السيرة المحمدية
الأستاذ المحقق الشيخ جعفر السبحاني
اعداد واقتباس : تعريب
الدكتور يوسف جعفر سعادة
الشيخ جعفر هادي


مقدمة المؤلف
  لو أُتيح لنا أن نجمعها في مكان واحد ، لشكّلت مكتبةً ضخمة وعظيمة ، ويمكن القول بأنّه ليس ثمّة من عظيم استقطب اهتمام التاريخ والموَرّخين والمفكّرين ، كما أنّه ليس ثمّة شخصيةً عالمية كتب حولَها الموَلّفون والباحثون ، هذا القدرَ الهائلَ من الموَلّفات والمصنّفات والرسائل والكتب ، مثل ما حصل للرسول الكريم ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، إلاّ أنّ أكثر هذه الكتب والموَلّفات تعاني من أحد إشكالين : إمّا أنّه جاء على نَسَق التسجيل المجرّد للحوادث ، أو النصوص التاريخية دون أن يقوم موَلّفُه بتحليلها ودراسة خلفيّاتها ونتائجها وإصدار الحكم اللازم بشأنها ، أو عَمَدَ إلى طائفة من الآراء الحدسية والاجتهادات الباطلة العارية عن الدليل ، وإثباتها في موَلّفه على أنّها الحكمُ الحقّ ، وخلط هذه الاَحكام مع الاَحداث ، ليخرج كتابه إلى الجمهور المتعطّش إلى تاريخ الاِسلام ، على أنّه التاريخ المحقَّق ، ويمكن الردُّ على هوَلاء ، بأنّ الهدف من التاريخ ليس مجرّد تسجيل للحوادث وضبطها وتدوينها ، بل هو تناول أحداثه من المصادر الصحيحة الموثوق بها ، وإبراز عللها ، وأسبابها وثمارها ونتائجها ، وهو بهذا الشكل يصبح أعظم كنز تركه الاَقدمون لنا ، لقد تجنّب أكثر كُتّاب السيرة النبوية عن إظهار الرأي في الحوادث ، أو القيام بأيّ تحليل للوقائع ، بحجّة الحفاظ على أُصول الحوادث ونصوصها ، بل إنّ أكثر الحوادث التاريخية في العصر الاِسلامي أُدرجت في الكتب من دون دراسة موضوعية وتقييم دقيق أمّا هذا الكتاب فإنّه يتميّز بميزتين هامتين : أوّلها : إنّنا عمدنا فيه إلى تناول الحوادث والوقائع المهمة ، ذات الفائدة الكبرى والعبر ، بالبحث والتحليل مع إبعاد الاَحداث الجزئية الصغرى ،   وقد اتّخذنا تلك الاَحداث من المصادر الاَصلية و الاَوّلية التي دوّنت في القرون الاِسلامية المشرقة الاَُولى .

السيرة المحمدية _ 2 _

  وثانيتهما : إنّنا أشرنا خلال الدراسة ، إلى الاعتراضات والاِشكالات ، وإلى مواطن الاِساءة التي قدّمها المستشرقون المغرضون ، وتناولناها بالاِجابة على كلّ تلك الانتقادات غير الصحيحة بأجوبة مقنعة وقاطعة ، ولهذا بادرنا إلى ذكر رأى الموَلّفين الشيعة في المسائل التي اختلف عليها موَرّخو السنّة والشيعة ، مع ذكر المصادر والشواهد التاريخية الواضحة المبرهنة ، وإنّنا إذ نقدّم هذه الدراسة التحليلية لشخصية وحياة خاتم الاَنبياء محمّد ( صلى الله عليه وآله وسلم ) إلى القرّاء الكرام ، نأمل أن يهتم بها عامّة ُالمسلمين وخاصةً المثقفون والشباب منهم ، ليتناولوا هذه السيرة العطرة بالمطالعة المتأنيَّة والتأمّل والتدبّر ، حتى يمكنهم أن يرسموا خريطة حياتهم وحياة مجتمعهم في ضوء ما يستلهمونه ويتعلَّمونه من سيرة وحياة رسول الاِسلام ( صلى الله عليه وآله وسلم ) في هذه الحقبة البالغة الخطورة ، واللّه وليُّ التوفيق ، جعفر السبحاني ، قم المقدّسة ـ موَسّسة الاِمام الصادق ( عليه السلام ) ، الاَربعاء 27 محرم 1420 هـ 12 | 5 | 1999 م .

مقدمة الملخّص
  كان لي الشرف العظيم والافتخار أن أتقابل مع الاَُستاذ المحقّق و العلاّمة الشيخ جعفر السبحاني في مكتبه بقم المقدسة ، حينما جمعتني به الظروفُ والصّدفُالحسنة الطيبة والمباركة ، أدام اللّه ظلّه وأطال في عمره الشريف ، فقد كنتُ في قم المقدّسة بهدف تقييم كتابي : « أهل البيت « عليهم السلام » وآثارهم في المجتمع الاِنساني » الّذي كان يستدعي أن أعرضه على عدد من علمائنا الاَفاضل ـ أطال اللّه في أعمارهم وجعلهم أنواراً في الاَرض ـ ليقدّموا ما لديهم من مقترحات حول ما جاء فيه من أفكار وآراء قد لا تتناسب مع جزئيات الدين أو المذهب أو المعتقدات الخاصة بالمسلمين عامة و الشيعة خاصة .

السيرة المحمدية _ 3 _

   وكان الشيخُ الفاضل ممن أُوصيت بالاتّصال به للمساعدة في هذا الجانب ، فتشرَّفت بلقائه وتقبّل ما عرضت عليه ، فله الشكرُ والتقديرُ والاحترام ، إلاّ أنّه في نفس الوقت تقدّم هو الآخر بعرضٍ مماثل ، وهو أن أقوم بتلخيص كتابه الكبير : « سيد المرسلين » الذي يتناول فيه سيرة الرسول الكريم محمّد « صلى الله عليه وآله وسلم » ، وذلك ليسهل تداوله في الاَيدي ، فيطّلع عليه شبابنا المثقّف في هذا الزمن الذي امتنع فيه عن قراءة الكتب المطوّلة ذات الاَجزاء المتعدّدة ، بل بالكاد يطلع على أقلّ الكتب صفحات وموضوعات وأفكار ، وكان عرضه في الحقيقة شرفاً كبيراً لي ، وتقديراً منه لي أيضاً ، في الوقت الذي اندهشت لعرضه ، إذ انّني في كتابي « أهل البيت » تناولت ما يتعلّق من أحداث عن الاَئمّة الاثني عشر « عليهم السلام » وأولادهم وأحفادهم ، دون التعرّض للنبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) والسيدة فاطمة الزهراء ( عليها السلام ) إلاّ نادراً ، فأصبح هذا الكتاب وكأنّه يكمل ، ولا شكّ ما جاء من وقائع وأحداث في كتابي أهل البيت « عليهم السلام » ، وقد نهج الكاتب العظيم في تأليفه ، بأن قسمّ كتابه إلى جزءين : تناول في الاَوّل منهما أحداث الاِسلام والمسلمين في مكة إلى زمن الهجرة إلى يثرب ، وفي الجزء الثاني ، قدم شرحاً مفصلاً لاَحداث المدينة المنورة سنةً بعد سنة ، إلاّ أنّه لم يتخذ منهج التنظيم ، شكلَ الاَبواب والفصول ، بل نهج في تنظيمه بالاَعداد والاَرقام ، ولما كنت أميل نحو تنظيم الكتب في موَلفاتي إلى الاَقسام والاَبواب والفصول ، فإنّي قمت بتقسيمه أوّلاً إلى قسمين : اختص الاَوّل بأحداث مكّة المكرّمة ، والثاني : ارتبط بوقائع ومجريات الاَُمور في المدينة المنورة ، ثمّ إنّ كلّ قسم اتّخذ عدة فصول بحسب الاَحداث والوقائع وأهميتها ، كما أنّي أضفت عدّة فقرات كانت بحاجة إلى تفسير بعض الاَحداث أو المواقع أو الشخصيات ، ثمّ أعددت قائمة منظمة للمراجع والمصادر التي استفاد منها الموَلّف كما أعددت فصلاً خاصاً تناولت فيه ما جاء من قصص وروايات في كتاب العلاّمة الشيخ تثري المعلومات المقدمة ، وأرجو من اللّه العلي القدير أن يكون قد وفّقني في عملي المتواضع هذا ، وأن يتقبّله الرسول الكريم ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، وأهل بيته الكرام ، فيكون شفيعاً لي ولاَهلي يوم القيامة ، وأن يُرضِيَ به أُستاذنا وشيخنا المحقّق العلاّمة جعفر السبحاني ، أطال اللّه عمره بالصحّة الموفورة ، ووفّقه لما فيه الخير والمصلحة للاِسلام والمسلمين ، د | يوسف جعفر سعادة الكويت 21 ربيع الاَوّل 1420 هـ 4 | 7 ( يوليو ) | 1999 م .

السيرة المحمدية _ 4 _


  وفيه فصول :
1 ـ العرب قبل الاِسلام .
2 ـ الرسول الاَكرم محمّد ( صلى الله عليه وآله وسلم ) .
3 ـ البعثة النبوية .
4 ـ مواجهة المسلمين للكفّار


  الاَحوال الداخلية في شبه الجزيرة العربية ، الاَحوال السياسية في المنطقة المجاورة ، التعريف بأسلاف الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم )

1 ـ الاَحوال في جزيرة العرب
   لم تكن القبائل العربية الجاهلية المتناحرة ، تعيش أيّة حضارة ، ولم تكن تمتلك أيّة تعاليم وقوانين وأنظمة وآداب قبل مجيء الاِسلام ، فقد كانت محرومةً من جميع المقوّمات الاجتماعية التي توجب التقدّمَ والرقي ، ولذا فلم يكن من المتوقع أن تصل إلى تلك الذرى الرفيعة من المجد والعظمة ، ولا أن تنتقل من نمط الحياة القبلية الضيقة إلى عالم الاِنسانية الواسع و أُفق الحضارة الرحيب ، بمثل هذه السرعة التي وصلت إليه ، والزمن القصير الذي انتقلت فيه .
  ويمكننا أن نقف على وصف دقيق لحالة العرب قبل الاِسلام ، من خلال مصدرين إسلاميين أساسيّين ، وهما :
1 ـ القرآن الكريم ، وهو خير مرآة تعكس أحوال العرب وأوضاعهم بالدقّة والشمولية .
2 ـ ما صدر عن الاِمام علي ( عليه السلام ) في نهج البلاغة في وصف الحالة قبل الاِسلام .
  فقد ورد فيهما تصريحاتٌ ونصوصٌ صريحة تكشف عمّا كان عليه العرب في الجاهلية من سوء أحوال ، وأوضاع ، وأخلاق في جميع الاَبعاد والاَصعدة .

السيرة المحمدية _ 5 _

  وبالرغم من أنّ العرب من ولد عدنان قد اتّصفوا بصفات حسنة ، إذ كانوا يكرمون الضيف ، وقلّما يخونون الاَمانة ، ويضحّون في سبيل المعتقد ، ويتحلّون بالصراحة الكاملة ، إضافة إلى براعتهم في فن لشعر والخطابة ، وكونهم يضربُ بهم المثل في الشجاعة والجرأة ، إلاّ أنّهم إلى جانب كذلك ، كانوا يعانون من مفاسد أخلاقية تطغى على ما لديهم من كمال وفضيلة ، فالمجتمع العربي وخاصة منطقة الحجاز لم تقم فيها حضارة ، أو أنّه لم يبق أي أثر من هذه الحضارات فيها إلى ما قبل بزوغ الاِسلام ، وقد شاعت فيه أخلاق وعادات كان أبرزها :
ـ الشرك في العبادة ، حيث عبدوا الاَصنام والاَوثان والنجوم .
ـ إنكار المعاد ، أي عودة الاِنسان إلى الحياة في العالم الآخر .
ـ هيمنة الخرافات ، التي كانت تكبّل عقول الناس في المجتمع ، حيث تركزت فيها ، فكانت سبباً قوياً في تخلّفهم ، وسداً منيعاً في طريق تقدّم الدعوة الاِسلامية ، فيما بعد ، ممّا جعل النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) يعمل بكلّ طاقاته وجهده في محو وإزالة تلك الآثار الجاهلية ، والاَفكار والمعتقدات الخرافية .
ـ الفساد الاَخلاقي ، مثل انتشار القمار ـ الميسر ـ والخمر و الزنا واللواط والبغاء .
ـ وأد البنات ، وهي العادة القبيحة التي اعتبرها القرآن الكريم جريمة نكراء لا تمر في الآخرة بدون حساب شديد ، ولذا فإنّ المرأة كانت محرومة من جميع الحقوق الاجتماعية حتى حقّ الاِرث ، كما عدّها المثقفون من الحيوانات تباع وتشترى ، وجزء من أثاث البيت .

السيرة المحمدية _ 6 _

  وكان الرجل يتزوج بزوجة أبيه متى طلقها أو بعد وفاته ، و ربما تناوب الاَبناء على امرأة أبيهم واحد بعد واحد ، كما كان الرجل يرث امرأة من قرابته إذا مات عنها ، مثلما يرث أمتعة المنزل ، إضافة إلى أنّهم كانوا يورثون البنين دون البنات .
ـ تناول الدم والميتة والخنزير ، وأكل الحيوانات التي يقتلونها بقسوة .
ـ النسيء ، وهو تأخير الاَشهر الحرم ، كان يقوم به سدنة الكعبة أو روَساء العرب ، عندما كانوا يقررون استمرار الحرب و الغارات في الاَشهر الحُرم .
ـ الربا ، الذي شكّل العمود الفقرى في اقتصادهم .
ـ النهب والسلب ، فقد كان انتهاب ما في أيدي الناس ، والاِغارة والقتال ، من العادات المستحكمة عندهم ، حتى إنّ بعض حروبهم كانت تمتدّ إلى مائة سنة أو أكثر ، حيث كانت الاَجيال تتوارث تلك الحروب ، وقد بلغ ولعهم بالقتال وسفك الدماء أن جعلوها من فاخر الرجال .
ـ أمّا عن الجانب العلمي والثقافي ، فإنّ أهل الحجاز وُصِفوا بالاَُمّيين ، فلم يتجاوز عددُ الّذين عرفوا القراءة والكتابة في قريش ما قبل الاِسلام عن (17) شخصاً في مكة ، و (11) نفراً في المدينة المنورة .
  ومن ذلك يمكن القول أنّ تاريخ العرب قبل الاِسلام وبعده ، تاريخان على طرَفي نقيض : الاَوّل جاهلي ووثني وإجراميّ ، والثاني تاريخ علم ووحدانية وإنسانية وإيمان ، ومن التخلّف والانحطاط في الاَوّل ، يمكن معرفة مدى تأثير الاِسلام وعظمة التعاليم الاِسلامية في جميع المجالات والحقول المعيشية .

السيرة المحمدية _ 7_

  فكيف تحقق ذلك التطور العظيم لهوَلاء العرب الجاهليّين في الجزيرة العربية ، في حين لم يستطع عربُ اليمن الذين امتلكوا الشيء الكثير من الثقافة والحضارة ، وعاشوا حياة حضارية متطورة ، أن يصلوا إلى هذه النهضة الشاملة ، أو تقيم مثل هذه الحضارة العريضة ، أو عرب الغساسنة الذين جاوروا بلاد الشام المتحضّرة ، والذين عاشوا تحت ظلّ حضارة الروم ، أن يصلوا إلى تلك الدرجة من الثقافة ، أو عرب الحيرة الذين عاشوا تحت ظل إمبراطورية الفرس أن ينالوا مثل ذلك الرقيّ والتقدّم ، في الوقت الذي تمكّن فيه عرب الحجاز من تحقيق تلك النهضة الجبارة ، وورثوا الحضارة الاِسلامية العظمى ، في حين لم يكن لهم عهدٌ بأيّ تاريخ حضاريّ مشرق ، بل كانوا يرزحون تحت أغلال الاَوهام والخرافات والاَساطير والعادات السيّئة ، وخيرُ من يوضّح تلك الاَوضاع والاَحوال ، هو الاِمام علي ( عليه السلام ) في الخطبة الثانية من « نهج البلاغة » : « والناسُ في فِتَن انجذم (1) فيها حبلُ الدين ، وتزعزعت سواري (2) اليقين ، واختلف النجرُ (3) وتشتُّت الاَمرُ ، وضاق المخرجُ ، وعمي المصدرُ ، فالهدى خامل ، والعمى شامل ، عصي الرحمن ونُصر الشيطان ، وخُذِلَ الاِيمانُ فانهارت دعائمهُ ، وتنكّرت معالمُه ، ودرست (4) سبلُه ، وعفت شركه (5) . . . فهم فيها تائهون حائرون جاهلون مفتونون في خير دارٍ وشرِّ جيرانٍ ، نومُهم سُهود ، وكُحلهم دموع ، بأرض عالمها مُلجَم وجاهلها مُكرَم » .

---------------------------
(1) إنقطع .
(2) الدعائم .
(3) الاَصل .
(4) ِنطمست .
(5) الطرق .

السيرة المحمدية _ 8 _

  وفي الخطبة 26 قال ( عليه السلام ) : « إنّاللّه بعث محمّداً ( صلى الله عليه وآله وسلم ) نذيراً للعالمين وأميناً على التنزيل ، وأنتم معشر العرب على شرّ دين وفي شرّ دار منيخون (1) بين حجارة خُشن (2) هث ، وحيّات صُمّّ (3) تشربون الكَدر ، وتأكلون الجشِب (4) وتسفكون دماءكم ، وتقطعون أرحامكم ، الاَصنام فيكم منصوبةٌ ، والآثام بكم معصوبة (5) ، وقال (عليه السلام) في الخطبة 95 : « بعثه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، والناس ضُلاّل في حيرة ، وحاطبون في فتنةٍ ، قد استهوتهم الاَهواءُ ، واستزلّتهم الكبرياءُ ، واستخفّتهم (6) الجاهلية الجهلاءُ ، حَيارى في زلزالٍ من الاَمر ، وبلاءٍ من الجَهل ، فبالَغَ ( صلى الله عليه وآله وسلم ) في النصيحة ، ومضى على الطريقة ، ودعا إلى الحكمة والموعظة الحَسَنة » ، وأيضاً في الخطبة 151 : قال ( عليه السلام ) : « أضاءت به ( صلى الله عليه وآله وسلم ) البلاد بعد الضلالة المظلمة ، والجهالة الغالبة ، والجفوة الجافية ، والناس يستحلون الحريمَ ، ويستذلون الحكيمَ ، يحيون على فترة (7) ويموتون على كفرة » ، وقد أكد تلك الاَحوال والحياة ، أيضاً ، جعفرُبن أبي طالب ، عندما خطب أمام وقد أكد تلك الاَحوال والحياة ، أيضاً ، جعفرُبن أبي طالب ، عندما خطب أمام النجاشي في الحبشة ، يشرح أحوال المسلمين والمشركين ، فقال :

---------------------------
(1) مقيمون .
(2) جمع خشناء من الخشونة .
(3) التي لا تسمع لعدم إنزجارها بالاَصوات .
(4) لطعام الغليظ .
(5) مشدودة .
(6) طيّشتهم .
(7) على خلوّ من الشرائع .

السيرة المحمدية _ 9 _

  « أيّها الملك ، كُنّا قوماً أهل جاهلية نعبدُ الاَصنام ، ونأكلُ الميتة ، ونأتي الفواحش ، ونقطعُ الاَرحام ، ونسيء الجوار ، ويأكلُ القويُّمنّا الضعيف ، فكنّا على ذلك ، حتّى بعث اللّه إلينا رسولاً منّا نعرف نَسَبَه وصدقَه وأمانته وعفافه ، فدعانا إلى اللّه لنوحّده ونعبده ، ونخلع ما كنا نعبد نحن وآباوَنا من دونه من الحجارة والاَوثان ، وأمرَنا بصدق الحديث ، وأداء الاَمانة ، وصلة الرحم ، وحسن الجوار ، والكف عن المحارم والدماء ، ونهانا عن الفواحش وقول الزور ، وأكلِ مال اليتيم ، وقذف المحصَنات ، وأمرنا أن نعبد اللّه وحده لا نشرك به شيئاً ، وأمرنا بالصلاة والزكاة والصيام » (1) .

2 ـ الاَحوال السياسية في المنطقة
  لقد جاورت البيئة الّتي ظهر فيها الاِسلام أعظم امبراطوريتين في ذلك الوقت هما : إمبراطوريةالروم والفرس ، وهذا ممّا يجعلنا ندرس أحوالهما لنقف على قيمة الحضارة التي قدّمها الاِسلام ، فامبراطورية الروم تميّزت الاَحوال فيها بالحروب الداخلية والخارجية ، وخاصّة في صراعها مع دولة فارس ، كما كان للمنازعات الطائفية والمذهبية نصيبها في توسيع رقعة الاختلاف فيها ، كالحرب بين المسيحيين والوثنيين ، حينما مارس رجال الكنيسة أشدّ أنواع الضغط والاضطهاد بحقّ الآخرين ، الاَمر الذي ساعد على إيجاد أقلية ناقمة ، كما ساعد على ظهور حالة مهدت لتقبّل الشعب الروماني للدعوة الاِسلامية فيما بعد .

---------------------------
(1) السيرة النبوية 1 ـ 335 والحديث عن أُمّسلمة .

السيرة المحمدية _ 10 _

  هذا مضافاً إلى أنّ اختلاف رجال الدين فيما بينهم ، وتعدّد المذاهب من جهة ، عملا على التقليل من هيبة الاِمبراطورية واتجاهها نحو الضعف والانحلال ، وقد أدّى كلّ ذلك إلى انقسام الاِمبراطورية الرومانية إلى قسمين : شرقي وغربي ، وقد استغل اليهود ذلك الضعف والانهيار الداخلي فخطّطوا لاِسقاط النظام ، ممّا جرّ إلى ازدياد جرائم المذابح الانتقامية بين الطرفين ، ولم تهدأ الاَحوال إلاّ بعد ظهور الاِسلام وانتشاره في تلك الجهات ، أمّا إمبراطورية فارس ، فقد سيطرت على معظم مناطق العالم بالاشتراك مع إمبراطورية الروم ، وتميّزت الفترة بالنزاع الدائم بين إيران الساسانية والروم للسيطرة على مناطق نفوذ جديدة ، فقد بدأت الحروب بينهما منذ عهد « أنوشيروان » ( 531 ـ 589 م ) حتى زمن « خسرو برويز » لمدة 24 عاماً ، ممّاأضعف الدولتين ، وقد اشتهر « برويز » بالميل نحو الترف وحياة البذخ ، حتى بلغت أعداد نسائه وجواريه الآلاف منهن ، كما كان أرغب الناس في جمع الاَموال والجواهر والاَواني ، وفي الجانب الاجتماعي ، ظهر التمييز بين الطبقات ، فالنبلاء والكهنة كانوا على رأسها تملكوا المناصب الاجتماعية العليا ، بينما حرم الكسبة والمزارعون وبقية أبناء الشعب من كافة الحقوق الاجتماعية ، سوى دفعهم للضرائب الثقيلة والمشاركة في الحروب ، وقد أدّى هذا الوضع المتردّي إلى أن تمتلك أقلية صغيرة كلّ شيء وهي نسبة ( 5 ـ 11 % ) من مجموع الشعب ، بينما حرم أكثر من ( 89 % ) من حقّ الحياة تماماً ، كما أنّ الاَغنياء فقط هم الذين تلقّوا التعليم ، بينما حُرِمَ الباقون منه ، واتخذ الحكّام الساسانيون سيا سةالخشونة القاسية مع الناس ، وأخضعوهم بالسيف والعنف ، وفرضوا الضرائب الثقيلة ، ممّا جعل الشعب غير راضٍ على حكمهم وسيرتهم ، الاَمر الذي جعل الصراع والتنافس يدب بين الاَمراء والاَعيان ، وقادة الجيش ، فاختار كلّ فريق أميراً من أبناء العائلة المالكة ، وتفرغ لتصفية الطوائف الاَُخرى ، ممّا أصبح كلّذلك أسباباً قويّة لضعف الدولة وانقسامها وانحلالها أيّام الفتح الاِسلامي .

السيرة المحمدية _ 11 _

  على أنّ الفساد الذي ظهر في أوساط رجال الدين الزرادشت ، وتطرّق الخرافات والاَساطير إلى المعتقدات الزرادشتية ، تسبب في حدوث مزيد من التشتّت والاختلاف في آراء الشعب الاِيراني وعقيدته ، ممّا أفقده الثقة والاِيمان بتلك المعتقدات ، وقد أدّى تردّي الاَوضاع الاجتماعية ، والصراع الطويل بين فارس والروم في خلال عشرين عاماً ، إلى عقد الصلح بينهما على أساس أن يدفع الروم إلى فارس ما يعادل ( 20 ألف دينار ) ، إلاّ أنّ الروم عادوا إلى الحرب والمعارك الطاحنة مرّة أُخرى لفترة سبع سنوات ، تمكن فيها الملك الفارسي خسرو برويز في 614 م من الاستيلاء على بلاد الشام وفلسطين وأفريقية ، ونهب أورشليم ، وحرق كنيسة القيامة ومزار السيد المسيح ( عليه السلام ) ، وقتل 90 ألف نصراني ، وقد حدث ذلك في زمن بعثة الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) و قد حزن المسلمون على هزيمة الرّوم الّذين كانوا أصحاب كتاب ، ولم يتخذ الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) موقفاً خاصّاً اتّجاه هذه الاَحداث حتى نزل الوحي عليه مبشّراً بانتصار الروم في المستقبل القريب ، وقد تحقّقت هذه البشارة في سنة 627 م ، (1) وقد وضع الجيش الاِسلامي بحملاته الناجحة ، حداً لتلك الاَوضاع المضطربة ، ونهايةً لذلك الصراع السياسي الدامي الذي استمر خمسين عاماً ، وفسح المجال لاَن يختار الشعبُ الفارسي دينه ومعتقداته بحرية في منأى عن القهر والقسر .

---------------------------
(1) راجع سورة الروم : 1 ـ 6 .

السيرة المحمدية _ 12 _

3 ـ التعريف بأسلاف الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) كان من الواجب التحدّث عن أحوال أجداد النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) لما كان لهم من نصيب هام في تاريخ العرب والمسلمين ، ولما كان نسب النبيُ ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ينتهي إلى النبي إسماعيل بن إبراهيم ( عليهما السلام ) فإنّه من المستحب أن نتناول أسلاف النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) بالعرض والدراسة بدءاً منه ( عليه السلام ) .
1 ـ النبي إبراهيم ( عليه السلام ) هو بطل التوحيد ، جاهد في سبيل إرساء قواعد التوحيد ، واقتلاع جذور الوثنية ، ولد في بابل ـ التي تعد إحدى عجائب الدنيا السبع ـ التي حكمها « نمرود بن كنعان » الذي أمر الناس بعبادته إضافة إلى عبادة الاَصنام ، ولمّا ذكر له أنّ عرشه سينهار على يد رجل يولد في بيئته ، أمر بعزل الرجال عن النساء ، في نفس الليلة التي انعقدت فيها نطفة النبي إبراهيم ( عليه السلام ) ، وهي الليلة التي تكهَّن بها المنجمون والكهنة من أنصار نمرود ، ممّا دفع جلاوزته إلى قتل كلّ وليد ذكر ، وقد حملت به أُمّه ـ أُمّ إبراهيم ـ مثلما حملت أُمّ موسى (عليه السلام ) به ، فأمضت فترة حملها في خفاء وتستر ، ثمّ وضعته في غار بجبل قريب من المدينة للحفاظ عليه ، وقضى في هذا لغار فترة ثلاث عشرة سنة ، ثمّ انخرط في المجتمع الذي ستغرب وجوده فأنكروه ، ورأى في مجتمعه ظواهر التعبد لغير اللّه ، من نجوم وكواكب وأصنام وعبادة الاِنسان ، ممّا دعاه إلى أن يحارب في هذه الجبهات ، التي أوضحها القرآن الكريم في سوره وآياته الشريفة ، وقد بدأ عمَلَه بمكافحة ما كان عليه أقرباوَه ، وعلى رأسهم عمه آزر ، وهو عبادة الاَصنام والاَوثان ، ثمّ اتَّجه إلى جبهة أُخرى أكثر ثقافة وعلم ، وهي التي عبدت الكواكب والنجوم والاَجرام السماوية ، وقد أعطى النبي إبراهيم ( عليه السلام ) سلسلة من الحقائق الفلسفية والعلمية ، لم يصل إليها الفكر البشري يومذاك ، في حواره العقائدي مع عبّاد الاَجرام السماوية ، مدعمة بأدلّة لا تزال إلى اليوم ، موضع إعجاب كبار العلماء وروّاد الفلسفة والكلام .

السيرة المحمدية _ 13 _

   وقد نقل القرآن الكريم في هذا المجال أدلّة النبي إبراهيم ( عليه السلام ) باهتمام خاصّ وعناية بالغة ، (1) فقد اتّخذ إبراهيم ( عليه السلام ) هيئة الباحث عن الحقيقة بدون أن يصدم تلك الفرق المشركة ويجرح مشاعرها ، وركّز في عمله على التوحيد في الربوبية ، والتدبير وإدارة الكون ، وأنّه لا مدبّر ولا مربّي للموجودات الاَرضية إلاّ اللّه سبحانه و تعالى ، فأبطل ربوبية الاَجرام السماوية بقوله : ( إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ) (2) ، أمّا بالنسبة إلى عمّه آزر الذي كان ذا مكانة اجتماعية عالية بين قومه ، وصانعاً ماهراً ومنجماً ، له رأيه وأفكاره في الاَُمور الفلكية في بلاط نمرود ، فإنّه ليس أبوه بل عمّه ، وذلك أنّ علماء الشيعة قد اتّفقوا على أنّ آباء الاَنبياء كانوا موَمنين باللّه موحّدين به ، وأكّد الشيخ المفيد ذلك في كتابه : « أوائل المقالات » (3) بل إنّ كثيراً من علماء السنّة قد وافقهم في ذلك أيضاً ، ولعلّ مناداته بالاَب ، نظراً لكونه الكافل لاِبراهيم ( عليه السلام ) ردحاً من الزمن ، فنظر إليه بمنزلة الاَب ، وأمّا بخصوص عقابه ، وإلقائه في النار ، وعدم تأثّره بها وخروجه سالماً منها ، فإنّ السلطات الحاكمة قررت نفيه من البلاد فغادرها إلى الشام ، ثمّ إلى الحجاز مع زوجته هاجر وابنه إسماعيل ، حينما أسكنهما في مكّة ، وظهرت بفضلهما عين زمزم ، ووفدت جماعات من القبائل لتسكن في تلك البقعة ، وأشهرها قبيلة « جرهم » التي تزوّج منها إسماعيل وصاهرهم ، ومنذ ذلك الوقت أصبحت مكة من المدن العامرة ، بعد أن كانت صحراء قاحلة وواد غير ذي زرع .

---------------------------
(1) ترتبط آية 74 من سورة الاَنعام بحواره مع الوثنيّين ، بينما ترتبط الآيات اللاحقة لها بعبادة الاَجرام السماوية .
(2) الاَنعام : 79 .
(3) اوائل المقالات : 12 ، باب القول في آباء رسول اللّه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) .

السيرة المحمدية _ 14 _

2 ـ قصيّ بن كلاب : هو الجدّ الرابع للرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وأُمّه فاطمة التي تزوّجت برجل من بني كلاب ورزقت منه بولدين : زهرة وقصيّ ، وقد توفّي أبوه فربّاه زوجُ أُمّه ربيعة ، إلاّ أنّ خلافاً وقع بين قصيّ وقوم ربيعة ، أدى إلى طرده من قبيلتهم ، ولكن أُمّه تمكنت من إرجاعه إلى مكة ، فعاش فيها متفوقاً في أعماله ومراكزه ، فشغل المناصب الرفيعة ، مثل حكومة مكة ، وزعامة قريش ، وسدانة الكعبة المعظمة ، فأصبح رئيس تلك الديار دون منازع ، ومن أهمّ أعماله :
أ ـ تشجيع الناس على البناء حول الكعبة .
ب ـ تأسيس مجلس شورى يجتمع فيه روَساء القبائل في حلّ مشكلاتهم ، وهو دار الندوة ، وأمّا من الاَولاد فقد ترك : عبد الدار وعبد مناف .
3 ـ عبد مناف : هو الجدّ الثالث للنبي الاَكرم ( صلى الله عليه وآله وسلم ) واسمه : « المغيرة » ، ولقبه قمر البطحاء ، ومع أنّه كان أصغر من أخيه ، إلاّ أنّه حظي بمكانة خاصة عند الناس ، فقد اتخذ التقوى شعاراً ، ودعا إلى حسن السيرة وصلة الرحم ، ولكن الزعامة والقيادة كانت لاَخيه عبد الدار ، حسب وصية أبيهما ، إلاّ أنّ الوضع تبدّل بعد وفاتهما ، فقد وقع الخصام والتنازع بين أبنائهما على المناصب ، فانتهى الاَمر إلى اقتسامها بينهم ، حيث تقرّر أن يتولّى أبناء عبد الدار سدانة الكعبة وزعامة دار الندوة ، ويتولّى أبناء عبد مناف سقاية الحجيج وضيافتهم ووفادتهم .
4 ـ هاشم وهو الجدّ الثاني للرسول الاَعظم ( صلى الله عليه وآله وسلم ) واسمه : عمرو ولقبه العُلاء ، ولد مع عبد شمس توأماً له ، وله أخوان آخران هما : المطلب ونوفل ، ومن الاَُمور المميزة لاَبناء عبد مناف ، إنّهم تُوفُّوا في مناطق مختلفة ، فهاشم تُوفّي في غزّة ، وعبد شمس في مكّة ، ونَوفَل في العراق ، والمطلب في اليمن .

السيرة المحمدية _ 15 _

  كان يدعو الناس إلى الترحيب بضيوف اللّه وزوّاره وتكريمهم بالمال والحلال في غرّة كلّ شهر ذي الحجة : « وأسألُكُم بحرمة هذا البيت ألاّيُخرج رجلٌ منكم من ماله لكرامة زوّار بيت اللّه وتقويتهم إلاّطيباً لم يوَخذ ظلماً ، ولم يقطع فيه رحم ، ولم يوَخذ غصباً » (1) ، ومن أهمّ آثاره : أنّ زعامته لمكّة كانت لمنفعة أهلها وتحسين أوضاعهم ، فقد ساهم كرمُه في عدم انتشار القحط والجدب ، كما أنّه حسّن من الحالة الاقتصادية في البلاد عندما عقد معاهدة مع أمير الغساسنة ، ممّا دفع أخاه عبد شمس إلى أن يعاهد أمير الحبشة ، وأخويه نوفل والمطلب أيضاً أن يعقدا معاهدات مع أمير اليمن وملك فارس ، وذلك لتجنب الاَخطار وتأمين الطرق وسير القوافل التجارية ، وقد عُرِفَ عنه أنّه المؤَسس لرِحلتي الشتاء والصيف إلى الشام واليمن ، إلاّ أنّ كلّ تلك الاِسهامات من جانب هاشم ، كانت دافعاً إلى أن يحسده أُميّة بن عبد شمس ابن أخيه ، وذلك لما حظي به من مكانة وعظمة وتقرّب إلى قلوب الناس ، الاَمر الذي أجبرهم على الحضور عند كاهن من كهنة العرب ، فقضى لهاشم بالغلبة ، فأخذ منه الاِبل وأخرج أُمية إلى الشام نافياً لمدّة عشرة سنين ، حسب الشروط التي تمت بينهما ، وتبيّن هذه القصة جذورَ العداء بين بني هاشم وبني أُميّة من ناحية ، وعلاقات الاَمويين بالشام وارتباطهم بها حين اتخذوها عاصمة لدولتهم بعد ذلك من ناحية أُخرى ، ومن أشهر أولاده : شيبة ، الذي عُرِفَ بـ « عبد المطلب » لاَنّه تربى وترعرَعَ في حجر عمّه المطلب ، حيث كان العرب يسمّون من تَرعرَعَ في حجر أحد ، وينشأ تحت رعايته ، عبداً لذلك الشخص .

---------------------------
(1) السيرة الحلبية : 1 | 6 .

السيرة المحمدية _ 16 _

  5 ـ عبد المطلب وهو الجدّ الاَوّل للنبي العظيم ( ص ) ورئيس قريش وزعيمها ، وأودعت يدُ المشيئة الربانية بين حنايا شخصيته نورَالنبي الاَكرم ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ولذا كان إنساناً طاهر السلوك ، نقيّ الجيب ، منزّهاً عن أيّ نوع من أنواع الانحطاط والفساد ، وأحد المعدودين الذين كانوا يوَمنون باللّه واليوم الآخر ، وقد اشتهر موقفه الاِيماني في عام الفيل ، حينما أمر جماعته بالخروج من مكة إلى الجبال والشعاب ، ونزل إلى الكعبة يدعو اللّه ويستنصره على أبرهة وجنوده مناجياً : « اللّهمّ أنت أنيسُ المستوحشين ، ولا وحشة معك ، فالبيت بيتُك والحرمُ حرمُك والدار دارُك ، ونحن جيرانُك ، تمنع عنه ما تشاء ، وربّ الدار أولى بالدار » ، وفي الصباح خرجت أسرابٌ من الطيور من جهة البحر يحمل كل واحد منها ثلاثة أحجار ، حجر في منقاره ، وحجر في كلّ من رجليه وحلّقت فوق روَوس الجند ، ورجمتهم بالاَحجار بأمر من اللّه محطمة روَوسهم وممزقة لحومهم ، وقد أصاب حجر منها رأس أبرهة القائد ، فأمر جنوده بالتراجع والعودة إلى اليمن ، إلاّ أنّهم أُهلكوا في الطريق ، حتى أبرهة نفسه مات قبل وصوله صنعاء ، (1) وقد نتج من هذه العملية ، أن تحطّم جيش أبرهة ، وانهزم أعداء قريش ، وعظم شأن المكيّين ، وشأن الكعبة المشرفة في نظر العرب وغيرهم ، فلم يجرأ أحد بعد ذلك على غزو مكة ، أو الاِغارة على قريش ، أو التطاول على الكعبة ، كما أنّها من جانب آخر ، أحدثت في نفوس القرشيين حالات جديدة خاصة ، فقد زادت من غرورهم وعنجهيتهم واعتزازهم بعنصرهم ، فقرروا تحديد شوَون الآخرين والتقليل من وزنهم ، على أساس أنّهم فقط الطبقة الممتازة من العرب .

---------------------------
(1) السيرة الحلبية : 1 | 43 ، الكامل في التاريخ : 1 | 260 ، بحار الاَنوار : 5 | 130 .

السيرة المحمدية _ 17 _

  كما دفعتهم إلى التصور بأنّهم موضع عناية الاَصنام ( الـ 360 ) إذ أنّهم فقط الذين تحبهم تلك الاَصنام وتحميهم وتدافع عنهم !! وقد دفعهم كلّ ذلك إلى التمادي في لهوهم ولعبهم ، والتوسع في ممارسة الترف واللّذات ، وإظهار الولع بشرب الخمر ، حتى أنّهم مدّوا موائد الخمر في فناء الكعبة ، وأقاموا مجالس أنسهم إلى جانب تلك الاَصنام ، متصورين أنّ حياتهم الجميلة هذه هي من بركة تلك الاَصنام والاَوثان !! كما أنّ هذه الحالة جعلت قريش تقوم بإلغاء أيّ احترام وتقدير للغير فقالوا : إنّ جميع العرب محتاجون إلى معبدنا ، فقد رأى العرب عامةً كيف اعتنى بنا آلهة الكعبة خاصةً ، وكيف حَمَتنا من الاَعداء ، ومن ذلك بدأت قريش تضيّق على كلّ من يدخل مكة للعمرة أو الحجّ ، وتعاملهم بخشونة وأسلوب ديكتاتوري ، وفرضت عليهم ألا يصطحب أحد منهم طعاماً معه من خارج الحرم ولا يأكل منه ، بل عليه أن يقتني من طعام أهل الحرم ويأكل منه ، وأن يلبس عند الطواف بالبيت من ثياب أهل مكّة التقليدية القومية ، أو يطوف عرياناً بالكعبة إذا لم يكن في مقدوره شراوَها ، ومن رفض الخضوع للاَمر من روَساء القبائل وزعمائها ، كان عليه أن ينزع ثيابه بعد الانتهاء من الطواف ويلقيها جانباً ، دون أن يكون لاَحد الحقّ في مسّها حتى صاحبها (1) ، أمّا النساء فكان عليهن إذا أردن الطواف أن يطفُن عراة ، ويضعن خرقة على رؤَوسهن ، كما أنّه لم يكن يحق لاَي يهوديّ أو مسيحيّ أن يدخل مكة ، إلاّ أن يكون أجيراً لمكيّ ، وعليه ألاّ يتحدث في شيء من أمر دينه وكتابه .

---------------------------
(1) كانت تسمّى عندهم « اللقى » .

السيرة المحمدية _ 18 _

  بالاِضافة إلى ذلك ، فإنّهم أنفوا منذ ذلك اليوم أن يأتوا بمناسك عرفة ، كما يفعل بقية الناس ، حيث تركوا الوقوف بها والاِفاضة منها ، بالرغم من أنّآباءهم ـ من ولد إسماعيل ـ كانوا يقرّون أنّها من المشاعر والحج ، (1) إنّ كلّذلك الانفلات الاَخلاقي والترف والانحراف ، قد هيّأ الاَرضية وأعدها لظهور مصلح عالميّ ، أمّا بالنسبة لابن عبد المطلب ، عبد اللّه ، فقد سعى إلى أن يزوّجه ، فاختار له : ( آمنة بنت وهب بن عبد مناف ) التي عُرِفت بالعفّة والطهر والنجابة والكمال ، كما اختار لنفسه « دلالة » ابنة عم آمنة ، فرزق منها حمزة ، عمّ الرسول « صلى الله عليه وآله وسلم » الذي كان في نفس عمر النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ( (2) ) وقد تمّ حفل الزفاف في منزل السيدة آمنة طبقاً لما كان عليه المتعارف في قريش ، ثمّ بقي « عبداللّه » مع زوجته ردحاً من الزمن حتى سافر في تجارة إلى الشام ، وتوفّي في أثناء الطريق ، ويرتبط بموضوع أسلاف النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، طهارته « صلى الله عليه وآله وسلم » من دَنَس الآباء وعهر الاَُمّهات ، إذ لم يكن في أجداده وجدّاته ، سفاح وزنا ، وهو ما اتّفق عليه المسلمون ، وصرّح به الرسول « صلى الله عليه وآله وسلم » في أحاديث رواها السنة والشيعة ، فقد جاء عنه « صلى الله عليه وآله وسلم » إنّه قال : « نُقلتُ من الاَصلاب الطاهرة إلى الاَرحام الطاهرة نكاحاً لا سِفاحاً » (3) .
  وقال الاِمام علي (عليه السلام) : « وأشهد أنّ محمّداً عبده ورسوله وسيد عباده كلّما نسخ اللّه الخلق فِرقتين ، جعله في خيرهما ، لم يسهِم فيه عاهرٌ ولا ضربَ فيه فاجر » (4) كما ذكر الاِمام الصادق ( عليه السلام ) ذلك مفسراً الآية : ( وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ ) : « أي في أصلاب النبيّين ، نبي بعد نبي ، حتى أخرجه من صلبِ أبيه عن نكاحٍ غير سفاح من لدن آدم » (5) .

---------------------------
(1) الكامل في التاريخ : 1 ـ 266 .
(2) تاريخ الطبري : 2 ـ 7 وهو يذكر أنّه « هاله » .
(3) كنز الفوائد : 1 ـ 164 .
(4) نهج البلاغة ، الخطبة 215 ، شرح محمد عبده .
(5) تفسير مجمع البيان .

السيرة المحمدية _ 19 _


الرسول الاَكرم محمد بن عبد اللّه ( صلى الله عليه وآله وسلم )
1 ـ مولده .
2 ـ فترة طفولته .
3 ـ فترة شبابه .
4 ـ فترة عمله .
5 ـ زواجه .
6 ـ أولاده .

1 ـ مولده ( صلى الله عليه وآله وسلم )
  ولد النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) في عام الفيل ( 570 م ) بإتّفاق كتّاب السيرة ، ورحل عن الدنيا في ( 632 م ) عن 62 أو 63 عاماً ، كما اتّفقوا على أنّه ولد في شهر ربيع الاَوّل ، يوم الجمعة السابع عشر منه ، عند الشيعة ، أمّا السنّة فقد عيّنوا يوم الاِثنين الثاني عشر من الشهر نفسه (1) .   ولمّا كان الشيعة ينقلون أخبار أهل البيت عنهم ، فلابدّ من الاِقرار بأنّ ما ينقله هوَلاء ويكتبونه من تفاصيل تتعلّق بحياة الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) هي أقرب من غيرها إلى الحقيقة ، لاَنّها مأخوذة عن أقربائه وأبنائه ، وقد حملت به أُمّه « السيدة آمنة بنت وهب » في أيّام التشريق من شهر رجب ، فإذا اعتبرنا يوم ولادته ، 17 من ربيع الاَوّل ، فتكون مدّة حملها به ثمانية أشهر وأيّاماً .

---------------------------
(1) إمتاع الاَسماع : ص 3 ، وقد ذكر جميع الاَقوال التي وردت في ميلاد النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) .

السيرة المحمدية _ 20 _

  وقد وقعت يوم ولادته أحداث عجيبة ، فقد وُلِد مختوناً مقطوع السرة ، وهو يقول : « اللّه أكبر والحمد للّه كثيراً ، سبحان اللّه بكرةً وأصيلاً » (1) كما تساقطت الاَصنام في الكعبة على وجوهها ، وخرج نورٌ معه أضاء مساحة واسعة من الجزيرة العربية ، وانكسر إيوان كسرى ، وسقطت أربعة عشر شرفة منه ، وانخمدت نار فارس التي كانت تعبد ، وجفت بحيرة ساوة ، وهدفت هذه الاَحداث الخارقة والعجيبة إلى أمرين موَثرين :
1 ـ فهي تدفع الجبابرة والوثنيين إلى التفكير فيما هم فيه من أحوال ، فيتساءلون عن الاَسباب التي دعت إلى كلّذلك لعلهم يعقلون ، إذ أنّ تلك الاَحداث كانت في الواقع تبشر بعصر جديد هو عصر انتهاء الوثنية وزوال مظاهر السلطة الشيطانية واندحارها .
2 ـ ومن جهة أُخرى ، تبرهن على الشأن العظيم للوليد الجديد ، على أنّه ليس عادياً ، بل هو كغيره من الاَنبياء العظام الذين رافقت ولادتُهم أمثالَ تلك الحوادث العجيبة والوقائع الغريبة ، وفي اليوم السابع لمولده المبارك ، عقّ عبد المطلب عنه بكبش شكراً للّه تعالى ، واحتفل به مع عامة قريش ، وقال عن تسميته النبي الكريم ( صلى الله عليه وآله وسلم ) محمّداً ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وعن سببه : أردت أن يُحمَد في السماء والاَرض (2) وكانت أُمّه ( عليها السلام ) قد سمّته أحمد قبل أن يسمّيه جدّه (3) وكان هذا الاسم نادراً بين العرب فلم يسم به منهم سوى 16 شخصاً ، ولذا فإنّه كان من إحدى العلامات الخاصّة به .

---------------------------
(1) تاريخ اليعقوبي : 2 ـ 5 ، بحار الاَنوار : 15 ـ 248 ، السيرة الحلبية : 1 ـ 67 .
(2) السيرة الحلبية : 1 ـ 78 .
(3) السيرة الحلبية : 1 ـ 82 .

السيرة المحمدية _ 21 _

  أمّا عن رضاعته ( صلى الله عليه وآله وسلم ) فقد ارتضع من أُمّه ثلاثة أيّام ثمّ أرضعته امرأتان هما :

ثويبة
   مولاة أبي لهب ، إذ أرضعته لمدّة أربعة أشهر فقط ، وقد قدّر النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وزوجته خديجة ( عليها السلام ) هذا العمل لها حتى آخر حياتها ، فأكرمها وأراد أن يعتقها فأبى أبو لهب ، وكان يبعث إليها بالصلة حتّى وفاتها ، كما أنّها أرضعت من قبل حمزة ، وأبا سلمة بن عبد اللّه المخزومي ، فكانوا إخوة في الرضاعة .

حليمة السعدية
   بنت أبي ذوَيب ، وكان لها من الاَولاد : عبد اللّه ، أنيسة ، شيماء ، وقامت « شيماء » بحضانة النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) أيضاً .
  وقد استلمت حليمة السعديةُ النبيّص في عمر لم يتجاوز أربعة أشهر ، في عام قحط وجدب ، فأصابها الرخاء وازدهرت حياتها بعد ذلك ، ومن المعروف أنّ النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) لم يقبل في ذلك الزمان أي ثدي من المرضعات إلاّ ثدي حليمة (1) .
  وفي هذه المناسبة ، أودُّ القول والتذكير ، أنّه ينبغي أن يحتفل المسلمون جميعاً بمولد النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) بإقامة المهرجانات الكبرى والاحتفالات ، تكريماً له ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، فهو أمر مطلوب ومحبّب في الشريعة المقدسة لقوله تعالى : ( فَالَّذِينَ آمَنُواْ بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُواْ النُّورَ الَّذِيَ أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ) (2) وعزّر بمعنى كرّم وبجّل .
  فالاحتفال بمولده ( صلى الله عليه وآله وسلم ) يعني ذكر أخلاقه العظيمة ، وسجاياه النبيلة ، والاِشادة بشرفه وفضله ، وهي أُمور مدحه بها القرآن الكريم : ( وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظيم ) (3) ( وَرَفَعْنا لَكَ ذِكْرَكَ ) (4) .
  فالاحتفال بمولده الكريم هو احتفالٌ بالقيم السامية ، وشكرٌ للّه على منّه ، وإظهار للحبّ الكامن في النفوس له ، وتكريم لمن كرمه اللّه تعالى وأمر بتكريمه واحترامه وحبّه ومودّته ، وهو ردّعلى من يزعم بأنّذلك محرم لكونه بدعة ، لا يخلو من منكرات ومحرمات كالرقص والغناء ، فالمسلمون درِجوا في العصور الاِسلامية الاَُولى على الاحتفال بذكرى مولده بإنشاد القصائد الرائعة في مدحه ، وذكر خصاله ومكارم أخلاقه وإظهار السرور والفرح ، والشكر للّه تعالى بلطفه وتفضّله به ( ص ) على البشرية (5) ، ولذا كان لابدّ من أداء هذا الاحتفال في كلّ وقت وزمان ، في حياته وبعد مماته ( ص ) .

2. فترة طفولته ( صلى الله عليه وآله وسلم )
  استقر النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) في قبيلة « بني سعد » خمسة أعوام زارته أُمّه خلالها ثلاث مرّات ، وقامت حليمة برعاية شوَونه خير قيام ، وبالغت في كفالته والعناية به ، كما حافظ فيها ( صلى الله عليه وآله وسلم ) على فصاحته وبلاغته ، وعندما رجع إلى أُمّه ( عليها السلام ) فكّرت بزيارة المدينة وقبر زوجها عبداللّه ، ورافقتهم « أُمّ أيمن » حيث أمضوا هناك شهراً ، رأى فيه النبيّ ( صلى الله عليه وآله وسلم ) بيت أبيه الذي توفّي فيه ودفن ، إلاّ أنّ أُمّه العزيزة توفّيت أيضاً في الطريق إلى مكة بمنطقة الاَبواء (6) ممّا دفع الجميع إلى إظهار المحبة له والعناية به ، خاصةًجدّه « عبد المطلب » الذي أحبه أكثر من أولاده .

---------------------------
(1) البحار : 15 | 342 .
(2) الاَعراف : 157 .
(3) القلم : 4 .
(4 ) الاِنشراح : 4 .
(5 ) للتوسع في هذا الموضوع ، يرجع إلى : معالم التوحيد في القرآن الكريم .
(6 ) السيرة الحلبية : 1 | 105 .

السيرة المحمدية _ 22 _

  وربما كان يُتم النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) في صالحه ، فقد أراد اللّه تعالى منه أن يهيّئه لمواجهة المستقبل بشدائده و مصاعبه ومتاعبه ، أو أراد ألا يكون في عنقه طاعة لاَحد ، فنشأ حراً من كلّ قيد ، يصنع نفسه بنفسه ، وليتضح أنّ نبوغه ليس نبوغاً بشرياً عادياً ومألوفاً ، وأنّه لم يكن لوالديه أيّ دخل فيه وفي مصيره ، فتكون بالتالي عظمته الباهرة نابعة من مصدر الوحي وليس من العوامل العادية المتعارفة ، وقد فاجأت الحياةُ نفس النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) الحزينة بوفاة جدّه العظيم « عبد المطلب » وهو في الثامنة من عمره ، فبكى عليه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) كثيراً وظلّت دموعه تجري حتى وُري في لحده (1) ، كفالة أبي طالب كان أبو طالب أخاً لوالد النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) من أُمّواحدة ، وقد تقبّل كفالة النبيص وتحمّل المسوَولية بفخر واعتزاز ، وفي العاشرة من عمره ، شارك النبيّ ( صلى الله عليه وآله وسلم ) عمّه في إحدى الحروب التي وقعت في الاَشهر الحرم فسمّيت بحرب الفجار ، إلاّ أنّ « اليعقوبي » ينفي في تاريخه اشتراك النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وأبي طالب فيها (2) ، ورافق عمّه في سفره إلى الشام وهو في ربيعه الثاني عشر ، شاهد فيها « مدين ، ووادي القرى ، وديار ثمود » ، واطّلع على مشاهد الشام وطبيعتها الجميلة .

---------------------------
(1) تاريخ اليعقوبي : 2 ـ 10 حول سيرة عبد المطلب ، أنّه كان موحداً لا وثنياً ، وإنّ الاِسلام قد أخذ الكثير من سننه .
(2) تاريخ اليعقوبي : 2 ـ 15 .

السيرة المحمدية _ 23 _

  إلاّ أنّ أحداث « بصرى » غيّرت برنامج رحلة أبي طالب ، ودفعته إلى العودة إلى مكّة ، وهي الاَحداث المرتبطة بمقابلة الراهب « بحيرا » بالنبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وما تنبّأ عنه بقوله : « إنّه كائن لابن أخيك هذا شأن عظيم ، نجده في كتبنا وما روينا عن آبائنا ، هذا سيّد العالمين ، هذا رسول ربّ العالمين يبعثه رحمةً للعالمين ، احذر عليه اليهود لئن رأوه وعرفوا ما أعرف ليقصدُنّ قتله » (1) ، أمّا ما قيل عن تلك المقابلة من آراء متطرفة ، وبأنّ الراهب بحيرا علّم النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) أُمور دينه التي درسها من كتب الاِنجيل والتوراة ، فهو فرية المستشرقين والكارهين للاِسلام ، إذ أنّ النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) لم يمكث هناك أكثرمن أربعة أشهر هي فترة رحلة الشام عند العرب ، ثمّ إذا كان هذا الراهب يمتلك هذه الكمية من المعلومات الدينية والعلمية التي عرضها الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) فلماذا لم يقم هو بنشرها ، فيأخذ شهرته منها ؟ ثمّ لماذا اختار محمّداً ( صلى الله عليه وآله وسلم ) دون غيره ليعرض عليه تلك المعلومات بالرغم من توافد القبائل عليه دوماً ؟ إنّ الآيات القرآنية تصرح بأنّ الاَخبار الغيبية وصلت إلى النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) عن طريق الوحي فقط ، فلم يكن على عِلمٍ بها مطلقاً ، كما أنّ كُتب التوراة والاِنجيل لا تذكر أُموراً طيّبة عن الاَنبياء ، في حين أنّ القرآن الكريم يجلّهم ويعظمهم ويكرمهم ، على عكس ما جاء عنهم في كتب هوَلاء ، ولذا لم يعقل أن يقتبس القرآن الكريم من تلك الكتب وبينهما بُعد المشرقين ، كما أنّ النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) لم يشرح تلك القصص والقضايا للناس قبل الوحي والرسالة : ( قُلْ لَوْ شاءَ اللّهُ ما تَلوتُهُ عَلَيْكُمْ ولا أَدراكُمْ بهِ فَقَدْ لَبِثتُ فِيكُمْ عُمُراً مِنْ قَبْلهِِ أَفَلا تَعْقِلُون ) (2)

---------------------------
(1) تاريخ الطبري : 2 ـ 32 ، السيرة الحلبية : 1 ـ 180 .
(2) يونس : 16 .

السيرة المحمدية _ 24 _


  فالآية توَكد على أنّ النبيّ ( صلى الله عليه وآله وسلم ) لبث في قومه فترة طويلة لم يتلو فيها سورة من القرآن ولا آية من آياته ، فكلّ ما أخبر به هو ممّا أوحى به اللّه تعالى إليه بعد أن بعثه بالرسالة . (1)

3 ـ فترة شبابه
  كانت آثار الشجاعة والقوة باديةً على جبينه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) منذ طفولته وصباه ، ففي الخامسة عشرة من عمره قيل انّه شارك في حرب الفجّار بين قريش وهوازن ، وهي حرب الفجّار الرابعة التي استمرّت أربع سنوات ، كان يناول فيها أعمامه النبال ، وتكشف مشاركته في تلك العمليات العسكرية وهو في تلك السن ، عن شجاعته وقدرته الروحية الكبرى ، ولهذا كان المسلمون ـ فيما بعد ـ يحتمون بالنبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) عند اشتداد المعركة ، وفي مقابل هذا روى الموَرخ اليعقوبي ( المتوفّى 290 هـ ) في تاريخه : وقد روي أنّ أبا طالب منع أن يكون فيها أحدٌ من بني هاشم ، وقال هذا ظلم وعدوان وقطيعة واستحلال للشهر الحرام ولا أحضره ولا أحدٌ من أهلي ، فأخرج الزبير بن عبد المطلب متكرهاً وقال عبد اللّه بن جدعان التيمي وحرب ابن أُميّة : لا نحضر أمراً تغيب عنه بنو هاشم فخرج الزبير . (2)

---------------------------
(1) للتوسع في الموضوع ، راجع مفاهيم القرآن للشيخ جعفر السبحاني : 3 ـ 321 .
(2) تاريخ اليعقوبي : 2 ـ 12 ، طبع النجف .