تأليف
كاظم وهيم الخفاجي

المقدمة


 ( المدينة ) بتسكين الميم وفتح الدال وتسكين الياء وفتح النون ... وامر واضح ان الاسم مأخوذ من تصغير ( المدينة ) بعد ( تلهيجة ) تبعا لطبيعة السياق المحلي للمدينة ، واللغة تقول ( مدن ) بالمكان ، اقام به ، وبابه دخل ومنه المدينة وجمعها ( مدائن ) ( مدن ) و ( مدّن ) مخففا ومثقلا .
 وفلان مدن المدائن ( تمدينا ) اي مصرها ، فالاسم هذا تعبير عامي عن الفرح والتحبب بقيام بنية حضارية على تل سومري مندرس قبل اكثر من خمسمائة سنة .
 قضاء ( المدينة ) من اقضية محافظة ( البصرة ) ، تقع الى الشمال من مركز مدينة ( البصرة ) بحدود خمسة وتسعين كيلومترا ، فعلى ركام اثري لمدينة سومرية مندرسة وسط بطيحة البصرة نشأت هذه المدينة حتى اصبحت حاضرة منطقة الجزائر قبل الف عام .
 كما ان القلاع والتلال المحيطة بها ما هي الا مدن مندرسة تشير الى حضارات متعاقبة اندثرت فيها ، وقبل (425) سنة من الان كانت (المدينة) تشكل وحدة ادارية مهمة (ناحية) تابعة لولاية البصرة حيث كانت تسمى ناحية (نهر عنتر) .


تاريخ مدينة المْدَيْنَة ـ 4 ـ

 ان الذي قادني الى للكتابة في هذا الموضوع هو مطالعتي لبعض ما كتب عن مدن تجاور هذه المدينة ، ولأن ( المدينة ) لا تقل اهمية عن تلك الامكنة ، وقد حاولت ان اجمع معلوماتي من مناهج وكتب ذكرت فيها ( المدينة ) وجعلتها مادتي للكتابة ، فما بين القرنة شرقاً والجبايش غرباً تقع ( المدينة ) ولان السيد عبد الحسين جواد السريح قد تناول مدينة القرنة من قبل في كتابه ( الاقليم الوظيفي لمدينة القرنة ) كما تناول السيد شاكر مصطفى سليم في كتابه ( الجبايش ) فقد جاء كتابي هذا ( تاريخ مدينة المْدَيْنَة ) اضافة تاريخية لهاذين الكتابين وذلك لتناولنا البيئة الجغرافية نفسها وتداخل السكان فيما بينها ويتداخل التاريخ بين هذه المدن بكل ما فيه من تشييد وحضارة وثورات .
 ان من يتأمل تاريخ ( المدينة ) ويتصفح مراحل تطويرها سيصاب بالدهشة وهو يرى تلك السنين التي تحفر قاع الذاكرة ، هكذا رايت ( المدينة ) وانا ابحث في بطون الكتب التي قادت خطواتي عبر بحث متأن لتاريخها البعيد والقريب ، وقد زادني كل ذلك اصرارا على المواصلة لتعريف القارئ الكريم بصفحاتها المشرقة ابان المراحل التاريخية التي مر بها قطرنا العزيز ، وقد رغبت ان تكون موضوعة البحث سهلة بسيطة ، لكنها غنية بمادتها التاريخية ، وتاريخ ( المدينة ) جزء لا يتجزأ من التاريخ النضالي

تاريخ مدينة المْدَيْنَة ـ 5 ـ


 لهذا الوطن العظيم بانتمائه الى الامة العربية المجيدة ، ان تاريخ مدينة ( المدينة ) شاهد كبير على عظمة هذا الوطن الذي كان وما زال درعا حصينا للامة ، وانا اذ اقدم هذا العمل المتواضع بين ايدي القراء اعتذر منهم مما وقعت به من هنات ان كانت قد وجدت وحسبي ان هذا الجهد سيغفرلي ذلك والذي اتمنا ان اكون قد وفقت بانجازه ، فسبحان المتفرد بالكمال ، والله من وراء القصد .

كاظم وهيم الخفاجي
البصرة / قضاء المْدَيْنَة 2001

تاريخ مدينة المْدَيْنَة  ـ 6 ـ

البطائح في المعاجم اللغوية

 يطلق اسم البطائح على ذلك المنخفض من الارض الذي كان يتعرض لغمر المياه بشكل منتظم ، وقد اطلقها البلدانيون العرب خلال الفترة العباسية على المستنقعات الواقعة في الجزء الاسفل من نهر الفرات بين الكوفة و واسط شمال والبصرة جنوبا ، انها غالبا ما تسمى البطائح ( جمع بطيحة ) وهي تشمل بطائح البصرة وبطائح الكوفة وبطائح واسط (1) ، وقد تناولت المعاجم اللغوية العربية معنى هذه الكلمة ، فارجعت اصلها اللغوي الى كلمة تبطح ، حبث يتبطح السيل اذا اتسع في البطحاء (2) ، وللبطيحة والبطحاء معنى واحد (3) ويسمى المكان ابطح لان الماء يتبطح فيه ، اي يذهب يمينا وشمالا والبطح هو الانبساط وبه سميت البطيحة لنبساطها على وجه الارض (4) ، وتبطح السيل اذا اتسع في الارض (5) ، وقد حدد الجغرافيون العرب البطائح وفقا لقربها من المدن كالبصرة والكوفة وواسط (6) ، واعطاها هذا

**************************************************************
(1) اليعقوبي ، احمد بن ابي يعقوب ، البلدان ، تحقيق دي غويه ، (ليدن ، 1891 م) ، ص 323/ بنخرد ذابة ، ابو القاسم عبيد الله ، المسائل والمالك ، بغداد ، ص 174 / المقدسي ، شمس الدين ابو عبيد الله محمد ، احسن التقاسيم في معرفة الاقاليم مطبعة بريل ( ليدن ، 1877 م ) ص 124 .
(2) الجوهري ، اسماعيل بن حماد ، تاج اللغة وصحاح العربية ، مصر ، 1956 ، ج 1 ، ص 356 ، محمد بن منظور ، لسان العرب المحيط ، بيروت 1956 ، ج 1 ، ص 256 .
(3) الحموي ، ياقوت ، معجم البلدان ، بيروت ، ج 1 ، ص 256 .
(4) ابن دريد ، ابو بكر محمد بن الحسن الازدي ، جمهرة اللغة ، ج 1 ، ص 252 .
(5) الحموي ، البلدان ، ص 368 .
(6) اليعقوبي ، البلدان ، ص 323 .

تاريخ مدينة المْدَيْنَة  ـ 7 ـ


 التحديد كذلك عدد من الجغرافيين المتأخرين (1) ، وترتبط هذه البطائح بخط سير للملاحة بين بغداد والخليج العربي عبر البطائح (2) ، وخلال مسيرة البطائح ومياهها تتخللها القصب والبردي ، ولا يمكن اجتيازها الا بالمراكب الصغيرة (3) ، ويمكن تحديد بطيحة البصرة ومساحتها بتقدير ( كي لستر لنج ) لها حيث حدد عرضها بخمسين ميلا وطولها بمائة ميل وهي حسب قوله تمتد من واسط شمالا حتى تصل البصرة تقريبا جنوبا (4) .

الاهوار

 ان منطقة القصب والبردي تأخذ مساحة واسعة من المسطح المائي حيث ينمو بداخله غابات من القصب والبردي والتي كانت تتفرد بها هذه المنطقة التي تسمى ( منطقة الاهوار ) والهور وجمعه اهوار وهو مصطلح محلي يدل على مستنقع تسوده نباتات طبيعية (5) ، ويرى الدكتور جاسم محمد خلف ( ان الاهوار تطلق على الاراضي المنخفضة التي تغطيها المياه سواء في معظم اوقات السنة او في بعضها ولا يوجد فرق واضح بين

**************************************************************
(1) القزويني ، زكريا بن محمد ، اثار البلاد واخبار العباد ( بيروت ، 1960 م ) ، ص 20 .
(2) سهراب ، كتاب عجائب الاقاليم السبعة ، تحقيق هانس فون مزيك ، مطبعة ادولف هولزهوزن ( ليبزك ، 1929 م ) ، ص 135 .
(3) ابو الفداء ، عماد الدين ، تقويم البلدان ، ( باريس 1890 م ) ص 296 .
(4) لستر نج كي ، بلدان الخلافة الشرقية ، ترجمة بشير فرنسيس وكوركيس عواد ، مطبعة المجمع العلمي العراقي ( بغداد 1954 م ) ، ص 295 .
(5) ماجد السيد ولي ، الجغرافية التاريخية لاهوار العراق ، مجلة ( كلية الاداب ) ، العدد السادس ( جامعة البصرة 1972 م ) ، ص 205 .

تاريخ مدينة المْدَيْنَة  ـ 8 ـ


 الاهوار والمستنقعات (1) ) اما الدكتور ابراهيم شريف فيقول ، ( ان تسمية الاهوار تسمية عامة تطلق على كل مناطق المستنقعات في السهل الفيضي من العراق ، ولكنها تطلق ايضا اطلاقا خاصا على المناطق الضحلة منها وهي المناطق التي ينمو فيها القصب والبردي وغيرها من نباتات المستنقعات (2) ) ويرى كثير من الباحثين ان تكوين الاهوار والمسنقعات ظاهرة طبيعية تصاحب تكوين دلتا الانهار ، فالانهار وفروعها تملأ عادة المناطق المجاورة لها اكثر مما تملأ المناطق البعيدة عنها ، وقد بدلت الانهار مجاريها عدة مرات في العصور القديمة والحديثة فكونت في المناطق التي جرت فوقها ضفافا عالية وتركت اراضي واطئة بين مجاريها ، وبعض هذه لمناطق الواطئة كانت وما تزال تصل اليها مياه الفيضانات مكونة اهوارا ومستنقعات (3) ، وعرفت الاهوار قديما بالبطائح (4) .

**************************************************************
(1) خلف ، جاسم محمد ، جغرافية العراق الطبيعية والاقتصادية والبشرية ، معهد الدراسات العربية ، ( القاهرة ، 1961 م ) ،ص 132 .
(2) د. ابراهيم شريف ، مناطق الاهوار في القسم الجنوبي في العراق ، مجلة ( كلية الاداب ) ، ( جامعة الاسكندرية ، ديسمبر ، 1954 م ) ، ص 38 .
(3) الدباغ تقي ، العراق في العصور ما قبل التاريخ ، فصل من كتاب ( العراق في التاريخ لمجموعة باحثين ) ، دار الحرية ( بغداد ، 1983 م ) ص 29 .
(4) ماجد السيد ولي ، الجغرافية التاريخية ، ص 205 .

تاريخ مدينة المْدَيْنَة  ـ 9 ـ


حفريات ودلائل

 هناك اراء متضاربة عن نشأة الاهوار وطغيان المياه على مساحات واسعة والفترات التاريخية التي مرت فيها ، فهناك عدة اراء متضاربة احيانا ، الا انها تتفق على ان الاهوار كانت موجودة لمدة طويلة من الزمن ، ويشير العالم الاثاري المعروف ( وولي ) ان الاهوار كانت موجودة في جنوبي العراق منذ زمن بعيد ، اذ انه وجد في استكشافه وحفرياته في ( تل العبيد ) الواقع الى الغرب من مدينة اور بحوالي ثمانية كيلو مترات هناك اثارا قديمة تعود الى حضارات عصر العبيد (4500 ـ 3800 ق،م) وعصر ( الوركاء ) ومنها بعض قطع الفخار عليها اثار عيدان القصب والبردي ، وتبين له ان هذه الارص كان يعيش عليها اناس ، بيوتهم كانت على شكل اكواخ مصنوعة من عيدان القصب والبردي (1) ، ان وجود اثار القصب والبردي لدليل على وجود الاهوار منذ ذلك الوقت اذ ان هذه النباتات توجد حيث توجد الاهوار .
مواطن ( اليشن )
 تنتشر في مناطق متفرقة في وسط وعلى حافات الاهوار بعض المرتفعات والتلال المتباينة في حجومها وتسمى محليا ( ايشان ) وجمعها ( يشن ) ، وان هذه المرتفعات والتلال ما هي الا مدن قديمة مندرسة يرجع تاريخها الى

**************************************************************
(1) روث مورث ، الارض التي تعيش عليها ، ترجمة اسماعيل حقي ، ( بغداد ، 1961 م ) ، ص 29 ـ 30

تاريخ مدينة المْدَيْنَة  ـ 10 ـ


 ادوار وعصور مختلفة تمتد من العصر الحجري القديم الى بداية العصر الاسلامي ، وهي تعد مواطن اثار حضارية مسجلة ومعلن عن اثريتها (1) ، وهي شاخصة للعيان في الوقت الحاضر ويستعمل السكان قسما منها لاغراض متباينة وبخاصة السكن عليها .
 ان الذي يهمنا من هذا المدخل التاريخي والجغرافي المأخوذ من مصادره ، تعيين الموقع ( الارض ) الذي قامت عليه قصبة ( المدينة ) الحاضرة من خارطة جزائر العراق وحدودها القديمة .
دولة كلدو
 اشارت بعض المصادر الى انه منذ القرن التاسع قبل الميلاد وجدت بلدة تسمى كلدو ( kaldu ) وان سكانها من الكلدانيين الذين عاشوا على ما يبدو في منطقة الاهوار والبحيرات على طول المجرى السفلي لنهري دجلة والفرات (2) ، واشار ( ساركي ) (3) الى ان تجلات بلاسر (729 ـ 727 ق ، م) استطاع ازاحة قبيلة بيت امو ياكاشي الكلدانية عن بابل ثم طاردوها حتى ( سابيا ) sapla وهي المدينة الرئيسة لتلك القبيلة في وسط الاهوار ، اسفل الفرات فدمرها ودمر المنطقة العائدة لها .

**************************************************************
(1) مديرية الاثار العامة ، المواقع الاثرية مطبعة الحكومة (بغداد ، 1970 م) ، ص 3 .
(2) بن هايم اليو ، بلاد ما بين النهرين ، ترجمة سعدي فيضي عبد الرزاق ، دار الرشيد (بغداد 1981 م) ص 199.
(3) عظمة بابل ، ترجمة عامر سليمان (الموصل 1979) ص 142 .

تاريخ مدينة المْدَيْنَة  ـ 11 ـ


 وفي الخارطة التي الحقها جورج رو في نهاية كتابه (1) جعل موضع قبيلة بيت ياكيني في منطقة جنوب العراق كما ان الخارطة توضح لنا ان منطقة كلدو المشار اليها والمؤشر في الخارطة المذكورة يقع التل الذي انشئت عليه مدينة ( المدينة ) من ضمنها .

مصدر الخريطة : جورج رو ، العراق القديم ، ترجمة وتعليق
حسين علوان حسين ، بغداد 1984 م .

تاريخ مدينة المْدَيْنَة  ـ 12 ـ


قصبة على مشارف الماء
 ارجح ان التل الذي انشئت هذه المدينة عليه كان ركاما اثريا لمدينة او ميناء من موانئ السومرية او البابلية او لدولة اخرى من الدويلات التي سكنة المنطقة في الالف الثالث او الثاني قبل الميلاد وعلى مقربة من الماء نمت هذه القصبة منذ آلاف السنين .
سكان المنطقة قديما
 ان وجود قرى ومدن في بطيحة البصرة منذ زمن بعيد امر واراد نظرا لان كثرة المياه فيها يجعل منها منطقة زراعية بالاضافة الى انها مناطق ملتقى نهري دجلة والفرات والحديث عن سكان البطائح بما فيها التل الذي انشئت عليه هذه المدينة ( منذ العهد السومري وحتى ظهور ( الاسلام ) ليس بالامر اليسير ونستطيع ان نقول لقد سكن العرب البطائح ومنطقة ميسان منذ ايام الامبراطورية الاشورية ولكنهم سموا باسم الاراميين (1) والاراميون في الدراسات الحديثة هم سكان الجزيرة العربية لذلك فسكان هذه المنطقة من العرب (2) ، اي سكان البطائح وميسان هم عرب منذ القدم (3) ، وكانت في بادية البصرة والكوقة وبادية الشام قبيل الفتح العربي للعراق مجموعات من

**************************************************************
(1) نولدمان ، تاريخ ميسان ، ترجمة فؤاد جميل ، ( مجلة الاستاذ ) ، المجلد الثاني عشر (بغداد ، 1964 م) ، ص 431 .
(2) البكر ، منذر ، دولة ميسان العربية ، ( مجلة المورد ) ، العدد الرابع ، (بغداد ، 1986 م) ، ص 31 .
(3) العمر ، فاروق ، دور اهل ميسان في الدفاع عب عروبة العراق ، ( مجلة المورد ) ، العدد الرابع ، (بغداد ، 1986 م) ص 35 .

تاريخ مدينة المْدَيْنَة  ـ 13 ـ


 قبائل الازد وبكر بن وائل وتغلب وبني اسد ثم ازدادت القبائل في بادية الكوفة واستمر تزايدها حتى انتصرت في معركة ذي قار ما بين (604 ـ 610 م) (1) فكانت هذه المعركة نقطة الانطلاق للقبائل العربية في الهجوم على السهول وظلت غاراتها مستمرة حتى فتح العراق واصبح لقبيلة بكر بن وائل نفوذا كبيرا وقد اضطر الفرس الى استرضائها ايام كسرى ابرويز (590 ـ 628 م) وسمحو لها بالانتشار الى مناطق اخرى ومنها منطقة البطائح حيث شكلت قوة كبيرة كان لها فيما بعد دور سياسي واضح خلال الفترة بين منتصف القرن الخامس ومنتصف القرن السادس الهجري واصبح ابناؤها هم امراء البطائح في العراق (2) ، ويقول البعض ان الخلاف الذي وقع بين الساسانيين وامراء الحيرة والتنكيل بالنعمان ابن المنذر قد جعل القبائل العربية وبخاصة بكر بن وائل تدخل ارض البطائح (3) .

( المدينة ) حاضرة الجزائر قبل الف عام

 ذكرنا ان التل الذي انشئت عليه هذه المدينة يعود الى العصور السومرية اذ قدر لهذا التل ان ينمو ويتفرع ليلقي بافيائه على الاقوام النازحة فوق

**************************************************************
(1) اليعقوبي احمد ابن ابي جعفر ، تاريخ اليعقوبي ، (ليدن ، 1833 م) ، المجلد الاول ص 212 .
(2) ابراهيم جدوع ، البطائح ، رسالة ماجستير ، غير منشورة ، كلية الاداب ، جامعة البصرة ، ص 51 .
(3) ابو عبيدة ، معمر بن المثنى ، نقائض جرير والفرزدق ، تحقيق انطوان اشلن ، مطبعة بريل (ليدن 1905 ـ 1913 م) ص 103 وابن عبد ربه ، ابو عمر احمد بن محمد ، العقد الفريد ، تحقيق احمد امين واحمد الزين وابراهيم الايباري ، مطبعة لجنة التاليف والترجمة القاهرة (1940 م) ج 2 ص 119 .

تاريخ مدينة المْدَيْنَة  ـ 14 ـ


 منحدرات المياه حتى تطورت هذه الاقوام ونمت واصبحت تشكل قرية كبيرة على هذا التل تكتنفها البطائح وخلف ظهرها بادية العراق ، التي وجدت قبل القرن العاشر الميلادي وهي حاضرة الجزائر سابقا (1) وفيها مقر الامارة لقبيلة بكر بن وائل ، اما الجزائر او الجوازر او الجزاير فتشمل منطقة الاهوار والمستنقعات ما بين الكوفة وواسط شمالا والبصرة جنوبا وفيها حوالي ثلاثمائة جزيرة صغيرة اقيمت على بعضها القلاع (2) ومن ضمنها القلعة التي انشئت على هذه المدينة .

منطقة لالتقاء القبائل

 بناء على ما تقدم نعتقد ان هذه المنطقة وما يجاورها من المواقع الاثرية (3) لابد انها كانت ممرا او تجمعا تموينيا قريبا من الماء للقبائل العربية التي كانت تنتقل او تهاجر من الجزيرة العربية الى ضفاف بطيحة البصرة او للقبائل العربية التي كانت تنتقل من شمال ووسط العراق الى هذه المناطق كما نعتقد ايضا ان هذه المنطقة كانت من الاماكن التي تمر او تتجمع فيها الجيوش العربية من عرب العراق واطراف الجزيرة العربية في طريقها لتحرير العراق

**************************************************************
(1) الحسني ، عبد الرزاق ، العراق قديما وحديثا مطبعة دار الكتب بيروت (1982 م ط 7 ص 185 ) والجويبراوي ، جبار عبد الله ، سلاما ايتها الاهوار ، مطابع دار الشؤون الثقافية العامة (بغداد 1993 م) ص 84
(2) د . العابد ، صالح ، عهد الحكم العثماني الاول ، من كتاب ( العراق في التاريخ ) لمجموعة باحثين ، مطبعة الحرية بغداد (1983 م) ص 575 ( الهامش )
(3) مثل تل ابو الصلابيخ الذي يعود تاريخه الى 3100 ق ، م / ( ينظر : مديرية الاثار العامة ، الواقع الاثرية ، ص 49

تاريخ مدينة المْدَيْنَة  ـ 15 ـ


 من الفرس في معارك كاظمة والابلة وذي قار ويذهب البعض الى ان جيش الامام علي ( عليه السلام ) القادم من الكوفة مرورا بذي قار قد مر بها واستراح فيها في طريقه الى موقعة الجمل ، وفي العصر العباسي عندما حدثت حركة الزنج التي استولت على البصرة واتخذت من ابي الخصيب عاصمة لها وعاثت في الارض فسادا ونهبت الاموال وقتلت الناس التجأ اليها عدد كبير من الفارين من البطش والتنكيل اذ كانت هذه المنطقة ( المدينة ) تتمتع بنوع من الاستقلال السياسي بسبب وعورة طريقها الوحيد الى مدينة القرنة عبر نهر الفرات او الطرق الوعرة الاخرى بين غابات القصب والبردي عبر الاهوار الى كرمة علي ومن ثم الى مدينة البصرة .

استقلالية المنطقة

 حين سقط العراق تحت نير الاحتلال الاجنبي المتعاقب في القرن الثالث عشر الميلادي ظلت هذه المنطقة مستقلة بعشائرها التي كانت تتمتع بستقلال ذاتي لا تخضع لحكومة مركزية ولا تحكمها الا اعرافها وتقاليدها العشائرية بعيدة كل البعد عن السيطرة الاجنبية وذلك لوعورة المسالك وصعوبة تقديم قوات نظامية باتجاهها وسنذكر ذلك بتفصيل في مكان اخر من كتابنا هذا .

تاريخ مدينة المْدَيْنَة  ـ 16 ـ


سكن قديم لموقع اثري
 لم تكن البقعة الجغرافية التي انشئت عليها هذه المدينة الا ركاما اثريا لمدينة او ميناء تابع لدولة السومرية او البابلية او لاحدى الدول العراقية التي ولجت هذه المنطقة في الالف الثالث او نهاية الالف الثاني قبل الميلاد ، ولهذا فان الملاحظ على الارض غرابة ارتفعها عن مستوى الحوض المائي المحيط بها ، اذا نعتقد ان هذه المنطقة موقع مدينة ( المدينة ) قامت على انقاض تل اثري عريق ولكن بسبب طريقة تشييد ابنية المدينة وسوقها ، كما كانت الحكومات غير مهتمة بقضايا المدن الاثرية والحضارات العراقية القديمة وفي امور التنقيبات الاثرية (1) .
  لذا فان اية تنقيبات في ارض ( المدينة ) لم تجر على الرغم من ان هناك العديد من الاشارات الاثرية والدلائل التي تشير الى ان هذه المنطقة كانت تقطنها اسر مختلفة من خلال ما تفرزه الارض من لقى اثرية تؤكد ان هذا التل كان في يوم ما سكنا ومرتعا خصبا منذ عصور موازية لعصر السومريين .

دلائل واشارات
 ايد لنا الكثير من سكان المنطقة واكدوا بانهم عندما يحفرون نهرا او يشقون اساسا لابنيتهم يعثرون في اثناء اعمال الحفر على كسر من الحجارة

**************************************************************
(1) بدأ اعمال التنقيب بصورة منظمة عام 1843 م ( جورج رو ، العراق القديم ، ص 42 ) .

تاريخ مدينة المْدَيْنَة  ـ 17 ـ


 والجرار والمواد البنائية القديمة ويجزمون على ان ما تحت الاسس هو بقايا ابنية مندثرة وما عثر عليه عدد من الفلاحين في المناطق الزراعية الواقعة في مناطق تل ابو الصلابيخ والحويش وتوانس والسورة والتمار ونهر صالح والصنين والسبيطية ونهر عنتر وتل ابو شذر دليل على ذلك وتأكيد على ما ذهبنا اليه ، وكان الناس الى عهد قريب يجلبون من التلال المحيطة بالمنطقة الطابوق المعروف ( بالكلداني ) وفي لقاء شخصي لي معه ذكر الدكتور محمد جواد حبيب البدران ما نصه ( طالما حدثنا اباؤنا واجدادنا عن اناس عثروا في الاهوار المحيطة بالمنطقة على مصوغات ذهبية واحجار كريمة واثار لاختام واسطوانات وادوات منزلية تشير الى حضارات متعاقبة اندثرت فيها ) .

اهم المدن الاثرية في المنطقة

 ان المدن لا تنتهي برحيل ساكنيها واندثار ملامحها وتقادم السنين على نشوئها واقامتها وهي وان لم يبق منها شاخص يعتلي صهوة الارض ويشير الى مساحتها وشوارعها ومبانيها الا ان هناك ذاكرة تحمل بقاياها في كل ذرة تراب وثم نبض لها فوق كل صخرة او حصاة وكأنك تجد اصوات سكانها متجمعة في حفرة ما هنا وهناك وتجد عاداتهم وتقاليدهم محفورة فوق الصخور وتجد طموحاتهم وامانيهم تمتد عبر خيوط الزمن المتشابكة مخترقة الذاكرة ممتدة عبر الثرى ، وان هذه المدن التي اندثرت منذ ازمنة غابرة طوت

تاريخ مدينة المْدَيْنَة  ـ 18 ـ


 ودثرت معها تاريخا زاخرا بالحياة ، وما زالت اليوم ماثلة بسلطة المكان حيث توزعت بين الكثير من الاماكن المحيطة بمدينة ( المدينة ) ومن اهم تلك الاماكن ( المدن ) .
تل ابو الصلابيخ

 يقع هذا التل جنوب قصبة ( المدينة ) وهو يشمخ بما يختزن تحت ترابه من اسرار تعود الى 1600 ق ، م (1) ، وتكثر فيه الحصى المختلفة الاحجام وهي السبب في تسميته الشعبية هذه ، وهو بقايا مدينة اثرية بادت تاركة وراء تركتها الصخرية اثارا تكلست الا قليلا منها لظروف الطبيعة والمناخ ، ولكن ما بقى منها كافيا لكشف الحقائق التاريخية .
السبيطية
 يقع هذا التل المندرس الى الغرب من قصبة ( المدينة ) بحدود 5 كم حيث كان في الاصل مدينة حضرية كما يقول البلاذري في فتوح البلدان ( ارسل ابو جعفر المنصور ثلاثة من كبار الفقهاء فقدموا عليه ومعهم صورة عن البطيحة ، فأخبروه انهم يتخوفون ان يلمح ماؤهم ، قال ما اراه كما ظننتم ثم انه قدم البصرة فامر باستخراج السبيطية ( من جبي الخراج )

**************************************************************
(1) مديرية الاثار العامة المواقع الاثرية ص 49

تاريخ مدينة المْدَيْنَة  ـ 19 ـ


 فأستخرجت له فكانت فيها اجمة ( وهي الارض المرتفعة ) لرجل من الدهاقين يقال له سبيط فنسبت الضيعة اليه بسبب اجمته فقيل السبيطية (1) .
نهر عنتر

 كانت هذه المنطقة مدينة حضرية ووحدة ادارية ( ناحية ) قبل (425) سنة من الان ، وتقع شرق قصبة ( المدينة ) بحدود 5 كم ، تسكنها عشائر الحلاف وتحاذي مباشرة نهر عنتر وفي القرب منها توجد بعض التلال المندرسة تشير بعض المصادر الى انها كانت حاضرة الجزائر منذ زمن بعيد وقد عين فيها الامير مخزوم اميرا على الجيوش العباسية سنة (649)هـ وفي عهد الخليفة الناصر لدين الله وكانت مقرا للسلطة على المنطقة الممتدة من قلعة صالح جنوب العمارة حتى البصرة وبضمنها الجزائر ونهر عنتر وكانت هذه المنطقة ميدان قتال بين الدولتين العثمانية والفارسية (2) كما كانت هذه المنطقة من اهم المناطق الواقعة بين القرنة والغراف عام 1500 م 906 هـ ومقرا مهما للجيش العثماني عام 1708 م 1120 هـ (3) .

**************************************************************
(1) البلاذري ، احمد بن يحيى بن جابر ، فتوح البلدان ، (القاهرة ، 1932 م) ج 1 ص 370
(2) العامري ، ثامر عبد الحسن ، موسوعة العشائر العراقية ( مطابع دار الشؤون الثقافية العامة بغداد 1992 ج 2 ص 218 .
(3) المستراستيفن ، اربعة قرون من تاريخ العراق الحديث ، ترجمة جعفر الخياط ، مطبعة المعارف ، 1968 ، ط 4

تاريخ مدينة المْدَيْنَة  ـ 20 ـ



مصدر الخريطة : المستر ستيفن هيمسلي لونكريك ، اربعة قرون
من تاريخ العراق الحديث ، ترجمة جعفر الخياط ، مطبعة المعارف ط 4 ، 1968 م
تاريخ مدينة المْدَيْنَة  ـ 21 ـ

مدينة القلاع ( الجلع )

 وتقع على الضفة الشمالية لنهر الفرات غرب ( المدينة ) بحدود (6 كم) كانت تسكنها بيوت من عشيرة ( المير احمد ) تعود هذه التلال الى حضارة عراقية سابقة ، وتسمية ( الجلع ) مأخوذة من جمع قلعة ( قلاع ) وقبل اربعة قرون كانت مدينة قائمة تسمى مدينة القلاع ، لاحظ الخريطة رقم (3) .

مصدر الخريطة : البصري ، ياسين ابن حمزة بن احمد كان حيا سنة 1086 هـ
( ارجوزة في تاريخ البصرة ) دراسة وتحقيق د . فاخر جبر مطر ،
منشورات جامعة البصرة ، المركز الثقافي 1990 م
تاريخ مدينة المْدَيْنَة  ـ 22 ـ

الفتحية

 وهي منطقة واسعة لا يفصلها عن سوق ( المدينة ) سوى نهر الفرات الخالد وكانت مشيدة عليها قلعة واسعة وضخمة يقاتل فيها سكان المنطقة بوصفها خطاً متقدما ضد الغزوات دفاعا عن منطقتهم يعود تاريخها الى قبل او بداية العهد العثمابي (1) ، وقد ذكرها ياسين بن حمزة بن احمد الشهابي البصري في ارجوزته الشهيرة التي نظمها عام 1086 هجرية (2) .
نهر صالح

 قرية كبيرة واسعة المساحة تقع على تل مترامي الاطراف على الجهة الجنوبية لنهر الفرات غرب ( المدينة ) بحدود (6 كم) ولا يزال هذا التل يشمخ عاليا باثاره وبما يختزن تحت ترابه من اسرار تعود للاجداد العظام وما يؤكد ذلك وجود مسميات ما زالت متعارفا عليها في المنطقة الى يومنا هذا مثل السراي وهي كلمة تركية تعني مقر الشرطة او الحكومة ودور ( القواضي ) اي دور القضاة ومنطقة اخرى تسمى ( الحمام ) وقد عثر بعض سكان المنطقة على اسس بناء قديم وهم يقومون بحفر الاسس لدورهم الحديثة

**************************************************************
(1) مجلة الف باء العدد 1576 في 18 ت 2 ، 1998 .
(2) البصري ، ياسين بن حمزة ، ارجوزة في تاريخ البصرة ص 45 .

تاريخ مدينة المْدَيْنَة  ـ 23 ـ

 كل ذلك يشير الى ان منطقة نهر صالح تل اثري قديم تركته اصابع الاجداد الاوئل في المنطقة .
المدينة واصل التسمية

 ( المدينة ) بتسكين الميم وفتح الدال وتسكين الياء وفتح النون ...
 جاءت تسمية مدينة ( المــدينة ) بهذا الاسم المصغر ذلك كونها كانت مستقرا للوافدين من مدينتي القرنة شرقا ومدينة سوق الشيوخ غربا عبر نهر الفرات ومناطق الاهوار حيث كانت منطقة استراحة السفن القادمة ولغرض التزود بالحاجات المطلوبة وفي البدء كانت هذه المنطقة عبارة عن مجموعة صغيرة من المستقرات والمحلات المبنية من القصب والبردي والطين على ضفاف نهر الفرات تقل بكثير مما هو عليه الحال من البناء في مدينتي القرنة وسوق الشيوخ ولكونها كذلك سميت ( المـدينة ) كما ان سكان الاهوار ( هور الحمار ) حين كانوا يريدون التبضع يقولون ( نحن ذاهبون الى ( المـدينة ) لانها تعد بالنسبة اليهم منطقة حضرية اي انهم رؤها انها تحوي الكثير مما تحويه المدينة وتفتقر اليه قراهم والمعروف عن سكان الاهوار بأنهم يلفظون اغلب الاسماء بالتصغير فسميت المدينة بـ ( المـدينة ) اذن هذا الاسم مأخوذ من تصغير المدينة بعد تغييره لهجيا تبعا لطبيعة السياق المحلي للمنطقة فالاسم هذا ( المـدينة ) تعبير عامي عن الفرح والتحبب
تاريخ مدينة المْدَيْنَة  ـ 24 ـ

 بقيام بنية حضارية في هذه المنطقة الاثرية الغافية بين اهداب النخيل والقصب والبردي ، وقد ساهمت العشائر المحيطة بهذا المركز الحضري بأشاعة التسمية على هذه الصيغة الشعبية ذات النفس الفولكلوري ، وكأنها تعبر بدورها عن فرحها الغامر وهي تغادر قراها للتبضع من اسواق هذه المدينة الصغيرة ، والتي اصبحت مع الايام مدينة كبيرة يسكنها اكثر من مائة وخمسين الف نسمة ولا احد يعرف على وجه التحديد متى بدا اطلاق هذه التسمية ، لكن اهل المعرفة والاطلاع اشاروا بان هذه التسمية كانت متوارثة من الاجداد ويقدرون بانها قد وجدت قبل اكثر من 400 سنة مضت كما اطلقت عليها سابقا منطقة نهر عنتر ثم منطقة الصيامر (1) .

**************************************************************
(1) وتستسهلها العامة الى السيامر ، وهو تجمع عشائري يجمع عشائر ( المـدينة ) البالغة 43 عشيرة وسنتكلم بالتفصيل عن جذورها وفروعها في كتابنا القادم تاريخ عشائر ( المـدينة ) .