فماذا يجدي ـ إزاء ذلك كله ـ غير فرض الحجاب ؟ . .
  فرض أن لا تتبرج المرأة المسلمة ، ولا تبدي زينتها إلا ما ظهر منها . .
  وما هذا الذي يظهر من زينة بعد الحجاب ؟ .
   . . خضاب في الكف ، أو خاتم في الأنامل أو ما يشابه هذين من زينة ظاهرة ، وغير فاتنة .
  أما إذا أوجب الفتنة فهو وغيره في التحريم سواء بسواء .
  ثم ماذا ؟ .
  ثم ( َلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ ) .
  والخمار هو القناع الذي تغطي به المرأة رأسها ، والجيب فتحة الثوب التي تلي الصدر .
  َ( لْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ ) ، فلا يبين من رأس المرأة ، ولا من نحرها ، ولا من صدرها شيء للرائي ، ولا شبح للمتأمل .
  حتى الهمسات الخفية ، والإيماءات البعيدة لا بد من أن تقتلع جذورها ، ولا بد من أن تستأصل ، ما دامت مظنة للإثارة ، أو منفذاً للريب . .
  فـ ( َلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِن زِينَتِهِنَّ ) .
  إنها كوة صغيرة جداً ، ولكنها تتسع ، وتنداع ، وتكبر دائرتها ، إذا لم يتخذ لها إجراء .
  نعم ، سيعظم أمرها وتتسع دائرتها ، فمن ورائها غريزة هذا الكائن العجيبة ، التي تغذي الوهم ، وتستثمر الخيال .

العفاف بين السلب والإيجاب   ـ 98 ـ

  أعلمت أي مبلغ بلغة الإسلام وكتاب الإسلام في هذا المجال ؟ .
  إنها ميادين فتنة ، فلا مساغ فيها لهدنة .
  بلا هي ميادين فتنة ، ومن أجل ذلك حرص الإسلام أن يضع الحدود فيها بدقة ، ومن أجل ذلك ـ ايضاً ـ وضع الحجاب على المرأة حين تؤمن هذه البوائق .
  إقرأ الآية الكريمة مرة أخرى ، ثم أنظر كيف رفعت الحجاب دون المحارم من الرجال ، ومن دون من لا يحوم حوله ريب من سواهم .
  وقد قال في القرآن عمن تتقدم بهن الايام ، وينال منهن الكبر ، حتى تزول منهن معالم الفتنة ، وحتى يأمن عوادي الجنس :
  ( وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاء اللَّاتِي لَا يَرْجُونَ نِكَاحًا فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَن يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ وَأَن يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَّهُنَّ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ) (1) .
  ليس عليهم حرج في أن يضعن من ثيابهن المعدة للحجاب ـ وإن رآهن الرجال الأجانب ـ ما دمن قد أمنّ الفتنة ، وما داب الكبر قد صرف عنهن أنظار الرجال ، على أن لا يقصدن ـ من وضع ثيابهن ـ أن يتبرجن بزينة .
  أما إذا قصدن ذلك ، فإنهن مسؤولات عن فعلهن ذلك .
   . . مسؤولات لقصدهن ما لا يجوز لهن فعله ، ومسؤولات لإن ذلك القصد منهن تحدًّ للعفة التي فرضها عليهن الاسلام .
   ( وَأَن يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَّهُنَّ ) .

**************************************************************
(1) ـ النور : 60 .

العفاف بين السلب والإيجاب   ـ 99 ـ

  لقد إنصرفت ، عنهن أنظار الرجال ـ فيما يعتقدن ـ ، ومن أجل ذلك ساغ لهن رفع الحجاب .
  ولكن ما يدريهن ؟ ، فربما كان هذا الوهم خاطئاً ، فلعل فيهن بقية من هذا الإغراء ، ولعل في الرجال ممن تبلغ به عرامة الجنس ، فيمتد إلى مثلهن بالنظر ، ومن أجل هذه الحالات المحتملة فإن يستعففن فلا يضعن من حجابهن شيئاً ، فإن ذلك خير لهن ( وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ) .
  ويمتد الخط ـ مع أمن الفتنة ـ خطوات ، فيباح للرجل أن ينظر إلى إمرأة يريد التزوج بها .
  ويباح للطبيب أن ينظر مواقع الفحص والعلاج من جسد المريضة .
  ويباح النظر إلى المرأة لإنقاذها من الخطر ، إذا توقفت نجاتها عليه .
  ويباح النظر إلى المرأة إذا توقفت على النظر عليها إقامة عدل ، أو إستنقاذ حق .
  وأقول : يمتد خط إباحة النظر إلى المرأة ـ مع أمن الفتنة ـ خطوات ، لإن أمن الفتنة أمر دقيق لا يقال إلا بحذر ، ولا يوضع إلا بقدر .

العفاف بين السلب والإيجاب   ـ 100 ـ

مـن خصـائـص الإسـلام

  ومن خصائص الإسلام دين الإسلام إنه ينظر إلى غرائز الكائن البشري ، وإلى ضروراته ، مجردة من كل ما يكبح ، وعن كل ما يثير .
   . . إلى الغرائز والدوافع ـ بطبيعتها السليمة التي ركبت في الإنسان ، وبإقتضاءها الصحيح السوي ، الذي تدعوا إليه الحياة ، او بقاء الحياة ، دون ما زيادة ولا نقصان . .
  . . ومن خصائصه : أنه ينظر إلى هذه البواعث معتدلة في التكوين ، ومعتدلة ـ كذلك ـ في الدعوة ، فيضع لها حدودها على أساس العدل ، ويشرع لها حقوقها على مبدأ التوازن .
   . . العدل بين الغرائز والدوافع ، والتوازن في النشاط الحيوي للإنسان ، فيوجه لكل واحدة من الغرائز حصتها من النشاط ، دون سرف ولا تقتير .
  أما المغريات التي تثير الغريزة ، وتطمعها بإكثر مما تستحق ، وتضريها حتى تستعر ، وتندّ عن المقاييس ، وتتمرد على النظم . .
  وأما المعوقات التي تعترضها فتعتاقها عن الحدود الطبيعية الصحيحة ، أو تميتها دون الحقوق العادلة المشروعة .
   . . أما الكبت والإغراق في الغريزة ، فإن الأسلام يراهما ـ كما يراهما العلم ـ آفتين بالغتي الضرر ، ولا بد لهما من العلاج ، وهو يتحرى الأسباب الموجبة للإثارة ، أو المقتضية للكبح ، فيدأب على إزاحتها ، وإستئصال جذورها . .

العفاف بين السلب والإيجاب   ـ 101 ـ

  . . جذورها في نفس الفرد ن وجذورها في عوائد المجتمع .
  ولقد رأينا كيف يتخذ الحيطة الكاملة عن الإنطلاق في غريزة الجنس .
   . . رأيناه كيف يحتاط لهذه الآفة ، حتى يستلّ آخر عرق من عروقها .
  . . كيف يحصّن نفس الفرد ـ الذكر والأنثى على السواء ـ بالإيمان القوي والخلُق المتزن ، وبالسلوك الرضي ، ثم يصونه عن كل ما يفتن ، وعن كل ما يثير ، وما الإغراق والإنطلاق في هذه الغريزة ـ وفي كل رغبة أو غريزة سواها ـ ، لولا الفتنة ، ولولا الإثارة والتحريض ؟ .
  ثم رأيناه كيف يبتغي للفرد المصرّفات النظيفة ، فيحثه على الزواج الشرعي ، ويفتح له ابوبه ، ويسهّل عليه أمره ، ويفرضه عليه فرضاً في كثير من الاحيان ، وعند خشية الوقوع في المحرم على الخصوص .
  وأما الكبت فيها ، وهو ـ كما يقول العلماء النفسيون ـ : إخماد الشعلة في النفس ، وإخماد ظهورها ـ كذلك ـ في منطقة التصور . .
  . . إخمادها في كلتا المرحلتين حتى تختنق ، وحتى ترتدّ عقدة نفسية في منطقة ( اللأشعور ) ، وحتى تورث الإنسان ( عصاباً ) ، يتحكّم عليه في سلوكه ، ويقضي عليه بالشقاء في أكثر حالاته .
  . . أما الكبت فقد حاربه الإسلام ، بكل أسبابه ، وبكل إمتداداته .
  ومن أهم أسبابه : الرهبانية ـ التي عرفها المتدينون قبل مجيء الإسلام ـ ، وقد أهدرها هذا الدين منذ أول يوم من ايامه .
  ون يستقرأ أحكام الزواج في هذا الدين ويطلع على نصوصه فيه ، وفي علله وآدابه ، يعلم جيداً كيف إقتلع الكبت واحدة واحدة ، وطهّر الفرد المسلم ، والمجتمع المسلم ، من أوضارها أثراً أثراً .

العفاف بين السلب والإيجاب   ـ 102 ـ

داء إجتمـاعي وبيـل

  ( يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاء الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَن يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا ) .
  وهذا داء إجتماعي آخر ، يجعله القرآن سبباً للأمر بالحجاب .
  إن أزواج الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، وبناته ، ونساء المؤمنين اللاتي عاصرن النبوة ، ونزل ما بينهن القرآن ، قد تعالت أنفسهن وأرواحهن ، عن كل ما يخدش ويريب ، فلقد محصتهن العقيدة ، وجلاهن الإيمان ، وإرتفعن بإدب الله ، وأدب رسوله ، عن هذه السفاسف ، وما إليها .
  غير أن لبعض الناس أنفساً دنسة ، وضيعة ، صغيرة تطمع في ما ليس فيه مطمع ـ كما يقولون في الامثال ـ ، وتقبض الأكفّ على الوهم ، وتمد الأيدي لتناول النجم .
  وقد كان بعض هؤلاء يتعرض للنساء المؤمنات حين يخرجن للصلاة ، أو لغيرها من الأعمال ، يتعرض لهن بنظرة خائنة ، أو بلفظة ماجنة ، والمؤمنات تؤذيهن هذه الجرأة .
  تؤذيهن لا لأنهن يخشين إعتداءاً من بعض هؤلاء الأثمة ، فيد الفحشاء أقصر من أن تبلغهن بسوء ، بل لإن حرمة المرأة المسلمة عندهن ـ أسمى من أن تغازل بلحظ ، أو تعابث بلفظ ، ولإن المجتمع المسلم أعظم قداسة ـ في رأيهن ـ من ان تطرف فيه عين خائنة ، أو تظهر فيه حركة آثمة ، والمغازلات والمعابثات تحسب إعتداءً وإجراماً في المجتمعات السليمة ، وتعدّ مجاملة ومطايبة في المجتمعات الموبوءة .

العفاف بين السلب والإيجاب   ـ 103 ـ

  كان بعض هؤلاء الماجنين يتعرض للنساء المؤمنات في طريقهن إلى الصلاة فيؤذيهن هذا التعرض ، فإذا قيل له ذلك ، إعتذر عن فعله بإنه يجهل . . . بإنه يجهل أنهن من نساء المؤمنين ، كأن الجهل يبيح المجون ، وكأن العبث بالاعراض جريمة شخصية صغيرة تسقط بالإعتذار .
  وهذه سقطة خلقية وإجتماعية لا بد لها من التلافي ،ولا بد لها من العلاج ، ولا يمكن عليها القرار .
  والإسلام يعالج هذا الداء بتعزيز هؤلاء الماجنين ، العابثين بالأعراض ، بما يقطع مجونهم ، ويحسم هراءهم ، ثم بتزويج العزّاب منهم ، المضطرين للتزويج ، الغني منهم من ماله ، والفقير من بيت المال .
  أما العلاج السريع الدائم فهو ان تدني المؤمنات عليهن من جلابيبهن ، فيخسأن بها كل كلب عاوٍ .
  والجلباب : ثوب كبير يشمل البدن كله ، ومن أجل هذه الصفة فيه إستعارته العرب لما يشمل ، فقالوا : جلببه الهمّ ـ مثلاً ـ إذا إستولى عليه وأخذ كل نواحيه .
  كان هذا في بدأ الإسلام ، وقد وضع له الدين هذا العلاج الحاسم ، فهل إنقطعت هذه الأنفاس اللأهثة التي تتعقب خطوات النساء المصونات ، ليفكر مفكر في الإستغناء عن هذا العلاج ؟ ! .
  هل نفقت هذه الحملان البشرية ـ التي يكاد يركب بعضها بعضاً ـ في طريق المرأة ؟ ! .

العفاف بين السلب والإيجاب   ـ 104 ـ

  . . هذه القطعان الكبيرة التي تمثل للإنسان مواريثه من الحيوان ؟ ! .
  هل بادت هذه السلالة ، لنفكر نحن ، أو يفكر أحد سوانا ، في الإستغناء عن العلاج الذي وضعه الإسلام ؟ .
  إن الطرق والمجامع ، والمباءات والمتنزهات ، لاتزال مشحونة بهذه الجراثيم ، التي تتلصص على الأعراض ، وتنخر في المجتمعات .
  وكل ما جدّ في ذلك : أن القديم منها كان يتناول الأمر ببساطته ، أما الحديث فقد تطورت به الأساليب ، وتسلسلت به المطالب ، وبيّنٌ أن التطور في هذه الشؤون إنما يكون إلى أسفل .
  ما هذه الشبان المائعة المدخولة التي تزاحم المرأة على ( مكياجها ) ، لتزاحمها ـ كذلك ـ في سبيلها ؟ ! .
  إنها من أعراض ذلك الداء الخلقي الإجتماعي ، الذي إستفظعه القرآن ، ووصف له العلاج ، ولن يرتفع العلاج ـ أبدأً ـ ، ولن يستغني عنه ، حتى تبيد آخر جرثومة من جراثيم الداء .
  عزيز ـ والله ـ على الإسلام ، أن يرى وفرة كبيرة من شبانه وفتيانه ، تقتل الساعات الطويلة ، وتخبي الجذوات المتقدة . .
  ساعات الحياة العزيزة ، وجذوات الشباب الثمينة .
  عزيز على دين الإسلام : أن يرى فتيانه وشبانه ، وعدّته لمستقبل أيامه ، تهدر هذه الذخائر العظيمة هدراً ، ثم لا تجني من ذلك ، ولا يجني مجتمعها من وراءها إلا خبالاً ووبالاً ! .

العفاف بين السلب والإيجاب   ـ 105 ـ

  وإن المرأة ليعجبها من الرجل ، أن يكون رجلاً ، يملأ هذه اللفظة بمعناه ، ويفعم مركزه الإجتماعي بكفاءته ومواهبه ، وأبغض خلق الله ـ على قلبها ـ الرجل المستأنث ، ولو أنها خيّرت بين رجل تام الرجولة ، وهو في قبح عنترة ، وذكر تام الأنوثة ـ وهو في جمال الأمين ـ ، لما ترددت في الأختيار ، وسل أي أنثى رشيدة عن ذلك ـ إذا شئت ـ .
  لم نحسم ذلك الداء الإجتماعي الوبيل ، الذي إستفظعه القرآن ، ولم تهن أعراضه ، ولم تتقلص آثاره وليس لفتياتنا الكريمات ، ولا لمن يتصنع الإنتصار لهن ، ويتكلف الغيرة عليهن من الرجال ، أن يطلبوا رفع العلاج ، ما لم ينته جميع ذلك .
  . . ليس لهم أن يقترحوا على الإسلام أن يخرج عن حدوده ، وأن يعدل عن منهجه ، لإنه يعلم ـ حق العلم ـ أن خطته ـ التي نهج عليها ـ هي الخطة الحكيمة المثلى ، ولا محيد له ، ولا لإحد من الناس ـ عنها ، يعلم ذلك حق العلم ، ويعلم به ـ كذلك ـ كل عاقل ، جاد في نظرته ، منصف في حكمه .

العفاف بين السلب والإيجاب   ـ 106 ـ

ضبـط النفـس

  وضبط النفس عن ميولها الوضيعة ، وسيطرتها على أهوائها المنحرفة ، وتحكيم العقل الرشيد السديد في شهواتها ونزواتها ، فلا تطلق إلا بحق ، ولا تمنع إلا بحق ، وتعزيز الإرادة ومدّ نفوذها ، حتى تقبض على الزمام بقوة فلا يفلت ، وتوجه الأمر بحنكة فلا يلتوي ، ولا يضطرب ، ولا يتشتت .
  هذه الخلايا هي الميزة الكبرى في الإنسان ، وهي العدة له للإكتمال في معاني الإنسانية ، والإرتفاع في مراقيها .
  وأي صفة من الصفات الحميدة يمكن ان ينالها الإنسان ؟ ، وأي مرقى من مراقي الكمال في هذه الحياة يقوى أن يبلغه ؟ ، وأي مطمح من المطامح التي يتنافس عليها ذوو المواهب والكفاءات يستطيع ان يدركه ، إذا هو لم يؤت نصيباً من هذه الخلال ؟ . .
  إذا هو لم يملك النفس المنضبطة المتزنة ، والعقل الرشيد المسيطر ، والإرادة القوية الفعالة ؟ . .
  . . إذا كان عبداً مملوكاً لشهوته ورغبته ، ليس له مع أمرها أمر ، وليس له مع قولها قول ؟ . .
  ماقيمة العالم الضليع ، إذا تدخلت أهواؤه في تجاربه وملاحظاته ، فلم يستطع أن يمنع فضولها ، وأن يعّين حدودها ؟ ! .
  ما قدر السياسي الخطير ، إذا رسمت له شهواته ، خطوطه في السياسة ، أو شاطرته وجوه التدبير ، ثم لم يملك تبديلاً ولا تعديلاً ؟ ! .

العفاف بين السلب والإيجاب   ـ 107 ـ

  مامنزلة القائد المرموق ، إذا أملت عليه النزوات نصف خطته أو كلها ، فلم يقو إلا أن يضع ، ولم يقو إلا أن ينفذ ؟ ! .
  وما شأن الطبيب النطاسي ، إذا أوحت له إندفاعاته كيف يفحص ، وكيف يصف وكيف يعالج ، ولم يتمكن أن ينقذ مريضة من هذا التطفل والتدخل ؟ ! .
  ما وقع الحاكم أو القاضي إذا شاركته الميول في تحرّي الحق ، أو صدته عن الحكم به ، ولم يشجع أن يخلص للعدل في تحريه وفي حكمه ؟ ! .
  وما أثر المعلم ، والباحث والمهندس ، والمحامي والتاجر ، والمزارع والعامل والجندي إذا صرفته ملاذه وسقطاته عن أداء مهمته ، أو حدّدت له وجه العمل فيها ، ولم يطق إلا أن يأتمر ، ولم يطق إلا أن يتوجه ؟ ! .
  إن تحقيق أي أمنية من الأماني الكبيرة ، يفتقر إلى شيء غير قليل من ضبط النفس ، وتسديد خطواتها .
  والمقدار الذي يُفتقر إليه من هذه العدة ، يختلف بمقدار ما لتلك الأمنية من خطورة ونباهة وشأن .
  أما الإكتمال في معاني الإنسانية أجمع ، فهو يفتقر إلى الضبط الكامل لميول النفس وإندفاعاتها .
  وهذه هي الغاية التي إبتغاها الله للعالمين ، يوم شرّع لهم شرعه ، وقد وقت لهذه الغاية حدودها ، ووضع للعالمين ضماناتها .
  وحجاب المرأة من اهم هذه الضمانات ، التي تكفل بالغاية للرجل والمرأة على السواء .

العفاف بين السلب والإيجاب   ـ 108 ـ

ما أجدر بالإنسان أن يعرف حدوده !

  ما أجدر بالإنسان أن يعرف حدوده ، ولا يتجاوز حقوقه ! .
  وما أبأس الأمة إذا إضطربت بينها الموازين ، فتصدى كل قائل فيها لكل قول ، وتولى منها كل عامل منها كل عمل ، وتصدر كل أحد لكل شيء ، ففقد الإختصاص ، وشملت الفوضى ، وساءت الحال ! ! .
  ليكن السفور شهوة نفسية لبعض النساء ، أو رغبة جنسية لبعض الرجال . .
  . . ليكن ذلك ، فما عدم التأريخ شذوذاً من الناس ، منذ أول يوم من أيامه ، وما عدم من يتخيل ، ثم يبغي أن يحتصد من خياله زروعاً ، أو يتوهم ثم يحاول أن يشيد على وهمه بناءاً . .
  . . وما عدم التأريخ من يسخر من أسمى موهبة من مواهبه لأحط رغبة من رغائبه . .
  إن هؤلاء واولئك كثيرون في الحياة ، كثيرون عبر التأريخ .
  أما ان يجرؤ مسلم ، يعترف بالإسلام ، ويؤمن بالقرآن . .
  أما أن يجرؤ هذا ، فيدعي أن السفور ليس إشتطاطاً على الدين ، ولا على دين الإسلام بالخصوص ، وإن الإختلاط بين الجنسين ـ الرجال والنساء ـ أليس بعيداً عن روحه ، وإن آية الحجاب ( التي قدمناها ) إنما تدعو إلى السفور . . إلى السفور ( المحتشم ؟ ) ، ثم يتخبط في التأريخ ، فيزعم أن العرب لم تكن تعرف الحجاب ، كما أنها لم تكن تعرف السفور الخليع ! .

العفاف بين السلب والإيجاب   ـ 109 ـ

  . . أما هذا ، فمما يخجل ويضحك في آن واحد .
  وإذا لم تكن العرب تعرف السفور الخليع ، فما هو تبرج الجاهلية الأولى التي نهت عنه الآية الثالثة والثلاثون من سورة الإحزاب ؟ ! . .
  وإذا لم تكن تعرف الحجاب فما معنى الجلباب الذي امرت به الآية التاسعة والخمسون من السورة ذاتها ؟ ! . .
  أليس أولئك وهؤلاء ـ اللأتي عنتهن الآيتان الكريمتان ـ من نساء العرب (1) ؟ ! .
  ولنقل ـ جدلاً ، وكما يحلو لبعضهم أن يقول ـ : أن القرآن ليس كتاب وحي ، أفلا نصدقه فيما ينقل من تأريخ العرب أيضاً ؟ ! .

أسـالـيب مـدخولـة
  وهنا كتاب آخرون ، ومسلمون أيضا ً ، يزعمون أن الحجاب إنما كان له هذا الشيوع والإنتشار بين الجاهليين قبل مجيء الإسلام ، ولم يعرفه المسلمون كذلك ، إلا في عصورهم المتأخرة ، البعيدة عن عصر الرسالة ! .

**************************************************************
(1) ـ الآية الأولى هي قوله ( تعالى ) ـ في حديثه مع أزواج الرسول ( ص ) ـ : ( وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى . . ) .
(2) ـ والآية الثانية هي قوله ( تعالى ) : ( يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاء الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلَابِيبِهِنّ . . ) ، وقد تحدثنا عن هذه الآية الأخيرة في الفصل السادس والعشرين .

العفاف بين السلب والإيجاب   ـ 110 ـ

  هكذا يخبطون في التأريخ ، أما نصوص القرآن فلا قيمة لها ، أو هي دعوة للسفور ! ! .
  وكأن الدين ـ في رأي هذه الفئة من الناس ـ عقيدة بسيطة ، يعتقدها القلب ، وتدين بها النفس ، ثم لاشيء غير ذلك .
  فليس على الإنسان ـ مثلاً ـ أن يجري على وفق هذه العقيدة في العمل ، وليس عليه أن يطبق أحكام الشريعة في السلوك ، وهم إنما يخادعون أنفسهم ، إذا كانوا جادين في ظنهم هذا .
  الدين عقيدة وشريعة ، وأثر هذين إيمان وعمل ، إيمان تمتليء به جوانب النفس ، وعمل تخضع له جميع نواحي السلوك .
  ولا يتم أحدهما بدون الآخر . . لا يكتملان إلا مجتمعين ، ولا يثمران إلا متفاعلين ، والمسلم الحق على من سار على هدى القرآن العظيم ، يحقق ما أحق ، ويبطل ما أبطل .
  ولم يترك دين الإسلام ناحية من الإنسان ، ولا وجهة من حياته ، ولا مظهراً من سلوكه ، إلا وقد شرع لها حكماً ، لا بد للمسلم من إطاعته ، ولا بد من الإنقياد له :
  ( فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا ) (1) .
  وأنا اعلم أن في تاريخ المسلمين ، وفي تاريخ العرب ، نساء بارزات يجتمعن بالرجال ، ويجتمعون إليهن ، وقد كان بعضهن يعقدن النوادي للإجتماع بهم ، والتحدث إليهم ، ولكن : أيصح لنا أن نتخذ من صنع هؤلاء حجة نعارض بها نصوص الكتاب ، ونستدل بها على حكم الإسلام في الحجاب ؟ ! .

**************************************************************
(1) ـ النساء : 65 .

العفاف بين السلب والإيجاب   ـ 111 ـ

  إن هذه الأساليب من الإستدلال مدخولة مرذولة .
  على أن الغالب ـ من هؤلاء البارزات ـ ممن تقدم بهن العمر ، وأمنت منهن الفتنة ، وقد اباح الكتاب الكريم من النساء اللآتي لا يرجون نكاحاً أن يضعن ثيابهن غير متبرجات بزينة ، وقدمنا البحث عن ذلك .

أسـالـيب سـاخـرة
  وها هنا مخادعون مخاتلون ، يقفون في وجه كلمة الله ، يمنعونها ويتخذونها هزواً . .
  وبعض الإساليب الساخرة ماكر ماهر ، يثبط الجبان من الدعاة أن يقول ، ويحمل الساذج من الأتباع أن يتريّب ، وأن يلوم .
  يقول بعض هؤلاء الكتاب :
  ( تفنن إخواننا ـ ويعني بهم رجال الدين ـ ماشاء لهم التفنن في تبيان مساوىء السفور ، وما يجرّ وراءه من ويلات التبرج والخلاعة ، وآفات الحب والغرام ، وأودّ أن أزيدهم علماً : إن علماء الإجتماع ـ اليوم ـ قد بحثوا هذه المساوىء بحثاً مستفيضاً عميقاً ، وليست هذه التي ذكرها إخواننا إلا شيئاً تافهاً ، بالقياس إلى ماذكره علماء الإجتماع في هذا الشأن ) .
  ( وقد اطلق بعض العلماء عن الحب والغرام إسم ( العقدة الرومانتيكية ) ) ، وبينوا ما تجني هذه العقدة على الناس من بلاء عارم ، يؤدي إلى تحطيم العائلة ، وكتب احد العلماء كتاباً ضخماً ، شرح فيه الخطر الذي يهدّد المدنية من جراء هذا التفسخ العائلي ، الذي جره شيوع الحب والغرام بين شباب الجيل الحاضر .

العفاف بين السلب والإيجاب   ـ 112 ـ

  ( والعلماء حين فعلوا ذلك ، لم يندفعوا بآرائهم كما إندفع بها إخواننا المتزمتون ، فطلبوا إلى المرأة أن ترجع إلى البيت ، أو تتخذ الحجاب من جديد ) .
  ( وسبب ذلك : انهم عارفون بإنهم غير قادرين على إرجاع عقارب الساعة إلى الوراء ، فالمرأة بعد أن خرجت من البيت لن ترجع إليه مرة أخرى ولو ملؤوا الدنيا موعظة وصراخاً ) .
  ( لا يكفي في الفكرة ان تكون صحيحة بحد ذاتها . . الأحرى بها أن تكون عملية ، ممكنة التطبيق ، وكثيراً ما تكون الافكار التي يأتي بها الطوبائيون ـ من اصحاب البرج العاجي ـ رائعة ، ولكنها ـ في الوقت ذاته ـ عقيمة تضر الناس أكثر مما تنفعهم ) . .
  . . إلى صفحات أخرى يكتبها على هذا الغرار .
  هكذا يكتبون ، وهكذا يتحدثون عن قولة الله العظيم في كتابه كما يتحدثون عن بعض مهازل العقل البشري .
  إنها فكرة يقولها إخوانه رجال الدين ، وليست حكماً شريعياً يجب الخضوع له على كل مسلم ! .
  وإنها صحيحة ، ولكنها غير عملية ، وغير ممكنة التطبيق .
  وإنها صحيحة ، ولكن يجب أن تترك ، وأن تنبذ لإنها تصادم التيار الجارف .
  وإنها صحيحة ، ولكن القائلين بها متزمتون ، متحذلقون ، يدعون إلى ما يمتنع أن يكون .
  وإنها صحيحة ، ولكنها عقيمة تضر الناس إكثر مما تنفعهم ! ! .

العفاف بين السلب والإيجاب   ـ 113 ـ

  إنها حق ، والحق ان يرتفع صوته ، وأن يعلوا .
  وإنها كلمة الله ، وكلمة الله يجب أن يجهر بها ، وان يعلن .
  وإنها حكم الله ، فلا يضرّ به من أعرض أو زاغ عنه ، وصدق الله العظيم الذي يقول :
  ( أَفَنَضْرِبُ عَنكُمُ الذِّكْرَ صَفْحًا أَن كُنتُمْ قَوْمًا مُّسْرِفِين َ ) (1) .
  نعم وليعلم هؤلاء وأمثالهم ـ إن كانوا لا يعلمون ـ : إن كلمة الله يجب ان يجُهر بها ، وأن تعلن ، وإن لم يلق إليها سمع ، ولا يتذكر بها متذكر . .
  يجب أن يجهر بها لتقام بها حجة ، ولتؤدي بها أمانة ، وليتم بها بلاغ :
  ( إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِن بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلعَنُهُمُ اللّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ ) . (2) .
  وهذا هو الفارق بين فكرة يؤمن بها عالم الإجتماع وبين حكم شرعي ، يحمله رجل دين .
  فالعالم الإجتماعي يتناول الفكرة على أنها حقيقة من حقائق العلم ، وواجبه ـ في ذلك ـ : أن يبحثها بدقة ، وأن ينقل خلاصتها للناس بأمانة ، ثم لا يحتم العلم اكثر من ذلك ، ورجل الدين يتناول الفكرة على أنها حقيقة من حقائق الدين ، وواجبه ـ في ذلك ـ :

**************************************************************
(1) الزخرف : 5 .
(2) البقرة : 156 .

العفاف بين السلب والإيجاب   ـ 114 ـ

  أن يفهمها حق الفهم ـ أولاً ـ .
  وأن ينقلها للناس بأمانة ـ ثانياً ـ .
  وأن يدعو إلى تطبيقها على الأفراد ، وعلى المجتمع ـ ثالثاً ـ .
  هذا هو الفارق الذي يجهله كتابنا ، أو يتجاهلونه .
  وأقول : رجل الدين ، وفقاً لقول هذا الكاتب ، وإلا فكل أتباع الإسلام ، المؤمنين برسالته ـ في رأي الإسلام ـ رجال دين ، وكلهم حملة دعوة ، وكلهم راعٍ وكلهم مسؤول عن رعيته ـ كما يقول الرسول العظيم ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ـ .
  من الخير ان يقف المرء عند حدوده ، وأن لا يستخدم حدود الله ، وسيلة لمآربه ، فيرتكب بذلك جريمة مضاعفة .
  وما يعقد بالمرأة أن تتلقى علومها ومعارفها في معاهد مختصة ؟ ، وما يقعد بها أن تأخذ أهبتها الكاملة لوظيفتها المهمة العظيمة :
  . . أهبتها من العلم ، وأهبتها من الثقافة ، وأهبتها من المدنية الصحيحة ، فهي مربية الجيل ، ومنشئة أخلاقه ؟ .
  وما يقعد بها أن تخدم مجتمعها ، وتساهم في إسعاده ؟ . .
  ما يقعد بها أن تفعل جمع ذلك في حدودها الواقعية الصحيحة ، التي وضعتها لها الطبيعة ، وقررها لها الشرع ؟ .
  أما أن يطمع لها في اكثر من ذلك ، فهذا ما يفتقر إلى عملية جراحية خطرة ، وفي أغلب الظن أنها غير ناجحة ، ولا مجدية ، فإن الطبيعة قد زودتها بكيان من نوع مخصوص .

العفاف بين السلب والإيجاب   ـ 115 ـ

خاتمـة المطـاف

  وبعد فهذه قولة الله ـ سبحانه ـ في مسألة الحجاب ، أسوقها لقرائي صريحة واضحة ، لا لبس فيها ، ولا تعقيد . .
  قولة الله في كتابه ، فلا مرية فيها لمسلم ، وحكمته في شريعته ، فلا ريبة فيها لعاقل .
  وقد قلت لقارئي ـ في مطلع حديثي ـ : إنها وقفة قصيرة ، فلا يطالبني فيها بتطويل .
  وقلت : إنها إيماءة سريعة فلا يحوجني إلى تفصيل ، أما غير هذه وهذه ، فإن الوقفة وإن كانت قصيرة إلا إنها مستوفية ، والإيماءة وإن كانت سريعة إلا إنها مستقصية .
  واعود فأكرر معذرتي التي أسلفتها في التقديم ، وأقدم له تحياتي في مطلع الحديث وفي ختامه .