كهيئتها حين انتزعت من شجرتها ، وانها لتنطق اذا استنطقت ، اعدت لقائمنا يصنع بها ما كان يصنع موسى ، وانها لتروع ولتلقف ما يأفكون وتصنع ما تؤمر به ، انها حيث اقبلت ، تلقف ما يأفكون تفتح لها ، شفتان احدهما في الأرض والاخرى في السقف وبينهما اربعون ذراعا تلقف ما يأفكون بلسانها ، وفي تفسير البرهان عند قوله تعالى : ( وقطعناهم اثنتي عشرة اسباط ) أي وأوحينا إلى موسى اذا استسقاه ان اضرب بعصاك الحجر ، حيث جاء محمد بن يعقوب باسناده إلى أبي سعد الخراساني ، قال : أبو جعفر عليه السلام : ان القائم اذا قام بمكة واراد ان يتوجه إلى الكوفة نادى مناديه : ألا لا يحمل احد منكم طعاما ولا شرابا ، ويحمل حجر موسى بن عمران وهو وقر بعير ، فلا ينزل منزلا إلاّ انبعثت عين منه ، فمن كان جائعا شبع ، ومن كان ظامئا روي ، فهو زادهم تى ينزلوا النجف من ظهر الكوفة .
  وفيه وعنه باسناده عن ابي حمزة الثمالي عن ابي عبدالله عليه السلام قال : سمتعه يقول : الواح موسى عندنا وعصا موسى عندنا ونحن ورثة النبيين .
  فهذه الايات تثبت هذا النحو من التصرف للانبياء وهذه الاحاديث دلت على انها للائمة ايضا .
  اذن هذه الادلة القرآنية يظهر منها ان الله تعالى قد اعطى الولاية التكوينية لكثير من الأنبياء وبأذنه يستعملونها وبأمره يعملون ( وعباد مكرمون لا يسبقونه بالقول وهم بامره يعملون ) وعليه لا مانع من ان يتصرفوا في الكون بالقدرة التي اودعها الله تعالى فيهم لكن ، لا على نحو الاستقلال بل بارادة الله تعالى فالله تعالى منحهم هذه القدرة فيقولون للشيء كن فيكون لكن بارادة الله ومع وجود هذه القدرة فيهم فهم لا يتمكنون من اعمالها إلاّ بامر من الله تعالى وارادته ، اما الذي يقول ان الله تعالى لابد ان يباشر نفسه ادارة نظام الكون فان قوله هذا مخالف لصريح القران الكريم الذي يقول ( والمدبرات أمرا ) حيث جعل الله تعالى نظام العلية والمعلولية وسيلة لصدور كثير من الاشياء في الكون وكما بينّا من خلال توضيح الايات المباركة المتقدمة وعلى هذا الاساس فان الولاية التكوينية ثابتة للانبياء ولا وصيائهم وامكانها متحقق في القرآن الكريم .

الاسرار الفاطمية _ 260 _

المقام الثاني : الولاية التكوينية لفاطمة عليها السلام
  بعد ان ثبت لدينا امكان وقوع الولاية التكوينية لكثير من الأنبياء عليهم السلام من خلال القران الكريم ، نجد ايضا وقوع هذه الولاية من خلال استقرائنا لكثير من الروايات والحوادث التاريخيه التي قدمت لنا الكثير من النماذج الخارقة للعادة والتي صدرت من ائمة أهل البيت عليهم السلام ويكفي في الدلالة على ذلك بعد ثبوت هذه الولاية من خلال القرآن الكريم .
  أقول : يكفي ما ورد في متن الزيارة الجامعة الكبيرة التي أثبتت الولاية التكوينية لأهل البيت عليهم السلام ، وذلك من خلال التدقيق في مدلولاتها ( بكم فتح الله وبكم يختم وبكم ينزل الغيث وبكم ينفس الهم ويكشف الضر وعندكم مانزلت به رسله وهبطت به ملائكته ) على ان هذه الولاية التكوينية كانت ثابتة لأئمة أهل البيت عليهم السلام من خلال اسم الله الاعظم الذي كان عندهم وفي بيان ذلك نقول : قد تقدم في بداية البحث كيف ان آصف بن برخيا الذي كان وزيرا لسليمان عنده علما من الكتاب وكان عنده ايضا اسم الله الاعظم على ما قيل واستطاع من خلال ذلك التصرف في التكوينات حتى بعرش ملكة سبأ في أقل من طرفت عين ، فاذا كان هذا ثابت لوزير نبي الله سليمان فما ظنك بأهل البيت عليهم السلام الذين هم أفضل من جميع الأنبياء ما خلا نبينا محمد صلى الله عليه وآله وسلم فانهم افضل واعظم في هذه الولاية وتوجد عدة أدلة على ذلك ، فان اصف برخيا ، استخدم ولايته بما عنده من اسم الله الاعظم بينما عندنا احاديث مأثورة وشواهد تدل على ان أهل البيت عليهم السلام كان عندهم اسم الله الاعظم وخصوصا ان الاحرف التي عندهم من اسم الله الاعظم اكثر من الاحرف التي كانت عند آصف بن برخيا ، فلقد ورد في الحديث الشريف عن ابي جعفر عليه السلام قال : ( ان اسم الله الاعظم على ثلاثة وسبعين حرفاً ، وانما كان عند آصف منها حرف واحد فتكلم به فخسف بالأرض ما بينه وبين سرير بلقيس حتى تناول السرير بيده ، ثم عادت الأرض كما كانت ، اسرع من طرقة عين ، ونحن عندنا من الاسم الاعظم اثنان

الاسرار الفاطمية _ 261 _

  وسبعون حرفا ، وحرف واحد عندالله استأثر به في علم الغيب عنده ولا حول ولا قوة إلاّ بالله العلي العظيم (1) (2) .
  وايضا عن ابي عبدالله عليه السلام قال : ( ان الله عزوجل جعل اسمه الاعظم على ثلاثة وسبعين حرفا فاعطى آدم منها خمسة وعشرين حرفاً واعطى نوحاً منها خمسة عشر حرفاً واعطى منها ابراهيم ثمانية احرف واعطى موسى منها اربعة احرف واعطى عيسى منها حرفين وكان يحي بهما الموتي ويبريء بهما الاكمة والابرص واعطى محمد صلى الله عليه وآله وسلم اثنين وسبعين حرفا و احتجب حرفا لئلا يعلم مافي نفسه ويعلم ما نفس العباد ) (3) .
  أقول : يظهر من الحديثين ان اسم الله الاعظم انه قد استفاد منه الأنبياء عليهم السلام في استخدام ولايتهم التكوينية لاعمال المعجزات والكرامات وقضاء حاجات الناس وحسب ما ترتضيه المشيئة الالهية وعلى هذا الاساس نفهم ان محمداً صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته الأطهار مما استأثرهم به الله تعالى هو اعطاءهم اسمه الاعظم وبقابلية أكبر واكثر من الأنبياء السابقين وأوصيائهم .
  اذن الرسول الأعظم محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته كانت لديهم هذه الولاية التكوينية ويستخدمونها بما عندهم من اسم الله الاعظم وبما فيهم الصديقة الطاهرة فاطمة الزهراء عليها السلام باعتبارها ام الأئمة ووعاء الإمامة وأم ابيها وكونها حجة الله الكبرى على الانبياء والأوصياء من ابناءها عليهم السلام وسيأتينا كيفية اعمال فاطمة لهذه الولاية والشواهد علهيا من خلال الاحاديث الشريفة .

الولاية التكوينية إنما يكون باذن الله تعالى
  هذه بعض الأحاديث المأثورة تبين إنّ إعمال الولاية التكوينية إنما يكون باذن الله تعالى ، وانها وقعت لأهل بيت النبوة هذه الولاية واستخدموها كما يظهر ذلك من

---------------------------
(1) أي لا يقع من هذه الامور او غيرها إلا بارادة الله وقدرته سبحانه .
(2) الكافي : 1 | 286 ، بصائر الدرجات 4 | 228 ح 1 .
(3) بصائر الدرجات : 4 | 229 .

الاسرار الفاطمية _ 262 _

  الاحاديث الاتية :
  1 ـ عن ابي بصير قال دخلت على ابي عبدالله عليه السلام وابي جعفر عليه السلام وقلت لها : انتما ورثة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم .
  قال نعم ، قلت : فرسول الله وارث الأنبياء علم كلما علموا ؟ فقال لي : نعم ، فقلت : انتم تقدرون على ان تحيوا الموتى وتبرؤه الاكمة والابرص فقال لي : نعم باذن الله ثم قال : اذن مني يا ابا محمد فمسح يده على عيني ووجهي وابصرت الشمس والسماء والأرض والبيوت وكل شيء في الدار .
  قال : اتحب ان تكون هكذا ولك ماللناس وعليك ماعليهم يوم القيامة أو تعود كما كنت ولك الجنة خالصا .
  قلت : اعود كما كنت قال فمسح عيني فعدت كما كنت .
  قال علي : فحدثت به ابن ابي عمير .
  فقال : اشهد ان هذا حق كما ان النهار حق .
  2 ـ عن محمد بن الفضل عن ابي حمزة الثمالي عن علي بن الحسين عليه السلام قال : قلت له أسالك فداك عن ثلاث خصال أنفي عني فيه التقية قال : فقال ذلك لك ، قلت : أسالك عن فلان بن فلان قال : فعليها لعنة الله بلعناته كلها ماتا والله وهما كافران مشركان بالله العظيم قلت الأئمة يحيون الموتى ويبرؤن الاكمة والابرص ويمشون على الماء قال : ما اعطى الله نبيا شيئا قط إلاّ وقد اعطاه محمدا صلى الله عليه وآله وسلم واعطاه ما لم يكن عندهم .
  قلت : وكل ما كان عند رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقد اعطاه امير المؤمنين صلى الله عليه وآله وسلم ؟ قال : نعم ثم الحسن والحسين عليهم السلام ثم بعد كل امام اماما إلى يوم القيامة مع الزيادة التي تحدث في كل سنة وفي كل شهر ثم قال : أي والله في كل ساعة .
  3 ـ عن علي بن معيد يرفعه قال : دخلت حبابة الوالبية على ابي جعفر عليه السلام محمد بن علي عليهم السلام قال : يا حبابة مالذي ابطاك ، قالت : قلت : بياض عرض لي في مفرق راسي كثرت له همومي ، فقال : ياحبابة ادنيني به قال : فدنوت منه فوضع يده في مفرق رأسي ، ثم قال : ائتوا لها بالمرأة فأتيت فنظرت فاذا شعر مفرق راسي قد اسود فسررت بذلك وسر أبو جعفر عليه السلام بسروري .
  4 ـ وعن علي ابن ابي حمزة عن ابي بصير قال حججت مع ابي عبدالله عليه السلام فلما كنا في الطواف قلت له : جعلت فداك يابن رسول الله يغفر الله الخلق ؟ فقال : يا ابا بصير ان اكثر من ترى قردة وخنازير ، قال : قلت له ارنيهم قال : فتكلم بكلمات ثم أمّر

الاسرار الفاطمية _ 263 _

  يده إلى بصري فرايتهم قردة وخنازير فهالني ذلك ثم أمّر يده على بصري فرايتهم كما كانوا في المرة الاولى ثم قال : يا ابا محمد انتم في الجنة تحبرون وبين اطباق النار تطلبون فلا توجدون والله لا يجتمع في النار منكم ثلاثة لا والله ولا اثنان لا والله ولا واحد .
  5 ـ وعن أبي بصير قال : قال لي أبو عبدالله عليه السلام تريد ان تنظر بعينك إلى السماء .
  قلت نعم فمسح يده على عيني فنظرت إلى السماء .
  6 ـ وعن ابي عوف عن ابي عبدالله عليه السلام قال : دخلت عليه فالطفني وقال ان رجلا مكفوف البصر أتى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال يا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ادع الله ان يرد علي بصري فدعا الله له فرد عليه بصره ثم أتاه آخر فقال يا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ادع الله لي ان يرد علي بصري قال فقال الجنة احب اليك ام ان يرد عليك بصرك قال يا رسول الله وان ثوابها الجنة فقال ان الله اكرم من ان يبتلي عبده المؤمن بذهاب بصره لا يثيبه الجنة .
  7 ـ وعن جميل بن دراج قال : كنت عند ابي عبدالله عليه السلام فدخلت عليه امرأة فذكرت انها تركت ابنها بالملحفة على وجهه ميتا قال لها : لعله لم يمت فقومي فاذهبي إلى بيتك واغتسلي وصلي ركعتين وادعي وقولي يامن وهبه لي ولم يك شيئا جدد لي هبته ثم حركيه ولا تخبري بذلك احدا قال ففعلت فجائت فحركته فاذا هو قد بكى .
  حدثنا احمد بن محمد عن علي بن الحكم عن علي بن المغيرة قال مر العبد الصالح عليه السلام بامرأة بمنى وهي تبكي وصبيانها حولها يبكون وقد ماتت بقرة لها فدنا منها ثم قال لها ما يبكيك ياامه الله قالت ياعبد الله ان لي صبيانا ايتاما فكانت لي بقرة معيشتي ومعيشة صبياني كان منها فقد ماتت وبقيت منقطعة بي وبولدي ولا حيلة لنا فقال لها يا امة الله هل لك ان احييها لك قالت فالهمت ان قالت نعم يا عبدالله قال فتنحى ياحية فصلى ركعتين ثم رفع يديه يمينه وحرك شفتيه ثم قام فمر بالبقرة فنخسها نخسا او ضربها برجله فاستوت على الأرض قائمة فلما نظرت المرأة إلى البقرة قد قامت صاحب عيسى بن مريم ورب الكعبة قال فخالط الناس وصار بينهم ومضى عليه السلام وعلى آبائه الطاهرين (1) .

---------------------------
(1) راجع بصائر الدرجات : 6 | 289 ، 293 .

الاسرار الفاطمية _ 264 _

  أقول : يظهر من هذه الأحاديث المأثورة ان أهل البيت عليهم السلام كانوا يعملون الولاية التكوينية بما اعطاهم من علمه وبأذنه تعالى ، وذلك لكونهم ورثوا علوم جميع الأنبياء ، بل ان الذي عندهم افضل واعلى رتبة ودرجة في العلم الرباني ، وعلى هذا الاساس فان الولاية التكوينية لهم ثابتة ولاينكرها إلاّ معاند او ليس له حظ من العلم إلاّ قليلا ، فهم عليهم السلام تارة يستخدمون هذه الولاية عن طريق اسم الله الاعظم فيتصرفون في التكوينات وتارة من خلال ماعندهم من العلوم الربانية التي ورثوها من الأنبياء والأوصياء السابقين بل من الذي ورثوه من جدهم رسول الله عليه السلام لذا نرى في الزيارات الواردة في حقهم هذه العبارات الواضحة البيان بل هي مطلقة في كل شي يرثونه من الأنبياء حيث تقول هذه الزيارات ( السلام عليك يا وارث آدم صفوة الله تعالى ، السلام عليك يارواث نوح نبي الله السلام عليك ياوارث موسى كليم الله السلام عليك يا وارث عيسى روح الله ... ) الخ .
  فدلالة قوله عليه السلام يا وارث أي مطلق الوراثة سواء المادية او المعنوية ، اذن فهم ورثة الأنبياء في كل ما أعطاهم الله تبارك وتعالى .
  وأيضاً استخدم أهل البيت عليهم السلام الولاية التكوينية من خلال كرامات ومعجزات بل ازدادوا عليهم بأنهم ورثوا كل ماعند نبي عن الاخر زيادة ، وهكذا الحال في كل أهل البيت الذي عصمهم وامنهم الله من الزلل ، ومن هنا كانت فاطمة الزهراء عليها السلام عندها الولاية التكوينية حيث ثبتت لها من خلال عدة امور منها :
  * انها حليلة سيد الأوصياء امير المؤمنين علي عليه السلام فهي كفوله وهو كفو لها وهذا يقتضي كونها عندها من المقامات مالامير المؤمنين علي عليه السلام إلاّ ماخصه الله تعالى من الولاية التي يتصدي بها لخلافة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، ومن المعلوم ان امير المؤمنين عنده هذه الولاية أعني الولاية التكوينية وقد أعطت الكثير من الكتب الشواهد العديدة على هذه القضية ويكفي شاهد على ذلك في قضية رده الشمس ، وهل هذا الاتصرف تكويني من خلال اسم الله الاعظم ، وعليه المقام ثابت للصديقة الطاهرة فاطمة عليها السلام .
  * انها حجة الله الكبرى على الخلق بما فيهم الأنبياء والأوصياء ويدل على ذلك الحديث المروي نصه : ( ما تكاملت نبوة نبي حتى أقر بفضلها ومحبتها وعلى معرفتها

الاسرار الفاطمية _ 265 _

  دارت القرون الاولى ) ، فاذا كانت النبوة لا تكتمل لنبي من الأنبياء حتى يقر بفضلها ومحبتها ، فمن باب الاولوية ان كل مقام من المقامات المعنوية والمادية التي كانت ثابتة للأنبياء كانت ثابته ايضا للصديقة الطاهرة فاطمة عليها السلام إلاّ ما خرج بالدليل مثل النبوة الخاصة بكل نبي ، وايضا بينا في حديث ( نحن حجج الله على الخلق وجدتنا فاطمة عليها السلام حجة الله علينا ) قضية انها حجة الله الكبرى فما كان ثابت للائمة من الولاية التكوينية فهو ثابت لها عليها السلام ، هذه بعض الادلة بصورة اجمالية ولو كان لنا تقصي المسألة لا حتجنا إلى كتاب خاص في هذه المسألة ، واعطى لك شاهدين على ثبوت الولاية التكوينية لفاطمة عليها السلام واترك لك مراجعة المطولات في هذه القضية .
  * ( عن أبي عبدالله عليه السلام عن سلمان الفارسي : انه استخرج أمير المؤمنين من منزله ، خرجت فاطمة حتى انتهت إلى القبر ، فقالت : خلوا عن ابن عمي ، فوالذي بعث محمداً بالحق لئن تخلوا عنه لا نشرن شعري ولا ضعن قميص رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على رأسي ولا صرخن إلى الله ، فما ناقة صالح بأكرم على الله من والدي ، قال سليمان : فرأيت والله اساس حيطان المسجد تقلعت من اسفلها ، حتى لو أراد وتعالى بعث اباك رحمة فلا تكوني نقمة ، فرجعت الحيطان حتى سطعت الغبرة من اسفلها ، فدخلت في خياشيمنا ) (1) .
  * وفي مشارق انوار اليقين ص 86 مثل هذا الحديث ولكن باختلاف وهو : ( ثم رفعت جنب قناعها إلى السماء ، وهمت ان تدعو فارتفعت جدران المسجد عن الأرض وتدل العذاب ...
  وأخيرا اختم هذا الموضوع بقول الإمام الخميني قدس سره الذي يرى ثبوت الولاية التكوينية للصديقة الطاهرة فاطمة حيث يقول ما نصه : ( وثبوت الولاية والحاكمية للامام عليه السلام لا تعني تجرده عن منزلته التي هي له عند الله ، ولا تجعله مثل من عداه من الحاكم فان للامام مقاماً محموداً ودرجة سامية

---------------------------
(1) المناقب : 3 | 118 .

الاسرار الفاطمية _ 266 _

  وخلافة تكوينية تخضع لولايتها وسيطرتها جميع ذرات هذا الكون ، وان من ضروريات مذهبنا ان لائمتنا مقاما لا يبلغه ملك مقرب ، ولا نبي مرسل ، وبموجب مالدينا من الروايات والاحاديث فان الرسول الاعظم صلى الله عليه وآله وسلم والأئمة عليهم السلام كانوا قبل هذا العالم انواراً فجعلهم الله بعرشه محدقين ، وجعل لهم من المنزلة والزلفى ما لا يعلمه إلاّ الله وقد قال جبرئيل ، كما ورد في روايات المعراج لو دنوت انملة لا حترقت ، وقد ورد عنهم عليهم السلام : ان لنا مع الله حالات لا يسعها ملك مقرب ولا نبي مرسل ، ومثل هذه المنزلة موجودة لفاطمة الزهراء عليها السلام لا بمعنى انها خليفة أو حاكمة أو قاضية ، فهذه المنزلة شي آخر وراء الولاية والخلافة والأمرة ، وحين نقول : ( ان فاطمة عليها السلام لم تكن قاضية أو حاكمة أو خليفة فليس يعني تجردها عن تلك المنزلة المقربة كما لا يعني ذلك انها امرأة عادية من المثال ما عندنا ) (1) .

---------------------------
(1) الحكومة الاسلامية : 52 .

الاسرار الفاطمية _ 267 _

البحث العاشر : فاطمة عليها السلام أم أبيها

الاسرار الفاطمية _ 269 _

ألـقاب بـنت المصطفى iiكثيرة      نـظّمت  مـنها نـبذة iiيـسيرة
سـيـدة  إنـسـيّة iiحــوراء      نـوريّـة حـانـية iiعــذراء
كـريـمة رحـيـمة iiشـهـيدة      عـفـيـفة قـانـعة رشـيـدة
صـفـيّة  عـالـمة iiعـلـمية      صـابـرة  سـلـيمة iiمـكرمة
صـفـيّة  عـالـمة iiعـلـيمة      مـعصومة  مـغصوبة iiمظلومة
مـيمونة  مـنصورة iiمـحتشمة      جـمـيلة جـلـيلة iiمـعـظمة
حـاملة الـبلوى بـغير iiشكوى      حـلـيفة  الـعـبادة iiوالـتقوى
حـبـيبة الله وبـنت iiالـصفوة      ركـن  الـهدى وآيـة iiالـنبوّة
شـفـيعة الـعصاة أمّ iiالـخيرة      تـفّـاحة الـجـنّة iiوالـمطهّرة
سـيّدة  الـنساء بنت المصطفى      صـفوة ربّـها ومـوطن iiالهدى
قـرّة  عين المصطفى iiوبضعته      مـهـجة قـلـبه كـذا iiبـقيّته
حـكـيمة  فـهـيمة iiعـقـيلة      مـحـزومة مـكـروبة iiعـلية
عــابـدة زاهــدة iiقـوّامـة      بـاكـية  صـابـرة iiصـوّامة
عـطـوفة رؤوفــةه iiحـنّانة      الـبـرّة الـشـفيقة iiالأنّـانـة
والـدة الـسبطين دوحـة iiالنبيّ      نـور  سماويّ و زوجة iiالوصيّ
بــدر تـمـام غـرّة iiغـرّاء      روح أبـيـهـا درّة iiبـيـضاء
واسـطـة قــلادة والـجـود      درّة  بـحر الـشرف iiالـوجود
ولــيّــة  الله وســـرّ الله      أمـيـنة  الـوحي وعـين iiالله
مـكـينة فـي عـالم iiالـسماء      جـمال الآبـاء شـرف iiالأبناء
درّة بـحـر الـعـلم والـكمال      جـوهـر  الـعـزّة iiوالـجلال
قـطب  رحـى المفاخر iiالسنيّة      مـجـموعة الـمآثر iiوالـجلال
مـشكاة  نـور الله iiوالـزجاجة      كـعبة  الآمـال لأهـل iiالحاجة
لـيـلة قــدر لـيلة iiمـباركة      ابـنة مـن صـلّت به iiالملائكة
قـرار  قـلب أمّـها الـمعظّمة      عـالية الـمحلّ سـرّ iiالـعظمة
مكسورة الضلع رضيض الصدر      مـغصوبة الحقّ خفيّ القبر (1) ii

---------------------------
(1) الجنة العاصمة : 66 ـ 68 ، عنه بهجة قلب المصطفى : 29 .

الاسرار الفاطمية _ 271 _

البحث العاشر : فاطمة عليها السلام أم أبيها
  عن الإمام الباقر عليه السّلام أنه قال إن فاطمة عليها السلام كانت تكنى : أم أبيها (1)
  نقف مع هذه الحديث لكي نستلهم منه المعاني الرائعة والجميلة التي تضمنها بين طياته ، فكلمة أم أبيها كلمة عذبة أفضل ما تفوهت به حنجرة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عندما قال مرحباً بأم أبيها ، فهذه الكلمة رغم أنها صغيرة ولكنها في نفس الوقت كبيرة مملوءة بالحب والأمل والعطف وكل ما في القلب البشري من الرقة والعذوبة ، لذا نرى لا بد من تسليط الأضواء على هذه الكلمة لكي نستخلص روائع الفكر من هذا الحديث الشريف الذي قلده رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لا بنته فاطمة فجعل جيدها يشع نوراً لمن أراد أن يستضي من نور معرفته .
  ولقد ورد في صحاح اللغة العربية أن معنى كلمة أم هو الأصل كما هو معروف في لسان القرآن الكريم حيث عبر عن مكة المكرمة بـ ( أم القرى ) أي أصل القرى في الجزيرة العربية ، ومنها انطلقت روح الحياة لكي تغذي القرى ومن حولها وتقوم برعيايتها ، وذلك لما لها من مكان وموقع جغرافي في قلب الجزيرة العربية مما جعلها قطب الرحى لبقية القرى ... وعلى هذا الأساس نفهم معنى هذا الحديث ( أم أبيها ) حيث نستطيع تفسير بأن فاطمة عليها السلام كانت مصدر ذرية رسول الله ومنبع نسله وهذا ينطبق ويتماشى مع تفسير الكوثر الذي هو مصدر ذرية رسول الله صلى الله عليه ومنبع نسله وهذا ينطبق ويتماشى مع تفسير الكوثر الذي هو مصدر ذرية رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم .
  أقول : إن في التأمل في حياة فاطمة عليها السلام واستقراء حياتها في ظل رعاية أبيها رسول

---------------------------
(1) مقاتل الطالبيين : 29 ، المناقب لابن المغازلي : 340 ح 392 ، أُسد الغابة : 5 | 520 ، الإستيعاب : 4 | 380 ، تهذيب التهذيب : 12 | 440 .

الاسرار الفاطمية _ 272 _

  الله صلى الله عليه وآله وسلم نجد عدة معاني وتفاسير تجعل هذا الحديث وهذه الكلمة أم أبيها كنظرية ولها تطبيقات عديدة في حياة الصديقة الطاهرة عليها السلام وعلى هذا الاساس نرى الوقوف مع هذا الحديث مما يزيدنا معرفة في فاطمة عليها السلام ويجعلنا نتقرب من الأسرار التي كانت تحيط بحياتها الشخصية وإليك بعض التفاسير والمعاني الرائعة لهذه الكلمة :
  * ان التدقيق في حياة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم مع ابنته فاطمة عليها السلام يجعلنا نفهم معنى أم أبيها حيث أن الزهراء عليها السلام كانت تقوم بمداراة أبيها رسول الله ورعايته أفضل ما تكون المراعاة بالنسبة لأم لولدها وفي قبال ذلك كان الرسول يحترمها كما يحترم الولد أمه ، وهذا نجد جلياً وواضحاً في سيرته الشريفة وعلاقته بالبضعة الطاهرة عليها السلام حيث كان الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ينادي بالزهراء عندما تقبل عليه : مرحباً بأم أبيها ، ويقدم لها ضروب الإحترام وألوان التعظيم ، حتى وصل الأمر إلى أن يقوم لها إجلالاً وتعظيماً ويأخذ يدها ويقبلها ثم يجلسها إلى جانبه ويقبل عليها بكليته ، وكان إذا يقبلها يقول : أشم منها رائحة الجنة .
  * إن رسالة نبينا محمد صلى الله عليه وآله وسلم لا بد لها من امتداد يمثلها في كافة جوانبها ويعطيها التفسير الصحيح ، وهذا لم نجده إلا من خلال الإمتداد الطبيعي للرسول صلى الله عليه وآله وسلم المتمثل في ذريته من فاطمة عليها السلام ، لذا كان الرسول يقول : ( حسين مني وأنا من حسين ، أحب الله من أحب حسيناً ) أي إن الحسين ابني وامتدادي الطبيعي فهو قرة عيني وثمرة فؤادي وفي نفس الوقت أنا من حسين ، وعليه فإن هذا الحديث يحدد المفهوم الذي أراده من هذا الحديث أي بدقة متكاملة وبتمعن نرى أن هذا الأمر يعني استمرار الرسالة السماوية وإحياء معالم الدين والعقيدة انما هو بوجود الحسين وذرية فاطمة من الأئمة المعصومين ، لذلك قيل ان الدين الإسلامي محمدي الوجود حسيني البقاء وهذا ما نراه في التضحية التي قدمها الحسين يوم عاشوراء حيث أرخص الغالي والنفيس لإحياء شجرة الرسالة المحمدية في كل جوانبها فغذاها بدمه ودم عيالاته من الأطفال والشباب والشيوخ والنساء حتى الطفل الرضيع ، وعلى هذا الأساس يكون معنى أم أبيها ان استمرار الإسلام وبقاء رسالة السماء وحفظ القرآن الكريم وعقائده مناهجه إنما يكون بواسطة فاطمة الزهراء عليها السلام ومن خلال ذريتها ، وهذا ما كان يراه الرسول

الاسرار الفاطمية _ 273 _

  في فاطمة من خلال تطلعه إلى آفاق المستقبل الذي سيكون لولد فاطمة فكان يكرمها ويحترمها ويقول لها مرحباً بأم أبيها .
  * ولعل وجه تكنيتها بأمّ أبيها هو أنه صلى الله عليه وآله وسلم يعاملها عليها السلام معاملة الولد أمه ، وانها تعامله معاملة الأم ولدها كما ان التاريخ يؤيد ذلك والأخبار تعضده ، ففي الأخبار الكثيرة أنه صلى الله عليه وآله وسلم يقبل يدها ويخصها بالزيارة عند كل عودة منه إلى المدينة المشرفة ويودعها منطلقاً عنها في كل أسفاره ورحلاته ، وكأنه يتزود من هذا المدينة المشرفة ويودعها منطلقاً عنها في كل أسفاره ورحلاته ، وكأنه يتزود من هذا النبع الصافي عاطفة لسفره كما يتزود الولد المؤدب من أمه ، ونلاحظ من جهةٍ أخرى ان فاطمة الزهراء عليها السلام تحتضنه وتضمد جروحه وتخفف من آلامه كالأم المشفقة لولدها ، وبالجملة كل ما يجده الولد في امه من العطف والرقة والشفقة والأنس فهو صلى الله عليه وآله وسلم يجده في فاطمة وكأنها أمه (1) .
  * ونقل المولى الأنصاري ( ره ) : إنّ النكتة في هذه التكنية إنما هي محض إظهار المحبة ، فإن الإنسان إذا أحبّ ولده أو غيره وأراد أن يظهر في حقّه غاية المحبّة قال : ( يا أمّاه ) في خطاب المؤنّث ، ويا ( أياه ) في خطاب المذكّر ، تنزيلاً لهما بمنزلة الأمّ والأب في المحبّة والحرمة على ما هو معروف في العرف والعادة (2) .
  أو أنّ الله عزّ وجلّ لمّا شرّف وكرّم أزواج النبي صلى الله عليه وآله وسلم بتكنيتهنّ بأمّهات المؤمنين صرن في معرض أن يخطر ببالهنّ أنّهن أفضل النساء حتى من بضعة المصطفى فاطمة الزهراء عليها السلام ، ولأجل ذلك كنّاها أبوها بأمّ أبيها صوناً لهذه الخواطر والوساوس ، يعني يا نساء النبي إن كنتنّ أمّهات المؤمنين ، ففاطمة عليها السلام أمّ النبيّ ، أمّ المصطفى ، أمّ الرسول ، أمّ أبيها .
  ويمكن أن يراد بهذه التكينة معنىً أدق وأعمق من الأول والثاني وإن كان الأول هو الأظهر ، وهو : أنّ أمّ كلّ شيء أصله ومجتمعه كما صرّح به أهل اللغة كأم القوم وأمّ الكتاب وأم النجوم وأم الطرق وأم القرى وهي مكّة شرّفها الله تعالى ، وأم الرأس وأم الدماغ و ... فعليه يمكن أن يقال : إنّه صلى الله عليه وآله وسلم أراد منها أنّ ابنتي فاطمة هي أصل شجرة

---------------------------
(1) فاطمة بهجة قلب المصطفى : 204 .
(2) اللمعة البيضاء : 50 .

الاسرار الفاطمية _ 274 _

  الرسالة وعنصر النبوّة ، كما قال الباقر عليه السلام : الشجرة الطيّبة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وفرعها عليّ عليه السلام وعنصر الشجرة فاطمة عليها السلام وثمرتها أولادها ، وأغصانها وأوراقها شيعتها (1) .
  وكما أنّه لولا العنصر يبست الشجرة وذهبت نضرتها ، فكذلك لولا فاطمة لما اخضرّت شجرة الإسلام ، فإنّ الشجرة تسمو وتنمو بتغذيتها من أصلها .
  وشجرة الشريعة الحنيفيّة قد سمعت ونمت بمجاهداتها ودفاعها من إمامها وبعلها الشريف المظلوم ومجاهدات أولادها وتضحيّاتهم ، لا سيّما شبليها الكريمين ، فإنّ الحسن عليه السلام بصلحه أبقى شجرة الإسلام ومنعها من الاصطدام والحسين عليه السلام بإبائه عن البيعة وبذل مهجته الشريفة سقاها وربّاها ، ولولا صلح الحسن وقيام الحسين عليها السلام ليبست شجرة الإسلام وما قام لها عود ولا اخضرّ لها عمود .
  ولا يخفى أنّ أصل الحسن والحسين عليهما السلام أمّهما فاطمة الزهراء عليها السلام ، ولولاها لم يكن أبوها وبعلها وبنوها عليهم السلام كما تقدم في صدر الكتاب .
  ولتمام البحث فاستمع لم يتلى من بعض الأخبار في هذا المعنى : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : أنا شجرة ، وفاطمة أصلها ، وعليّ لقاحها ، والحسن والحسين ثمرها (2) .
  وعن المفضّل بن محمد الجعفيّ قال : سألت أبا عبدالله عليه السلام عن قول الله عزّ وجلّ : ( حبة أنبتت سبع سنابل ) (3)
  قال : الحبّة فاطمة عليها السلام ، والسبع السنابل سبعة من ولدها ، سابعها قائمهم ... (4) .
  وقال بعض أهل التحقيق : سرّ التعبير عنها عليها السلام بالحبّة يحتمل وجهين :
  الأول : إمّا كناية عن أنها هي المقصود أولاً وبالذات ، وإما أن تكون مجرى هذه الأمانات الإلهيّة ومظاهر التوحيد الحقيقيّ صلوات الله عليها ، ووجه التشبيه أنّ من لم يكن من الزرّاع عنده حبّه فهو آيس من تحصيل الزراعة ، فأصل النظر عنه دائماً إلى الحبّة فقطّ وإلا فالنتيجة منها غير حاصلة ، وكذلك وجود الزهراء صلوات الله عليها

---------------------------
(1) مجمع البحرين : مادة شجر .
(2) ميزان الأعتدال : 1 | 234 ، على ما في إحقاق الحق : 9 | 152 .
(3) البقرة : 261 .
(4) تفسير نور الثقلين : 1 | 282 .

الاسرار الفاطمية _ 275 _

  هي المصدر والأصل لهذه الأنوار الإلهية ، رزقنا الله حبّها وشفاعتها .
  الثاني : أنّ الزراعة أصلاً وحقيقة هي تلك الجبّة مع إضافات أخريأ عملت فيها ، فتصور بصرة أخرى ، وإنما الفرق بينهما الإجمال والتفصيل ، وإلا هي هي مادة وأصلاً .
  فعلى هذا تكون الأنوار المقدّسة هي المتشعبّة والمشتقّة من هذه الحبّة الإلهية (1) ...
  * إن النبي كان يكشف عن مكانة فاطمة في الإسلام ، في كل كلمة يقولها لفاطمة ، وكل صنيع يصنعه لها . وهنا أراد النبي الكريم ، أن يبيّن عظمة فاطمة الزهراء ، وأنها تختلف عن نسائه اختلافاً كبيراً ، أي أن مكانة الزهراء تفوق مكانة نساء النبي لأنها تختلف عن نسائه اختلافاً كبيراً ، أي أن مكانة الزهراء تفوق مكانة نساء النبي لأنها معصومة ... وهنّ لسنن بمعصومات ... ولأنها مطهرة من الرجس ، وهن لسن مطهرات من الرجس ... ففاطمة زعيمة آية التطهير ، بينما لم تدخل واحدة من نساء النبي في آية التطهير ، حتى أم سلمة على جلالة قدرها ، لما اقتربت من الكساء والنبي يقرأ قوله تعالى : ( إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيراً ) (2) .
  وكان تحت الكساء يومها محمد وعلي وفاطمة والحسن والحسين ـ عليهم أفضل الصلاة وأزكى السلام ـ أقول : لما اقتربت أم سلمة من طرف الكساء ، وقالت : وأنا منهم يا رسول الله ـ روحي فداك ـ ؟ قال : لا ... لست منهم ، ولنك على خير ، أو إلى خير .
  وفي يوم المباهلة نجد النبي لم يخرج معه من النساء سوى فاطمة في حين أن آية المباهلة واضحة بقولها : ( فمن حاجك فيه من بعد ما جاءك من العلم فقل تعالوا ندعو أبناءنا وأبناءكم ونساءكم ، وأنفسنا وأنفسكم ، ثم نبتهل فنجعل لعنة الله على الكاذبين ) .
  أقول : ولما خرج النبي إلى مباهلة النصارى ، لم يخرج معه سوى الحسن والحسين وفاطمة وعلي عليهم السلام فالحسن والحسين يمثلان الأبناء ، وفاطمة تمثل النساء ، وعلي يمثل نفس النبي ، وهذا إن دل علي شيء فإنما يدل على أن فاطمة سيدة النساء ، ولو كانت واحدة من نساء النبي في مستوى فاطمة لأخرجها معه ، ولكنه ـ أي الرسول ـ لم يجد

---------------------------
(1) القطرة للسيد أحمد المستنبط : 158 .
(2) اعلموا أني فاطمة : 2 | 723 ـ 731 .

الاسرار الفاطمية _ 276 _

  في نسائه ، ولا في بني هاشم ولا في نساء الخلافة ، واحدة تقوم مقام الزهراء ، فاطمة بنت محمد ـ صلوات الله وسلامه عليها .
  والذين يحاولون إدخال زوجات النبي في أهل البيت ، عليهم أن يتفكروا في أمر آية المباهلة لتستبين لهم جادة الحق والصواب كالشمس الصافية المشرقة .
  ولتأصيل هذا المعنى ، وتأكيده اقرأوا معي إذا شئتم أول سورة التحريم ، وهو قوله تعالى : ( يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك تبتغي مرضاة أزواجك ) (1) ، والتعبير واضح جداً .
  فحينما يقول : تبتغي مرضاة أزواجك ، فإن معنى ذلك أن رضى زوجات النبي لا قيمة له أمام رضا الله سبحانه وتعالى لأن رضا أزواج النبي خاضع للهوى ، وليس لموازين الإيمان ، وهذا ليس انتقاصاً لنساء النبي وإنما هو الواقع ، والحقيقة فنساء النبي لسن معصومات وما فيهن واحدة يمكن أنت تصل إلى مستوى فاطمة ، لذلك يقول القرآن في استنكار شديد ( يا أيها النبي لم تحرم ما الله لك ، تبتغي مرضاة أزواجك ) .
  علماً بأن النبي لا يحرّم ما أحل الله له في التشريع الإسلامي الحنيف ، وإنما كانت القضية ، مسألة خاصة تتعلق بشيء من السمن والعسل أهدي إلى زوجة النبي زينت بنت جحش ، وحدث أن كان النبي عندها ، فقدمت له من ذلك الطعام شيئاً يسيراً فأكله النبي ، غير أن غيرة عائشة وبعض نسائه أدت إلى أن تقوم اثنتان من نساء النبي ـ كما ورد في سورة التحريم ـ وهما عائشة وحفصة ، أن تقوما بمظاهرة ضد الرسول الأعظم محمد صلى الله عليه وآله وسلم وبدأت المظاهرة بقول عائشة وحفصة للنبي إننا نشم من فمك رائحة كريهة ، فتعجب النبي أن تكون رائحة فمه كريهه وهو الذي كانت حبات عرقه تتضوع عطراً ، بل كان جسمه يفوح بعطر الجنة كما جاء ذلك في سيرته الذاتية ، وأحواله الشخصية .. ولكن لا بأس ، إذا كان هذا الطعام الذي أكلته ـ هكذا قال النبي ـ فيه رائحة غير جيدة فقد حرمته على نفسي أي أن النبي حرّم ذلك الطعام الذي هو

---------------------------
(1) التحريم : 1 .

الاسرار الفاطمية _ 277 _

  عند زوجته زينب بنت جحش ولم يحرم كل أنواع العسل ... ولذلك قلت لكم ـ آنفاً ـ إن التحريم كان خاصاً به ولم يكن عاماً وشاملاً ، لأن النبي لا يحرم ما أحل الله : ( وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى ) ، ومحل الشاهد هنا ، هو قول الحق سبحانه : ( يا أيها النبي لم تحرّم ما أحل الله لك تبتغي مرضاة أزواجك ) ، وهذا يدل بوضوح ، على أن رضا أزواج النبي لا وزن ولا قيمة له أمام رضا الله سبحانه وتعالى .
  هذا بالنسبة لرضا أزواج النبي ونسائه ... أما بالنسبة لفاطمة الزهراء ـ سلام الله عليها ـ فالأمر يختلف اختلافاً جذرياً ، يقول النبي : ( إن الله ليرضى لرضا فاطمة ويغضب لغضبها ) .
  ويقول : يا فاطمة إن الله ليرضى لرضاك ويغضب لغضبك .
  ويقول في حديث ثالث : ( رضا فاطمة من رضاي وسخطها من سخطي ) .
  والويل لمن غضبت عليه فغضبها يعني غضب الله ، وإذا غضب الله على أحد أحل به نقمته ، وجنّبه رحمته .
  يقول : الله عزّ وجلّ : ( ومن يحلل عليه غضبي فقد هوى ) (1) .
  ونحن نعرف أن فاطمة ماتت وهي غاضبة وواجدة على أبي بكر وعمر ، كما جاء في صحيح البخاري ، فما أدري كيف تكون المعادلة ... إذا كان غضب فاطمة ، هو غضب الله ، وأن الله ليرضى لرضا فاطمة ، ويغضب لغضبها ، ثم تموت الزهراء ، وهي واجدة ـ غاضبة ـ على أبي بكر وعمر ، فالقرآن يقول بصراحة : إن الذي يحلل عليه غضب الله يكون من الهالكين : ( ومن يحلل عليه غضبي فقد هوى ) .
  والعجيب أن هذه الأحاديث كلها موجودة في صحيح البخاري وفي كتب الصحاح الأخرى ، وكلها تؤكد أن الله ليرضى لرضا فاطمة ويغضب لغضبها ... وأن فاطمة ماتت وهي واجدة على أبي بكر و عمر ... ماتت ولم تكلمهما كلمة واحدة ... ماتت ودفنت في الليل ولم يحضر أبو بكر ولا عمر تجهيزها ولا الصلاة عليها ... وهذه قضية معروفة

---------------------------
(1) طه : 81 .

الاسرار الفاطمية _ 278 _

  لدى المسلمين كافة ، أما لماذا يرضى الله لرضا فاطمة ويغضب لغضبها ، فواضح جداً وذلك أنها طاهرة نقية ، معصومة لا تتعامل مع الخطأ في قول ولا فعل وهي التي كانت تقول : ( أيها الناس إعلموا أني فاطمة ، وأبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
  أقول : حقاً عوداً وبدءاً ، ولا أقول ما أقول غلطاً ، ولا أفعل ما أفعل شططاً ... ) فلا غلط في قولها ... ولا شطط في فعلها على الإطلاق .
  * حادثتان تكشفان حقيقة حديث النبي : والذي يهمني هنا هو ذكر حادثتين اثنتين فقط ، لأنهما تسلطان الضوء على الحديث الذي نحن بصدده ، إضافة إلى كون الحادثتين اللتين سأذكرهما ، تعكسان صورة واضحة وجلية تكشف لنا عن حقيقة حديث مرحباً بأم أبيها .
  الحادثة الأولى هي المؤاخاة ، فقد آخى النبي بين كل أصحابه لينزع الغل من بعض القلوب ، ويجعلهم صفاً واحداً في مواجهة العدو ، كأنهم بنيان مرصوص ... فقال : هذا أخو هذا ، وفلان أخو فلان ، حتى لم يبق أحد سوى علي ظل واقفاً إلى جواز النبي فأخذ النبي بعضده وقال له : أنت أخي أو قال : ( وهذا أخي ... ) ... وهنا تجدر الملاحظة بدقة متناهية ، حيث أن النبي اختار علياً من دون أصحابه ليكون أخاً له دون غيره .
  إذن اجعلوا هذه الحادثة ، عالقة في أذهانكم ثم تعالوا معي إلى الحادثة الثانية : وهي لما نزلت آية الحجاب : ( وإذا سألتموهن متاعاً فاسألوهم من رواء حجاب ) (1) .
  قال طلحة : أيريد محمد أن يمنعنا من النظر إلى بنات عمنا ، أما والله لئن مات محمد لنتزوجن نساءه ، ونجول بين خلاخيلهن ... !! ...
  حقاً إنه عجب يثير الهم يجلب الحزن ، أن نسمع مثل هذا الكلام من طلحة وهو من العشرة المبشرين بالجنة ( ... ) ولا أعتقد أن بوابة الجنة سوف تنخلع أمامه ليدخل الجنة من أعرض الأبواب ، هذا الذي لا يتورع من إظهار الهوى والغرام لزوجات النبي وهن أمهات المؤمنين ، ولم يحفظ حرمة رسول الله ، ولكن ما علينا بطلحة ، لنتركه يعيش مع غرامه الباطل فإن عذاب جهنم كان غراماً ، ولنرجع إلى الحادثة الثانية ،

---------------------------
(1) الأحزاب : 53 .

الاسرار الفاطمية _ 279 _

  وهي حين نزلت آيات الحجاب ، وظهر من بعض المنافقين مثل الكلام الذي قد مرّ نزلت آية تقول : ( ما كان لكم أن تؤذوا رسول الله ولا أن تنكحوا أزواجه من بعده أبداً ) (1) .
  ثم جاء آية ثانية تتحدث عن مكانة زوجات النبي وأنهن بمثابة الأمهات لكم أيها المؤمنون قالت الآية : ( النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم وأزواجه أمهاتهم ) (2) .
  وهذا يعني أن عائشة أم المؤمنين وأن زينب بنت جحش أم المؤمنين ، ومارية القبطية أم المؤمنين ، وحفصة أم المؤمنين ، وخديجة الكبرى أم المؤمنين ... فأثارت هذه الآية سؤالاً عريضاً على الشفاه السؤال هو : إذا كانت كل واحدة من زوجات النبي أماً للمؤمنين ... فاطمة أم من ؟ وهنا جاء الجواب على لسان الرسول الأمين الذي ما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى حيث قال ( فاطمة أم أبيها ... ) ومن ذلك الحين أصبحت فاطمة أم أبيها ، وصار الرسول يناديها بأم أبيها ، فيقول : مرحباً بأم أبيها .
  وأورد صاحب كتاب ( رياحين الشريعة ) جملة من الألقاب والكنى للسيّدة الكبيرة فاطمة الزهراء صلوات الله عليها وعلى بعلها وبنيها ، وهي : ابنة الصفوة ، إحدى الكبر ، أرومة العناصر ، أعزّ البريّة ، أمّ الأئمّة المعصومين ، أمّ الأبرار ، أمّ الأبرار ، أمّ الأخيار ، أمّ الأزهار ، أمّ الأطهار ، أمّ الأنوار ، أمّ البدريّين ، أمّ البررة ، أمّ البريّة ، أمّ البلجة ، أمّ التقى ، أمّ الحسن : أمّ الحسين ، أمّ الخيرة ، أمّ الرأفة ، أمّ الرواق الحسيبة ، أمّ الريحانتين ، أمّ السبطين ، أمّ العطيّة ، أمّ العلا ، أمّ العلوم ، أم الفضائل ، أمّ الكتاب ، أمّ المحسن ، أمّ المؤمنين ، أمّ الموانح ، أم النجباء ، أمّ النقى ، أمّ النورين ، أمة الله ، آية الله ، آية الله العظمى .
  باكية العين ، البتول ، برزخ النبوّة والولاية ، بضعة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ، بقيّة النبوّة ، بهجة الفؤاد ، بهجة بيضاء بضّة ، تفّاحة الفردوس ، التقيّة ، ثالثة الشمس والقمر ، ثمرة النبوّة ، جرثومة المفاخر ، جمال الآباء ، الجميلة الجلية ، حاملة البلوى ، الحانية ، الحبّة النابتة حبّها خير العمل ، حبيبة المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم ، حجاب الله المرخى ، حجّة الله الكبرى ،

---------------------------
(1) الأحزاب : 53 .
(2) الأحزاب : 6 .

الاسرار الفاطمية _ 280 _

  الحرّة ، الحصان ، حظيرة القدس ، الحوراء خامسة أهل العبا ، الخيرة من الخير ، درّة التوحيد ، الدرّة المنضدة ، الدعوة المستجابة ، الذروة الشامخة ، ذريعة الشيعة ، الراضية ، ربيبة مكّة ، الرشيدة ، ركن الدين ، روح بين جنبي المصطفى ، ريحانة النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، زجاجة الوحي ، الزكيّة زوجة وليّ الله الأعظم ، الزهراء ، زين الفواطم ، ستر الله الكبرى ، سفينة النجاة ، سلالة الرضوان ، سلالة الفخر ، سماء الكواكب الدريّة ، السيّدة ، سيّدة بنات آدم عليه السلام ، سيّدة الأوّلين والآخرين ، سيّدة نساء الجنّة ، سيّدة نساء هذه الأمّة ، سيدة النسوان ، شرف الأبناء ، شفيعة الأمّة ، الشفيعة يوم القيامة ، الشمس المضيئة ، الشهيدة ، الصائمة في النهار ، الصابرة في المحن ، صاحبة الأحزان الطويلة ، صاحبة الجنّة السامية ، صاحبة المصحف ، الصادقة في السرّ والعلن ، الصدف الفخّار ، الصدّيقة ، الصدّيقة الكبرى ، صفوة الشرف ، صلوة الوسطى ، امن الشفاعة ، الطاهرة ، الطاهرة في الأفعال ، الطاهرة الميلاد ، ظلّ الله الممدود ، العابدة التقيّة ، العارفة بالأشياء ، العالمة بما كان وما يكون ، عالية الهمّة ، عديلة مريم الكبرى ، العذراء ، عروة الوثقى ، العفيفة ، عقيلة الرسالة ، عيبة العلم ، عين الحجّة ، عين الحياة الغرّة الغرّاء ، الفاضلة الفضلى ، فخر الأئمّة ، فلذّة كبد المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم ، القائمة في الليل ، القانتة ، القانعة ، والقدوة المسدّدة ، قرار القلب ، قرّة عين الخلائق ، قلادة الوجود ، الكئيبة ، الكريمة في النفقة ، كلمة الله التامّة ، كلمة التقوى الكلمة الطيّبة ، الكوثر ، الكوكب الدرّي . لية القدر ، المباركة ، مبشّرة الأولياء ، المتعوبة في الدنيا ، المتهجّدة ، محترقة القلب ، المحدّثة ، المرضيّة ، مريم الكبرى ، المزوّجه في الملأ الأعلى ، مشكوة الأنوار ، المضطهدة ، المظلومة ، معدن الحكمة ، المعروفة في السماء ، معصّبة الرأس ، المعصومة ، المغصوبة حقّها ، مقتولة الجنين ، مكسورة الضلع ، الممتحنة ، الممنوعة إرثها ، المنصورة ، المنعوتة في الإنجيل ، المنهدّة الركن ، الموصوفة بالبرّ والتبجيل ، موطن الرحمة ، مهجة العالم ، مهجة قلب المصطفى ، الميمونة ، ناحلة الجسم ، الناطقة بالشهادتين عند الولادة ، النبيلة ، نجمة إكليل النبوّة ، نخبة أبيها ، النعمة الجليلة ، نور الأنوار ، النوريّة ، والدة الحجج ، والدة الحسن والحسين عليه السلام ، الوالهة الثكلى ، الوحيدة الفريدة ، وديعة الرسول ، وعاء المعرفة ، وليّة الله العظمى ، الوليدة في الإسلام ، ينابيع الحكمة ، ينبوع العلم .

الاسرار الفاطمية _ 281 _

البحث الحادي عشر : فلسفة تسبيح فاطمة الزهراء عليها السلام

الاسرار الفاطمية _ 283 _

  
الشيخ صالح كواز الحلي

الـواثـبين  لـظلم آل iiمـحمد      ومـحـمد مـلقى بـلا iiتـكفين
والـقـائلين  لـفـاطم iiآذيـتنا      فـي طـول نـوح دائم iiوحنين
والـقاطعين  اراكـة كي iiماتقيل      بـظل  اوراق لـها iiوغـصون
ومجمعي حطب على البيت الذي      لـم يـجتمع لـولاه شمل iiالدين
والـداخلين  عـلى البتولة iiبيتها      والـمسقطين  لـها أعـز جنين
والـقـائدين  امـامهم iiبـنجاده      والـطهر تـدعو خـلفهم برنين
خلو  ابن عمي او لاكشف iiللدعا      رأسـي  وأشـكو للاله iiشجّوني
مـا  كـان ناقة صالح iiوفصيلها      بـالفضل  عـند الله إلاّ iiدونـي
ورنت  إلى القبر الشريف iiبمقلة      عـبرى وقـلب مـكمد محزون
قـالت واظـفار المصاب iiبقلبها      غـوثاه  قـل على العداة iiمعيني
أبـتاه  هـذا الـسامري iiوعجله      تـبعا ومـال الناس عن iiهارون
أي الـرزايـا اتـقي iiبـتجلدي      هو في النوائب مذ حييت iiقريني
فـقدي ابي ام غصب بعلي iiحقه      ام  كسر ضلعي ام سقوط iiجنيني
ام اخـذهم ارثي وفاضل iiنحلتي      ام  جـهلهم حـقي وقد iiعرفوني
قـهروا  يتيميك الحسين وصنوه      وسـئلتهم حقي وقد نهروني (1)

---------------------------
(1) هذه القصيدة العصماء للشاعر المرحوم الشيخ صالح الكواز الحلي .

الاسرار الفاطمية _ 285 _

البحث الحادي عشر : فلسفة تسبيح فاطمة الزهراء عليها السلام
  من الشعائر الإسلامية التي أكد عليها القرآن الكريم هي شعيرة التسبيح ، تلكم الشعيرة التي تزيد في إيمان الإنسان وتضيف عليه هالة من النورانية عبر أداء هذه الركيزة الإسلامية التي أكد عليها القرآن الكريم في كثير من آياته المباركة فقد جاء في قوله تعالى ( وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم ) ليؤكد على هذه الحقيقة الخالدة التي أثبتها الله تبارك وتعالى لجميع الأشياء ، فالكون يسبح والنجوم تسبح في مداراتها الغارقة في أعماق الفضاء والشجر والنباتات والحيوانات بكل صنوفها تشترك في هذا الموكب الرهيب الذي يثير الدهشة ويجتذب القلوب ، وفي ذلك يقول القرآن الكريم : ( والطير صافات كل قد علم صلاته وتسبيحه ) (1) .
  وأيضاً قوله تعالى : ( فسبح باسم ربك العظيم ) .. أي نزّه الله سبحانه عن السوء ، والشرك وعظمه بحسن الثناء عليه ، ومعناه أيضاً نزه اسمه عما لا يليق به ... فلا تضف إليه صفة نقص أو عملاً قبيحاً ... ومعناه أيضاً قولوا سبحان ربي العظيم ... والعظيم في صفة الله تعالى معناه كل شيء سواه يقصر عنه فإنه القادر العالم الغني الذي لا يساويه شيء ولا يخفى عليه شيء جلت آلاؤه وتقدست أسماؤه .
  وورد في التفسير المروي في هذه الآية المباركة : أي فبرئ الله تعالى مما يقولون في وصفه ، ونزهه عما لا يليق بصفاته ، وقيل معناه قل سبحان ( لله ) ربي العظيم ، فقد صح عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه لما نزلت هذه الآية قال ( اجعلوها في ركوعكم ) وراجع في ذلك تفسير مجمع البيان ليتضح لك الحال والبيان .
  ولقد ورد في القرآن الكريم عدة ألفاظ للتسبيح فتارة يأتي على نحو صيغة الأمر تسبح وتارة أخرى بصيغة الماضي أو الحاضر ... يسبح ... تسبّح ... وسبحان الله ... وهذا

---------------------------
(1) النور : 41 .

الاسرار الفاطمية _ 286 _

  يعني أن التسبيح له صفة الإستمرارية في كل شيء وكما قلنا فالكون يسبح ... الخ .
  وإذا تفحصنا القرآن الكريم نجد زخماً كبير من الآيات المباركة تصل العشرات تؤكد على مسألة التسبيح ومنها : ( سبّح لله ما في السموات والأرض ) (1) .
  ( يسبح له ما في السموات وما في الأرض ) (2) .
  ( وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل الغروب ) (3) .
  ( صبح اسم ربك الأعلى الذي خلق فسوى والذي قدر فهدى ) (4) .
  إذن رحلة التسبيح في القرآن الكريم عظيمة وكبيرة جداً كل ذلك ليكون إيمان الإنسان عبر التسبيح في القرآن الكريم عظيمة وكبيرة جداً كل ذلك ليكون إيمان الإنسان عبر التسبيح أعظم وأفضل ما يكون عليه الإيمان ، وقد ذكرنا هذه المقدمة لتكون لنا عوناً على استيعاب الموضوع الذي نحن فيه ـ تسبيح الزهراء عليها السلام ـ ومن الطبيعي جداً نرجع إلى المصدر الأول للمسلمين الذي هو القرآن الكريم لنرى كيف أكد على هذا التسبيح ، وبعد ننطلق ونسبح في فضاء تسيبح الصديقة الطاهرة فاطمة عليها السلام .
  فالقرآن الكريم قال ان الكل يسبح ولكن لا نعرف نحن القاصرون عن إدراك الكثير من الحقائق التي تخصنا نحن كبشر في حياتنا ، وإلا فالكل يسبح ولكن نحن لا نعرف لغة هذا التسبيح الذي يخص الكائنات الأخرى سواء النباتية أو الحيوانية وأو الجمادية أو الأفلاك المتحركة ، فإن لهذه الوجودات لغات خارجة عن تصوراتنا وعن حدود معرفتنا ، وليس لنا القابلية في معرفة هوية هذا التسبيح الخاص بها ، إلا من وفقه الله تعالى في مجاهدة نفسه ووصل إلى مرحلة الكشف والشهود لكثير من الحقائق الكونية ... وهذا ما نجده متحقق في كثير من الأنبياء عليهم السلام كما في قصة سليمان عليه السلام الذي أعطاه الله تبارك وتعالى معرفة لغة الحيوانات ( وعلمنا منطق الطير ) ويقول الله تعالى في ذلك : ( قالت نملة يا أيها النمل ادخلوا مساكنكم لا يحطمنكم سليمان وجنوده وهم لا يشعرون فتبسم ضاحكاً من قولها ) (5) .

---------------------------
(1) الحديد : 1 .
(2) الحشر : 24 .
(3) ق : 31 .
(4) الأعلى : 1 .
(5) النمل : 18 ـ 19 .

الاسرار الفاطمية _ 287 _

  فسليمان يعرف لغة الغير من الحيوانات كالنمل والطير وإلا لو كان لا يعرف لغة النمل لما تبسم ضاحكاً من قولها ، وعلى هذا الأساس فإن لكل شيء في هذا الكون لغة ومنطق ولكننا لا نفقه لغته ولا نعرف منطقه ولا ندرك ذلك إلا لمن أعطاه الله تبارك وتعالى نور البصيرة في كل شيء ( ومن لم يجعل الله له نور فما له من نور ) .
  إذن فكل شيء له لغة وله منطق غير أننا لا نفقه تلك اللغات اللهم إلا أن يكون الإنسان نبياً أو وصي نبي أو أحد الأئمة الهداة الذين علمهم الله منطق كل شيء وكما ورد ذلك في كتاب مدينة المعاجز الذي يعطيك عشرات الشواهد على ذلك ... أما نحن فلاحظّ لنا من ذلك على الإطلاق ، وفي حديث أن الحصى كانت تسبح في كف النبي والصحيح هو أن النبي كا يسمع صوت الحصى حينما تسبح الله وتقدسه ... وإلا فالحصى هي مسبحة لله تعالى في يد النبي صلى الله عليه وآله وسلم وفي يد غيره من البشر غاية ما في الأمر أن الأنبياء لهم القدرة على سماع هذا التسبيح بشكل واضح وملموس .
  وبعد أن وقفنا بعض الشيء مع معالم التسبيح في القرآن الكريم نأتي الآن إلى نورانية تسبيح فاطمة عليها السلام الذي يعبتر من الشعائر الدينية لدى الشيعة والسنّة والذي يعتزون به كأفضل الأعمال عقيب الصلاة المفروضة .
  ولقد جاء الحث عليه من قبل الأئمة عليهم السلام في كثير من الأحاديث التي وصلت إلينا عبر الرواة والمحدثين ومنها ما جاء عن لسان أبي جعفر عليه السلام قال : ( ما عبدالله بشيء من التمجيد أفضل من تسبيح فاطمة عليها السلام ، ولو كان شيء أفضل منه لنحله رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فاطمة عليها السلام ) (1) .
  وعنه عليه السلام قال : ( من سبّح تسبيح الزهراء عليها السلام ثم استغفر غفر له وهي مائة باللسان ، وألف في الميزان ، وتطرد الشيطان ، وترضي الرحمان ) (2) .
  وجاء عن هارون المكفوف ، عن أبي عبدالله عليه السلام قال : ( يا أبا هارون ! إنا نأمر صبياننا بتسبيح فاطمة عليها السلام كما نأمرهم بالصلاة فالزمه ، فإنه لم يلزمه عبد فشقي ) (3) .

---------------------------
(1) الكافي : 3 | 343 | ح 14 ، الوسائل : 4 | 1024 | ح 1 ، التهذيب : 2 | 105 .
(2) ثواب الأعمال : 196 | ح 2 ، الوسائل : 4 | 1023 ح 3 .
(3) أمالي الصدوق : 464 ح 16 ، ثواب الأعمال : 195 ، الكافي : 3 | 343 ح 13 .

الاسرار الفاطمية _ 288 _

  وأيضاً عن الصادق عليه السلام قال : ( من سبح تسبيح فاطمة عليها السلام قبل أن يثني رجله بعد انصرافه من صلاة الغداة غفر له ويبدأ بالتكبير ) ثم قال أبو عبدالله عليه السلام لحمزة بن حمران : ( حسبك بها يا حمزة ) (1) .

تشريع التسبيح
  من منّا لا يعرف كفاح فاطمة عليها السلام وكيف كانت حياتها تجري في بيت زوجها علي أمير المؤمنين ـ عليه أفضل الصلاة وأزكى السلام ـ فالتاريخ يحدثنا أنها كانت قليلة الهجوع في لليل ، وكانت تستغفر الله في الأسحار ، فتقف في محرابها للصلاة حتى تورمت قدماها من كثرة العبادة والدعاء ... وكانت تذوب رقة وخشوعاً في صلاتها وعند دعائها ، ولدى قراءتها القرآن الكريم ... فإذا مرت بآية فيها وعد أو وعيد رددتها في بكاء وحزن ودموع ... هذا كان بعض شأنها في الليل ... أما في النهار ، فقد كانت فاطمة تطحن بالرحى حتى أثّرت الرحى بيدها ، واستقت بالقربة حتى أثرت القربة بنحرها ، وكنست البيت حتى اغبرّت ثيابها ، وأو قدت تحت القدر حتى طبع الدخان أثره على ملابسها وترك لونه على ثيابها وقت العمل بالطبع (2) وبلغ بها الحال أن دخل عليها النبي صلى الله عليه وآله وسلم ذات صباح ، وهي تطحن بالرحى وعليها كساء من وبر الإبل ، وطفلها يبكى إلى جانبها ، فبكي النبي ، وقال ( تجرعي يا فاطمة مرارة الدنيا لحلاوة الآخرة ) (3) .
  وذات مرة ، وقفت فاطمة الزهراء عليها السلام بين يدي أبيها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فنظر اليها ، وقد بدت آثار التعب على وجهها ، من شدة الجوع والكفاح ، فوضع يده الكريمة على صدرها ، ورمق السماء بطرفه ، وراح يدعو لها ، والدموع تترقرق في عينيه ، وهو يقول : ( يا فاطمة تجرعي مرارة الدنيا ، لحلاوة الآخرة ) .
  وقد تكرر هذا الموقف من رسول الله

---------------------------
(1) قرب الإسناد : 165 .
(2) صفوة الصفوة : 2 | 6 و كتاب فاطمة الزهراء لمحمد علي دخيل : 63 .
(3) أعلام النساء لعمر كحالة 3 | 216 وكتاب فاطمة الزهراء لمحمد علي دخيل : 63 .

الاسرار الفاطمية _ 289 _

  لفاطمة ، وفي كل مرة يكرر عليها هذه العبارة : يا فاطمة تجرعي مرارة الدنيا لحلاوة الآخرة ... وفي ذلك درس عظيم لكل فتاة تبحث عن النجاح في الحياة ... فيه درس عظيم لكل امرأة تفتش عن السمو ... تفتش عن التكامل في الإسلام .
  يقول جابر بن عبدالله الأنصاري رحمه الله : رأى النبي صلى الله عليه وآله وسلم ابنته فاطمة ، وعليها كساء من أجلة الإبل ، وهي تطحن بيدها ، وترضع ولدها ، فدمعت عينا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وقال : يا بنتاه تجرعي مرارة الدنيا لحلاوة الآخرة ، فقالت : الحمد لله على نعمائه ، والشكر لله على آلائه (1) .
  إن فاطمة الزهراء من خلال سيرتها الذاتية هذه تعطي الفتاة المسلمة أعظم درس في الحياة ، يؤدي بها إلى سلوك الصراط المستقيم لتعيش في ظلال رحمة الله سبحانه .
  أجل ... إن فاطمة تعلم المرأة كيف تصبح فتاةً مسؤولية ... تتحمل مسؤولية الأسرة ، والمجتمع في ثقة وشجاعة .
  ونعلم من سيرة الزهراء أنها لما أرهق بدنها الكدح والنضال ، وأتعبها الطحن بالرحي ، جاءت أباها تمشي على استحياء ، تطلب منه خادمةً تساعدها على تخفيف أعباء المنزل ، وثقل الحياة العائلية التي كانت تكابدها ليلاً نهاراً ، علّها تخفّف عنها بعض همومها ، وقفت بين يدي أبيها رسول الله ، مطرقةّ برأسها حياة بعد أن سلمت عليه ، فرد عليها السلام ، وكان من عادته أنه إذا أقبلت عليه فاطمة ، كان يقوم إجلالاً لها ويقبل يدها ثم يجلسها في مجلسه ، فجلست وهي مطرقة برأسها إلى الأرض ، وما كادت تجلس في مكانها ، حتى سألها الرسول الأعظم قائلاً : ما جاء بك ... وما حاجتك أي بنية ؟ فغلبها الحياء ولم تتمكن من سؤال النبي ، فقالت : جئت لأسلم عليك ... وبعد لحظات قامت فودعها النبي ، ورجعت إلى دارها دون أن تحقق هدفها الرامي إلى طلب فتاة لخدمة المنزل .
  وبعد هذا اللقاء بأيام وجدت فاطمة نفسها لا تستطيع مواصلة العمل دون وجود فتاة إلى جانبها في البيت ، فقررت أن تشكو حالها إلى أبيها الحبيب المصطفى لعله هذه

---------------------------
(1) سفينة البحار : 1 | 571 وكتاب فاطمة الزهراء لمحمد علي دخيل : 65 .

الاسرار الفاطمية _ 290 _

  المرة يلبي نداءها ، ويستجيب لدعوتها ، خصوصاً وقد انتصر المسلمون في معارك الجهاد ، فاحرزوا غنائم كثيرة وأموالاً عظيمة ... فقامت فاطمة الزهراء عليها السلام من ساعتها ، وأتت أباها النبي صلى الله عليه وآله وسلم وطلبت منه خادمة ، فقال لها : يا فاطمة أعطيك ما هو خير لك من خادم وم الدنيا وما فيها .
  قالت : وما ذلك يا رسول الله ؟
  قال : ( تكبّرين الله بعد كل صلاة أربعاً وثلاثين تكبيرة ، وتحمدين الله ثلاثاً وثلاثين تحميدة ، وتسبحين الله ثلاثاً وثلاثين تسبيحة ، ثم تخنمين ذلك بلا إله إلاّ الله ، وذلك خير لك من الذي أردت ومن الدنيا وما فيها ) (1) .
  وإليك قضيته كما نقله كتاب من لا يحضره الفقيه : روي أنّ أمير المؤمنين عليه السلام قال لرجل من بني سعدٍ : ألا أحدّثك عنّي وعن فاطمة الزهراء ( سلام الله عليها ) ؟ إنّها كانت عندي فاستقت بالقربة حتّى أثّر في صدرها ، وطحنت بالرحى حتّى مجلت يداها (2) ، وكسحت البيت حتى اغبرّت ثيابها ، وأو قدت تحت القدر حتى دكنت ثيابها (3) فأصابها من ذلك ضرّ شديد ، فقلت لها : لو أتيت أباك فسألته خادماً يكفيك حرّ ما أنت فيه من هذا العمل .
  فأتت النبي صلى الله عليه وآله وسلم فوجدت عنده حداثاً ، فاستحيت فانصرفت ، فعلم صلى الله عليه وآله وسلم أنها قد جاءت لحاجة ، فغدا علينا ونحن في لحافنا ، فقال : السلام عليكم ، فسكتنا واستحيينا لمكاننا ، ثم قال : السلام عليكم ، فسكتنا ، ثمّ قال : السلام عليكم ، فخشينا إن لم نردّ عليه أن ينصرف ـ وقد كان يفعل ذلك فيسلّم ثلاثاً ، فإن اذن له وإلا انصرف ـ فقلنا : وعليك السلام يا رسول الله ادخل ، فدخل وجلس عند رؤؤسنا ، ثمّ قال : يا فاطمة ما كانت حاجتك أمس عند محمّد ؟ فخشيت إن لم نجبه أن يقوم ، فأخرجت رأسي فقلت : أنا والله اخبرك يا رسول الله ، إنّها استقت بالقربة حتى أثّر في صدرها ، وجرّت

---------------------------
(1) شرح خطبة الزهراء للشيخ نزيه : 29 .
(2) مجلة يداها أي ظهر فيها المجل وهو ماء يكون بين الجلد واللحم من كثرة العلم الشاق ، والمجلة القشرة الرقيقة التي يجتمع فيها ماء من أثر العمل الشاق .
(3) الدكنة : لون يضرب إلى السواد .