الجزء الأول
باقر شريف القرشي
منشورات سعيد بن جبير

بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

  ( إِنَّ اللّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِن بَعْضٍ وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ * إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا * قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربى ومن يقترف حسنة نزد له فيها حسنا إن الله غفور شكور ) .
  صدق الله العلي العظيم
  القرآن الكريم

حياة الإمام علي بن موسى الرضا عليه السلام _ 7 _

  تقريظ لسماحة المرجع الديني الامام السيد عبد الاعلى السبزواري دامت بركاته

بسم الله الرحمن الرحيم

  الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف خلقه محمد وآله الطيبين الطاهرين وبعد
  فان الأئمة الأطهار ( سلام الله تعالى عليهم ) وسائط الفيض الأقدس وأسباب الرحمة الإلهية وامناء الله جل شأنه في الأرض وقد منحهم سبحانه وتعالى من العلوم والمعارف الربوبية ما أقاموا به أساس الدين وعمود الشريعة وقد اختص منهم الامام الهمام الرؤف المعصوم على بن موسى الرضا ( صلوات الله عليه ) في تثبيت المعارف الربوبية بالمناظرة مع أرباب الديانات وأصحاب المقالات والأهواء الباطلة فأقام الحق ودحض الباطل ببياناته الشريفة وصارت كلماته المقدسة محور الدراسات وأساس الكمالات
  وقد انبرى جماعة من العلماء ( جزاهم الله تعالى خير الجزاء ) لجمعها وتفسيرها وشرحها وممن خصه الله تعالى بهذه الكرامة العظمى علم الاعلام وشيخ المحدثين الحجة الشيخ باقر القرشي دامت بركاته الذي وهبه الله تعالى من فيوضاته الخاصة وجعله من الأدلاء إلى الأئمة الهداة ( عليهم السلام ) والشارح لكلماتهم الشريفة وسيرهم الحسنة فشكر الله تعالى مساعيه ووفقه لاعلاء كلمة الحق واظهار الحقيقة انه سميع مجيب .

       26 ج 2 / 1412
عبد الاعلى الموسوي السبزواري

حياة الإمام علي بن موسى الرضا عليه السلام _ 8 _

الاهداء
  إلى . . رائد النهضة الفكرية والعلمية في الاسلام
  إلى . . سليل النبوة ، ومعدن العلم والحكمة
  إلى . . الإمام جعفر الصادق ( عليه السلام ) أرفع لمقامه العظيم هذا المجهود المتواضع الذي بحثت فيه عن سيرة حفيده الإمام علي بن موسى الرضا ( عليه السلام ) ، راجيا التفضل علي بالقبول ليكون لي ذخرا يوم ألقى الله.
  المؤلف

حياة الإمام علي بن موسى الرضا عليه السلام _ 9 _

تقديم
  هذه دراسة عن حياة الإمام الرضا ( عليه السلام ) الامام الثامن من أئمة أهل البيت ( عليهم السلام ) ، وهو قبس من نور الله تعالى ، ونفحة من رحماته .
  وكنز من كنوز حكمته ، وله ولآبائه قادة الفكر الاسلامي في مدح الله تعالى غنى عن مدح المادحين ووصف الواصفين ، فقد اذهب عنهم الرجس ، وطهرهم من الزيغ ، قال تعالى : ( إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ، ويطهركم تطهيرا ) (1) .
  كما فرض تعالى مودتهم على جميع أبناء الاسلام ، قال تعالى : ( قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربى ) (2) .
  وقرنهم جدهم الرسول ( صلى الله عليه وآله ) بمحكم التنزيل ، فقد قال : إني تارك فيكم الثقلين ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا بعدي ، أحدهما أعظم من الآخر ، كتاب الله حبل ممدود من السماء إلى الأرض ، وعترتي أهل بيتي ، ولن يفترقا حتى يردا علي الحوض ، فانظروا كيف تخلفوني فيهما . . . (3) .

---------------------------
(1) سورة الأحزاب / آية 22 .
(2) سورة آل حم الشورى / آية 23 .
(3) صحيح الترمذي 2 / 308 أسد الغابة 2 / 12 .

حياة الإمام علي بن موسى الرضا عليه السلام _ 10_

  كما جعلهم ( صلى الله عليه وآله ) سفن نجاة هذه الأمة قال :
  إنما مثل أهل بيتي فيكم كسفينة نوح من ركبها نجا ، ومن تخلف عنها غرق ، وانما مثل أهل بيتي فيكم مثل باب حطة في بني إسرائيل من دخله غفر له (1) .
  ووجه المأمون سؤالا لعبد الله بن مطر ، وهو من اعلام الفكر والأدب في عمره فقال له : ما تقول في أهل البيت ؟ .
  فأجابه عبد الله بهذه الكلمة المشرقة قائلا : ما قولي : في طينة عجنت بماء الرسالة ، وغرست بماء الوحي ، هل ينفح منها إلا مسك الهدى ، وعنبر التقى . . . وملكت هذه الكلمة الذهبية قلب المأمون ، وكان الإمام الرضا ( عليه السلام ) حاضرا في المجلس ، فأمر المأمون أن يحشى فم عبد الله لؤلؤا (2) .
  إن جميع القيم الرفيعة ، والمبادئ الأصيلة التي يعتز بها هذا الكائن الحي من بني الانسان كلها ماثلة في أئمة أهل البيت ( عليهم السلام ) ، فهي من عناصرهم ومن ذاتياتهم .
  أما نزعات الإمام الرضا ( عليه السلام ) وعناصره النفسية فهي كنزعات آبائه الأئمة العظام تجردا عن الدنيا ، وزهدا في مباهجها ، واعراضا عن زينتها ، واقبالا على الله ، وانقطاعا إليه ، وتمسكا بطاعته ، وعلما بأحكام الدين ، وإحاطة شاملة بشريعة سيد المرسلين ، وعونا للضعفاء ، وغوثا للمحرومين ، وسعيا لقضاء حاجات المحتاجين ، إلى غير ذلك من الصفات الكريمة التي جعلتهم في قمة الشرف والمجد في دنيا العرب والاسلام .
  وملك الإمام الرضا ( عليه السلام ) هذه القيم الأصيلة بجميع صورها وألوانها ، فقد تجرد عن الدنيا تجردا كاملا ، وطلقها ثلاثا كما طلقها جده الامام أمير المؤمنين ( عليه السلام ) فلم يحفل بزينتها ومباهجها ، وقد تجلى ذلك ـ بوضوح ـ حينما

---------------------------
(1) مجمع الزوائد 9 / 68 : الحلية 4 / 306 تأريخ بغداد 2 / 19 .
(2) البحار 12 / 71 .

حياة الإمام علي بن موسى الرضا عليه السلام _ 11 _

  تقلد ولاية العهد التي هي أعظم مركز في الدولة الاسلامية ، فقد كان الشخصية ؟ ؟ الثانية بعد المأمون ، فقد رفض جميع مغريات الحكم والسلطان ، وكره كأشد ما تكون الكراهية ما يقيمه الناس لملوكهم وحكامهم من المهرجانات الشعبية ، وصنوف العظمة والتكريم ، وقد أعلن ذلك بقوله : إن مشي الرجال خلف الرجال فتنة للمتبوع ، ومذلة للتابع . . . (1) .
  وكان ـ فيما يقول الرواة ـ يدخل حمام السوق ، وصاحب الحمام لا يعرفه ، وقد اتفق أن جنديا كان في الحمام فطلب منه أن يقوم بتدليكه ، وتنظيفه فانبرى مجيبا لطلبه ، وحينما علم الجندي بذلك استولى عليه الفزع والرعب فهدأ الامام روعه ، وعرفه أنه قام بخدمة انسانية له .
  وكان من معالي أخلاقه أنه كان يأكل مع غلمانه ، وخدمه ، ويكره أن يتميز عليهم إلى غير ذلك من سمو أخلاقه التي ورثها من جده الرسول الأعظم ( صلى الله عليه وآله ) .
  ولأئمة أهل البيت ( عليه السلام ) سياستهم المشرقة ، ومنهجهم النير في عالم الحكم والسياسة ، فهم يرون أن الحكم يجب أن يكون وسيلة لإقامة العدل الخالص ، والحق المحض ، ونشر المحبة والألفة بين الناس ، ولا بد أن يكون أداة لانعاش الشعوب ، ورفاهيتها وأمنها ورخائها ، ولا قيمة للحكم عندهم إذا لم يحقق هذه الأهداف النبيلة التي تسعد بها الشعوب ، استمعوا إلى ما يقوله سيد العترة الامام أمير المؤمنين ( عليه السلام ) إلى وزيره ومستشاره عبد الله بن عباس ، وقد رفع إليه نعله التي كانت من ليف ، فقال له : يا بن عباس ما قيمة هذا النعل ؟ . . .
  وسارع ابن عباس قائلا : لا قيمة له يا أمير المؤمنين . . .
  فانبرى الامام قائلا : إنه خير من خلافتكم هذه إلا أن أقيم حقا ، وادفع باطلا . . .

---------------------------
(1) تأريخ اليعقوبي .

حياة الإمام علي بن موسى الرضا عليه السلام _ 12_

  ولم يحفل قاموس السياسة في تقييم الحكم بكلمة أجل ، ولا أسمى من هذه الكلمة التي أدلى بها عملاق الفكر الاسلامي الامام أمير المؤمنين ( عليه السلام ) فلا قيمة للسلطة ما لم يقم في ظلها الحق والعدل ، ويقصي فيها الباطل والجور .
  إن هذا هو منهج الله تعالى الذي يريده لعباده لتستقيم حياتهم ، وينعمون في ظل حكم لا خداع فيه ، ولا تضليل ، ولا تلاعب بما تملكه الأمة من مقدرات .
  وبرز الإمام الرضا ( عليه السلام ) على مسرح الحياة السياسية في الاسلام كألمع سياسي عرفه التاريخ الاسلامي ، فقد كان صلبا في مواقفه السياسية ، فلم تخدعه الأساليب البراقة ، ولا الأماني المزيفة التي قدمها له الملك العباسي المأمون من تنازله عن العرش ، وترشيحه له ، فلم يكن هذا العرض واقعيا ، ولا صادقا بحال من الأحوال ، وانما كان لأغراض سياسية لعل كان من أهمها القضاء على الثورات الملتهبة التي كادت أن تحرق الحكم العباسي ، وتلف لواءه ، والتي منها ثورة أبي السرايا .
  فقد كان قائدا عسكريا ملهما ، فهو كأبي مسلم الخرساني الذي أطاح بالحكم الأموي ، ومضافا لذلك جلب عواطف الإيرانيين وسائر القوى الموالية لأهل البيت ( عليهم السلام ) الذين جهدت الحكومات العباسية المتعاقبة على ظلمهم ، والتنكيل بهم ، وحرمانهم من حقوقهم الطبيعية .
  ولم تخف على الإمام الرضا ( عليه السلام ) دوافع المأمون السياسية بتنازله عن رئاسة الدولة ، وتقديمها بسخاء له ، فامتنع ( عليه السلام ) امتناعا شديدا من قبولها .
  ولما يئس منه عرض عليه ثانيا ولاية العهد فامتنع كذلك ، إلا أنه تهدده ، وتوعده بالقتل إن لم يستجب لذلك ، فاستجاب على كره ، وقد شرط عليه شروطا ألقت الأضواء على كراهيته وعدم رضاه ، وهي :
  أ ـ لا يأمر ، ولا ينهى .
  ب ـ لا يعزل أحدا عن منصبه .
  ج ـ لا ينصب أحدا في أي منصب من مناصب الدولة .
  ومعنى هذه الشروط أن يكون له مجرد الشكل الظاهري من أنه ولي عهد المأمون ، كما أن معناه ان حكومة المأمون ليست شرعية ، ولو كانت شرعية لما شرط عليه هذه الشروط .

حياة الإمام علي بن موسى الرضا عليه السلام _ 13_

  ولم تمض الأيام حتى استبان للجميع عمق ما ذهب إليه الامام ، وزيف ما عرضه المأمون على الامام ، وانه انما عمد لذلك للعبة سياسية فلما انتهت قام باغتيال الامام ، لأنه لا يمكنه عزله ، وسنوضح جميع هذه البحوث في غضون هذا الكتاب .
  ومن بين بحوث هذا الكتاب التدليل على مدى الثروات العلمية الهائلة التي يملكها الإمام الرضا ( عليه السلام ) ، فقد شملت جميع ألوان العلوم والمعارف من الفلسفة ، وعلم الكلام ، والطب ، والفقه ، وغيرها ، وقد دلت على ذلك بصورة موضوعية ، وواضحة ، مناظراته مع كبار الفلاسفة والعلماء الذين جلبهم المأمون من مختلف أقطار الدنيا وأمصارها إلى خراسان لامتحان الامام .
  وقد عقد مع كل وفد منهم اجتماعا خاصا وسريا ، ووعدهم بالثراء العريض إن أفحموا الامام ، وأعجزوه عن اجابتهم ليتخذ من ذلك وسيلة للطعن والتشهير بما تذهب إليه الشيعة من أن أئمة أهل البيت ( عليهم السلام ) أعلم الأمة وان الله آتاهم من العلم والفضل كما آتي أنبياءهم ، وأوصياءهم .
  واستجاب العلماء لدعوة المأمون فسألوا الامام عن أعقد المسائل ، وأكثرها غموضا ويقول المؤرخون :
  انهم سألوه عن أكثر من عشرين الف مسألة في أبواب متفرقة فأجابهم عنها جواب العالم الخبير المتخصص ، فبهر العلماء من سعة علومه ، ودان الكثيرون منهم بإمامته ، مما اضطر المأمون إلى حجب الامام عن العلماء وغيرهم ، وفرض الرقابة الشديدة عليه لئلا يفتتن الناس به .
  ومن الجدير بالذكر ان تلك المناظرات قد دونها بعض تلامذة الإمام (ع) إلا انا لم نعثر عليها ، ولعلها من جملة المخطوطات التي خسرها العالم العربي والاسلامي .
  وعلى أي حال فقد نقل مؤرخو الشيعة طائفة يسيرة من تلك المناظرات وهي ذات أثر مهم للغاية ، فإنها علي قلتها تكشف عن مدى ثروات الامام العلمية ، وتدلل على أنه من عمالقة الفكر والعلم في دنيا الاسلام .
  وأثرت عن الإمام الرضا ( عليه السلام ) كوكبة من الكتب نص عليها المعنيون بتدوين أسماء الكتب كابن النديم ، والطوسي وغيرهما ، كما نص عليها المترجمون للامام وهي :

حياة الإمام علي بن موسى الرضا عليه السلام _ 14_

  أ ـ طب الإمام الرضا ( عليه السلام ) :
  وهي رسالة جليلة ، كتبها الامام للمأمون بطلب منه ، وسميت ب‍ ( الرسالة الذهبية ) لنفاستها ، وقد عرضت بصورة موضوعية وشاملة إلى برامج الأغذية الصحية التي تعتبر الأساس للصحة العامة ، كما عرضت إلى ما يصلح بدن الانسان ، ويقيه من الإصابة بكثير من الأمراض .
  وكان من جملة تلك الوصفات عدم الاسراف في تناول الطعام ، فان الاسراف فيه يعرض الانسان للإصابة بارتفاع الضغط الدموي ، والإصابة بداء السكر ، وتصلب شرايين القلب ، وغير ذلك من الأمراض الخطرة ، ومن المؤكد ان وصايا الامام الصحية لو طبقت على مسرح الحياة لجعلت الطب وقائيا .
  ونظرا لأهمية هذه الرسالة فقد انبرى جمع من الفضلاء إلى شرحها فكان منهم الدكتور السيد صاحب زيني ، فقد شرحها بما يتفق والطب الحديث .
  ب ـ مسند الإمام الرضا :
  أو صحيفة الإمام الرضا ، وقد احتوت على طائفة من الاخبار يروي الإمام ( عليه السلام ) بعضها بسنده عن جده الرسول الأعظم ( صلى الله عليه وآله ) ، وقد طبعت في القاهرة ، طبعها ، وعلق عليها العلامة عبد الواسع بن يحيى الواسمي .
  ج ـ جوامع الشريعة :
وقد جمعت غرر الأحكام الشرعية ، وأمهات المسائل الفقهية ، وقد أملاها الإمام ( عليه السلام ) على الفضل بن سهل رئيس وزراء المأمون ، وذلك بطلب منه ، وذكرت هذه الرسالة في تحف العقول وغيره من مؤلفات الشيعة ، وقد نقلناها عنهم ، وأثبتناها في غضون هذا الكتاب ، وهذه الكتب انما هي من بعض ثروات الامام العلمية .
  أما فقه الإمام الرضا ، فقد دللنا على أنه ليس من مؤلفاته ، وانما هو لغيره ومنسوب إليه .
  وعلى أي حال ، فقد ذكر الرواة للامام طائفة كبيرة من غرر الحكم والآداب هي برنامج للحياة المتطورة التي يريدها الاسلام لأبنائه .
  وحفل هذا الكتاب بترجمة طائفة من كبار العلماء والرواة ممن تتلمذ وأشرف على

حياة الإمام علي بن موسى الرضا عليه السلام _ 15_

  يد الإمام ( عليه السلام ) ، ورووا حديثه ، وقد الف بعضهم نسخا من أحاديثه وحكمه . . . ومن المؤكد أن عرض ذلك يرتبط ارتباطا وثيقا بالبحث عن حياته فإنه يكشف عن مدى اهتمام الأوساط العلمية في ذلك العصر بتلقي العلوم والمعارف عنه ، فقد كان باجماع الرواة والمؤرخين عملاق الفكر الاسلامي وكانت علومه امتدادا ذاتيا لعلوم آبائه الأئمة الطاهرين ( عليهم السلام ) الذين هم خزنة علوم النبي ( صلى الله عليه وآله ) ، وورثة حكمته .
  وتناول هذا الكتاب دراسة عصر الإمام الرضا ( عليه السلام ) ، وعرض ما فيه من الاحداث السياسية ، والاجتماعية والعلمية ، والاقتصادية ، وغير ذلك مما يمس حياة الناس في ذلك العصر .
  ان دراسة مثل هذه الأمور أصبحت من البحوث النهضية التي لا غنى للباحث عنها ، لان مجريات الاحداث في كل عصر لها الدخل المباشر في التأثير على حياة الانسان ، وعلى مكوناته الفكرية ، كما أكدت ذلك بحوث علم النفس ، وعلم الاجتماع .
  وقد حفل عصر الإمام ( عليه السلام ) بكثير من الاحداث الجسام كان من بينها الصراع المسلح بين الأمين والمأمون ، والذي كان سببه الرشيد ، وهو المسؤول عنه ، وقد أدى ذلك الصراع إلى خراب بغداد التي كانت زينة الشرق ، والى قتل طائفة كبيرة من الناس ومن بين تلك الاحداث ثورة القائد الملهم أبي السرايا .
  وغيرها من الثورات الكبرى التي كادت تقضي على الدولة العباسية ، وتلف لواءها إلا أن المأمون قد استطاع بدهائه ، وحنكته السياسية أن يتغلب على جميع الاحداث التي المت به ، فأجبر الإمام الرضا ( عليه السلام ) الذي هو أمل الأمة الاسلامية على قبول ولاية العهد الامر الذي أدى إلى فشل تلك الثورات ، واخماد نارها ، بالإضافة إلى انشغال الرأي العام بهذا الحادث الخطير .
  ومن بين الاحداث المهمة في ذلك العصر فتنة خلق القرآن وهي مسألة كلامية كانت خفية أو مهملة فأثارها المأمون وقد أدت إلى سفك الدماء بغير حق ، وشيوع الاضطراب والفتنة بين المسلمين .

حياة الإمام علي بن موسى الرضا عليه السلام _ 16 _

  ودرسنا بعمق وشمول سيرة ملوك بني العباس الذين عاصرهم الإمام الرضا ( عليه السلام ) ، فقد كانت سيرتهم شبيهة إلى حد بعيد بسيرة ملوك الأمويين الذين اتخذوا مال الله دولا ، وعباد الله خولا ، وليس في سيرتهم بعد الدراسة الجادة أي جد أو نشاط للعمل الصالح ، وما ينفع المسلمين ، وانما كانت سيرهم غنية بالملذات ، وثرية بالشهوات ، فقد انفقوا علي لياليهم الحمراء ، في بغداد ، الملايين من أموال المسلمين ، وقد حظي بالثراء من قبلهم المغنون والعابثون والماجنون ، في حين أن الفقر والبؤس قد اخذا بخناق الناس .
  وكان من مظاهر حكمهم أن شرعت سياطهم ، وشهرت سيوفهم ، وفتحت أبواب سجونهم للأحرار ، وفي طليعتهم السادة العلويون الذين كانوا يطالبون بتحقيق العدالة الاجتماعية وقد لاقى الزراع ، وذوو الحرف ، وأرباب الصناعات ضروبا قاسية ومرهقة من المحن والخطوب من الجباة الذين كانوا يجلبون الخراج وسائر الضرائب ، فكانوا يأخذونها بمنتهى الشدة ، والقسوة ، إذ قد الهبت سياطهم أبدان الناس ، وامعنوا في ظلمهم إلى حد بعيد .
  أما دراسة التأريخ الاسلامي فيجب أن تكون موضوعية ونزيهة وبعيدة عن التيارات المذهبية ، والعواطف التقليدية ، فقد خلط التأريخ بكثير من الموضوعات أوجبت خفاء الحق ، وستر الحقائق ، فمن الواجب بذل المزيد من الجهد لمعرفة الصحيح من السقيم ، والحق من الباطل .
  وكان من بين ما مني به التأريخ من الخلط والخبط اضفاء النعوت الكريمة ، والألقاب العظيمة على الكثيرين من ملوك بني أمية وبني العباس ، فقد لقبوا بخلفاء الله في الأرض ، وهذا اللقب الكريم يمثل الحق ، والعدل ، والقانون ، وأعوذ بالله أن يتصف به أمثال يزيد ومروان والوليد ، وأمثالهم من ملوك بني العباس الذين حولوا حياة الناس إلى جحيم لايطاق .
  إن بعض المؤرخين والكتاب يرون أن المقياس في سمو الشخص وعظيم مكانته استيلاؤه على كرسي الحكم ، وتسلمه لزمام السلطة العامة في البلاد ، وهذا ليس بصحيح اطلاقا ، فان المقياس في الفكر الاسلامي هو ما يسديه الحاكم من

حياة الإمام علي بن موسى الرضا عليه السلام _ 17 _

  الخدمات للأمة في عالم الاقتصاد ، والثقافة ، والامن والرخاء . . .
  ولو جرد المؤرخون ، والكتاب لقب الخليفة ، وغيره من الألقاب العظيمة ، من هؤلاء الملوك ، وأضفوها على الذين خدموا القضايا العظيمة للأمة ، لأدوا بذلك خدمة كبرى إلى التأريخ الاسلامي .
  فقد تعرض الاسلام لكثير من النقود من المستشرقين وغيرهم من الحاقدين على الاسلام بسبب ما صدر عن بعض هؤلاء الملوك من الأعمال المجافية لروح العدالة والقانون معتقدين بأنهم يمثلون الاسلام في تصرفاتهم واعمالهم ، ولو أن الناقدين راجعوا احكام الاسلام لوجدوها ندية خلاقة تساير العدل ، وتواكب الفطرة ، وليس فيها ـ والحمد لله ـ ما يساير الظلم بل فيها ما يناهضه ويناجزه ، فالتصرفات الشاذة من بعض ملوك المسلمين لا تمت إلى الاسلام بصلة ، ولا يؤاخذ بشئ منها .
  وليس هذا أول كتاب صدر عن حياة الإمام علي بن موسى الرضا ( عليه السلام ) ، فقد صدرت عن حياته عدة دراسات باللغة العربية وغيرها ، ومن أهمها ـ فيما أحسب ـ حياة الإمام الرضا (ع) للسيد جعفر مرتضى ، فقد كان ثريا مع تحقيقاته وبحوثه .
  ولا يحكي ما الف عن هذا الامام العظيم واقع شخصيته ، فذاك أمر بعيد المنال ، فقد كان ( عليه السلام ) يحمل ثراء فكريا لا حدود له ، فهو من أئمة الهدى ( عليهم السلام ) ، سدنة الاصلاح الاجتماعي ، وورثة علوم النبي ( صلى الله عليه وآله ) .
  وقبل أن أفعل هذا التقديم ، وأنهي هذا العرض الموجز لما في هذا الكتاب من بحوث أرى من الحق علي أن ارفع آيات الشكر والامتنان إلى سماحة استاذنا المعظم حجة الاسلام والمسلمين الشيخ حسين الخليفة على ما أولاني من الرعاية واللطف والمساعدات في طبع بعض كتبي . . .
  كما أن من الحق والوفاء أن أشيد بالجهد الخلاق الذي أسداه إلي سماحة الحجة العلامة الكبير أخي الشيخ هادي شريف القرشي من ملاحظاته القيمة على هذا الكتاب ، ومراجعاته لبعض الموسوعات التي استفدت منها

حياة الإمام علي بن موسى الرضا عليه السلام _ 18 _

  بالإضافة إلى تشجيعه لي في خدمة أهل البيت ( عليهم السلام ) آملا من الله تعالى ان يجازيه على ذلك كما يجازي الصالحين من عباده ، انه تعالى ولي القصد والتوفيق .
  النجف الأشرف
  باقر شريف القرشي
  سنة 1411 ه‍ 14 شوال

حياة الإمام علي بن موسى الرضا عليه السلام _ 19_

  الوليد العظيم وقبل الحديث عن ولادة الامام الزكي أبي محمد ( عليه السلام ) ، وما رافقها من شؤون نعرض إلى نسبه الوضاح ، ذلك النسب الرفيع المتصل برسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ، الذي هو مصدر الفيض والعطاء ، ومصدر الخير والرحمة إلى الناس ، فأي نسب أسمى وأجل من نسب الإمام الرضا ( عليه السلام ) ، فهو ثمرة من ثمرات رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ، وفرع مشرق من فروعه . . .
  وهذه لمحة موجزة عن أصوله الكريمة .
  الأب : أما أبو الإمام الرضا فهو الإمام موسى الكاظم بن الإمام جعفر الصادق بن الإمام محمد الباقر بن الإمام زين العابدين ابن الإمام الحسين بن الإمام علي بن أبي طالب ( عليهم السلام ) .
  وليس في دنيا الأنساب ارفع ولا أزكى من هذا النسب ومن المؤكد ان هؤلاء الأئمة الطاهرين هم خلفاء رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وأوصياؤه ، وسنذكر في البحوث الآتية لمحة عن حياة أبيه الإمام موسى ( عليه السلام ) .
  الام : أما أم الإمام الرضا ( عليه السلام ) فقد تحلت بجميع مزايا الشرف والفضيلة التي تسمو بها المرأة المسلمة من العفة والطهارة ، وسمو الذات وهي من السيدات الماجدات في الاسلام ، وكانت أمة وهذا لا ينقص مكانتها ، لان الاسلام جعل المقياس في تفاوت الناس بالتقوى والعمل الصالح ، ولا أثر لغير ذلك .
  ونقل الرواة عدة أقوال في كيفية زواج الإمام الكاظم ( عليه السلام ) بهذه السيدة الماجدة ، وهذه بعضها :

حياة الإمام علي بن موسى الرضا عليه السلام _ 20 _

  1 ـ انها كانت من أشراف العجم ، وكانت ملكا للسيدة حميدة أم الإمام موسى ( عليه السلام ) ، وهي من أفضل النساء في عقلها ، ودينها واعظامها لمولاتها السيدة حميدة حتى أنها ما جلست بين يديها من ملكتها اجلالا ، واعظاما لها ، وقد قالت حميدة لابنها الإمام موسى : يا بني ان تكتم جارية ، ما رأيت جارية قط أفضل منها ، ولست أشك أن الله تعالى سيظهر نسلها ، وقد وهبتها لك فاستوص بها خيرا (1) .
  2 ـ روى هشام بن أحمد قال : أبو الحسن الأول ـ هو الإمام موسى ـ هل علمت أحدا من أهل المغرب قدم ؟
  قلت : لا .
  فقال ( عليه السلام ) : بلى قد قدم رجل ، فانطلق بنا إليه ، فركب وركبنا معه ، حتى انتهينا إلى الرجل ، فإذا رجل من أهل المغرب معه رقيق .
  فقال له : اعرض علينا ، فعرض علينا تسع جوار ، كل ذلك يقول أبو الحسن : لا حاجة لي فيها .
  ثم قال له : اعرض علينا .
  فقال : ما عندي شئ .
  فقال له : بلى اعرض علينا
  قال : لا والله ما عندي إلا جارية مريضة .
  فقال له : ما عليك أن تعرضها .
  فأبى .
  ثم انصرف ( عليه السلام ) ثم انه أرسلني من الغد إليه .
  فقال لي : قل له : كم غايتك فيها ؟ فإذا قال : كذا وكذا ـ يعني من المال ـ فقل : قد أخذتها .
  فأتيته ، فقال له : ما أريد أن أنقصها من كذا ـ وعين مبلغا خاصا ـ فقلت : قد أخذتها ، وهو لك .
  فقال : هي لك ، ولكن من الرجل الذي كان معك بالأمس ؟
  فقلت : رجل من بني هاشم
  فقال : من أي بني هاشم ؟ فقلت : من نقبائهم ، فقال : أريد أكثر من هذا .
  فقلت : ما عندي أكثر من هذا .
  فقال : أخبرك عن هذه ، اني اشتريتها من أقصى المغرب ، فلقيتني امرأة من أهل الكتاب ، فقالت : من هذه الوصيفة معك ؟
  فقلت : اشتريتها لنفسي ، فقالت : ما ينبغي أن تكون عند مثلك ، ان هذه الجارية ينبغي ان تكون عند خير أهل الأرض ، فلا تلبث عنده إلا قليلا حتى تلد منه غلاما يدين له شرق الأرض وغربها
  قال : فاتيته بها ، فلم تلبث عنده إلا قليلا حتى ولدت له عليا (2) .
  3 ـ روي : أن الإمام الكاظم ( عليه السلام ) قال : لأصحابه والله ما اشتريت هذه الجارية إلا بأمر من الله ووحيه ، وسئل عن ذلك ، فقال : بينما أنا نائم إذ أتاني جدي وأبي ، ومعهما قطعة حرير ، فنشراها ، فإذا قميص فيه صورة هذه الجارية ،
---------------------------
(1) عيون أخبار الرضا 1 / 14 ـ 15 .
(2) عيون أخبار الرضا 1 / 17 ـ 18 أصول الكافي 1 / 487 ، كشف الغمة 3 / 102

حياة الإمام علي بن موسى الرضا عليه السلام _ 21 _

  فقالا : يا موسى ليكونن لك من هذه الجارية خير أهل الأرض بعدك ، ثم أمرني أبي إذا ولد لي ولد أن أسميه عليا ، وقالا : إن الله عزوجل سيظهر به العدل والرحمة ، طوبى لمن صدقه ، وويل لمن عاداه وجحده (1) .
  هذه بعض الروايات التي قيلت في كيفية زواج الإمام موسى ( عليه السلام ) بهذه السيدة الكريمة ، وقد حباها بخالص الحب ، وأصفاه ، وكانت تنعم بالاكبار والتقدير في بيته .
  اسمها : اما اسم هذه السيدة الزكية فقد اختلفت فيه أقوال الرواة ، وهذه بعضها :
  1 ـ تكتم : وذهب كثير من المؤرخين إلى أن اسمها تكتم ، وفي ذلك يقول الشاعر في مدحه للإمام ( عليه السلام ) : ألا ان خير الناس نفسا ووالدا اتتنا به للعلم والحلم ثامنا ورهطا وأجدادا علي المعظم إماما يؤدي حجة الله تكتم (2) .
  وهذا الاسم عربي تسمى به السيدات من نساء العرب ، وفيه يقول الشاعر : طاف الخيالان فزادا سقما خيال تكنى وخيال تكتما (3) .
  2 ـ الخيزران (4) .
  3 ـ أروى (5) .
  4 ـ نجمة (6) .
  5 ـ أم البنين (7) والظاهر أنه كنية لها .
  هذه بعض الأقوال التي قيلت في اسمها ، وليس في تحقيق ما هو الصحيح منها
---------------------------
(1) الدر النظيم في مناقب الأئمة ليوسف بن حاتم الشافعي من مصورات مكتبة الامام أمير المؤمنين تسلسل 2879 ورقة 210 .
(2) عيون أخبار الرضا 1 / 15 وجاء فيه أنه نسب قوم هذا الشعر إلى عم أبي إبراهيم بن العباس ، ولم أروه ، وما لم يقع به رواية ولا سماع فاني لا أحققه ولا أبطله .
(3) أعيان الشيعة 4 / ق 2 / 80 .
(4) تذكرة الخواص ( ص 361 ) بحر الأنساب ( ص 28 ) البحار 12 / 2 .
(5) الصراط السوي للشيخاني القادري ورقة 169 مصور ، نور الابصار ص 138 .
(6) كشف الغمة 3 / 102 .
(7) الارشاد ( ص 342 ) .

حياة الإمام علي بن موسى الرضا عليه السلام _ 22 _

  بذي فائدة على القراء .
تقواها : وكانت هذه السيدة الزكية من العابدات ، فقد أقبلت على طاعة الله اقبالا شديدا ، فقد تأثرت بسلوك زوجها الإمام الكاظم ( عليه السلام ) إمام المتقين والمنيبين إلى الله تعالى .
  وكان من مظاهر عبادتها أنها لما ولدت الإمام الرضا ( عليه السلام ) .
  قالت : أعينوني بمرضعة .
  فقيل لها : أنقص الدر ؟
  قالت : ما اكذب : ما نقص الدر ، ولكن علي ورد من صلاتي وتسبيحي (1) .
  أرأيتم هذه النفس الملائكية التي هامت بحب الله ، وانقطعت إليه فقد طلبت أن يعاونوها على ارضاع ولدها لأنه يشغلها عن أورادها من الصلاة والتسبيح .
  الوليد العظيم : وأشرقت الأرض بمولد الإمام الرضا ( عليه السلام ) ، فقد ولد خير أهل الأرض ، وأكثرهم عائدة على الاسلام ، وسرت موجات من السرور والفرح عند آل النبي ( صلى الله عليه وآله ) .
  وقد استقبل الإمام الكاظم النبأ بهذا المولود المبارك بمزيد من الابتهاج ، وسارع إلى السيدة زوجته يهنيها بوليدها قائلا :
  هنيئا لك يا نجمة كرامة لك من ربك . . .
  وأخذ وليده المبارك ، وقد لف في خرقة بيضاء ، وأجرى عليه المراسم الشرعية ، فاذن في أذنه اليمنى ، وأقام في اليسرى ، ودعا بماء الفرات فحنكه به ، ثم رده إلى أمه .
  وقال لها : خذيه فإنه بقية الله في أرضه . . . (2) .
  لقد استقبل سليل النبوة أول صورة في دنيا الوجود ، صورة أبيه امام المتقين ، وزعيم الموحدين ، وأول صوت قرع سمعه هو :
  الله أكبر .
  لا اله إلا الله.
  وهذه الكلمات المشرقة هي سر الوجود ، وأنشودة المتقين .

---------------------------
(1) عيون أخبار الرضا 1 / أعيان الشيعة 4 / ق 2 / 80 .
(2) كشف الغمة 3 / 88 ، عيون أخبار الرضا 1 / 18 .

حياة الإمام علي بن موسى الرضا عليه السلام _ 23 _

  وسمى الإمام الكاظم ( عليه السلام ) وليده المبارك باسم جده الامام أمير المؤمنين علي ( عليه السلام ) ، تبركا وتيمنا بهذا الاسم الذي يرمز لأعظم شخصية خلقت في دنيا الاسلام ، والتي تحلت بجميع فضائل الدنيا .
  ألقابه : ولقب الإمام الرضا ( عليه السلام ) بكوكبة من الألقاب الكريمة ، وكل لقب منها يرمز إلى صفة من صفاته الكريمة .
  وهذه بعضها :
  1 ـ الرضا :
  واختلف المؤرخون والرواة في الشخص الذي أضفى على الإمام ( عليه السلام ) هذا اللقب الرفيع ، حتى غلب عليه ، وصار اسما يعرف به ، بعض الأقوال :
  أ ـ المأمون :
  وذهب فريق من المؤرخين إلى أن المأمون هو الذي منحه هذا اللقب (1) لأنه رضي به ، وجعله ولي عهده (2) ، وقد فند الإمام الجواد ( عليه السلام ) ذلك أمام جماعة من أصحابه وقال :
  إن الله تبارك وتعالى سمى ما ترضاه ، لأنه كان رضى لله عزوجل في سمائه ، ورضى لرسوله ، والأئمة من بعده صلوات الله عليهم . . .
  فقال له البزنطي : ألم يكن كل واحد من آبائك الماضين ( عليهم السلام ) رضى لله عزوجل ولرسوله ، والأئمة بعده ؟
  بلى . . .
  لم سمي أبوك من بينهم بالرضا ؟ . . .
  لأنه رضي به المخالفون من أعدائه ، كما رضي به الموافقون من أوليائه ، ولم يكن ذلك لاحد من آبائه ، فلذلك سمي من بينهم بالرضا . . . (3) .

---------------------------
(1) تاريخ أبي الفداء 2 / 24 ، تأريخ ابن الأثير 5 / 183 .
(2) البحار 12 / 4 .
(3) علل الشرايع ، إعلام الورى البحار 12 / 2 .

حياة الإمام علي بن موسى الرضا عليه السلام _ 24 _

  ب ـ الإمام موسى :
  وذهب بعض الرواة إلى أن الإمام موسى الكاظم ( عليه السلام ) هو الذي أضفى على ولده هذا اللقب .
  فقد روى سليمان بن حفص قال : كان موسى بن جعفر سمى ولده عليا الرضا ، وكان يقول : ادعو لي ولدي الرضا ، وقلت : لولدي الرضا ، وقال لي : ولدي الرضا ، وإذا خاطبه قال : يا أبا الحسن (1) .
  هذه بعض الأقوال في منحه بهذا اللقب الكريم ، وقد علل أحمد البزنطي السبب الذي من أجله لقب بالرضا قال :
  انما سمي الرضا لأنه كان رضى لله تعالى في سمائه ، ورضى لرسوله والأئمة بعده في أرضه (2) .
  2 ـ الصابر (3) :
  وانما لقب بذلك لأنه صبر على المحن والخطوب التي تلقاها من خصومه وأعدائه .
  3 ـ الزكي (4) :
  لقد كان الإمام الرضا ( عليه السلام ) من أزكياء البشر ، ومن نبلائهم وأشرافهم .
  4 ـ الوفي (5) :
  اما الوفاء فهو عنصر من عناصر الامام ، وذاتي من ذاتياته ، فقد كان وفيا لامته ووطنه .
  5 ـ سراج الله (6) :
  لقد كان الامام سراجا لله يهدي الضال ، ويرشد الحائر .
  6 ـ قرة عين المؤمنين (7) :
  ومن ألقابه الكريمة انه كان قرة عين المؤمنين : فقد كان زينا وفخرا لهم ،
---------------------------
(1) البحار 12 / 3 .
(2) البحار 12 / 3 .
(3) جوهرة الكلام في مدح السادة الاعلام ( ص 143 ) .
(4) الصراط السوي ورقة 199 .
(5) تذكرة الخواص ( ص 361 ) الدر النظيم ورقة 210 .
(6) الدر النظيم ورقة 210 .
(7) الدر النظيم ورقة 210 .

حياة الإمام علي بن موسى الرضا عليه السلام _ 25 _

  وكهفا وحصنا لهم .
  7 ـ مكيدة الملحدين (1) :
  وانما لقب بذلك لأنه أبطل شبه الملحدين ، وفند أوهامهم ، وذلك في مناظراته التي أقيمت في البلد العباسي ، والتي أثبت فيها أصالة القيم والمبادئ الاسلامية .
  8 ـ الصديق (2) :
  فقد كان ( عليه السلام ) كيوسف الصديق الذي ملك مصر ، فقد تزعم جميع أنحاء العالم الاسلامي ، وكانت له الولاية المطلقة عليه .
  9 ـ الفاضل (3) :
  وهو أفضل انسان ، وأكملهم في عصره ، ولهذه الظاهرة لقب بالفاضل .
  هذه بعض الألقاب الكريمة التي لقب بها وهي تنم عن سمو شخصيته وعظيم شأنه .
كنيته
  واعتاد أئمة أهل البيت عليهم السلام بتكنية أبنائهم منذ صغرهم وهذا من محاسن التربية الاسلامية الهادفة إلى ازدهار الشخصية ، واشعار الطفل بان له مكانة عند أهله ، وقد كني الإمام الرضا ( عليه السلام ) بما يلي :
  1 ـ أبو الحسن :
  كناه بذلك أبوه الإمام موسى الكاظم ( عليه السلام ) (4) فقد قال ( عليه السلام ) لعلي بن يقطين : يا علي هذا ابني ـ وأشار إلى الإمام الرضا ـ سيد ولدي ، وقد نحلته كنيتي (5) .
  لقد كان الإمام الكاظم يكنى بأبي الحسن ، ولما كانت هذه الكنية مشتركة بينهما قيل للامام الكاظم أبي الحسن الماضي وللإمام الرضا أبي الحسن الثاني ، وذلك للتفرقة بين الكنيتين .
  2 ـ أبو بكر :
  وهذه الكنية نادرة ، ولم يعرف بها إلا نادرا فقد روى أبو الصلت الهروي قال :

---------------------------
(1) بحار الأنوار 12 / 4 .
(2) بحار الأنوار 12 / 4 .
(3) بحار الأنوار 12 / 4 .
(4) بحار الأنوار 12 / 3 .
(5) بحار الأنوار .

حياة الإمام علي بن موسى الرضا عليه السلام _ 26 _

  سألني المأمون يوما عن مسألة .
  فقلت : قال فيها أبو بكر : كذا وكذا .
  فقال المأمون : من هو أبو بكر ؟ أبو بكرنا ، أبو بكر العامة ؟
  قلت ، أبو بكرنا .
  قال عيسى : قلت لابن الصلت من هو أبو بكركم ؟
  فقال : علي بن موسى ، كان يكنى بها (1) .
سنة ولادته
  واختلف المؤرخون اختلافا كثيرا في السنة التي ولد فيها الإمام الرضا ( عليه السلام ) ، وكذلك اختلفوا في الشهر الذي ولد فيه ، وهذه بعض ما أثر عنهم :
  1 ـ انه ولد سنة 147 ه‍ (2) .
  2 ـ ولد سنة 148 ه‍ (3) وهذا هو المشهور بين الرواة .
  3 ـ ولد سنة 150 ه‍ (4) .
  4 ـ ولد سنة 151 ه‍ (5) .
  5 ـ ولد سنة 153 ه‍ (6) .
  وهي السنة التي توفي فيها جده الصادق (7) .
  هذه بعض الأقوال في سنة ولادته ، وقد اختلف المؤرخون أيضا في الشهر الذي ولد فيه .
  وهذه بعض أقوالهم :
  1 ـ أنه ولد يوم الخميس أو ليلة الخميس لاحد عشر ليلة خلت من ربيع الأول (8) .

---------------------------
(1) مقاتل الطالبيين ( ص 561 ) .
(2) نور الابصار ( ص 138 ) .
(3) غاية الاختصار ( ص 148 ) ، بحر الأنساب ( ص 28 ) ، أصول الكافي 1 / 486 ، الارشاد ( ص 341 ) ، الدر المسلوك ورقة 139 مصور ، اخبار الدول ( ص 114 ) ، جوهرة الكلام ( ص 143 ) ، مصباح الكفعمي ، روضة الواعظين ، مرآة الجنان 2 / 11 .
(4) المجد دون في الاسلام ( ص 87 ) .
(5) سر السلسة العلوية ( ص 38 ) .
(6) الدر النظيم ورقة 153 كشف الغمة ، دائرة معارف القرن العشرين 6 / 665 .
(7) أعيان الشيعة 4 / ق / 77 ـ 78 ، وفي الارشاد أنه ولد بعد وفاة جده الإمام الصادق ( عليه السلام ) بخمس سنين ، وكذلك جاء في الدر النظيم ورقة 210 .
(8) كشف الغمة 3 / 87 .

حياة الإمام علي بن موسى الرضا عليه السلام _ 27 _

  2 ـ ولد في ذي القعدة (1) في الحادي عشر منه يوم الخميس (2) .
  3 ـ ولد في شوال في السابع منه وقيل ثامنه ، وقيل سادسه (3) .
  هذه بعض الأقوال التي أدلى بها المؤرخون والرواة

صفته
  وذهب كثير من المؤرخين إلى أن الإمام ( عليه السلام ) كان أسمر شديد السمرة (4) وقيل إنه كان ابيض معتدل القامة (5) وانه كان شديد الشبه بجده رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) (6) .
  وكما شابه جده في ملامحه ، فقد شابهه في مكارم أخلاقه التي امتاز بها على سائر النبيين .
هيبته
  أما هيبة الامام أبي محمد فكانت تعنو لها الجباه فقد بدت عليه هيبة الأنبياء والأوصياء الذين كساهم الله بنوره ، وما رآه أحد إلا هابه ، وكان من هيبته أنه إذا جلس للناس أو ركب لم يقدر أحد أن يرفع صوته من عظيم هيبته (7) .
  ويقول الرواة :
  إنه إذا جاء إلى المأمون بادره الحجاب والخدم بين يديه ، ورفعوا له الستر ، ولما بلغهم أن المأمون يريد أن يبايع له بولاية العهد تواصوا على أنه إذا جاء لا يصنعون له الحفاوة والتكريم الذي كانوا يصنعونه .
  وجاء الامام على عادته فأخذتهم هيبته وبادروا إلى تكريمه كما كانوا يصنعون ، وتلاوموا فيما بينهم وأقسموا أنه إذا عاد لا يقابلوه بذلك التكريم ولما جاء ( عليه السلام ) في اليوم الثاني قاموا إليه وسلموا عليه إلا انهم لم يرفعوا له الستر ، فجاءت ريح فرفعته كعادته ، ولما أراد الخروج أيضا رفعت الريح الستر ، فقال بعضهم لبعض : إن لهذا الرجل شأنا ولله به عناية ارجعوا إلى خدمتكم (8) .

---------------------------
(1) أعيان الشيعة 4 / ق 2 / 77 .
(2) الدر المسلوك ؟؟ ورقة 139 .
(3) مرآة الجنان 2 / 12 .
(4) اخبار الدول ( ص 114 ) .
(5) الصراط السوي في مناقب آل النبي للشيخاني القادري ورقة 199 .
(6) الدر النظيم ورقة 210 .
(7) حياة الإمام الجواد .
(8) اخبار الدول ( ص 114 ) جوهرة الكلام ( ص 145 ) ، الاتحاف بحب الاشراف ( ص 58 ) .

حياة الإمام علي بن موسى الرضا عليه السلام _ 28 _

  إن لائمة أهل البيت ( عليهم السلام ) شأنا ومكانة عند الله تعالى فهو يؤيدهم ، ويسددهم بما يسدد به أنبياءه ورسله .

نقش خاتمه
  أما النقش على الخاتم وما رسم عليه من كلمات فإنه ـ على الأكثر ـ يمثل اتجاهات الشخص وميوله ، وقد وسم على خاتم الإمام الرضا ( عليه السلام ) ما يلي :
  ولي الله (1) .
  وله خاتم آخر قد نقش عليه :
  العزة لله (2) .
  وهذه النقوش تمثل مدى انقطاعه إلى الله تعالى ، وتمسكه به .
نشأته :
  نشأ الإمام الرضا ( عليه السلام ) في بيت من أجل البيوت وارفعها في الاسلام ، انه بيت الإمامة ، ومركز الوحي ذلك البيت الذي اذن الله ان يرفع ، ويذكر فيه اسمه في هذا البيت العريق ترعرع الإمام الرضا ونشأ وقد سادت فيه أرقى وأسمى ألوان التربية الاسلامية الرفيعة ، فكان الصغير يحترم ويبجل الكبير ، والكبير يعطف على الصغير ، كما سادت فيه الآداب الرفيعة ، والأخلاق الكريمة ولا تسمع فيه إلا تلاوة كتاب الله ، والحث على العمل الصالح وما يقرب الانسان من ربه .
  وقد اكد علماء التربية على أن البيت من أهم العوامل في تكوين الشخص ، وبناء سلوكه ، فان كان البيت تسوده المحبة والألفة ، والعادات الرفيعة والتقاليد الحسنة ، ويجتنب فيه هجر الكلام ومره ، فان الطفل ينشأ نشأة سليمة وبعيدة عن التعقيد ، وازدواج الشخصية ، وان كان البيت مصابا بالانحراف والشذوذ ، وتنتشر فيه البغضاء والكراهية ، فان الطفل حتما يمنى بالتعقيد ، والجنوح ، والانحراف .
  اما البيت الذي نشأ فيه الرضا ( عليه السلام ) فهو من أعز البيوت وأمنعها في دنيا الاسلام ، فقد كان مركزا من مراكز الفضيلة ، ومنبعا للأخلاق الكريمة ، وقد أنجب خيرة البشر وأئمة الحق والعدل في الاسلام ويضاف إلى البيت في تكوين

---------------------------
(1) الدر المسلوك ورقة 139 ، البحار 12 / 4 .
(2) الدر النظيم ورقة 210 .

حياة الإمام علي بن موسى الرضا عليه السلام _ 29 _

  الشخص البيئة التي نشأ فيها الشخص ، وكانت البيئة التي عاش فيها الإمام الرضا ( عليه السلام ) تضم خيرة الرجال ، وخيرة العلماء الذين ينتهلون من غير علوم أبيه الإمام موسى بن جعفر ( عليه السلام ) .
  إن جميع عوامل التربية الرفيعة ، ومكوناتها الفكرية توفرت للامام أرضا ( عليه السلام ) ، فنشأ في إطارها كما نشأ آباؤه العظام الذين هم من ذخائر الاسلام .

سلوكه :
  أما سلوك الإمام الرضا ( عليه السلام ) فقد كان أنموذجا رائعا لسلوك آبائه الذين عرفوا بنكران الذات ، والتجرد عن كل نزعة لا تمت إلى الحق والواقع بصلة .
  لقد تميز سلوك الإمام الرضا ( عليه السلام ) بالصلابة للحق ، ومناهضة الباطل ، فقد كان يأمر المأمون العباسي بتقوى الله تعالى ، وينعي عليه تصرفاته التي لا تتفق مع واقع الدين ، وقد ورم أنف المأمون من ذلك وضاق منه ذرعا فقدم على اقتراف أفظع جريمة وهي اغتيال الإمام ( عليه السلام ) كما سنوضح ذلك في غضون هذا الكتاب .
  وكان سلوكه مع أهل بيته وأخوانه مثالا آخر للصرامة في الحق ، فمن شذ منهم في تصرفاته عن احكام الله تعالى جافاه وابتعد عنه ، وقد حلف أن لا يكلم أخاه زيدا حتى يلقى الله تعالى حينما اقترف ما خالف شريعة الله.
  أما سلوكه مع أبنائه فقد تميز بأروع ألوان التربية الاسلامية خصوصا مع ولده الإمام الجواد ( عليه السلام ) ، فكان لا يذكره باسمه ، وانما كان يكنيه ، يقول : كتب إلي جعفر ، كنت كتبت إلى أبي جعفر (1) كل ذلك لتنمية روح العزة والكرامة في نفسه .

---------------------------
(1) معجم رجال الحديث 14 / 283 .

حياة الإمام علي بن موسى الرضا عليه السلام _ 31 _

  عناصره النفسية اما عناصر الإمام الرضا ( عليه السلام ) ومكوناته النفسية فكانت ملتقى للفضيلة بجميع أبعادها وصورها ، فلم تبق صفة شريفة يسمو بها الانسان الا وهي من ذاتياته ؟ ، ومن نزعاته ، فقد وهبه الله كما وهب آباءه العظام بكل مكرمة ، وحباه بكل شرف وجعله علما لامة جده ، يهتدي به الحائر ، ويرشد به الضال ، وتستنير به العقول .
  وهذه بعض خصاله ، وعناصر مكارم أخلاقه :
  أما أخلاق الإمام الرضا ( عليه السلام ) فإنها نفحة من أخلاق جده الرسول الأعظم ( صلى الله عليه وآله ) الذي امتاز على سائر النبيين بهذه الظاهرة الكريمة ، فقد استطاع ( صلى الله عليه وآله ) بسمو أخلاقه أن يطور حياة الانسان ، وينقذه من أوحال الجاهلية الرعناء ، وقد حمل الإمام الرضا ( عليه السلام ) أخلاق جده ، فكانت من أهم عناصره .
  انظروا ما يقوله إبراهيم بن العباس عن مكارم أخلاقه يقول :
  ما رأيت ، ولا سمعت بأحد أفضل من أبي الحسن الرضا ( عليه السلام ) ، ما جفا أحدا قط ولا قطع على أحد كلامه ، ولا رد أحدا عن حاجة ، وما مد رجليه بين جليسه ، ولا اتكأ قبله ، ولا شتم مواليه ، ومماليكه ، ولا قهقه في ضحكة ، وكان يجلس على مائدته ومماليكه ومواليه قليل النوم بالليل ، يحيي أكثر لياليه من أولها إلى آخرها كثير المعروف والصدقة وأكثر ذلك في الليالي المظلمة (1) .
  وحكمت هذه الكلمات ما اتصف به الامام من مكارم الأخلاق وهي :
  أ ـ انه لم يجفو أي أحد من الناس سواء أكانوا من أحبائه أم من أعدائه ، وانما كان يقابلهم ببسمات فياضة بالبشر .

---------------------------
(1) حياة الإمام محمد الجواد ( ص 37 ) .