماوَهم إجراء أعمال عدائية ضدّ المسلمين وذلك بالتآمر عليهم ، فقدموا مكّة ليحرضوا قريشاً على حرب المسلمين بقولهم : إنّا سنكون معكم عليه حتى نستأصله ، فلقد جئنا لنحالفكم على عداوة محمّد وقتاله ، إنّ محمّداً قد وتركم ووترنا وأجلانا عن المدينة من ديارنا وأموالنا ، كما أنّهم استخدموا اسلوبهم الملتوي حتى يوَثروا في قريش ويجذبونهم لجانبهم ، فأقرّوا لهم بأنّ ما عليه المشركون خيرٌ من دين محمّد، بالرغم من أنّهم موحدون وقريش كفّار يعبدون الاَصنام ، فكانت هذه وصمة عار أُضيفت إلى سجلّهم وتاريخهم المشوَوم ، وبذا فإنّهم شكّلوا اتحاداً ـ العرب واليهود ـ كما شاركتهم أحزاب أُخرى ، من بعض القبائل العربية في شبه الجزيرة العربية ، وهي غطفان في نجد ، وبنو سليم وبنو أسد وغيرها ، ولذا سميت بمعركة الاَحزاب ، أو معركة الخندق ، لما قام به المسلمون من حفر خندق حول المدينة للدفاع عنها ، وحينما جاء أحد رجال استخبارات النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) بأخبار خروج تلك القوة الكبيرة ، شاور ( صلى الله عليه وآله وسلم ) المسلمين في أساليب الحرب والدفاع ، فافترح سلمان الفارسي حفر خندق حول المدينة ، حتى يمكن تحديد الموقع الذي سيحاربون فيه العدو ، فشرعوا في حفره واشترك النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) بنفسه في أعمال الحفر مشاركاً للمسلمين همومهم وآلامهم ، كما كان له دوره الموَثر في تنشيط الآخرين ودفعهم للعمل السريع والاجتهاد فيه والتدقيق ، ووصل طول الخندق نحو خمسة كيلومترات ونصف الكيلومتر( 5 و 5 كم ) ، والعرض بمقدار خمسة أمتار ، والعمق أيضاً خمسة أمتار ، بحيث لا يتمكن الفارس الماهر من عبوره بالقفز عليه ، وانتهي من العمل فيه في ستة أيّام ، وفي هذه الفترة قال الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) في شأن سلمان : « سلمان منّا أهل البيت » (2) .

---------------------------
(1) منطقة بين دمشق والمدينة ، طبقات ابن سعد : 2 ـ 44 .
(2) المغازي : 2 ـ 446 ـ الكامل في التاريخ : 2 ـ 122 .

السيرة المحمدية _ 96 _

  وقام العدو بحصار المدينة شهراً ، وبلغ عدد جيش المشركين ، عشرة آلاف فرد ، كان منهم أربعة آلاف من قريش ، و700 من بني سليم ، و1000 من قبيلة فزارة ، و 3500 مقاتل من بقية القبائل ، أمّا عدد المسلمين فلم يتجاوز 3 آلاف نزلوا في سفح جبل سلع في موضع مرتفع ومشرف على الخندق ، يمكن منه مراقبة تحركات العدو ونشاطاته ، ولما كان الموسم موسم شتاء ، والطعام قليلاً ، وطالت فترة الحصار ـ شهر ـ فإنّ ذلك دفع المشركين إلى الاتّصال بيهود بني قريظة الذين كانوا يعيشون داخل المدينة لمساندتهم ، بالرغم من أنّهم احترموا الميثاق الذي عقدوه مع الرسولإ الاّ أنّ « حيي بن أخطب » تمكن من إقناعهم بنقض ذلك العقد للوقوف مع الاَحزاب في حرب المسلمين ، وقد تأكد رسولا النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : سعد بن عبادة وسعد بن معاذ رئيسا الاَوس والخزرج من موَامرة بني قريظة ونقضهم للعهد ، عندما توجها إلى حصونهم ، فأخبرا النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) بذلك ، وكانت خطتهم التآمرية تقضى بأن يقوم بنو قريظة بالاِغارة على أهل المدينة في الداخل ، ويرعبوا أهلها ليخفف ذلك من الضغط على الكفّار في موقع المعركة عند الخندق ، إلاّ أنّ النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) أرسل 500 من رجاله بقيادة « زيد بن حارثة و مسلمة بن أسلم » لحراسة المدينة من الاَعداء ، وأمّا في ميدان المعركة ، فقد تمكن خمسة من شجعان المشركين من عبور الخندق وعلى رأسهم « عمرو بن عبد ود العامري » فطلبوا المبارزة مع أبطال المسلمين ، فقال الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : « أيّكم يبرز إلى عمرو أضمن له الجنة ؟ » ، فقام الاِمام علي ( عليه السلام ) قائلاً : « أنا له يا رسول اللّه » ، والقوم ناكسوا روَوسهم ، وكأنّ على روَوسهم الطير ، وذلك لمكان عمرو وشجاعته المعروفة (1) ، وبذا فقد برز الاِمام علي ( عليه السلام ) وقال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) هنا كلمته الخالدة : « بَرَزَ الاِيمانُ كُلّه إلى الشرك كلّه » ، وتمكّن الاِمام علي ( عليه السلام ) من التخلص من عمرو والقضاء عليه حين ضربه ضربة قوية على ساقيه فقطعهما ، فكبّر الاِمام علي ( عليه السلام ) يعلن انتصاره ومقتل عمرو ، ممّا كان له أثره في العدو ، فألقى الرعب في نفوسهم ، فهربوا إلى معسكرهم تاركين الخندق ، وسقط أحدهم بفرسه في الخندق وهو : « نوفل بن عبد اللّه » فرماه الحرس بالحجارة ، ممّا جعله يطلب مقاتلة أحد المسلمين ، فنزل إليه الاِمام علي « عليه السلام » فقاتله وقضى عليه في الخندق (2) ، ونظراً لضربة الاِمام علي ( عليه السلام ) الموَثرة ذات النتيجة والفعالية ، فقد قال عنها النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : « ضربة عليّ يوم الخندق أفضل من عبادة الثقلين » إذ لم يبق بيت من بيوت المشركين إلا ّودخله ذل بقتل عمرو بن عبد ود ، على عكس ما حدث لبيوت المسلمين ، فقد دخله بذلك العزّ والافتخار ، فالضربة كانت في الواقع هزيمة للمشركين والاَحزاب ونهاية لقوتهم ، بالاِضافة إلى الظروف السائدة ، من قلّة الطعام والعلف والبرد .

---------------------------
(1) المغازي : 2 ـ 470 .
(2) بحار الاَنوار : 20 ـ 256 ـ تاريخ الطبري : 2 ـ 240 .

السيرة المحمدية _ 97 _

عوامل تفرّق الاَحزاب
1 ـ اختلاف قبائل غطفان و فزارة مع قريش وتخاذلهم في الهجوم ، وخاصة عندما اتصل بهم النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) للاتّفاق على عودتهم وتراجعهم في مقابل مساعدتهم مادياً .
2 ـ مصرع فارسهم الاَكبر عمرو بن عبدود الذي علّقوا عليه الآمال في الانتصار .
3 ـ دور « نعيم بن مسعود » في تفرقة أعداء الاِسلام و إيقاع الخلاف بينهم ، وكان قد أسلم حديثاً ، فقد تمكن بدهائه من التفرقة بين يهود بني قريظة وجيش الاَحزاب ، حيث أقنع اليهود بأن يأخذوا رهائن من العرب ليكونوا ضماناً في مقابل تعاون اليهود مع المشركين قائلين : « حتى نناجز محمداً ، فإنّنا نخشى إن ضرستكم الحرب واشتد عليكم القتال أن تسرعوا إلى بلادكم وتتركونا ، والرجل في بلدنا ولا طاقة لنا بذلك منه » وفي نفس الوقت طلب من قريش عدم إعطاء اليهود أحداً من رجالهم إذا طلبوا منهم ذلك ، فإنّهم سيرسلونهم إلى النبي ليقتلهم ، وهكذا فقد جرى الاَمر كما رسمه « ابن مسعود » إذ أنّ الاَطراف المتحالفة تأكدت من النوايا السيئة فانسحبت بنو قريظة ، وتفرق الشمل ورجع الكفّار خائبين .
4 ـ عامل إلهي ، حين بعث اللّه عليهم فجأة ، العاصفة والريح واشتد البرد ، فقلعت خيامهم وأطفأت أضواءهم ، فصاح بهم أبو سفيان : ارتحلوا فإنّي مرتحل ، وقد سجل القرآن الكريم وقائع هذه المعركة وأشار إلى أبرز النقاط فيها ضمن 17 آية من سورة الاَحزاب 9 ـ 25 ، وقسمت الآيات الموضوع إلى ثلاثة أقسام :
1 ـ آيات ترسم الوضع العام للمسلمين .
2 ـ آيات تتعرض لموقف المنافقين .
3 ـ آيات تبين موقف الموَمنين الصادقين .
  فهي توَكد دور عناية اللّه بالموَمنين وحمايتهم من أعدائهم الكافرين ، كما أنّها تشرح الحالة العسكرية للمسلمين ، من حصار الاَعداء لهم من كلّجهة ، ممّا ألقى الرعب في قلوب اليهود من أهل المدينة ، وما أظهره المنافقون من إشاعات وتشكيكات بالوضع ، لاِلقاء روح الهزيمة بين الاَفراد ، وبالتالي فهذه الواقعة التي انتهت في 24 من شهر ذي القعدة ، كانت امتحاناً اختباراً دقيقاً للنفوس والقلوب ، ميّزت الصادق عن المنافق ، والموفون بالعهد وعن الناقضين له ، كما كشفت عن أنّ وعود اللّه صادقة ومحقّقة متى توفرت شرائطها ومقدماتها ، كما أنّهاأشارت إلى دور الطابور الخامس في إضعاف الجبهات ، وأساليب مواجهتها .

3 ـ غزوة بني قريظة
   قرر النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) معالجة قضية بني قريظة بعد المعركة دون انتظار ، وذلك بأمر من اللّه تعالى ، فسار مع المسلمين ليحاصر حصونهم التي تحصنوا بها وأغلقوا الاَبواب ، ولما كان اليوم ـ السبت ـ فإنّهم لم يبتغوا القتال فيه أو الحرب ، ثمّ إنّ وفداً منهم طلب من النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) أن يتركهم يخرجوا من المدينة بأموالهم مثلما فعل مع بني النضير ، أو يتركوا سلاحهم وأموالهم ، فرفض النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) مقترحاتهم ومطالبهم حتى لا يفعلوا فعلَ بني النضير في تحريك العرب المشركين ضد المسلمين ، ولذا فقد سلّموا أنفسهم للمسلمين دون أيَّة شروط ، فدخل المسلمون الحصن وجردوهم من سلاحهم وحبسوهم حتى يتقرر مصيرُهم ، أو يحكم فيهم سعد بن معاذ الاَوسي حليفهم .

السيرة المحمدية _ 98 _

   وفي المجلس الذي أعدّ لذلك ، حكم سعد عليهم بقتل الرجال ، وتقسيم أموالهم وسبي ذراريهم ونسائهم ، رغم الاِلحاح عليه بحسن الحكم في حلفائه بني قريظة (1) ، وقد استند في حكمه إلى :
أ : أنّ يهود بني قريظة كانوا قد تعهدوا للنبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) بأنّهم لو تآمروا ضدّ المسلمين وناصروا أعداءهم أو أثاروا الفتن والقلاقل ، فإنّ للمسلمين الحقّ في قتلهم ومصادرة أموالهم وسبي نسائهم .
ب : وأنّ حكمه جاء بمثل ما في شريعتهم .
ج : ما قد رآه بعينه ممّا صدر قبل ذلك من قبائل اليهود حين عفا عنهم النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ولكنّهم نقضوا عهودهم معه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وأثاروا الاَجانب عليهم واشتركوا مع المشركين ضدّهم ، الاَمر الذي جعله يتخوف من أن يعرّض هوَلاء مركز الاِسلام للخطر من خلال موَامراتهم .
  وخاصة أنَّهم كانوا قد أخلّوا بالاَمن فترة من الزمن في المدينة ، ولولا الحراسة المكثفة التي عينها الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) لفعلوا أفظع الاَُمور والاَعمال ، وقد قسمت الغنائم بين المسلمين بعد إخراج الخمس منها ، وأُعطي للفارس سهمان ، وللراجل سهم واحد ، وسلم الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) أموال الخمس لزيد بن حارثة ، ليشتري بها السلاح والعتاد والخيل من نجد (2) ، وقد استشهد سعد بن معاذ الذي كان قد جرح في معركة الخندق ، بعد أحداث بني قريظة ، وانتهت هذه المشكلة في 19 من شهر ذي الحجّة .

4 ـ زواج الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) بزينب بنت جحش
  كان « زيد بن حارثة » قد سرقه قطاع الطرق وباعوه في سوق عكاظ ، فاشتراه حكيم بن حزام وأهداه لعمته السيدة خديجة بنت خويلد ( عليها السلام ) التي أهدته بدورها إلى النبيبعد زواجهما ، وقد دفعت أخلاق النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وسيرته الحسنة إلى أن يحبه زيد حباً شديداً إلى آخر عمره ، حتى أنّه فضل العيش معه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) على الرجوع إلى أهله ، ولما قرر النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) بأمر من اللّه تعالى أن يحطّم التقاليد الجاهلية في المجتمع العربي ، ليعيشوا جميعاً تحت لواء الاِنسانية والتقوى إخوة متحابين ، فقد زوّج زيداً من ابنة عمته زينب بنت جحش ، حفيدة عبد المطلب ، مع ما بينهما من الاختلاف في مستوى الانتماء القبلي والمكانة الاجتماعية إلاّ أنّ زواجهما لم يدم طويلاً فافترقا بعد الطلاق ، ثمّ تزوجها النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وذلك للتخلّص من تقليد جاهلي آخر مترسب في المجتمع ، حيث كان يعتبر الابن المتبنّى كالابن الحقيقي ، يعامله مثله تماماً في الحقوق والواجبات ، ولذا فقد كلف اللّه تعالى نبيه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) بأن يقضي على هذا التقليد الجاهلي والسنّة الخاطئة بإجراء عملي ظاهر للعيان ، وهو التزوّج من زينب مطلّقة متبنّاه زيد : ( فَلَمّا قَضى زَيدٌ مِنْها وَطَراً زَوَّجْناكَها لِكَي لا يَكُونَ عَلى الْمُوَْمِنينَ حَرَجٌ في أَزواجِ أَدْعيائِهِمْ إِذا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَراً وَكانَ أَمْرُ اللّهِ مَفْعُولاً ) (3) .

---------------------------
(1) السيرة النبوية : 2 ـ 240 ، المغازي : 2 ـ 510 ، زاد المعاد : 2 ـ 73 .
(2) السيرة النبوية : 2 ـ 241 ، تاريخ الطبري : 2 ـ 250 ، زاد المعاد : 2 ـ 74 .
(3) . الاَحزاب : 37 .

السيرة المحمدية _ 99 _

أحداث السنة السادسة من الهجرة

1 ـ اليهود
  كان لابدّ من القضاء على خطر اليهود ، إذا أراد المسلمون حياة الاستقرار والاَمن ، حتى لا تتكرر قضية الاَحزاب مرّة أُخرى ، فأرسل النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) مجموعة من شجعان الخزرج لتصفية هذا العنصر الحاقد ، وكان على رأسهم : سلام بن أبي الحقيق ، الذي عاش في خيبر ، فخرجوا حتى وصلوا خيبر فدخلوها ليلاً ، فدخلوا على المفسد وقتلوه ، إذ طالما أزعج المسلمين بفتنه وموَامراته ، وعادوا إلى المدينة سالمين .

2 ـ قبيلة بني لحيان
   قرر النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) في هذه السنة تخويف هذه القبيلة ، التي اعتدت من قبل على عدد من دعاة المسلمين غدراً ودون رحمة ، فقام بسلسلة من المناورات العسكرية واستعراض لقواته القتالية ، ليرهب أعداء اللّه الآخرين أيضاً و قريش خاصة فيذعرهم حيث كان الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وأصحابه قد نزلوا عسفان على مقربة من مكة ، وكان النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) من رأيه ، أنّه : « لو هبطنا عسفان لرأى أهل مكّة أنّا قد جئنا مكة » ، كما ذكر جابر بن عبد اللّه الاَنصاري أنّ النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) قال عند رجوعه إلى المدينة : « أعوذ باللّه من وعثاء السفر ، وكآبة المنقلب ، وسوء المنظر في الاَهل والمال » (1) .

3 ـ بنو غطفان
   في 3 من شهر ربيع الاَوّل ، اعتدى جماعة من بني غطفان على إبل لرسول اللّه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) في منطقة الغابة ـ وهي قريبة من المدينة من ناحية الشام ـ و قتلوا رجلاً وأخذوا امرأة ، فطاردهم الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وقاتلهم في ذي قرد ، واستعاد منهم المرأة وعدداً من الاِبل .

4 ـ غزوة بني المصطلق
   وهم من قبائل خزاعة المتحالفة مع قريش ، قرر زعيمها « الحارث بن أبي ضرار » أن يغزو المدينة ، فأعد الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) عدّته للقضاء عليهم ، فخرج عندما علم من رجال مخابراته بنواياهم ، فلقيهم عند ماء « المريُسيع » وقاتلهم فتفرقوا ، وغنم المسلمون منهم كثيراً كما سبوا عدداً كبيراً من نسائهم ، وبعد المعركة ، حدث أن تقاتل اثنان من المهاجرين والاَنصار على الماء ، حتى كادت أن تقع حرب بين الطرفين ، لولا حكمة الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) الذي تمكن من إخماد الفتنة في مهدها ، وتجنيب المسلمين أخطارها .

---------------------------
(1) تاريخ الطبري : 2 ـ 254 ، المغازي 2 ـ 535 ـ إمتاع الاَسماع : 1 ـ 259 .