اتصل بنا مؤمنــــة البطاقات انتصار الدم مساجد البصرة واحة الصائم المرجعية الدينية الرئيسية

طعام الإنسان عنوان سعادته وشقائه

رجوع

  قال الله تعالى في كتابه الكريم: {فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ } /عبس:24
  * معنى الطعام في الآية المباركة.
  يقول المفسرون في تفسير هذه الآية المباركة ومنهم السيد الشيرازي في تفسيره: [ثم يأتي السياق لتذكير الإنسان بجملة من الآيات الكونية تدليلا على وجوده سبحانه بالآيات الآفاقية بعد ذكره الآيات الأنفسية فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ إِلى‏ طَعامِهِ الذي يأكله، ليتذكر أصل الخلقة، ومن خلقها، ليرعوي عن غيّه و ضلاله.] / تقريب القرآن إلى الأذهان ج‏5، ص:619، ومنهم أيضاً السيد السبزواري الذي يقول: [قال تعالى: فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ إِلى‏ طَعامِهِ ........ و فسر في الأخبار إلى علمه الذي يتعلّمه الإنسان. فالطعم (بالضم) الأكل، و (بالفتح) عرض قائم بالقوة الذائقة.] / مواهب الرحمان في تفسير القرآن ج‏4، ص:154، وكذلك قال في الجزء الأول في الصفحة 260: [ فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ إِلى‏ طَعامِهِ، أي: إلى علمه عمّن يأخذه.]، فالمفسرون أمام هذه الآية لهم رأيين تفسيرين مثّلهما رأيا السيدين الشيرازي والسبزواري ، الأول قائل بأن الطعام هو الطعام المادي الذي يأكله الإنسان في حياته اليومية، والآخر بأن الطعام في الآية المباركة هو الطعام المعنوي – أي العلم -، وذلك استناداً للروايات الواردة عن أهل بيت العصمة والطهارة سلام الله عليهم أجمعين والتي نقلها أعاظم العلماء والمحدثين ومنهم الشيخ المفيد في كتاب الاختصاص، حيث نقل رواية الإمام الباقر (عليه السلام) في هذا الصدد بالسند التالي:[ عن محمد بن الحسن، عن محمد بن الحسن الصفار، عن يعقوب بن يزيد، عن ابن أبي عمير، عن زيد الشحام، عن أبي جعفر (عليه السلام) في قوله تعالى: فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ إِلى‏ طَعامِهِ، قال: «علمه الذي يأخذه عمن يأخذه»] / البرهان في تفسير القرآن ج‏5 ، ص: 585 عن كتاب الاختصاص للمفيد (قدس سره)، وبالرغم من أن التفسيرين مختلفان – أحدهما ظاهري والآخر باطني – إلا أنه لا يقع محذور التعارض بينهما؛ لتغايرهما في النوع أو السنخ، ولا يستلزم من ذلك بينونة تامة ، بل يوجد هناك مناسبة وارتباط فيما بينهما .

  * المناسبة والارتباط بين التفسير الظاهري والباطني للطعام .
  إن الغذاء المادي هو أحد العناصر المهمة في تكوين جسم الإنسان إلى جنب الماء، فهو الذي يمد جسم الإنسان بما يحتاجه من عناصر مؤثرة لديمومة الحياة كالفيتامينات وغيرها من العناصر المركبة لبدن هذا الكائن الحي، ولو كان هذا الوقود فاسداً أو مسموماً لاسامح الله تعالى فإنه سوف يودي به إلى مفارقة الحياة والانقطاع عن الوجود المعبر عنه بالموت .
  والحياة المادية ليست هي الحياة الوحيدة التي يعيشها الإنسان، بل هناك الحياة المعنوية التي تتزامن وحياته المادية، تبدأ مع بدايتها ونشوئها وتبقى بعد نهايتها وفناءها، إذ أشارت الأحاديث الشريفة إليها كقول النبي (صلى الله عليه وآله): ( إذا مات المسلم انقطع عمله إلا من ثلاث، علم ينتفع به بعده، أو صدقة جارية أو ولد صالح يدعو له.) / المهذب البارع - ابن فهد الحلي ج 3 ص: 154، و قوله: ( من سن سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة، ومن سن سنة سيئة فعلية وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة ) / روضة الطالبين - محيى الدين النووي ج 1 ص: 73، فهذان الحديثان يدلان دلالة واضحة على أن الحياة المعنوية للإنسان مستمرة بعد الانقطاع والممات، ووجود هذه الحياة يعني أن لها احتياجات تماما كاحتياجات الحياة المادية من الطاقة والقوة والديمومة والاستمرارية مع الفارق في الخصوصيات التي يجب أن تتناسب وطبيعتها، وبناء على هذا يلزم في الطعام المعنوي تحقق ذات الشروط العامة اللازم تحققها في الغذاء المادي لديمومة الحياة المعنوية ، وهي: أن لا يكون فاسداً ولا مسموماً، إذ أنه كما لو توفر هذان الشرطان في الغذاء المادي تفسد الحياة المادية وتنقطع كذلك تنتهي وتنقطع الحياة المعنوية بالموت المعنوي أو ما يعبر عنه اليوم بالسقوط والانحدار الحضاري .
  فيتبين من ذلك أن المناسبة بين التفسيرين الظاهري والباطني هي: الاشتراك بين الحياتين في احتياجهما إلى الطعام بما يتناسب وطبيعتهما أولا، والاشتراط بكون الطعام صالحاً غير فاسدً أو مسموم لضمان الاستمرار والديمومة للحياة ثانيا .
  من هنا جاء اهتمام القرآن الكريم بالطعام في هذه الآية المباركة والتنبيه على ضرورة الاعتناء به ، سواء كان مادياً أو معنوياً ، إذ فهم شمول الاهتمام والتنبيه لكلا النوعين من الإطلاق في الآية المباركة بعدم تقييده بقيد المادية أو المعنوية، الأمر الذي مكن المفسرين من تعدية المعنى ليشمل الطعام المعنوي أيضا، وهو العلم كما في الرواية الشريفة الآنفة الذكر .

  * خصوصيات الطعام الإنساني بشقيه والفرق بينهما:
  ولكون كل نوع من الطعام البشري له خصوصياته الخاصة به وأن أحدهما أهم من الثاني ومقدم عليه اعتنى القرآن الكريم عناية فائقة بذكر ما يتعلق بكل منهما بصورة مباشرة أو غير مباشرة ، فتناول أركان وما يجب أن يكون عليه ذلك الطعام حتى يؤدي غرضه من وجوده ، فتجده :
  أولا: في الطعام المادي يحدد مقدار الاستفادة منه في الأكل والشرب بعدم الإسراف والتبذير وتجاوز الحد كما في قوله تعالى: {يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} /لأعراف:31, بينما لم يحدد مقدار الاستفادة من الطعام المعنوي، فيقول جل وعلا: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ } / الأنفال:24، والاستجابة مطلقة من دون قيد في الآية الشريفة، وعليه فلا تحديد. كما أن الحياة المرادة في الآية هي الأخرى لم تقيد فأعطت معنى الحياة الكاملة (المادية + المعنوية)، وهي لا تكون إلا بالإيمان ، والإيمان لا يكون إلا بالعمل بما أمر الله تعالى، أي العمل على ضوء العلم والنور لا الجهل والظلام، يقول الإمام الصادق سلام الله عليه: [دين الله اسمه الإسلام ، وهو دين الله قبل أن تكونوا حيث كنتم ، وبعد أن تكونوا ، فمن أقر بدين الله فهو مسلم ، ومن عمل بما أمر الله عزّ وجلّ فهو مؤمن.] / أصول الكافي ج2 ص: 38 ح4، وذكر السيد الشيرازي في تفسير هذه الآية: [ ...... فإن طلب الإنسان لأن يجيب إنما بنبع من قلبه و باطنه لِلَّهِ وَ لِلرَّسُولِ، وقد تقدم أن ذكر الرسول تعظيما له ، ولأنه الداعي الذي يراه الإنسان ويقابله إِذا دَعاكُمْ لِما يُحْيِيكُمْ فإن الحياة الكاملة إنما هي بالإيمان، إذ الحياة بمعنى الحس والحركة مرتبة ضعيفة من الحياة، والمرتبة الأعلى بمعنى السعادة الملازمة للعلم والفضيلة والرفاه والأمن والصحة، هذا بالنسبة إلى الدنيا وكذلك بالنسبة إلى الآخرة، ...... ] / تقريب القرآن إلى الأذهان، ج‏2، ص: 314- 315. وذكر الملا فتح الله الكاشاني صاحب تفسير زبدة التفاسير أيضا في تفسير هذه الآيةً: [ثمّ أمر سبحانه عباده بطاعة رسوله، فقال: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَ لِلرَّسُولِ بالطاعة والامتثال إِذا دَعاكُمْ وحّد الضمير فيه لما سبق، ولأنّ دعوة اللّه تسمع من الرسول لِما يُحْيِيكُمْ من العلوم الدينيّة والأحكام الشرعيّة، فإنّها حياة القلب، والجهل موته ، قال:
  ( لا تعجبنّ الجهول حلّته *** فذاك ميت و ثوبه كفن ) ] /زبدة التفاسير، ج‏3، ص: 25.
  إذن الخلاصة في القول إن لاتحديد ولا تقيد في الطعام المعنوي، وذلك لـ:
  1 ـ إن احتياج الإنسان للطعام المادي محدود لمحدودية الحياة، لذا فإن الطعام على قدر الحياة والزيادة ليس لها موجب، بخلاف الحياة المعنوية التي ليس لها حدود تذكر، وعليه فالزيادة مطلوبة .
  2 ـ إن الطبيعة البشرية تقتضي الزيادة في الطعام المعنوي وعدمها في المادي، فالإنسان له قدرة محدودة على استيعاب الطعام إذا زاد عنها انقلب الطعام مضراً في معدته ، لذا فالزيادة غير محمودة فيه، أما في الطعام المعنوي فقابلية استيعابه البشرية مطلقة في حال الحياة وآثارها مستمرة بعد الممات، لذا فالزيادة فيه محمودة .
  هاتان النكتتان هما عمدة نكات المسألة وتعدان من الفروق الجوهرية بين النوعين .
  ثانيا: يشترط في النوعين وجوب كون المصدر صحيحاً لا فاسداً لاستمرار وإدامة الحياتين المادية والمعنوية، وقد عبرت عنه الآيات القرآنية بتقييد الطعام المادي بصفة الحلال الطيب بمعنى صحة المصدر، فيقول جلّّ شأنه: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلالاً طَيِّباً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ} /البقرة:168، ويقول جلت قدرته: {وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلالاً طَيِّباً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ} /المائدة:88، فالحلّية في الآية هي المصدر الذي يترتب عليه الأثر المرجو من وراء وجود الطعام .
  أما في الطعام المعنوي فقال الله تعالى: أن المصدر هو الله سبحانه وتعالى والرسول محمد (صلى الله عليه وآله) وذلك في الآية الآنفة الذكر: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} /لأنفال:24 .
  * إجمال ما تقدم:
  وإجمال ما تقدم إن لفظ الطعام في الآية المباركة: { فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ } فُسرعلى أنه الطعام المادي الذي يحتاجه جسد الإنسان لاستمرار حياته، وكذلك هو الطعام المعنوي الذي تحتاجه الحياة المعنوية، والذي مكن المفسرين من هذا الفهم هو الإطلاق في لفظ الآية، إذ لا يوجد أي تعارض بينهما لاختلافهما في النوع، بل هناك ارتباط ناشئ من احتياج الحياتين له أولا، واشتراكهما في مواصفاته ثانيا ، وقد تناول القرآن الكريم النوعين بمحاور ثلاث اشتركا في بعضها واختلفا في بعضها الآخر وهي: مصدر الطعام، ونحو الاستفادة منه ومقدارها، والنتيجة المترتبة على صحة المصدر ونحو الاستفادة، إذ يشترك النوعان في المصدر والنتيجة ويختلفان في نحو الاستفادة التي قيدت في الطعام المادي ولم تقيد في المعنوي .
  ولأهمية كلا الحياتين وجودا وبقاءً والحياة الثانية استمرارا اعتنى القرآن الكريم بالنوعين وأوغل الحديث في الثاني لتفوقه في الأهمية .

  * أثر الطعام المعنوي ( العلم ) على حياة الإنسان.
  إن الغاية من وراء وجود الطعام هي الأثر المترتب عليه، وإلا فإن وجوده بحد ذاته ليس له أي أثر على الإنسان، وهذا أمر بديهي، وهنا نسأل ما هو أثره على حياة الإنسان ؟.
  الجواب عن هذا السؤال هو:
  إن الإنسان في قيامه بالأعمال المختلفة لإيجادها يحتاج إلى أمرين أساسيين:
  الأول: العلم والفكر الذي ينطلق منه ويؤسس على ضوءه الفعل .
  الثاني: الإرادة التي تجعل معطيات ذلك العلم أو الفكر متحققة على أرض الواقع على أرض الواقع .
  والامتزاج والتفاعل بين هذين الأمرين هو الذي يكون كفيلاً بتحقيق المراد فعليا، وهنا تكمن أهمية الطعام، إذ أن الإرادة مشتركة في الإثنين مهما كان نوعه وطبيعته، والنتيجة تتبع أخس المقدمات كما يقول أهل المنطق، أي أنه لو كان صحيح المصدر ( حلالا ) فالنتيجة تكون إيجابية لتفاعل العلم الصحيح أو الفكر الإيجابي مع الإرادة على الفعل لينتج تحقق الفعل المراد خارجا، وإن كان سقيم المصدر (حراما ) فالنتيجة سلبية لتفاعل العلم السقيم أو الفكر الفاسد مع الإرادة على الفعل لينتج تحقق الفعل المراد خارجا، فالأصل يرجع في هذه المعادلة الواقعية إلى مصدر الطعام الذي يتغذى عليه الإنسان، إن كان سليما وصحيحا أو كان سقيماً وفاسداً، وبهذا البيان تتضح لنا حائق ثلاث :
  1/ علة حصر القرآن الكريم مصدر العلم كطعام معنوي لحياة الإنسان بالله سبحانه وتعالى والنبي صلى الله عليه وآله ومن اتصل به ممن ارتضاهم الله ورسوله أئمة للمسلمين وهم أهل البيت المعصومين (علهم السلام)، إذ أن بهذا الحصر ضمن لنا صحة مصدر الطعام وديمومة الحياة المعنوية مادمنا ننتهل منه {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} /لأنفال:24 .
  2/ علة ذكر القرآن الكريم للمشركين على أنهم نجس في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا} /التوبة:28 على الرغم من أن هؤلاء من جنس البشر (بني آدم) الذين يقول القرآن عنهم: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً} /الإسراء:70، ووصفهم بالنجس خلاف التكريم لهم، فالملاك في أنهم نجس أم لا هو ما يحملونه من علم وفكر قذر ووسخ لم ولن يأتي على البشرية إلا بالويلات والحروب والقتل وسفك الدماء و ………. الخ، وقد استعمل القرآن الكريم كلمة نجس هنا كمصدر، قال فخر الدين الطريحي في مجمع البحرين ج4 ص: 109: (نجس) قوله تعالى: إنما المشركون نجس، حصر أوصاف المشركين في النجس، و النجس مصدر في الأصل، تقول نجس بكسر العين و ينجس بفتحها نجسا بفتحتين فهو نجس بفتح العين و كسرها .
  و في الآية دلالة على أن المشركين أنجاس نجاسة عينية لا حكمية، وهو مذهب أصحابنا، و به قال ابن عباس .
  قال: إن أعيانهم نجسة كالكلاب و الخنازير و روايات أهل البيت و إجماعهم على نجاستهم مشهور، و خالف في ذلك باقي الفقهاء و قالوا معنى كونهم نجسا أنهم لا يغتسلون من الجنابة و لا يجتنبون النجاسات، أو كناية عن خبث اعتقادهم .
  و قال بعض المحققين: وقوع المصدر خبرا عن ذي جثة يمكن أن يكون بتقدير مضاف، و المراد ذو نجس، أو بتأويل المشتق، أو هو باق على المصدرية من غير إضمار و لا تأويل طلبا للمبالغة، فكأنهم تجسموا بالنجاسة، فالكلام مجاز عقلي. قال: و هذا الوجه أولى من الوجهين الأولين كما صرح به محققو علماء .
  إذن كون الإنسان يحمل النجاسة المعنوية ( العلم والفكر السقيم ) وتجسّم بها هو العلة في كونه نجسا لا غير، مما يترتب عليه الأثر الذي ذكرته الآية وهو الطرد والإبعاد والاجتناب لضمان السلامة، وأعتقد في هذا النص الكفاية في بيان المطلوب بيانه في هذه الحقيقة أنقله من دون تعليق :
  [ قال كميل بن زياد: اخذ بيدي أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب‏عليه السلام فأَخرجني إِلى الجبَّان فلما أَصحر تنفس الصعداءَ، ثم قال: يَا كُمَيْلُ بْنَ زِيَادٍ، إِنَّ هذِهِ الْقُلُوبَ أَوْعِيَةٌ، فَخَيْرُهَا أَوْعَاهَا، فَاحْفَظْ عَنِّي مَا أَقُولُ لَكَ:
  النَّاسُ ثَلاَثَةٌ: فَعَالِمٌ رَبَّانِيٌّ، وَ مُتَعَلِّمٌ عَلَى سَبِيلِ نَجَاةٍ، وَ هَمَجٌ رَعَاعٌ أَتْبَاعُ كُلِّ نَاعِقٍ، يَمِيلُونَ مَع كُلِّ رِيحٍ، لَمْ يَسْتَضِيئُوا بِنُورِ الْعِلْمِ وَ لَمْ يَلْجَأُوا إِلَى رُكْنٍ وَثِيقٍ .
  يَا كُمَيْلُ، الْعِلْمُ خَيْرٌ مِنَ الْمَالِ، الْعِلْمُ يَحْرُسُكَ وَ أَنْتَ تَحْرُسُ الْمَالَ. وَالْمَالُ تُنْقِصُهُ النَّفَقَةُ وَالْعِلْمُ يَزْكُو عَلَى الْإِنْفَاقِ، وَ صَنِيعُ الْمَالِ يَزُولُ بِزَوَالِهِ .
  يَا كُمَيْلُ بْنَ زِيَادٍ، مَعْرِفَةُ الْعِلْمِ دِينٌ يُدَانُ بِهِ، بِهِ يَكْسِبُ الْإِنْسَانُ الطَّاعَةَ فِي حَيَاتِهِ وَ جَمِيلَ الْأُحْدُوثَةِ بَعْدَ وَفَاتِهِ، وَ الْعِلْمُ حَاكِمٌ وَ الْمَالُ مَحْكُومٌ عَلَيْهِ .
  يَا كُمَيْلُ، هَلَكَ خُزَّانُ الْأَمْوَالِ وَ هُمْ أَحْيَاءٌ وَ الْعُلَمَاءُ بَاقُونَ مَا بَقِيَ الدَّهْرُ: أَعْيَانُهُمْ مَفْقُودَةٌ، وَ أَمْثَالُهُمْ فِي الْقُلُوبِ مَوْجُودَةٌ هَا إِنَّ هاهُنا لَعِلْماً جَمّاً (وَ أَشَارَ بِيَده الى صدره) لَوْ أَصَبْتُ لَه حَمَلَةً! بَلَى أَصَبْتُ لَقِناً غَيْرَ مَأْمُونٍ عَلَيْهِ، مُسْتَعْمِلاً آلَةَ الدِّينِ لِلدُّنْيَا، وَ مُسْتَظْهِراً بِنَعَمِ اللَّهِ عَلَى عِبَادِهِ، وَ بِحُجَجِهِ عَلَى أَوْلِيَائِهِ؛ أَوْ مُنْقَاداً لِحَمَلَةِ الْحَقِّ، لاَ بَصِيرَةَ لَهُ فِي أَحْنَائِهِ، يَنْقَدِحُ الشَّكُّ فِي قَلْبِهِ لِأَوَّلِ عَارِضٍ مِنْ شُبْهَةٍ. أَلاَ لاَذَا وَ لاَ ذَاكَ! أَوْ مَنْهُوماً بِاللَّذَّةِ سَلِسَ الْقِيَادِ لِلشَّهْوَةِ، أَوْ مُغْرَماً بِالْجَمْعِ وَ الاِدِّخَارِ، لَيْسا مِنْ رُعَاةِ الدِّينِ فِي شَيْ‏ءٍ، أَقْرَبُ شَي‏ءٍ شَبَهاً بِهِمَا الْأَنْعَامُ السَّائِمَةُ! كَذلِكَ يَمُوتُ الْعِلْمُ بِمَوْتِ حَامِلِيهِ. .......... ] / نهج البلاغة، الخطبة مائة وأربعة وأربعون .
  3/ علة الموت المعنوي للمجتمعات وسقوطها الحضاري، فبالخروج عن العلم إلى الجهل وعن القوانين والتشريعات تصبح الحياة تسير عكس ما أريد لها في التخطيط الإلهي الدقيق والحكيم، وبعبارة أخرى سوء في العلاقة مع الله سبحانه ومع الوجود بتفاصيله مما يؤدي إلى ضياع الأهداف، يقول الباري تبارك وتعالى كمثال على اختلال العلاقة مع الله جلّ وعلا ذكره: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا} / سورة محمد:10، وكمثال على سوء التعامل مع الوجود: {ثُمَّ صَدَقْنَاهُمُ الْوَعْدَ فَأَنْجَيْنَاهُمْ وَمَنْ نَشَاءُ وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ} / سورة الأنبياء:9 و {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ} /سورة النحل:112، وكمثال على ضياع الغايات والمقاييس: {فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ}/سورة الحج:45 و {وَكَأَيِّنْ مَنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُهَا وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ} /سورة الحج:48.

  * الطعام المعنوي وواقع الإنسان بين الماضي والحاضر .
  وبعد ما ذكرنا يتبين أن التاريخ الذي تصنعه المواقف الإنسانية ترجع تقلباته بين السلب والإيجاب إلى نوع الطعام المعنوي الذي تغذى عليه هذا الإنسان أو ذاك، وأن الانحرافات التي تحدث في أي أمة إنما تبدأ كنتيجة لإدام معنوي فاسد ومسموم تغذى عليه أفرادها، إذ لم يعتنى بمصدره، فكانت النتائج كما يقول أهل المنطق تتبع أخس المقدمات، وعليه لا غرابة في عدم فهم الغير وانجذابه لنا إذ لم نظهر الجانب المشرق فينا ، وما نراه اليوم من سقوط للإنسانية إنما هو نتيجة للتوارث الحضاري والثقافي المسموم بين الأجيال في أممها وخصوصا الأمة الإسلامية التي يعد توارثها اليوم في أغلب حالاته توارثاً سلبياً، وما الحرب التي يشنها البعض من هذه الأمة على غيرهم وعلى البعض الآخر منهم (الطائفية) إلا دليلاً دامغا على سلبيتها، فهذه المسألة (سلامة الطعام المعنوي ونوعه) هي العلة في السقوط الحضاري للأمم في أي زمان كانت أو مكان .

  * طريق الحل.
  ولأجل أن تحل هذه الأزمة الحقيقية وتعود الإنسانية إلى مكانتها الحضارية المرموقة، فتكون السعادة حليفها الذي لا يفارقها أبداً لابد لها من تصحيح المسار بالعودة إلى منابع علمها وفكرها الأصيل، في خطوة لتغذية أفرادها التغذية الصحيحة التي تظهر جانبها المشرق الخلاق وتعديل مسارها المنحرف، والمنابع الأصيلة التي يجب أن تعود إليها هي المصادر المعصومة التي تخلو من الأخطاء والشبهات، أو بعبارة أخرى الكتب السماوية التي جاء بها الأنبياء (عليهم السلام) والتي لم تحرّف وثبت وحيانيتها – أي أنها صادرة من الله تعالى-، وهنا لابد من بيان أمر مهم هو :
  إن المصدر العلمي والفكري الأصيل فيه نظريتان: الأولى تقول بانحصاره بالكتب الإلهية، وما الأنبياء إلا مبلغين في هذا الطريق، أي أنهم في طول ذلك لا في عرضه، وهذه النظرية هي النظرية الدينية .
  وأما النظرية الثانية فهي النظرية الإنسانية بشقيها، الأول وهو الذي أعطى لنفسه حق التشريع بدل الله سبحانه وتعالى، والثاني الذي أدخل التعديلات على النظرية الإلهية ومزج بينها وبين الشق الأول من هذه النظرية (الأرضية).
  وعليه فإن المصدر الأصيل للمادة الغذائية الإنسانية أوحدي في النظرية الإلهية وثنوي في النظرية الأرضية في أغلب الأحيان، وللأسف الشديد أن المنبع الذي يؤخذ منه اليوم المادة الأولية للطعام الإنساني هو الثنوي، لذا نرى فيه جانباً مشرقاً وآخر مظلماً ، ووجداناً نجزم عن علم أن ما كان منه مشرقاً يعود للشق الإلهي فيه لدقته وعصمته ، والمصدر الأصيل الذي لا بد من العودة إليه اليوم بحسب النظرية الإلهية هو القرآن الكريم فقط ولا غير، وذلك لقوله تعالى: {إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللّهِ الإِسْلاَمُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوْتُواْ الْكِتَابَ إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَمَن يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللّهِ فَإِنَّ اللّهِ سَرِيعُ الْحِسَابِ} / آل عمران:19، فهو ناسخ الديانات وعلى الجميع الرجوع إليه، وجملة الكلام هذه مؤيدة بما جاء في كتب الأديان الأخرى، إذ الخلاف ليس في أنه دين سماوي أم لا ، بل في أنه ناسخ لبقية الديانات أم لا .
  أسأل الله سبحانه أن يجعلنا من المنتهلين من منهله والرافعين لرايته على خطى نبية وأوصيائه عليهم السلام إنه سميع الدعاء .

Copyright © 2018 bascity Network, All rights reserved
                   BASRAHCITY.NET