يكون العبد إلى الله ، وهو ساجد ، ورويتم أن أربعة أملاك التقوا أحدهم من أعلى الخلق وأحدهم من أسفل الخلق .
  وأحدهم من شرق الخلق ، وأحدهم من غرب الخلق فسأل بعضهم بعضا فكلهم قال : من عند الله أرسلني بكذا وكذا ، ففي هذا دليل على أن ذلك في المنزلة دون التشبيه والتمثيل . . .
  س 12 ـ أتقر أن الله محمول ؟ . . .
  ج 12 ـ كل محمول مفعول ، ومضاف إلى غيره محتاج فالمحمول اسم نقص في اللفظ ، والحامل فاعل ، وهو في اللفظ ممدوح ، وكذلك قول القائل : فوق ، وتحت ، وأعلى ، وأسفل ، وقد قال الله تعالى : ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها .
  ولم يقل في شئ من كتبه انه محمول بل هو الحامل في البر والبحر ، والممسك للسماوات والأرض ، والمحمول ما سوى الله ، ولم نسمع أحدا آمن بالله وعظمه قط ، قال في دعائه : يا محمول . . .
  س 13 ـ أفنكذب بالرواية ؟ ان الله إذا غضب يعرف غضبه الملائكة الذين يحملون العرش ، يجدون ثقله في كواهلهم فيخرون سجدا ، فإذا ذهب الغضب ، خف فرجعوا إلى مواقفهم . . .
  ج 13 ـ اخبرني عن الله تبارك وتعالى منذ لعن إبليس إلى يومك هذا ، والى يوم القيامة ، فهو غضبان على إبليس ، وأوليائه أو عنهم راض ؟ . . .
  وأيد أبو قرة كلام الامام قائلا : نعم هو غضبان عليه . . .
  وانبرى الامام قائلا : ويحك كيف تجترئ ان تصف ربك بالتغير من حال إلى حال ، وانه يجري عليه ما يجري على المخلوقين ؟ سبحانه لم يزل مع الزائلين ، ولم يتغير مع المتغيرين . . .
  واستولى الذهول على أبي قرة ، وحار في الجواب وانهزم من المجلس ، وهو مندحر قد أترعت نفسه بالغيظ ، والحقد على الامام .

مناظرته مع الجاثليق :
  ومن بين الاجراءات التي اتخذها المأمون لامتحان الامام لعله يظفر بتعجيزه أنه

حياة الإمام علي بن موسى الرضا عليه السلام _ 135 _

  أوعز إلى وزيره الفضل بن سهل أن يجمع له الاعلام المتكلمين من أصحاب المقالات والأديان ، مثل الجاثليق (1) .
  ورأس الجالوت (2) ، والهربذ الأكبر (3) وأصحاب زردهشت (4) ونسطاس الرومي (5) وسائر المتكلمين فجمعهم الفضل في بلاط المأمون ، ثم أدخلهم عليه فقابلهم بمزيد من الحفاوة والتكريم ، وعرض عليهم ما يرومه قائلا :
  إنما جمعتكم لخير ، وأحببت أن تناظروا ابن عمي المدني ، القادم علي ، فإذا كان بكرة فاغدوا علي ، ولا يتخلف منكم أحد . . .
  فأجابوه بالسمع والطاعة ، والامتثال لامره .
  وأمر المأمون ياسر الخادم أن يدعو الامام لمناظرة علماء الأديان في اليوم الثامن ، فخف ياسر إلى الامام وأبلغه مقالة المأمون فأجابه إلى ذلك .
  والتفت الامام إلى الحسن بن محمد النوفلي فقال له : يا نوفلي أنت عراقي ، ورقة العراقي غير غليظة ، فما عندك في جمع ابن عمي علينا أهل الشرك وأصحاب المقالات . . .
  وعرف النوفلي غاية المأمون ، فقال للامام :
  جعلت فداك يريد الامتحان ، ويحب أن يعرف ما عندك ، ولقد بنى على أساس غير وثيق البنيان ، وبئس والله ما بنى . . .
  وسارع الامام قائلا : وما بناؤه في هذا الباب ؟ . . .
  وعرض النوفلي على الامام ما يحذره ويخافه عليه منهم قائلا :
  ان أصحاب الكلام والبدع خلاف العلماء وذلك أن العالم لا ينكر غير المنكر ، وأصحاب المقالات والمتكلمون ، وأهل الشرك أصحاب انكار ومباهتة ، إن احتججت عليهم بأن الله واحد ، قالوا : صحيح وحدانيته ، وإن قلت : إن محمدا ( صلى الله عليه وآله ) رسول ، قالوا : ثبت رسالته ، ثم يباهتون الرجل ـ وهو مبطل عليهم بحجته ـ ويغالطونه حتى يترك قوله ، فاحذرهم جعلت فداك . . .

---------------------------
(1) الجاثليق : رئيس الأساقفة .
(2) الجالوت : هو أحد علماء اليهود .
(3) الهربذ : هو من علماء الهنود .
(4) في نسخة : زرادشت وهو من تلاميذ بعض الأنبياء ، وقيل : إنه مرسل من قبل بعض الأنبياء إلى بني إسرائيل .
(5) النسطاس : عالم بالطب .

حياة الإمام علي بن موسى الرضا عليه السلام _ 136 _

  لقد أعرب النوفلي عن مخاوفه من هؤلاء الذين يحاججهم الامام لأنهم لا يبغون الوصول إلى الواقع ، والتعرف على الحق ، وهم دوما يعتمدون على المغالطات للوصول إلى أهدافهم الرخيصة .
  وأزال الامام ما في نفس النوفلي من المخاوف قائلا أتخاف أن يقطعوا علي حجتي ؟ . . . :
  انهم أمام بحر من العلم ، وطاقات هائلة من الفضل ، فكيف يقطعون على الامام حجته ، وسارع النوفلي فقال : لا والله ما خفت عليك قط ، وإني لأرجو أن يظفرك الله بهم ، إن شاء الله . . .
  وانبرى الامام قائلا : يا نوفلي ، أتحب أن تعلم متى يندم المأمون ؟ . . .
  نعم . . .
  إذا سمع احتجاجي على أهل التوراة بتوراتهم ، وعلى أهل الإنجيل بإنجيلهم ، وعلى أهل الزبور بزبورهم ، وعلى الصابئين بعبرانيتهم ، وعلى أهل الهرابذة بفارسيتهم ، وعلى أهل الروم بروميتهم ، وعلى أهل المقالات بلغاتهم ، فإذا قطعت كل صنف ، ودحضت حجته ، وترك مقالته ، ورجع إلى قولي ، علم المأمون أن الذي هو بسبيله ليس بمستحق له ، فعند ذلك تكون الندامة ، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم . . .
  لقد كشف الامام عليه بهذه الكلمات عما يملكه من ثروات علمية لا تحد ، وانه باستطاعته أن يناظر جميع أهل الأديان والمذاهب ، ويفند أوهامهم ، ويوضح لهم الحق ، وإذا استبان ذلك للمأمون فإنه يندم على هذه الاجراءات ، ويظهر له أنه على غير صواب .
  ولما انقضى النهار ، واقبل اليوم الثاني خف الفضل بن سهل مسرعا إلى الإمام ( عليه السلام ) ، فقال له : جعلت فداك ان ابن عمك ـ يعني المأمون ـ ينتظرك ، اجتمع القوم ، فما رأيك في اتيانه ؟ . . .
  فأجابه الامام أنه مستعد للحضور ، وانه قادم على المأمون ، وخرج الامام ، وهو بهيبة تعنو لها الجباه ، فكان يلهج بذكر الله ودخل على المأمون وكان المجلس

حياة الإمام علي بن موسى الرضا عليه السلام _ 137 _

  مكتظا بالطالبيين والهاشميين ، وقادة الجيش والعلماء ، من مسلمين وغيرهم ، وقام المأمون وجميع من في المجلس تكريما وتعظيما للامام ، وجلس الامام ، والناس وقوف احتراما له ، فأمرهم المأمون بالجلوس ، وبعدما استقر المجلس بالامام التفت المأمون إلى الجاثليق .
  فقال له : يا جاثليق هذا ابن عمي علي بن موسى بن جعفر ، وهو من ولد فاطمة بنت نبينا ( صلى الله عليه وآله ) ، وابن علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) فأحب أن تكلمه وتحاجه ، وتنصفه . . .
  وانبرى الجاثليق قائلا : يا أمير المؤمنين ، كيف أحاج رجلا يحاج علي بكتاب أنا منكره ونبي لا أو من به . . .
  لقد حسب الجاثليق أن الإمام ( عليه السلام ) يستدل على ما يذهب إليه بآيات من القرآن الكريم ، أو بكلمات من الرسول ( صلى الله عليه وآله ) ، وهو لا يؤمن بذلك ، وانما يبغي دليلا وبرهانا من كتبهم .
  ورد الامام عليه مقالته : يا نصراني فان احتججت عليك بإنجيلك أتقر به ؟ . . .
  وسارع الجاثليق قائلا : هل أقدر على دفع ما نطق به الإنجيل ، نعم والله أقربه . . .
  سل عما بدا لك ، واسمع الجواب . . .
  س 1 ـ ما تقول في نبوة عيسى ، وكتابه هل تنكر منهما شيئا ؟ . . .
  ج 1 ـ أنا مقر بنبوة عيسى وكتابه ، وما بشر به أمته ، وأقرت به الحواريون ، وكافر بنبوة عيسى لم يقر بنبوة محمد وكتابه ، ولم يبشر به أمته . . .
  وسارع الجاثليق قائلا : أليس انما تقطع الاحكام بشاهدي عدل ؟ . . .
  بلى . . .
  فأقم شاهدين من غير أهل ملتك على نبوة محمد ممن لا تنكره النصرانية ، وسلنا مثل ذلك من غير أهل ملتنا . . .
  وصدق الامام مقالته ، فقد جاء بالنصف قائلا : الآن جئت بالنصفة ، الا تقبل مني العدل ، والمقدم عند المسيح بن مريم ؟ . . .

حياة الإمام علي بن موسى الرضا عليه السلام _ 138 _

  من هذا العدل سمه لي ؟ . . .
  ما تقول : في يوحنا الديلمي ؟ . . .
  وسارع الجاثليق قائلا : بخ بخ ، ذكرت أحب الناس إلى المسيح . . .
  وانبرى سليل النبوة قائلا : أقسمت عليك هل نطق الإنجيل أن يوحنا قال ، إن المسيح أخبرني بدين محمد العربي : وبشرني به ، أنه يكون من بعدي ، فبشرت به الحواريين ، فآمنوا به . . .
  ولم يسع الجاثليق انكار ذلك إلا أنه قال : إن يوحنا لم يسمه لنا ، حتى نعرفه .
  ورد عليه الامام : فان جئناك بمن يقرأ الإنجيل فتلا عليك ذكر محمد ، وأهل بيته ، وأمته أتؤمن به ؟ . . .
  وقال بصوت خافت : أمر سديد . . .
  والتفت الإمام ( عليه السلام ) إلى نسطاس الرومي ، فقال له : كيف حفظك للسفر الثالث من الإنجيل ؟ . . .
  ما أحفظني له . . .
  وخاطب الإمام ( عليه السلام ) الجاثليق فقال له : ألست تقرأ الإنجيل ؟ . . .
  بلى . . .
  خذ على السفر الثالث ، فان كان فيه ذكر محمد ( صلى الله عليه وآله ) وأهل بيته وأمته فاشهدوا لي ، وإن لم يكن فيه ذكره فلا تشهدوا لي . . .
  وتلا الامام عليه السفر الثالث حتى إذا بلغ ذكر النبي ( صلى الله عليه وآله ) التفت إلى الجاثليق فقال له : إني أسألك بحق المسيح وأمه أتعلم أني عالم بالإنجيل ؟ . . .
  نعم . . .
  ثم قرأ ما في السفر الثالث من ذكر النبي وأهل بيته وأمته ، وأضاف قائلا : ما تقول : هذا قول عيسى بن مريم ، فان كذبت ما نطق به الإنجيل فقد كذبت موسى وعيسى ، ومتى أنكرت هذا الذكر وجب عليك ، القتل لأنك تكون قد

حياة الإمام علي بن موسى الرضا عليه السلام _ 139 _

  كفرت بربك ونبيك ، وكتابك . . .
  وراح الجاثليق يقول : لا أنكر ما قد بان لي من الإنجيل ، واني لمقر به . . .
  والتفت الإمام ( عليه السلام ) إلى الحاضرين ، فطلب منهم الشهادة على اقراره ثم قال له : يا جاثليق سل عما بدا لك . . .
  وسارع الجاثليق سائلا :
  س 2 ـ اخبرني عن حواري عيسى بن مريم كم كان عدتهم ، وعن علماء الإنجيل كم كانوا ؟ . . .
  ج 2 ـ على الخبير سقطت ، أما الحواريون فكانوا اثني عشر رجلا وكان أفضلهم وأعلمهم ( لوقا ) واما علماء النصارى فكانوا ثلاثة رجال :
  يوحنا الأكبر ـ يا حي ـ و يوحنا بقرقيسيا ، ويوحنا الديلمي بزخار ، وعنده كان ذكر النبي ( صلى الله عليه وآله ) ، وذكر أهل بيته ، وهو الذي بشر أمة عيسى وبني إسرائيل به وأضاف الامام قائلا :
  والله إنا لنؤمن بعيسى الذي آمن بمحمد ( صلى الله عليه وآله ) وما ننقم على عيسى شيئا إلا ضعفه ، وقلة صيامه وصلاته . . .
  وحينما سمع الجاثليق الكلمات الأخيرة من هذا فصاح : أفسدت ، والله علمك ، وضعف أمرك ، وما كنت ظننت إلا أنك أعلم أهل الاسلام . . .
  وقابله الامام بهدوء فقال له : وكيف ذلك ؟ . . .
  وفقد الجاثليق صوابه ، وراح يقول : من قولك : إن عيسى كان ضعيفا ، قليل الصوم والصلاة ، وما أفطر عيسى يوما قط ، وما نام بليل قط ، وما زال صائم الدهر ، قائم الليل . . .
  وانبرى الامام ينسف العقيدة المسيحية الزاعمة بأن المسيح إله يعبد من دون الله ، فقال ( عليه السلام ) : لمن كان يصوم ـ أي المسيح ـ ويصلي ؟ . . .
  فانقطع الجاثليق عن الجواب ، ولم يدر ما يقول :
  والتفت الامام إليه قائلا :

حياة الإمام علي بن موسى الرضا عليه السلام _ 140 _

  إني أسألك عن مسألة ؟ . . .
  سل فان كان عندي علمها أجبتك . . .
  ووجه الامام إليه السؤال التالي : ما أنكرت أن عيسى كان يحيي الموتى بإذن الله ؟ . . . وأجاب الجاثليق : أنكرت ذلك من قبل ، ان من أحيى الموتى ، وأبرأ الأكمه والأبرص فهو رب مستحق لان يعبد . . .
  ورد الامام عليه مقالته : فان اليسع قد صنع مثل ما صنع عيسى ( عليه السلام ) ، مشى على الماء ، وأحيى الموتى ، وأبرأ الأكمه والأبرص ، فلم لا تتخذه أمته ربا ، ولم يعبده أحد من دون الله عزوجل ، فأحيى خمسة وثلاثين ألف رجل من بعد موتهم بستين سنة .
  يا رأس الجالوت ، أتجد هؤلاء في شباب بني إسرائيل في التوراة اختارهم ( بخت نصر ) من سبي بني إسرائيل حين غزا بيت المقدس ، ثم انصرف بهم إلى بابل ، فأرسله الله عزوجل إليهم ، فأحياهم ، هذا في التوراة لا يدفعه إلا كافر منكر . . .
  وبهر الجاثليق بمعلومات الامام عنهم ، وقال : قد سمعنا به ، وعرفناه . . .
  والتفت الامام إلى يهودي كان في المجلس ، فأمره أن يقرأ إحدى فصول التوراة ، فأخذ في قراءتها ، وكان فيه ذكر لبعض الأنبياء .
  واقبل الامام على رأس الجالوت فقال له : أهؤلاء ـ يعني الأنبياء ـ كانوا قبل عيسى ، أم عيسى كان قبلهم ؟ . . .
  بل كانوا قبله . . .
  وأخذ الامام يتلو عليهم بعض معجزات جده الرسول الأعظم خاتم الأنبياء قائلا : لقد اجتمعت قريش على رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) فسألوه أن يحيى لهم موتاهم ، فوجه معهم علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) ، فقال له : اذهب إلى الجبانة ، فناد بأسماء هؤلاء الرهط ، الذين يسألون عنهم بأعلى صوتك ، يا فلان ، يا فلان يقول لكم محمد رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : قوموا بإذن الله عزوجل ، فقاموا ينفضون التراب عن رؤوسهم ، فأقبلت قريش تسألهم عن أمورهم ، ثم أخبروهم أن محمدا قد بعث نبيا ، فقالوا : وددنا أنا أدركناه ، فنؤمن به ، ولقد أبرأ الأكمه والأبرص

حياة الإمام علي بن موسى الرضا عليه السلام _ 141 _

  والمجانين ، وكلمته البهائم والطير والجن والشياطين ، ولم نتخذه ربا من دون الله ، ولم ننكر لاحد من هؤلاء فضلهم فان اتخذتم عيسى ربا جاز لكم ان تتخذوا اليسع وحزقيل ربين ، لأنهما قد صنعا مثل ما صنع عيسى بن مريم ، من احياء الموتى وغيره .
  ثم إن قوما من بني إسرائيل خرجوا من بلادهم من الطاعون وهم ألوف حذر الموت ، فأماتهم الله في ساعة واحدة ، فعمد أهل القرية فحظروا عليهم حظيرة ، فلم يزالوا فيها حتى نخرت عظامهم ، وصاروا رميما ، فمر بهم نبي من أنبياء بني إسرائيل فتعجب منهم ، ومن كثرة العظام البالية ، فأوحى الله أتحب ان أحييهم لك فتنذرهم ؟
  قال : نعم . فأوحى الله أن نادهم ، فقال أيتها العظام البالية قومي بإذن الله ، فقاموا احياء أجمعين ينفضون التراب عن رؤوسهم ، ثم إبراهيم خليل الله حين اتخذ الطير فقطعهن قطعا ، ثم وضع على كل جبل منهم جزءا ثم ناداهن فأقبلن سعيا إليه ، ثم موسى بن عمران وأصحابه السبعون الذين اختارهم ، صاروا معه إلى الجبل ، فقالوا له :
  إنك قد رأيت الله فأرناه .
  فقال لهم : إني لم أره .
  فقالوا : لن نؤمن حتى نرى الله جهرة ، فأخذتهم الصاعقة فاحترقوا عن آخرهم ، فبقي موسى وحيدا .
  فقال : يا رب ! اخترت سبعين رجلا من بني إسرائيل فجئت بهم ، فارجع أنا وحدي ، فكيف يصدقني قومي بما أخبرهم به فلو شئت أهلكتهم من قبل وإياي ، أفتهلكنا بما فعل السفهاء منها ؟ فأحياهم الله عزوجل من بعد موتهم ، وكل شئ ذكرته لك من هذا لا تقدر على دفعه ، لان التوراة والإنجيل والزبور والفرقان قد نطقت به ، فان كان كل من أحيى الموتى وأبرأ الأكمه والأبرص والمجانين يتخذ ربا من دون الله ، فاتخذ هؤلاء كلهم أربابا ، ما تقول يا نصراني ؟ .
  لقد نعى الإمام ( عليه السلام ) على النصارى اتخاذهم السيد المسيح ربا من دون الله لأنه أحيى الموتى ، وأبرأ الأكمه والأبرص فقد جرت أمثال هذه المعاجز إلى سيد الأنبياء الرسول ( صلى الله عليه وآله ) وبعض الأنبياء العظام ، ولم يتخذوا أربابا يعبدون من دون الله تعالى .
  وانبرى الجاثليق فخاطب الامام بعد ما سمع منه هذه الكلمات المشرقة فقال :

حياة الإمام علي بن موسى الرضا عليه السلام _ 142 _

  القول : قولك ، ولا إله إلا الله . . .
  والتفت الامام إلى رأس الجالوت ، فقال له : اقبل علي ، أسألك بالعشر الآيات التي أنزلت على موسى بن عمران ، هل تجد في التوراة مكتوبا نبأ محمد ( صلى الله عليه وآله ) وأمته إذا جاءت الأمة الأخيرة اتباع راكب البعير ، يسبحون الرب جدا ، جدا ، تسبيحا جديدا في الكنايس الجدد ـ أراد بها المساجد ـ فليفزع بنو إسرائيل إليهم ، والى ملكهم ، لتطمئن قلوبهم ، فان ما بأيديهم سيوفا ينتقمون بها من الأمم الكافرة في أقطار الأرض ، هكذا هو مكتوب في التوراة . . .
  وبهر الجالوت ، وراح يقول : نعم انا لنجد ذلك كذلك . . .
  والتفت الإمام ( عليه السلام ) إلى الجاثليق فقال له : كيف علمك بكتاب شعيا ؟ . . .
  اعرفه حرفا ، حرفا . . .
  وخاطب الامام الجاثليق ورأس الجالوت فقال لهما : أتعرفان هذا من كلامه : يا قوم إني رأيت صورة راكب الحمار ، لابسا جلابيب النور ، ورأيت راكب البعير ضوءه ضوء القمر . . .
  وطفقا قائلين : قد قال ذلك شعيا . . .
  والتفت الامام إلى الجاثليق فقال له : أتعرف قول عيسى : اني ذاهب إلى ربكم وربي ، و البار قليطا جاء هو الذي يشهد لي بالحق كما شهدت له ، وهو الذي يفسر لكم كل شئ ، وهو الذي بيده فضائح الأمم ، وهو الذي يكسر عمود الكفر . . .
  وبهر الجاثليق ، وقال : ما ذكرت شيئا من الإنجيل الا ونحن مقرون به . . .
  وراح الامام يقرره ان ما ذكره ثابت في الإنجيل قائلا : أتجد هذا في الإنجيل ثابتا ؟ . . .
  نعم . . .
  يا جاثليق : الا تخبرني عن الإنجيل الأول حين افتقدتموه عند من وجدتموه ؟

حياة الإمام علي بن موسى الرضا عليه السلام _ 143 _

  ومن وضع لكم هذا الإنجيل ؟ . . .
  وأخذ الجاثليق يتخبط خبط عشواء قائلا : ما افتقدنا الإنجيل الا يوما واحدا ، حتى وجدناه غضا طريا ، فأخرجه إلينا يوحنا ومتى . . .
  فرد عليه الامام قائلا : ما أقل معرفتك بسنن الإنجيل وعلمائه ، فان كان كما تزعم فلم اختلفتم في الإنجيل ؟ وانما الاختلاف في هذا الإنجيل الذي في أيديكم اليوم ، فان كان على العهد الأول لم تختلفوا فيه ، ولكني مفيدك علم ذلك ، اعلم أنه لما افتقد الإنجيل الأول اجتمعت النصارى إلى علمائهم ، فقالوا لهم : قتل عيسى بن مريم ، وافتقدنا الإنجيل ، وأنتم العلماء فما عندكم ؟ فقال لهم الوقا ومرقانوس ويوحنا ومتى ان الإنجيل في صدورنا نخرجه إليكم سفرا في كل أحد ، فلا تحزنوا عليه ، ولا تخلوا الكنائس فإنا سنتلوه عليكم في كل أحد سفرا سفرا حتى نجمعه كله .
  وأضاف الامام قائلا : ان الوقا ، ومرقانوس ، ويوحنا ومتى وضعوا لكم هذا الإنجيل ، بعدما افتقدتم الإنجيل الأول وإنما كان هؤلاء الأربعة تلاميذ الأولين أعلمت ذلك ؟ . . .
  وراح الجاثليق يبدي اكباره للامام ، ويعترف له انه لا علم له بذلك قائلا : أما قبل هذا فلم اعلمه ، وقد علمته الآن ، وقد بان لي من فضل علمك بالإنجيل ، وقد سمعت أشياء كما علمته ، شهد قلبي أنها حق ، واستزدت كثيرا من الفهم . . .
  والتفت الإمام ( عليه السلام ) إلى المأمون ، والى من حضر من أهل بيته وغيرهم ، فطلب منهم أن يشهدوا عليه .
  فقالوا : شهدنا .
  ووجه كلامه صوب الجاثليق فقال له : بحق الابن وأمه ، هل تعلم أن متى قال في نسبة عيسى أنه المسيح بن داود بن إبراهيم بن إسحاق بن يعقوب بن يهود ، بن خضرون ؟ وقال : مرقانوس في نسبة عيسى انه كلمة الله أحلها في الجسد الآدمي فصارت انسانا !! وقال ـ ( الوقا ) : ان عيسى بن مريم وأمه كانا انسانين من لحم ودم فدخل فيهما

حياة الإمام علي بن موسى الرضا عليه السلام _ 144 _

  روح القدس ؟ ثم انك تقول : في شهادة عيسى على نفسه ، حقا أقول لكم : انه لا يصعد إلى السماء إلا من نزل منها ، إلا راكب البعير خاتم الأنبياء ، فإنه يصعد إلى السماء وينزل فما تقول في هذا القول ؟
  واعترف الجاثليق بما قالوه في المسيح ، وما قاله السيد المسيح في نفسه ، فقال : هذا قول عيسى لا ننكره . . .
  فقال له الامام : فما تقول في شهادة الوقا ومرقانوس ومتى على عيسى وما نسبوا إليه ؟ . . .
  وراح الجاثليق يزكي السيد المسيح ، ويكذب ما نسبوه له قائلا : كذبوا على عيسى . . .
  والتفت الإمام ( عليه السلام ) إلى من حضر في مجلسه من القادة والعلماء قائلا : يا قوم أليس قد زكاهم ، وشهد انهم علماء الإنجيل وقولهم حق ؟ . . .
  وبان الانكسار على الجاثليق وراح يلتمس من الامام أن لا يسأله فقال : يا عالم المسلمين أحب ان تعفيني من أمر هؤلاء .
  فأعفاه الامام ، ثم قال له : سلني عما بدا لك . . .
  وبهر الجاثليق من علوم الامام التي هي امتداد ذاتي لعلوم جده سيد الكائنات محمد ( صلى الله عليه وآله ) .
  وقال بخضوع واكبار للامام : ليسألك غيري ، فوالله ما ظننت أن في علماء المسلمين مثلك . . .
  وأطرق الجاثليق برأسه إلى الأرض ، وعج المجلس بالتهليل والتكبير ، واستبان للمأمون وغيره ان الإمام ( عليه السلام ) نفحة قدسية من نفحات الملة ، فقد وهبه لهذه الأمة كما وهب آباءه ، ومنحهم من العلوم التي لا حد لها .
  مناظرته مع رأس الجالوت : وكان رأس الجالوت ، يمثل الطائفة اليهودية في ذلك المجلس الذي أعده المأمون لامتحان الامام .
  فقال له الامام : تسألني أو أسألك ؟ . . .
  بل أسألك ، ولست أقبل منك حجة إلا من التوراة أو من الإنجيل أو من

حياة الإمام علي بن موسى الرضا عليه السلام _ 145 _

  زبور داود ، أو ما في صحف إبراهيم وموسى . . .
  فأجابه الامام بالموافقة على هذا الشرط قائلا : لا تقبل مني حجة إلا بما نطق به التوراة على لسان موسى بن عمران ، والإنجيل على لسان عيسى بن مريم ، والزبور على لسان داود ( عليهم السلام ) . . .
  س 1 ـ من أين تثبت نبوة محمد ( صلى الله عليه وآله ) ؟ . . .
  ج 1 ـ شهد بنبوته موسى بن عمران ، وعيسى بن مريم ، وداود خليفة الله في الأرض . . .
  وطلب رأس الجالوت اثبات ذلك قائلا : أثبت قول موسى بن عمران . . .
  فقال الامام : تعلم يا يهودي أن موسى أوصى بني إسرائيل ، فقال لهم : إنه سيأتيكم نبي فيه (1) فصدقوا ، ومنه فاسمعوا فهل تعلم أن لبني إسرائيل أخوة غير ولد إسماعيل ؟ ان كنت تعرف قرابة إسرائيل من إسماعيل ، والنسب الذي بينهما من قبل إبراهيم .
  واعترف رأس الجالوت بذلك قائلا : هذا قول موسى : لا ندفعه . . .
  والزمه الامام بالحجة والبرهان قائلا : هل جاءكم من اخوة بني إسرائيل غير محمد ( صلى الله عليه وآله ) ؟ . . .
  لا . . .
  وانبرى الامام قائلا : أليس هذا قد صح عندكم ؟ . . .
  نعم ، ولكني أحب أن تصححه لي من التوراة ؟ . . .
  وتلا الامام عليه قطعة من التوراة قائلا : هل تنكرون التوراة تقول لكم : جاء النور من قبل طور سيناء وأضاء للناس من جبل ساعير ، واستعلن علينا من جبل فاران . . .
  وأقر رأس الجالوت بهذه الكلمات ، إلا أنه طلب من الامام تفسيرها ، فقال ( عليه السلام ) له :

---------------------------
(1) هكذا في النسخ المخطوطة والمطبوعة ، والصواب فيه بالباء والمعنى إن أدركتم صحبته وفيه ، اي قصدوه واسمعوا ما يقوله .

حياة الإمام علي بن موسى الرضا عليه السلام _ 146 _

  أنا أخبرك بها ، أما قوله : جاء النور من قبل طور سيناء فذلك وحي الله تبارك وتعالى الذي أنزله على موسى على جبل طور سيناء .
  وأما قوله : وأضاء للناس في جبل ساعير فهو الجبل الذي أوحى الله عزوجل إلى عيسى بن مريم وهو عليه .
  واما قوله : واستعلن علينا من جبل فاران فذاك جبل من جبال مكة ، وبينه وبينها يومان ؟ أو يوم . . .
  قال شعيا النبي : فيما تقول أنت وأصحابك في التوراة رأيت راكبين أضاء لهما الأرض أحدهما على حمار ، والآخر على جمل ، فمن راكب الحمار ، ومن راكب الجمل ؟ . . .
  ولم يعرف رأس الجالوت ذلك رغم انه موجود في التوراة فطلب من الامام ايضاح ذلك له .
  فقال ( عليه السلام ) : أما راكب الحمار فعيسى ، وأما راكب الجمل فمحمد ( صلى الله عليه وآله ) أتنكر هذا في التوراة ؟ . . .
  ووجه الامام إليه السؤال التالي : هل تعرف حبقوق النبي ؟ . . .
  نعم اني به لعارف . . .
  وأخذ الإمام ( عليه السلام ) يقرأ ما أثر عنه قائلا : فإنه قال : ـ وكتابكم ينطق به ـ جاء الله تعالى بالبيان من جبل فاران وامتلأت السماوات من تسبيح أحمد وأمته ، يحمل خيله في البحر ، كما يحمل في البر يأتينا بكتاب جديد ـ يعني القرآن الكريم ـ بعد خراب بيت المقدس ، أتعرف هذا وتؤمن به ؟ . . .
  واعترف رأس الجالوت بذلك .
  والتفت إليه الامام فأقام عليه حجة أخرى ، وهي ما جاء في الزبور ، من التبشير بالرسول الأعظم محمد ( صلى الله عليه وآله ) قائلا : فقد قال داود في زبوره ـ وأنت تقرأه ـ اللهم ابعث مقيم السنة بعد الفترة ، فهل تعرف نبيا أقام السنة بعد الفترة غير محمد ( صلى الله عليه وآله ) ؟ . . .
  وأخذ رأس الجالوت يراوغ ، وينكر الحق قائلا : هذا قول داود نعرفه ولا ننكره ، ولكنه عنى بذلك عيسى ، وامامه هي

حياة الإمام علي بن موسى الرضا عليه السلام _ 147 _

  الفترة . . .
  فرد عليه الامام قائلا : جهلت ان عيسى موافقا لسنة التوراة حتى رفعه الله إليه ، وفي الإنجيل مكتوب ان ابن البرة ـ اي عيسى ـ ذاهب ، والبارقليطا جاء من بعده ، وهو الذي يحفظ الآصار ، ويفسر لكم كل شئ ، ويشهد لي كما شهدت له ، أنا جئتكم بالأمثال ، وهو يأتيكم بالتأويل ، أتؤمن بهذا في الإنجيل ؟ . . .
  وطفق رأس الجالوت يقول : نعم لا أنكره . . .
  ووجه الامام إليه السؤال التالي : أسألك عن نبيك موسى بن عمران ؟ . . .
  سل . . .
  ما الحجة على أن موسى تثبتت نبوته ؟ . . .
  واخذ رأس الجالوت يستدل على نبوة موسى قائلا : انه جاء بما لم يجئ به أحد من الأنبياء قبله . . .
  مثل ماذا ؟ . . .
  مثل فلق البحر ، وقلبه العصا حية تسعى ، وضربه الحجر فانفجرت منه العيون ، واخراجه يده بيضاء للناظرين ، وعلاماته لا يقدر الخلق على مثلها . . .
  وصدق الامام مقالته قائلا : صدقت في أنها حجة على نبوته . . .
  إنه جاء بما لم يقدر الخلق عل مثله ، أفليس كل من أدعى أنه نبي ، وجاء بما لم يقدر الخلق على مثله وجب عليكم تصديقه ؟ . . .
  وأنكر اليهودي مقالة الامام قائلا : لا ، لان موسى لم يكن له نظير لمكانه من ربه ، وقربه منه ، ولا يجب علينا الاقرار بنبوة من ادعاها ، حتى يأتي من الاعلام بمثل ما جاء به . . .
  ونقض الامام كلام اليهودي قائلا : فكيف أقررتم بالأنبياء الذين كانوا قبل موسى ، ولم يفلقوا البحر ، ولم يفجروا من الحجر اثني عشر عينا ، ولم يخرجوا أيديهم مثل اخراج موسى يده بيضاء ، ولم يقلبوا العصا حية تسعى . . .
  وأجاب اليهودي :

حياة الإمام علي بن موسى الرضا عليه السلام _ 148 _

  قد خبرتك انه متى جاءوا على نبوتهم من الآيات بما لا يقدر الخلق على مثله ، ولو جاءوا بمثل ما جاء به موسى أو كانوا على ما جاء به موسى وجب تصديقهم . . .
  ورد الإمام ( عليه السلام ) حجته قائلا : يا رأس الجالوت فما يمنعك من الاقرار بعيسى بن مريم وكان يحيى الموتى ، ويبرئ الأكمه والأبرص ، ويخلق من الطين كهيئة الطير ثم ينفخ فيه فيكون طيرا بإذن الله . . .
  وراوغ اليهودي فقال : يقال : انه فعل ذلك ، ولم نشهده . . .
  ورد الامام عليه ببالغ الحجة قائلا : أرأيت ما جاء به موسى من الآيات شاهدته ؟ أليس إنما جاءت الاخبار من ثقات أصحاب موسى انه فعل ذلك . . .
  بلى . . .
  والزمه الامام بالحجة القاطعة قائلا : كذلك أيضا أتتك الأخبار المتواترة بما فعل عيسى بن مريم ، فكيف صدقتم بموسى ، ولم تصدقوا بعيسى ؟ . . .
  ووجم رأس الجالوت ، فقد سد عليه الامام كل نافذة ، وأقام عليه الحجة البالغة ، وبان عليه العجز .
  وأضاف الإمام ( عليه السلام ) يقول : وكذلك أمر محمد ( صلى الله عليه وآله ) وما جاء به ، وأمر كل نبي بعثه الله ، ومن آياته أنه كان يتيما فقيرا ، راعيا أجيرا ، ولم يتعلم ، ولم يختلف إلى معلم ، ثم جاء بالقرآن الذي فيه قصص الأنبياء ( عليهم السلام ) واخبارهم حرفا ، حرفا ، واخبار من مضى ، ومن بقي إلى يوم القيامة ، ثم كان يخبرهم بأسرارهم ، وما يعلمون في بيوتهم ، وجاء بآيات كثيرة . . .
  وقطع رأس الجالوت على الامام كلامه قائلا : لم يصح عندنا خبر عيسى ، ولا خبر محمد ، ولا يجوز أن نقر لهما بما لا يصح . . .
  وفند الإمام ( عليه السلام ) كلام اليهودي قائلا : فالشاهد الذي يشهد لعيسى ومحمد شاهد زور ؟ . . .
  وأخرس رأس الجالوت ، ووجم ، وهو كظيم ، وراح يفتش في حقيقة مغالطاته

حياة الإمام علي بن موسى الرضا عليه السلام _ 149 _

  شبهة يتمسك بها فلم يجد ، وسيلة يتمسك بها لدعم أباطيله .
  مناظرته مع الهربذ الأكبر :
  وبعدما فشلت رؤساء المذاهب والأديان في امتحان الامام ، وبان عليها العجز ، ولم يبق إلا الهربذ الأكبر المرجع الاعلى للمجوس .
  فالتفت إليه الإمام ( عليه السلام ) فقال له : اخبرني عن زردشت الذي تزعم أنه نبي ، ما حجتك على نبوته ؟ . . .
  فقال الهربذ : إنه أتى بما لم يأتنا به أحد قبله ، ولم نشهده ولكن الاخبار من أسلافنا وردت علينا بأنه أحل بنا ما لم يحله لنا غيره ، فاتبعناه . . .
  وانبرى الامام فقال له : أفليس انما أتتكم الاخبار فاتبعتموه ؟ . . .
  بلى . . .
  وراح الامام يقيم عليه الحجة التي لا مجال لانكارها قائلا : فكذلك سائر الأمم السالفة اتتهم الاخبار بما أتى به النبيون وأتى به موسى وعيسى ومحمد ( صلى الله عليه وآله ) فما عذركم في ترك الاقرار بهم ، إذ كنتم انما أقررتم بزردشت من قبل الأخبار الواردة بأنه جاء بما لم يجئ به غيره . . .
  واستولت عليه الحيرة والذهول وحار في الجواب ، فانقطع عن الكلام ، والتفت سليل النبوة إلى من حضر من رؤساء الأديان .
  فقال لهم : يا قوم ان كان فيكم أحد يخالف الاسلام ، وأراد أن يسأل فليسأل غير محتشم . . . (1) .
  مناظرته مع الامام في طليعة هذا البحث : لقد أفحمت هذه المناظرات القوى المعادية للاسلام ، وأثبتت بوضوح مدى الطاقات الهائلة من العلوم التي منحها الله للامام ، والتي دللت على صحة ما تذهب إليه الشيعة من أن أئمة أهل البيت ( عليهم السلام ) قد منحهم الله ثروات علمية ، وانهم أعلم هذه الأمة لا في المجالات التشريعية ، وانما في جميع أنحاء العلوم. وقد عجت أندية خراسان بهذه المناظرات التي تغلب الامام فيها على من

---------------------------
(1) الاحتجاج 2 / 199 ـ 212 عيون أخبار الرضا 2 / 154 ـ 168 .

حياة الإمام علي بن موسى الرضا عليه السلام _ 150 _

  ناظرهم ، وفي نفس الوقت الهبت مشاعر المأمون وعواطفه بالحقد والعداء للإمام ( عليه السلام ) ، فقد باء بالفشل لما كان يرومه من تعجيز الامام ليتخذ من ذلك وسيلة للتشهير به ، وعزله عن ولاية العهد ، وأخذ يسعى جاهدا للتخلص من الامام فرأى أن لا وسيلة له إلا باغتياله ، ودس السم إليه ، وسنوضح ذلك بمزيد من التفصيل في البحوث الآتية .
  مناظرته مع زنديق : وخف زنديق متمرس في الزندقة والالحاد إلى الإمام الرضا ( عليه السلام ) وكان في مجلسه جماعة .
  والتفت الامام إليه قائلا : أرأيت إن كان القول قولكم ـ من انكار الله تعالى ـ وليس هو كما تقولون : السنا وإياكم شرعا سواء ، ولا يضرنا ما صلينا ، وصمنا وزكينا ، وأقررنا ؟ . . .
  فسكت الزنديق ، أمام هذه الحجة الدامغة ، فإنه لو كان الامر كما يذهب إليه الزنادقة من انكار الله تعالى ، فما الذي يضر الموحدين من صلاتهم وصومهم .
  وأضاف الامام بعد ذلك قائلا : وان لم يكن القول قولكم ، وهو كما نقول : ألستم قد هلكتم ، ونجونا . . .
  وأراد الامام انه إذا انكشف الامر لهم من وجود الخالق العظيم المدبر لهذه الأكوان ، فقد هلك الملحدون ، وباؤوا بالخزي والعذاب الأليم ، وفاز المؤمنون والمتقون .
  وقدم الزنديق إلى الإمام ( عليه السلام ) الأسئلة التالية :
  س 1 ـ رحمك الله ، أوجدني كيف هو ـ يعني الله ـ وأين هو ؟ . . .
  ج 1 ـ ان الذي ذهبت إليه غلط ، وهو أين الأين ، وكان ، ولا أين ، وهو كيف الكيف ، وكان ، ولا كيف ولا يعرف بكيفوفته ، ولا بأينونته ، ولا يدرك بحاسة ، ولا يقاس بشئ . . .
  ان الله تعالى نور السماوات والأرض ، ويستحيل ان يتصف بالأين والكيف وغيرهما من صفات الممكن الذي مثاله إلى العدم ، فهو سبحانه لا يدرك بحاسة ، ولا يقاس بشئ .
  س 2 ـ إذن انه لا شئ إذا لم يدرك بحاسة من الحواس .
  ج 2 ـ ويلك لما عجزت حواسك عن ادراكه ، أنكرت ربوبيته ، ونحن إذا عجزت حواسنا عن ادراكه أيقنا أنه ربنا ، وانه شئ بخلاف الأشياء . . .

حياة الإمام علي بن موسى الرضا عليه السلام _ 151 _

  ان ادراك الحواس محدود كما وكيفا ، كما انها لا تدرك الأشياء الكثيرة من الممكنات ، فهي لا تدرك ـ مثلا ـ حقيقة الروح ، فكيف تدرك واجب الوجود تعالى وتقدس ؟
  س 3 ـ اخبرني متى كان ؟ . . .
  ج 3 ـ اخبرني متى لم يكن ، فأخبرك متى كان ؟ . . .
  لقد سخر الإمام ( عليه السلام ) من سؤاله ، فالله تعالى حقيقة مشرقة يبصره كل أحد بآثاره ، وعظيم صنعه ، وبدائع مخلوقاته ففي كل مرحلة من الوجود ، هو موجود ، ويستحيل ان يقال انه متى كان .
  س 4 ـ ما الدليل عليه ؟ . . .
  ج 4 ـ إني لما نظرت إلى جسدي ، فلم يمكني فيه زيادة ولا نقصان في العرض ، والطول ، ودفع المكاره عنه ، وجر المنفعة إليه ، علمت أن لهذا البنيان بانيا ، فأقررت به ، مع ما أرى من دوران الفلك بقدرته ، وانشاء السحاب ، وتصريف الرياح ، ومجرى الشمس والقمر ، والنجوم ، وغير ذلك من الآيات العجيبات المتقنات علمت أن لهذا مقدرا ومنشئا . . .
  ان كل ذرة في هذا الكون تدلل على وجود الخالق العظيم المكون لها .
  ان الانسان إذا نظر إلى نفسه ، والى ما فيه من الأجهزة والخلايا العجيبة ، فإنه يؤمن بالله تعالى .
  وفي الحديث من عرف نفسه فقد عرف ربه ، لقد خلق الله تعالى الانسان في أحسن تقويم ، فلا يمكن الزيادة أو النقصان في أعضائه ومن المعلوم ان خلق الانسان بهذه الدقة المذهلة يدل على وجود الله ، فان الأثر يدل على المؤثر والمعلول يدل على وجود علته ـ كما يقول المنطقيون ـ .
  ومن آيات الله تعالى دوران الفلك ، وانشاء السحاب ، وتصريف الرياح ومجرى الشمس والقمر ، قال تعالى : ( لا الشمس ينبغي ان تدرك القمر ، ولا الليل سابق النهار وكل في فلك يسبحون ) فسبحان الله ما أكثر آياته التي تدلل عليه .
  س 5 ـ لم لا تدركه حاسة البصر ؟ . . .
  ج 5 ـ للفرق بينه وبين خلقه الذين تدركهم حاسة الابصار ، منهم ومن غيرهم ، ثم هو أجل من أن يدركه بصر ، أو يحيط به وهم ، أو يضبطه عقل . . . ان حاسة البصر وغيرها من حواس الانسان محدودة فكيف تدرك الخالق

حياة الإمام علي بن موسى الرضا عليه السلام _ 152 _

  العظيم ، أو تبصره ، وتنظر إليه انما تدرك وتبصر بعض الممكنات .
  س 6 ـ حده ـ أي الله تعالى ـ لي ؟ . . .
  ج 6 ـ لا حد . . . إن الحد أنما هو للمكنات ، وأما واجب الوجود فإنه يستحيل عليه الحد .
  س 7 ـ لم ـ أي لماذا لا يحد ـ ؟ . . .
  ج 7 ـ لان كل متناه محدود متناه ، وإذا احتمل التحديد احتمل الزيادة ، وإذا احتمل الزيادة احتمل النقصان فهو غير محدود ، ولا متزايد ، ولا متناقص ولا متجزي ، ولا متوهم . . .
  لقد أقام الإمام ( عليه السلام ) البرهان على استحالة تحديد الواجب العظيم ، فان التحديد ـ كما ذكرنا ـ انما هو من شؤون الممكنات .
  س 8 ـ أخبرني عن قولكم : إنه لطيف ، وسميع ، وبصير ، وعليم ، وحكيم أيكون السميع لا بالاذن والبصير لا بالعين ، واللطيف لا بعمل اليدين ، والحكيم لا بالصنعة ؟
  ج 8 ـ إن اللطيف منا ـ أي من المخلوقات ـ على حد ايجاد الصنعة ، أو ما رأيت أن الرجل اتخذ شيئا فيلطف في اتخاذه ؟
  فيقال : ما الطف فلانا ، فكيف لا يقال للخالق الجليل ( لطيف ) إذ خلق خلقا لطيفا وجليلا ، وركب في الحيوان منه أرواحها وخلق كل جنس مباينا من جنسه في الصورة ، ولا يشبه بعضه بعضا ، فكل به لطف من الخالق اللطيف الخبير في تركيب صورته .
  ثم نظرنا إلى الأشجار ، وحملها أطايبها المأكولة منها وغير المأكولة ، فقلنا عند ذلك : إن خالقنا لطيف لا كلطف خلقه .
  وقلنا : إنه سميع لأنه لا يخفى عليه أصوات خلقه ما بين العرش إلى الثرى من الذرة إلى ما هو أكبر منها في برها وبحرها ، ولا يشتبه عليه لغاتها فقلنا : إنه سميع لا بأذن .
  وقلنا : إنه بصير لا ببصر لأنه يرى أثر الذرة السحماء (1) في الليلة الظلماء على الصخرة السوداء ، ويرى دبيب النمل في الليلة الدجية ، ويرى مضارها ومنافعها ومفاسدها ، وفراخها ونسلها ، فقلنا عند ذلك : انه بصير لا كبصر خلقه (2) .

---------------------------
(1) السحماء : السوداء .
(2) هناك زيادة على هذه الرواية جاءت في الاحتجاج ولا يخالجنا شك في أنها منحولة وليست من كلام الامام ، وذلك لعدم الدقة في التعبير واعراض الشيخ الصدوق عنها .

حياة الإمام علي بن موسى الرضا عليه السلام _ 153 _

  مناظرته مع علي بن محمد بن الجهم : ومن مناظرات الامام مع أهل المقالات والأديان هذه المناظرة التي جرت بينه وبين علي بن محمد بن الجهم .
  فقد سأل الإمام ( عليه السلام ) قائلا : يا بن رسول الله أتقول بعصمة الأنبياء ؟ . . . نعم .
  وأخذ يشكل على الامام بهذه الآيات قائلا :
  ما تقول (1) : في قول الله عزوجل : ( وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى ) (2) .
  وقوله عزوجل : ( وَذَا النُّونِ إِذ ذَّهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ ) (3) .
  وفي قوله عزوجل في يوسف : ( وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا ) (4) .
  وفي قوله عزوجل في داود : ( وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ ) (5) .
  وقوله تعالى في نبيه محمد ( صلى الله عليه وآله ) : ( وتخفي في نفسك ما الله مبديه ) (6) .
  وزجره الامام من التمسك بظواهر هذه الآيات ، وهو لا يعلم تفسيرها وتأويلها ، وأخذ يتلو عليه تفسيرها قائلا ويحك يا علي ، اتق الله ، ولا تنسب إلى أنبياء الله الفواحش ولا تتأول كتاب الله برأيك ، فان الله عزوجل قد قال : ( وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ ) (7) .
  وأخذ الامام في تفسير هذه الآيات قائلا : أما قوله عزوجل في آدم : ( وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى ) فان الله عزوجل خلق آدم حجة في أرضه ، وخليفة في بلاده ، لم يخلقه للجنة ، وكانت المعصية من آدم في الجنة لا في الأرض ، وعصمته تجب أن تكون في الأرض ليتم مقادير أمر الله فلما أهبط إلى الأرض وجعل حجة وخليفة عصم بقوله عزوجل : ( إِنَّ اللّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ ) (8) .

---------------------------
(1) في رواية ( فما تعمل ) .
(2) سورة طه / آية 121 .
(3) سورة الأنبياء / آية 87 .
(4) سورة يوسف / آية 24 .
(5) سورة ص / آية 24 .
(6) سورة الأحزاب / آية 37 .
(7) سورة آل عمران / آية 7 .
(8) سورة آل عمران / آية 3 .

حياة الإمام علي بن موسى الرضا عليه السلام _ 154 _

  وأما قوله عزوجل : ( وذا النون إذ ذهب مغاضبا وظن أن لن نقدر عليه ) .
  انما ظن بمعنى استيقن ان الله لن يضيق عليه رزقه ، ألا تسمع قول الله عزوجل :
  ( وأما إذا ما ابتلاه ربه فقدر عليه رزقه ) (1) أي ضيق عليه رزقه ولو ظن أن الله لا يقدر عليه فقد كفر .
  وأما قوله عزوجل في يوسف : ولقد همت به وهم بها فإنها همت بالمعصية ، وهم يوسف بقتلها ان أجبرته لعظم ما تداخله ، فصرف الله عنه قتلها والفاحشة ، وهو قوله عزوجل : ( كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء ) يعنى القتل والزنا .
  والتفت الامام إلى علي بن الجهم فقال له : فما يقول من قبلكم فيه ؟ . . .
  وأخذ علي بن الجهم يتلو على الامام ما أثر عنهم في تفسير الآية قائلا :
  يقولون : إن داود ( عليه السلام ) كان في محرابه يصلي ، فتصور له إبليس على صورة طير ، أحسن ما يكون من الطيور ، فقطع داود صلاته ، وقام ليأخذ الطير ، فخرج الطير إلى الدار ، ثم خرج الطير إلى السطح ، فصعد في طلبه ، فسقط الطير في دار أوريا بن حنان ، فاطلع داود في أثر الطير ، فإذا بامرأة أوريا تغتسل ، فلما نظر إليها هواها ، وكان قد خرج أوريا في بعض غزواته ، فكتب إلى صاحبه أن قدم أوريا إلى التابوت ، فقدم ، فظفر أوريا بالمشركين ، فصعب ذلك على داود ، فكتب إليه ثانية أن قدمه أمام التابوت ، فقدم فقتل أوريا ، فتزوج داود بامرأته . . .
  وفي هذه الرواية نسبة الفحشاء والمنكر إلى نبي من أنبياء الله تعالى ، مضافا إلى ما احتوته من الخرافة ، من ملاحقة داود إلى الطير .
  وقد تأثر الإمام ( عليه السلام ) منها .
  وقال : إنا لله وإنا إليه راجعون ، لقد نسبتم من أنبياء الله إلى التهاون بصلاته ، حتى خرج في أثر الطير ، ثم بالفاحشة ، ثم بالقتل . . .
  وانبرى ابن الجهم يطلب من الامام ايضاح الامر منه قائلا : يا بن رسول الله ، فما كانت خطيئته ؟ . . .
  وأجابه الامام بما هو الواقع من قصة داود قائلا : إن داود ظن أن ما خلق الله عزوجل خلقا هو أعلم منه ، فبعث الله ، عز

---------------------------
(1) سورة الفجر / آية 16 .

حياة الإمام علي بن موسى الرضا عليه السلام _ 155 _

  وجل ، إليه ملكين ، فتسور المحراب ، فقالا : ( خصمان بغى بعضنا على بعض فاحكم بيننا بالحق ، ولا تشطط واهدنا إلى سواء الصراط .
  ان هذا أخي له تسع وتسعون نعجة ، ولي نعجة واحدة ، فقال : اكفلنيها وعزني في الخطاب ) فعجل داود على المدعى عليه ، فقال : ( لقد ظلمك بسؤال نعجتك إلى نعاجه ) .
  ولم يسأل المدعى البينة على ذلك ، ولم يقبل على المدعى عليه فيقول له : ما تقول ؟ فكان هذا خطيئة رسم الحكم ، لا ما ذهبتم إليه ، ألا تسمع الله عزوجل يقول : ( يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى ) .
  وطلب ابن الجهم من الامام أن يوضح له قصة داود مع أوريا قائلا : يا بن رسول الله فما قصته مع أوريا ؟ . . .
  وأخذ الإمام ( عليه السلام ) يشرح له قصته قائلا : إن المرأة في أيام داود كانت إذا مات بعلها لا تتزوج بعده أبدا ، وأول من أباح الله له أن يتزوج بامرأة قتل بعلها كان داود ( عليه السلام ) فتزوج بامرأة أوريا لما قتل ، وانقضت عدتها .
  فذلك الذي شق على الناس من قتل أوريا .
  وأما محمد ( صلى الله عليه وآله ) وقول الله عزوجل : ( وتخفي في نفسك ما الله مبديه وتخشى الناس والله أحق أن تخشاه ) فان الله عزوجل عرف نبيه أسماء أزواجه في دار الدنيا ، وأسماء أزواجه في دار الآخرة ، وانهن أمهات المؤمنين ، وإحداهن من سمي له زينب بنت جحش وهي يومئذ تحت زيد بن حارثة فأخفى اسمها في نفسه ولم يبده لكيلا يقول أحد المنافقين :
  انه قال في امرأة في بيت رجل انها إحدى أزواجه من أمهات المؤمنين ، وخشي قول المنافقين .
  فقال الله عزوجل : ( وتخشى الناس والله أحق ان تخشاه ) يعني في نفسك ، وان الله عزوجل ما تولى تزويج أحد من خلقه إلا تزويج حوا من آدم وزينب من رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) بقوله : ( فلما قضى زيد منها وطرا زوجناكها ) (1) وفاطمة من علي ( عليه السلام ) . . .
  ولما سمع ذلك علي بن الجهم بكى ، وقال : يا بن رسول الله أنا تائب إلى الله عزوجل من أن أنطق في أنبياء الله بعد يومي هذا إلا بما ذكرته (2) .

---------------------------
(1) سورة الأحزاب / آية 37 .
(2) عيون أخبار الرضا 1 / 192 ـ 195 .

حياة الإمام علي بن موسى الرضا عليه السلام _ 156 _

  هذه بعض مناظراته مع كبار الفلاسفة والعلماء من مختلف الأديان ، وقد أثبتت تفوقه عليهم ، واقرارهم له بالفضل ، واعترافهم بالعجز عن مجاراته ، فقد كان سلام الله عليه يملك طاقات هائلة من العلوم لا تحد .
  مسائل المأمون وجواب الامام :
  وعرض المأمون على الإمام الرضا ( عليه السلام ) كوكبة من المسائل وأكبر الظن أنه أراد امتحانه بها فأجابه الامام عنها .
  وفيما يلي ذلك :
  س 1 ـ يا بن رسول الله أليس قولك ان الأنبياء معصومون ؟ . . .
  بلى . . .
  ما معنى قول الله عزوجل : ( فعصى آدم ربه فغوى ) ؟ . . .
  ج 1 ـ إن الله تبارك وتعالى قال لآدم : ( اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلاَ مِنْهَا رَغَداً حَيْثُ شِئْتُمَا وَلاَ تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ ) وأشار لهما إلى شجرة الحنطة ( فَتَكُونَا مِنَ الْظَّالِمِينَ ) ولم يقل لهما : لا تأكلا من هذه الشجرة ، ولا مما كان من جنسها ، فلم يقربا تلك الشجرة ولم يأكلا منها ، وانما أكلا من غيرها ، ولما أن وسوس الشيطان لهما ، وقال : ( مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ ) وانما ينهاكما أن تقربا غيرها ، ولم ينهكما عن الاكل منها ( إِلاَّ أَن تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ ) ولم يكن آدم وحوا شاهدا قبل ذلك من يحلف بالله كاذبا ، ( فدلاهما بغروره ) فأكلا منها ثقة بيمينه بالله ، وكان ذلك من آدم قبل النبوة .
  ولم بكن ذلك بذنب كبير أستحق به دخول النار ، وانما كان من الصغائر الموهوبة التي تجوز على الأنبياء قبل نزول الوحي عليهم ، فلما اجتباه الله تعالى وجعله نبيا كان معصوما ، لا يذنب صغيرة ولا كبيرة .
  قال الله عزوجل : ( وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى * ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى ) (1) وقال عزوجل ( إِنَّ اللّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ )(2) .
  س 2 ـ ما معنى قول الله عزوجل : ( فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحاً جَعَلاَ لَهُ شُرَكَاء فِيمَا آتَاهُمَا ) (3) .
  ج 2 ـ إن حواء ولدت لآدم خمس مائة بطن ذكرا وأنثى وان آدم وحواء عاهدا .

---------------------------
(1) سورة طه / اية 121 ـ 122 .
(2) سورة آل عمران / آية 34 .
(3) سورة الأعراف آية 19 .

حياة الإمام علي بن موسى الرضا عليه السلام _ 157 _

  الله عزوجل ودعواه وقالا : ( لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحاً لَّنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ * فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحاً ) من النسل خلقا سويا ، بريئا من الزمانة (1) والعاهة .
  وكان ما آتاهما صنفين : صنفا ذكرانا ، وصنفا إناثا ، فجعل الصنفين لله تعالى ذكره ، شركاء فيما آتاهما ، ولم يشكراه كشكر أبويهما له عزوجل ، قال الله تبارك وتعالى : ( فَتَعَالَى اللّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ ) (2) .
  س 3 ـ أشهد أنك ابن رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ، أخبرني عن قول الله عزوجل في حق إبراهيم : ( فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي ) (3) .
. . .
  ج 3 ـ إن إبراهيم ( عليه السلام ) وقع إلى ثلاثة أصناف : صنف يعبد الزهرة ، وصنف يعبد القمر ، وصنف يعبد الشمس ، وذلك حين خرج من السرب (4) .
  الذي أخفي فيه ، فلما جن عليه الليل ، فرأى الزهرة ، قال : هذا ربي ، على الانكار والاستخبار ( فلما أفل ) الكواكب ، ( قال : لا أحب الآفلين ) لان الأفول من صفات المحدث لا من صفات القدم ، ( فلما رأى القمر بازغا قال : هذا ربي ) على الانكار والاستخبار ( فلما أفل قال : لئن لم يهدني ربي لأكونن من القوم الضالين ) .
  يقول : لو لم يهدني ربي لكنت من القوم الضالين ، فلما أصبح ورأى الشمس بازغة قال هذا ربي هذا أكبر ، من الزهرة والقمر على الانكار والاستخبار لا على الاخبار والاقرار ، فلما أفلت قال للأصناف الثلاثة من عبدة الزهرة والقمر والشمس ( يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ * إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ) .
  وانما أراد إبراهيم بما قال : ان يبين لهم بطلان دينهم ، ويثبت عندهم ان العبادة لا لمن كان بصفة الزهرة والقمر والشمس ، وانما تحق العبادة لخالقها وخالق السماوات والأرض ، وكل ما احتج به على قومه مما ألهمه الله تعالى وآتاه ، كما قال عزوجل : ( وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ ) .
  س 4 ـ لله درك يا بن رسول الله اخبرني عن قول إبراهيم :

---------------------------
(1) الزمانة : المرض .
(2) سورة الأعراف / آية 190 .
(3) سورة الأنعام / آية 76 .
(4) السرب : الكهف ، والبيت تحت الأرض .

حياة الإمام علي بن موسى الرضا عليه السلام _ 158 _

  ( رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَى وَلَكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي ) (1) .
  ج 4 ـ إن الله تبارك وتعالى كان أوحى إلى إبراهيم ( عليه السلام ) إني متخذ من عبادي خليلا ، إن سألني إحياء الموتى أجبته ، فوقع في نفس إبراهيم انه ذلك الخليل .
  فقال : رب أرني كيف تحيي الموتى ، قال أولم تؤمن ؟ قال : بلى ، ولكن ليطمئن قلبي ) ـ على الخلة ـ قال : ( فَخُذْ أَرْبَعَةً مِّنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِّنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ) فأخذ إبراهيم نسرا وطاووسا وبطا وديكا فقطعهن وخلطهن ثم جعل على كل جبل من الجبال التي حوله ، وكانت عشرة منهن جزء وجعل مناقيرهن بين أصابعه .
  ثم دعاهن بأسمائهن ووضع عنده حبا وماء فتطايرت تلك الأجزاء بعضها إلى بعض حتى استوت الأبدان ، وجاء كل بدن حتى انضم إلى رقبته ورأسه فخلى إبراهيم ( عليه السلام ) عن مناقيرهن فطرن ، ثم وقعن فشربن من ذلك الماء والتقطن من ذلك الحب وقلن : يا نبي الله أحييتنا أحياك الله.
  فقال إبراهيم : بل الله يحيى ويميت وهو على كل شئ قدير .
  س 5 ـ بارك الله فيك يا أبا الحسن ، اخبرني عن قول الله عزوجل : ( فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ ) (2) .
  ج 5 ـ إن موسى دخل مدينة من مدائن فرعون على حين غفلة من أهلها ، وذلك بين المغرب والعشاء ( فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلَانِ هَذَا مِن شِيعَتِهِ وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِن شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ ) .
  فقضى موسى على العدو ، وبحكم الله تعالى ذكر ، فوكزه فمات ( قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ ) .
  يعني الاقتتال الذي كان وقع بين الرجلين ، لا ما فعله موسى من قتله أنه يعني الشيطان عدو مضل مبين .
  س 6 ـ ما معنى قول موسى : ( رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي ) .
  ج 6 ـ يعني : اني وضعت نفسي غير موضعها بدخولي هذه المدينة ، ( فاغفر لي ) اي استرني من أعدائك لئلا يظفروا بي فيقتلوني ، ( فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ) قال موسى : ( رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ ) من القوة حتى قتلت رجلا بوكزة ( فَلَنْ أَكُونَ

---------------------------
(1) سورة البقرة / آية 26 .
(2) سورة القصص / آية 15 .