الوحدة بينها ، ولا يتحقّق هذا اللحاظ إلاّ بتجريد المتباينات عن الخصوصيات ، وتعريتها عن المشخّصات ، فيرجع الكثرة إلى الوحدة ، ولا تبقى بهذا اللحاظ أجزاء بالمرة ، فحينئذ فإن دلّ اللفظ على الجزء بتميز عن الجزء الآخر ، وكان ذلك خلاف مفهوم الكلّ ، فلا جزء إلاّ مندمجا للكلّ لا تشخّص له غير تشخص الكلّ ، ولا صورة له غير صورته ، فهو عين الكلّ ، فدلالته عليه عين دلالته على الكلّ.
نعم للعقل أن يلاحظ الكلّ ثانيا ، ويحلّله إلى أجزائه ، ويلاحظ دلالة اللفظ على كلّ واحد منها ، ولكن هذا بالالتزام أشبه منه بالتضمّن ، هذا ملخّص كلامه طاب ثراه.
ولقائل يقول : إنّ هذا القسم من الالتزام سمّاه القوم تضمّنا ، فهو أمر اصطلاحيّ لا مشاحة فيه ، ولا أهمية له في هذا المقام وإن كان نفسيا في نفسه ، نافعا في مسألة وجوب الأجزاء ، كما يأتي إن شاء الله ، وإنّما المهم صرف عنان الفكر إلى أصل دلالة جميع الأفعال على الزمان بأيّ نحو كانت ، بحيث تكون مقوّمة لمعنى الأفعال مطلقا ، وفارقة بينها وبين الأسماء ، كما ذكره النحاة ، مع ما نرى بالوجدان عدم دلالة الأمر عليه مطلقا ، فضلا عن خصوص الزمان الحاضر ، كما ذكره الصرفيّون.
نعم هو زمان لوقوع الإنشاء ، كما هو زمان لوقوع الإخبار أيضا ، وكذا الكلام في النهي أيضا.
نعم دلالة الماضي على وجود المبدأ على نحو المضي ، ودلالة المضارع على نحو الوجود الاستقبالي مما لا ينبغي أن يشكّ فيه ، ولا أظن أحدا يصحّح قول القائل : ضرب زيد غدا ، ويضرب زيد أمس.
نعم في كون هذا النحو من التقييد تقييدا بالزمان تأمّل ، فكأنّه غير التقييد به أصلا وإن كان لازما له ، ولهذا يصح قولك : مضى الزمان الماضي ، ويأتي
وقاية الاذهان
_ 162 _
الزمان المستقبل.
ومن رام إنكار دلالة جميع الأفعال على الزمان حتى الماضي والمضارع ولو بهذا المعنى فهو إنكار لصريح الوجدان ، وإلاّ فله وجه ، بل هو الوجه.
وقد تمسّك بعض من عاصرناه من الشيوخ (1) على نفي دلالة الفعل على الزمان بأنّ الفعل ليس إلاّ مادّة وهيئة
، والمادّة تدلّ على الحدث ، والهيئة على النسبة ، فأين الدالّ على الزمان ؟
وجوابها يظهر ممّا تقدّم من إفادات السيد الأستاذ أعلى الله رتبته.
الثاني من المقامين : في المشتقات الاسمية ، فنقول : معنى المشتق مفهوم بسيط منتزع عن الذات بلحاظ تلبّسه بشيء من الصفات ، فيكون المفهوم عنوانا للذات بعنوان بعض صفاته.
وقال بعضهم : إنّ معناه ذات ثبت له المبدأ كالضرب مثلا في ( ضارب ) فإن أراد ـ على بعد ـ بيان منشأ الانتزاع وما يعتبر فيه فلا كلام فيه ، وإن أراد أنه معنى اللفظ فيرد عليه أنّ هذه ألفاظ متعدّدة ، لها معان متعدّدة مرتبطة ، ولا شك أنّ المشتق دالّ واحد على معنى واحد ، وهذا من الوضوح ممّا لا يرتاب فيه أحد.
والقائل بالتركيب في معناه لا يريد به هذا المعنى ، وإنّما يريد به كونه ذا أجزاء ، وأنّه قابل للتحليل إليها.
وفي مقابل هذا القول ، أنه بسيط لا يقبل الانحلال وإن كان منشؤه ذا أجزاء فعليّة ، اللهم إلاّ باللحاظ الثانوي الّذي هو حقيقة غير معنى المشتق ، فانه لا يضرّ بالبساطة ، كما تقدمت الإشارة إليه ، وستأتي تتمة بيانه ، كما قلنا مثله في مأخوذية المبدأ في المشتقات أنّ مثله لا يضرّ بالبساطة.
هذا ، والحقّ هو الثاني ، والّذي دعا القائل بالتركيب إلى القول به ، إن كان
--------------------
(1) الشيخ هادي الطهراني أعلى الله تعالى مقامه ( مجد الدين )
وقاية الاذهان
_ 163 _
عدم تصوّره انتزاع البسيط من المركّب ، وزعمه عدم إمكان ذلك ، كما هو الظاهر ، فعلينا بيان إمكانه ، وإن
كان نزاعه في مقام الإثبات فبيننا وبينه التبادر ، ويأتي بيانه قريبا إن شاء الله.
ونقول في تقريب إمكان الانتزاع المذكور : إنّ للعقل أن ينتزع من عدّة أمور مقيّد بعضها ببعض ، مفهوما بسيطا لا تركيب فيه أصلا ، ألا ترى أنّ المفهوم من لفظ ( الحجر ) معنى بسيط ، مع أنه منتزع من ذات ثبت له الأبعاد الثلاثة ، أو أمكن أن تتقاطع فيه ثلاثة خطوط على زوايا قائمة صلب لا نموّ له أصلا ولا نطق ، وهكذا معاني سائر الألفاظ.
وبالجملة فالمفاهيم المنتزعة بإزاء الأنواع الذاتيّة بناء على كونها أجناسا لما تحتها ليس اختلافها إلاّ باعتبار الخصوصيّات المتبادلة ، أي الفصول المقوّمة ، مثلا : الفرق بين النبات والحيوان ليس إلاّ أنّ مفهوم الأول منتزع من جسم ذي نموّ بلا إرادة ، والثاني من جسم نام مع الإرادة ، وهكذا ، ولو كان مثل ذلك موجبا للتركيب لانحصرت البسائط في المختلفات بتمام الحقيقة كالجوهر والكمّ مثلا ، ويكون تمام الأجناس الداخلة تحت الأجناس العالية مركّبات مفهوما ، وهذا ممّا لا يلتزم به أحد.
فإذا جاز ذلك في سائر المفاهيم جاز في المشتق أيضا ، بل الجواز فيه أولى لأنه منتزع من صرف التلبّس بأحد
المبادئ ، بخلاف المفاهيم فإنها تنتزع من عدّة أمور.
ثم نقول في مقام الإثبات : إنّ مفهوم المشتق مطابق لأوّل ما ينطبع في مرآة الذهن من ملاحظة المبدأ المعنون
بأحد العناوين ، وتلتفت إليه النّفس ، ولا شك أنّه معنى بسيط ، فمن نظر إلى النجم لا يرى في بدء النّظر جسما ونورا مرتبطين ، ولا شيئا ثالثا مركّبا ، بل يرى جسما معنونا بعنوان النورانيّة ، وكذلك من رأي فرسا راكضا لا يرى إلاّ الفرس المعنون بعنوان الركض ، لا فرسا وركضا ، ولا
وقاية الاذهان
_ 164 _
ثالثا مركّبا منهما.
وقس عليهما الضارب ، والمضروب ، وسائر المشتقات ، وإذا فعلت ذلك وأنصفت عرفت أنّ مفاد المشتق ليس
إلاّ الذات ، محدودة بتلك الحدود ، ومعنونا بتلك العناوين ، ولا فرق بين هذه المفاهيم وبين مفهوم الحجر ، وسائر مفاهيم الذوات ، إلاّ أنك تفهم من لفظ الحجر العنوان المنتزع من الذات بما هو ذات ، ومن المشتقات بما هو متصف بصفة معيّنة ، ومحدود بحدود معلومة ، ومجرّد ذلك لا يوجب بساطة مفهوم الأول وتركّب الثاني ، إذ لا فرق بينهما في ناحية المعنى أصلا ، وإنّما هو في اللفظ فقط.
وإذا عرفت ذلك ظهر لك الفرق بين المشتق ومبدئه ، إذ هذا المعنى الأوّلي البسيط هو معنى المشتق ، وللعقل بعد
ذلك أن يجرّد المبدأ عن الذات ويفكّكه ، كما تجرّد الصور عن موادّها ، والأجناس عن فصولها ، وينسبه إلى الذات ، وهذا الملحوظ بالنظر التحليلي الثانوي هو معنى المبدأ.
وقد اتّضح من ذلك مراد بعض أهل المعقول ، حيث قال : إنّ الفرق بين المشتقّ ومبدئه كالفرق بين العرضي
والعرض ، وجعلهما متّحدا في الذات ، وجعل الفرق بينهما بالاعتبار ، فإن أخذ لا بشرط كان عرضيّا ، فيصحّ حمله على الذات ، كما أنّ الجزء الصوري أو المادي إن أخذا لا بشرط كانا جنسا أو فصلا ، وصحّ حملهما على الذات ، وإن أخذا بشرط لا كانا المعبّر عنهما بالصورة والهيولى ، فإنّ مراده من لا بشرط ، ملاحظة المعنى من دون ضمّ شيء آخر معه وجودا ولا عدما ، ومعلوم أنّ المبدأ بهذا الوجه لا يكون إلاّ مندكّا في الذات ، متّحدا في
اللحاظ لا يمتاز عنه ، لما عرفت أنّ ملاحظة المبدأ في ذاته بذاته يحتاج إلى عناية زائدة من ملاحظة تجرّده وتفكيكه ، إذ لا وجود له في الخارج مستقلا ، بل هو موجود مندكّا في الغير ، مندمجا فيه ، وغير ملحوظ إلاّ بصفة أنّه حدّ لموجود ، وما أشبهه من هذه الجهة بجملة من الأعراض ، فإنّ من نظر إلى مربّع لا يرى إلاّ جسما بصفة
وقاية الاذهان
_ 165 _
التربيع ، ولكن العقل يفكّكه في النّظر الثانوي ، ويفرّق بين الحدّ والمحدود.
وتبيّن من جميع ما ذكرنا ، أن المبدأ بشرط لا ، والمشتق لا بشرط ، وأنّ المصحّح لحمله على الذات ملاحظته لا
بشرط ، لأنه إذا لوحظ هكذا ـ على ما عرفت ـ اتحد مع الذات ، وصحّ حمله عليها ، دون ما إذا لو حظ بشرط لا فإنه مباين معها ، ولا يكاد يتصور حمله عليها.
والسرّ فيه أنه إذا لوحظ الوصف فمجرّد عدم اعتبار عدم الذات يكفي في كونه عنوانا للذات ، ومتحدا معه بالاعتبار.
ثم إن صاحب الفصول ـ طاب ثراه ـ جعل مفاد المشتق باعتبار الهيئة مفاد ( ذو ) وحكم بعدم الفرق بين قولنا : ذو بياض ، وذو مال ، ثم قال : ( فالفرق بين المشتق ومبدئه هو الفرق بين ذي الشيء والشيء ) (1) انتهى.
ولو كان معنى الهيئة معنى ( ذو ) فلا شك أنّ مفاد ( ذو ) مفاد ( صاحب ) ، فكانت هيئته أيضا مرادفا له ، وكذلك إلى أن يتسلسل.
ويرد نظير هذا على القائل بأنّ المشتق ذات ثبت له المبدأ ، لأن المصحّح لحمل المبدأ على الذات لو كان معنى مصدريّا كالثبوت وأمثاله لاحتاج ذلك المعنى إلى معنى مصدريّ آخر ، يتسلسل أيضا.
فالتحقيق ما عرفت من أن معنى المشتق مفهوم بسيط منتزع من الذات ، بلحاظ تلبّسه بشيء من الأعراض ، سواء وضع له لفظ من المشتقات كضارب ، أم لم يوضع له كالحجر ونحوه ، انتهى ملخّص مرامه ، زاد الله في علوّ مقامه.
أقول : ما يذهب إليه السيد الأستاذ في معنى المشتق ، هو الّذي ذهب إليه صاحب الفصول بعينه ، فإنه قال في
آخر كلامه ما لفظه : ( فمدلول المشتق أمر
--------------------
(1) الفصول الغرويّة : 62.
وقاية الاذهان
_ 166 _
اعتباري منتزع من الذات بملاحظة قيام المبدأ بها ) (1).
وهذا الكلام كما تراه صريح فيما أفاده الأستاذ فينبغي التأمل في مراده من الكلام السابق ، وفي وجه الجمع بينه
وبين ما ذكره أخيرا.
وظنّي أنه رحمه الله لا يريد ترادف الهيئة مع لفظ ( ذو ) ، فإنه يبعد صدوره عن صغار المحصّلين فكيف عن
محقّق مثله ، وإنما يريد به بيان أنّ مفاد المشتق ليس عين المبدأ ولو باعتبار اللاّبشرطية ، كما يوهمه ظاهر كلام بعض أهل المعقول ، وإنما معناه انتساب المبدأ بالذات وقيامه بها باعتبار الانتساب ، ولهذا لم يقل : إنه مرادف لـ ( ذو ) ، ولا انّ معناه معنى ( ذو ) ، بل قال : مفاده أي حاصله ومآله ، وبيان تلك النسبة الحرفية الربطية التي هي معنى الهيئة لا يمكن بأحسن من هذا البيان.
وإذا نظرت إلى مجموع كلامه ، وجمعت بين جميع أطرافه ، علمت أنه لا يريد بما أفاده إلاّ أنّ مجرد أخذ المبدأ لا بشرط لا يجوّز حمل الذات عليه ، بل لا بدّ فيه من اعتبار الوحدة كما في قولك : الإنسان جسم ، ولا يمكن ذلك في قولك : زيد عالم ، أو متحرك ، لأنه لا يراد بـ ( زيد ) المركّب من الذات ، وصفة العلم أو الحركة ، وهذا بحث آخر غير البحث عن مفهوم المشتق ، بل هو بحث في بيان شرائط الحمل فيه ، كما هو صريح قوله : ( إن حمل أحد المتغايرين لا يصح إلاّ بشروط ثلاثة ) (2) فراجع.
الرابع : إطلاق المشتق على الذات المتصفة بمبدئه في الحال حقيقة اتفاقا ، كما أنّ إطلاقه على ما يتصف به في
الاستقبال مجاز اتفاقا ، وفي إطلاقه على ما
اتّصف به في الماضي ، أقوال ، كذا في الفصول (1).
ولم يظهر لي وجه حسن للفرق بين الماضي والاستقبال مع اتحادهما في المناط ، وما أدري ما الّذي يمنع القائل بأن زيدا ضارب حقيقة وقد ضرب أمس ، أن يقول بها إذا علم أنه سيضرب غدا.
ثم عدّ أقوالا كثيرة ستعرف أكثرها ، مع السبب الّذي دعا أربابها إليها ، إذا عرّفناك بالحقّ منها.
ثم إنه رحمه الله بعد ما جزم بعدم شمول النزاع للأفعال والمصادر المزيدة ، نقل الخلاف في أنّ النزاع هل يعمّ جميع المشتقات ، أو يختص باسم الفاعل وما في معناه ؟ وعدّ فيها أقوالا كثيرة (2).
أقول : أما خروج الأفعال عن حريم النزاع فواضح ، لدلالتها على الزمان كما سبق ، وأما غيرها فلا أعرف ـ أيضا ـ وجها وجيها للفرق بين كثير من صنوف المشتقات بعد اشتراكها في المناط.
وبالجملة فالحقّ أنها حقيقة في المتلبس به في طرف الحمل وزمان النسبة كما في الجوامد في العناوين المنتزعة
من الذات بما هي ذات ، فكما أنّ الحجر لا يصدق على ما كان حجرا سابقا ، والنطفة على من هو إنسان فعلا ، فكذلك الضارب ونحوه ، إذ لا فرق بين الجوامد وبين المشتقات من هذه الجهة ، وهذا لوضوحه غني عن إطالة البيان.
ومع ذلك يرد على من يجعله حقيقة فيما انقضى عنه المبدأ ، أن يكون المشتق مشتركا بين الحال والاستقبال ،
فيلزم أن يتوقف بينهما إذا ورد اللفظ مجرّدا عن القرينة ، ويحتاج في التعيين إلى القرينة ، والوجدان يدل على خلافه إلاّ أن
يتمسّك الخصم بالتبادر الإطلاقي ، نظرا إلى كثرة استعماله في الحال ، وهو ممنوع.
هذا ، على أنّ لازم مذهبه أن يصحّ قول القائل : زيد ضارب فعلا في المستقبل ، وهذا لوضوحه لا ينبغي أن
يكون محطّا لأنظار العلماء ، نعم اختلاف قيام المبادئ بالهيئات تختلف من حيث كونها فعلا ، أو قوة ، أو ملكة ، أو صنعة ، فلو أخذت من حيث القوة والملكة لزم وجودهما فعلا ، ففي قولك : هذا النبت سمّ ، أو هذا السيف قاطع ، ليس المراد من المادة إلاّ القوة والملكة ، ويلزم بقاؤهما فعلا ، وكذلك قولك : زيد شاعر ، أي صنعته الشعر ، فيلزم كونه صناعته فعلا.
ومن هنا يظهر أنّ الحكم المترتب على الشجرة المثمرة ونحوه لا ينبغي أن يعدّ من ثمرات هذه المسألة ، لأنّ
مبنى الشك ومنشئه هو أنّ الموضوع للحكم هل هو قوة للأثمار في مقابل الشجرة اليابسة أو وجود الثمرة فعلا ؟ وأيّهما كان فاللازم وجوده فعلا ، وتعيين أحدهما ليس من وظيفة مسألة المشتق ، بل هو شأن الأدلة الدالة على أصل الحكم.
وليعلم أنّ المشتق كثيرا مّا يلاحظ عنوانا للذات ، ومعرّفا لها كالقاتل والسارق والمحدود ونحو ذلك ، حتى أنه قد
يقوم مقام النعت والصفة إذا كان من الأفعال العظيمة كقالع الباب ، وفاتح البلد ، وحينئذ يكفي في صدق اللفظ اتصافها به ولو في غير زمان التلبّس.
ومن الخلط بين هذين القسمين نشأ كثير من الأقوال التي تجدها مفصّلة في الفصول وغيره ، حيث إنّ صاحب كل قول نظر إلى عدّة استعمالات اعتبر فيها المشتق عنوانا للذات ، فقاده ذلك إلى القول بعدم اشتراط التلبس في الحال فيما هو من قبيلها ، فلا بدّ في تعيين ذلك إلى ملاحظة المتعارف في المحاورات ، وخصوصيات المقامات ، ومناسبات الأحكام مع الموضوعات ، فربّما حصل القطع بأحد الوجهين ، كما لو قال : أو لم على باني المساجد ومعمّري المشاهد ، وربما بقي الأمر على الشك كما في الماء المسخّن بالشمس ، الّذي حكموا بكراهة
التوضّؤ به.
وقاية الاذهان
_ 169 _
وقد احتمل العلاّمة ـ الجدّ ـ البناء حينئذ على الوجه الأول ، نظرا إلى أنه قضيّة ظاهر اللفظ ، ولأصالة عدم تعلّق
الحكم بما عدا ذلك (1) ، وفي كلا الوجهين نظر.
وفيه مطالب :
الأول : اللفظ الدال على الطلب إمّا أن يكون دالاّ عليه بمادّته ، أي تكون المادة موضوعة له نحو : آمر وأريد وأطلب ، أو بهيئته كافعل ، أو بوضعه الابتدائي كـ ( صه ) ونحوه من أسماء الأفعال.
ومن خصائص القسم الأول أنه لا بد أن تكون دلالته على الطلب بلفظ الإخبار ، وأن يذكر بعده المطلوب نحو آمر بكذا ، وأريد كذا ، ولا تتعلق به الهيئة إلاّ إذا كان الطلب هو المطلوب نحو مر زيدا بكذا ، وهذا موضوع البحث الآتي من أنّ الأمر بالأمر هل هو أمر به أم لا ؟
والظاهر أنّ العلوّ مأخوذ في خصوص لفظ الأمر لغة ، فلا يقال : إنّ الفقير أمر بإعطاء الكسرة من الخبز ، بل يقال : سألها.
نعم لا يعتبر فيه العلوّ الحقيقي ، بل يكفي الادّعائي منه ، فمن اعتبر الاستعلاء في الأمر مقتصرا عليه ـ كما هو المنسوب إلى أكثر العلماء الأصوليّين من العامة والخاصة ـ إن أراد به ما ذكرنا من كفاية العلوّ ادّعاء فهو حقّ ، وإلاّ فلا وجه له ، بل يردّه ما ذكره ـ الجدّ ـ العلاّمة في الهداية من إطلاق الأمر حقيقة على الأوامر الصادرة من الأمير إلى الرعية ، والسيّد إلى العبد وإن كان المتكلّم غافلا عن علوّه حين الخطاب (2).
ومنه يظهر وجه التأمل فيمن جمع بين اعتبارهما معا كما ذهب إليه بعض المتأخرين ، وحكاه عن جماعة ، والظاهر أن ألفاظ هذا القسم ولا سيّما لفظ الأمر منها لها ظهور قوي في الوجوب ، حتى أنّ كثيرا من القائلين باشتراك الصيغة بين الوجوب والندب يقولون باختصاص لفظ الأمر بالوجوب ، والدليل عليه الفهم العرفي لا بعض الاستعمالات الواردة في الكتاب والسنة ، كما استدلّ به في الفصول (1) ، وتبعه فيه بعض الأساتيذ ، لوجوه شتّى لا يخفى شيء منها على المتأمّل ، كما اعترف ببعضه.
وأما القسم الثاني فهو الّذي يسمّى في اصطلاح الأصوليين بصيغة الأمر ، وهذا مراد من جعل العنوان صيغة افعل ، وما في معناها ، ولعلّه عدل عنه لئلا يوهم أنّ المراد لفظ الأمر ، كما ذكره في الفصول ، وأورد عليه بأنه يتناول ما دلّ على معناه ولو مجازا ، وهو خارج عن المبحث قطعا (2).
ولم يظهر لي وجه خروج ذلك عن المبحث ، فضلا عن القطع به ، إذ البحث في مدلول الهيئة ، والهيئة في مثل قولك : اقتله. أي اضربه ضربا موجعا ، مستعملة في معناها الحقيقي ، ولا مجاز فيه إن قلنا به إلاّ في المادة ، وهو إرادة الضرب من القتل ، ومثل هذا داخل في محل النزاع قطعا.
اللهم إلاّ أن يريد به الجمل الإخباريّة المستعملة في الإنشاء ، فإن كانت خارجة عن مورد النزاع فهي أيضا خارجة عن معنى افعل.
وأما القسم الثالث فقد جزم في الفصول بخروجه من محل النزاع لفظا وإن دخل فيه معنى (3).
أقول : وهذا حسن لو كان الكلام في مدلول هيئة المشتقات ، كما هو ظاهر
كثير من العناوين ، ولكن سوف تعلم أنّ النزاع في مطلق الألفاظ الدالّة على الطلب.
وأما صيغة الأمر فلا ينبغي الإشكال في كونها موضوعة لمطلق الطلب ، كما أنه لا ينبغي الإشكال في أنّ الطلب
المجرّد عن القرينة يحمل على الوجوب بالمعنى الّذي ستعرفه.
وهل ذلك لظهور اللفظ فيه وانصرافه إليه عند الإطلاق للأكملية ، كما ذكره ـ الجدّ ـ العلامة في الهداية (1) ، أو لغيرها من أسباب الانصراف ، أو أنّ الطلب بنفسه موجب لتمامية الحجة من طرف الآمر وانقطاع العذر من المأمور ، إلاّ أن يأذن الآمر في الترك ؟ وجهان.
هذا ، ومن الغريب ما تكلّفه جمع من المتقدمين ، وحاوله بعض المتأخرين من إقامة القرائن العامة على الوجوب في خصوص الأوامر الشرعية ، مع أنه لا فرق بين أوامر الشارع ، وبين أوامر غيره من هذه الجهة قطعا ، بل ولا فرق بين مطلق الأمر وبين غيره من أقسام الطلب ، كالسؤال ونحوه ، ولنا أن نبيّن الوجه في حمل الصيغة المجردة على الوجوب العيني التعييني بعينه ، كما لا يخفى على المتأمل.
واعلم أنّ الصيغة قد تستعمل للتهديد والتعجيز ونحوهما ، فيظن أنّها مستعملة فيها ، وأنها خرجت بذلك عن معناها الأصلي ، وليس كذلك ، بل هي مستعملة في الطلب لكن لا بداعي الطلب بل بتلك الدواعي ، بل تلك الدواعي لا تتحقق إلاّ بإنشاء الطلب حقيقة ، كما تستعمل الهمزة في الاستفهام لكن بغير داعي الاستفهام ، وليست حينئذ خارجة عن معناها كما زعم صاحب مغني
--------------------
(1) هداية المسترشدين : 136.
وقاية الاذهان
_ 172 _
اللبيب ، فقال : قد تخرج الهمزة عن معناها الحقيقي فترد لثمانية أمور (1) وقد سبق الكلام فيه في بحث
الاستعمال.
أحسنهما (2) : الثاني ، كما اختاره بعض مشايخنا.
وأقوى أدلة القائلين بوضع الصيغة للوجوب وهو التبادر ، لا يدلّ على أزيد من استحقاق تارك الامتثال الذمّ والعقاب بمجرد الترك ، ولا يدلّ على أنه لظهور اللفظ في الوجوب ، بل التأمل الصحيح يشهد بأن العقلاء لا يسندون الذم على المخالفة إلى ظهور اللفظ في الوجوب ، فضلا عن كونه معناه ، بل يسندونه إلى مخالفة الطلب ولو لم يكن بصيغة الأمر ، ويرون الطلب بنفسه مقتضيا للامتثال ، ولا يكترثون باعتذار المأمور بأن الطلب له فردان ، ولم أعلم بأنّ المراد من الطلب هو الفرد الإلزاميّ.
لا يقال : إنّ اللازم من هذا البيان الحكم بالوجوب فيما ثبت فيه الطلب بالدليل اللّبي ، مع أنه لا يحمل عليه إجماعا ، ولا شك أنه مورد أصالة البراءة.
لأنا نقول : إن كان مفاد الدليل اللبي صدور اللفظ الدال على الطلب وشبه اللفظ فإنّا لا نلتزم بجريان البراءة ، بل
نقول باتحاد الحال فيه مع غيره ، ولا نرى فرقا بين أسباب العلم بالطلب وإن كان مفاده صرف الرجحان والمحبوبية ، فمثله لا يوجب الإلزام ولو بسماعه من شفتي الآمر ، بل ليس هذا بأمر حقيقة كما سيتضح لك ذلك بما نبيّنه من معنى الطلب.
( المطلب الثاني ) : في بيان معاني بعض الألفاظ المستعملة في هذه المباحث كالوجوب والندب.
قد يقال : إن الوجوب أو الإيجاب هو طلب الفعل مع المنع من الترك ، والندب طلب الفعل مع عدم المنع عنه ،
وعلى هذا فالفصل في حدّ الوجوب
--------------------
(1) مغني اللبيب 1 : 24.
(2) أي : أحسن الوجهين الذين سبق ذكرهما آنفا.
وقاية الاذهان
_ 173 _
وجودي ، وفي الندب عدميّ ، وليس هذا أولى من العكس ، بأن يقال : إن الوجوب طلب الفعل مع عدم الإذن في
الترك ، والندب طلبه مع الإذن في تركه ، وقد يجعل الفصل في الحدّين وجوديّا ، فيؤخذ المنع في حدّ الأول ، والإذن في حدّ الثاني.
ويرد على التقريرين معا أنّ الطبع السليم يشهد ببساطة مفهومي الوجوب والندب ، وظاهر هذين التقريرين
تركيبهما.
وأيضا لا يعقل طلب الفعل مع عدم المنع من الترك مطلقا ، بل هما مثل كفّتي الميزان ، فبأي مرتبة فرض
رجحان الفعل وطلبه كان الترك مرجوحا وممنوعا بتلك المرتبة بعينها ، وحسبك شاهدا عليه حكم الوجدان بعدم الفرق عند اللبّ بين قولك : افعل. وبين قولك : لا تترك.
وبالجملة لا يعقل طلب الفعل مع عدم تحقق المنع عن الترك أصلا ، ولا رجحانه مع عدم مرجوحية تركه أصلا ، فهما متلازمان ، بل هما عبارتان عن معنى واحد ، إلاّ أن يراد بالمنع مرتبة خاصة منه ، وتلك المرتبة غير بيّنة ولا مبيّنة في الحدّين.
وقد يقال : إنّ الواجب ما اشتمل فعله على المصلحة وتركه على المفسدة ، والمندوب ما اشتمل فعله على المصلحة فقط من غير مفسدة في تركه.
ويرد عليه أنّ الوجدان يشهد بأنّ تأكد المصلحة كثيرا ما يوجب إيجاب الفعل من غير أن تكون في الترك مفسدة أو محذور أصلا سوى فوت المصلحة ، وبأنه كثيرا ما يوجد في ترك المندوب مرتبة من مراتب المفسدة.
وقد يقال : إنّ الواجب ما يستحق فاعله الثواب ، وتاركه العقاب ، والمندوب ما استحق فاعله الثواب فقط ، وبين هذا القول وبين ما ترومه من بيان حقيقة هذين مراحل كثيرة.
وذهب بعض مشايخنا إلى أن الواجب ما وعد الشارع على فعله ، وأوعد على تركه ، والمستحب ما وعد على فعله فقط ، وهذا مبني على ما يذهب إليه من
وقاية الاذهان
_ 174 _
إنكار حكم العقل باستحقاق العاصي العقوبة ، بل قبح عقاب العاصي ، إلاّ بعد جعل الوعيد دفعا للأفسد بالفاسد ، وله بيان مسهب ليس هنا موضع ذكره ، ولعلّنا نذكره في بعض المباحث الآتية.
ويكفينا هنا أن نقول على هذا وعلى ما قبله : إنّ الفرق بين الطلب الإلزاميّ وبين غيره ما نشاهده في طلب غير القادر على العقاب ، بل وغير من تجب طاعته ، حتى انّا نرى هذا الفرق بين مسمّى طلب الملتمس ، والسائل ، ونحن نعلم بعدم الفرق في حقيقة الطلب باختلاف الطالبين ، وليس كلامنا إلاّ معرفة الحقيقة لا اللفظ.
ولعلّك لا تجد في الفرق بين قسمي الطلب عبارة أوضح ولا أصح ممّا كان يذكره السيد الأستاذ طاب ثراه من أن الواجب ـ وإن شئت قلت ـ إن الطلب الإلزاميّ ما لم يوطّن الطالب نفسه على عدم وقوعه ، وغير الإلزاميّ ما وطّن نفسه عليه.
وهذا التفسير وإن كان لا يناسب الأوامر الشرعية إلاّ أنك بعد معرفة حقيقة المراد منه ، يسهل لك التعبير عنه بما يناسب ذلك المقام الرفيع ، كما قال : ( فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلا يَرْضى لِعِبادِهِ الْكُفْرَ ) (1) فإنه أحسن عبارة في حقّه تعالى ، والله العالم.
والكلام فيهما يقع في مقامين : أولهما في حقيقة الإرادة ، وأقسامها ، وسائر ما يتعلق بها ، وثانيهما في نسبتها إلى الطلب ، وأنها هل هي عينه أو غيره ؟
المقام الأول : اختلفوا في حقيقة الإرادة على أقوال ثلاثة : الأول : إنها
--------------------
(1) الزمر : 7.
وقاية الاذهان
_ 175 _
الاعتقاد بالنفع مطلقا.
والثاني : أنها صفة نفسانية مطلقا ، وهذا القول منسوب إلى الأشاعرة.
والثالث : التفصيل بين إرادة الله سبحانه وبين إرادة غيره ، فالأولى هي الاعتقاد بالنفع ، والثانية صفة نفسانية غير الاعتقاد.
وقد جرى الاصطلاح على التعبير عن إرادة الله سبحانه بالعلم بالأصلح ، وعن إرادة غيره باعتقاد النّفع.
والوجه في العدول عن لفظ الاعتقاد إلى لفظ العلم واضح لأن الاعتقاد قد يخالف الواقع وهو مستحيل في حقه سبحانه ، بخلاف غيره.
والعدول عن لفظ النّفع إلى لفظ الأصلح ، فقد بيّنه بعض مشايخنا بما لا يخلو عن نظر ، بل منع ، ولعلّ في لفظ النّفع ظهورا مّا في الاحتياج والاستكمال المستحيلين في حقّه سبحانه ، فكان التعبير بالصلاح أقرب إلى التأدّب.
وكذلك الوجه في التعبير بصيغة التفضيل فقد بيّنه الأستاذ المذكور بما لا يخلو عن نظر أيضا ، والأمر في الاصطلاح سهل.
والحق هو القول الأول كما صرّح به المحقق الطوسي (1) ، والدليل عليه الوجدان ، فإنك إذا تأملت في أفعالك الاختيارية لا ترى نفسك قادمة على شيء منها إلاّ بعد اعتقادك النّفع فيه ، وبعد حصول الاعتقاد به لا ترى نفسك قادمة على شيء منها إلاّ وأنت مشغول بمقدّمات إيجاده من غير أن يفصل بين ذلك الاعتقاد وبين التشبّث بالمقدمات شيء مؤثر في حصول الفعل ، بل ولا تجد حاجة إلى ما تسمّيه صفة نفسانية ، إذ مجرّد ذلك الاعتقاد كاف في تحصيل الفعل ، وهو مقارن له من غير أن يفصل بينهما زمان ، أو يحتاج إلى شيء آخر ، صفة نفسيّة
--------------------
(1) سلطان المحققين الخواجة نصير الحق والحقيقة والدين ، صاحب التجريد وشرح الإشارات وغيرهما من المصنفات ( مجد الدين ).
وقاية الاذهان
_ 176 _
كانت أو غيرها ، فإذا كنت في مفازة أعوزك الماء ، وبلغ بك العطش مرتبة خشيت منها على نفسك ، ثم ظفرت بعين عذبة صافية ، فهل ترى نفسك بعد الاعتقاد بأنّ في ورودها رواء غلّتك (1) متوقّفا عن ورودها ، ومحتاجة في الاغتراف منها إلى شيء آخر تزعمه صفة نفسانية ، وتسمّيه إرادة ، أو ترى اعتقادك علة تامة كافية ، ولا تشعر بنفسك إلاّ وكفّاك ممدودتان نحو الماء ، أو مملوءتان منه.
وما قد يصحب هذا الاعتقاد من الشوق المؤكّد وتشتغل نحوه مما تزعم أنه الإرادة بنفسها أو هو من مبادئها فالتأمل يشهد بأنها من لوازم الاعتقاد بالنفع أعني الإرادة ، لا أنه مؤثّر في حصول الفعل ، فضلا عن كونه هي الإرادة بعينها نظير ارتعاد الفرائض ، وخفقان القلب عند الهرب من السبع ، فإنهما من لوازم الخوف ، لا أنهما علّتان للهرب ، وكذلك تحرّك العضلات نحو الفعل ، فإنه ليس من مبادئ الإرادة كما توهّم ، بل هو فعل اختياري ، فهو مسبوق بالإرادة قطعا.
نعم هو أول مقدمة يأتي به المريد بعد اعتقاده النّفع.
هذا وقد ذكر بعض مشايخنا لإثبات المطلوب وجوها أخر ، وهي على طولها لا تخلو من مواقع للنظر فيها ، وفي إنصاف المنصف ، ورجوعه إلى وجدانه غنى منها.
وإذا اتضح عندك ما قرّرناه ، فاعلم أنّ مطلق ذلك الاعتقاد ليس بإرادة ، بل هي الاعتقاد بنفع أمر ممكن فعلا تحصيله ، غير مترقّب بغير تحصيله حصوله ، فإن تعلّق بأمر مستحيل فهو التمنّي ، أو بأمر ممكن حصوله ، غير ممكن تحصيله أبدا فهو الترجّي ، وإن كان ممكن التحصيل في زمان متأخر فهو العزم ، أو كان معلوم الحصول من غير احتياج إلى التحصيل فهو الرضا.
وبالجملة هذه العناوين متّحدة مع الإرادة حقيقة ، ولكنها مختلفة معها بحسب المتعلّق ، ولهذا ورد : إنّ الراضي
بفعل قوم منهم (1) لأنه شريك مع الفاعل في الشقاوة والسعادة ، وحسن الفطرة وقبحها ، وحقيقة الإرادة التي هي العلّة التامة للفعل ، وعليها يقع المدح والذم ، والثواب والعقاب ، ولا يختلف معها إلاّ في ترتب الفعل على الإرادة ، وعدم ترتبه على الرضا الموجبين للحسن والقبح الفعليّين لا الفاعليّين.
هذا وبعض مشايخنا لا يسمّيها الإرادة إلاّ بعد الإشراف على الفعل ، والاشتغال به ولو بإتيان بعض مقدّماته ،
وأما بدون ذلك فتارة لا يسمّيها إرادة أصلا ، وتارة يسمّيها إرادة شأنية ، وهذا على أنه ممّا لا أرى داعيا إليه ، يلزمه حصول أول المقدّمات للفعل من غير إرادة مع أنه اختياري قطعا ، وليس الفاصل بين الاختياري والاضطراري إلاّ الإرادة ، وسيأتي تمام الكلام فيه في خلال المباحث الآتية.
ويظهر من عدّة مواضع من كلامه اشتراط ترتّب الفعل عليها أيضا ، وأنّ عنوان الإرادة يحدث من قبل تحقّق
الفعل ، وهذا أيضا مما لا يساعده الاعتبار والاصطلاح ، فمن مشهور الكلام ـ إن لم يكن من مأثوره ـ أردت أمرا وأراد الله أمرا ، وقال الخارجي القاتل لخارجة : أردت عمراً وأراد الله خارجة ، فتأمل جيّدا ، والله العالم.
واعلم أنه تنقسم الإرادة إلى أقسام ، أهمها إلى التكوينية والتشريعية ، والمراد من الأولى ما لا يتوقف الصلاح في
متعلّقها إلى توسط إرادة الغير ، كما إذا علم الصلاح في مباشرة ضرب زيد بنفسه ، والثانية ما توقف على توسّطها ، كما إذا رئي الصلاح في ضرب زيد عمراً اختيارا.
--------------------
(1) نهج البلاغة بشرح محمد عبده 2 : 191 والوسائل ، الباب 5 من أبواب الأمر والنهي وما يناسبهما ، الحديث 12.
وقاية الاذهان
_ 178 _
والأمر في الأولى واضح سهل إذ مريد الشيء بهذه الإرادة يشتغل بمقدّماته غير الحاصلة ، حتى تجتمع أجزاء
علّته التامة ، ويوجد الفعل بعده.
وأما الثانية فمتعلّقها غير مقدور للمريد ابتداء ، فلا بدّ له من إيجاد الإرادة له ، أي يجعله عالما بالصلاح كما هو
عالم به ليتحقق منه الفعل ، وذلك إمّا بإعلامه عين الصلاح الّذي يعلمه كقول الطبيب : اشرب هذا الدواء فإنه شفاؤك من الداء ، أو بنفس إرادته إن كان المأمور ممّن يرى صلاحه في إطاعة الآمر ، لحبّ ونحوه ، وإمّا بجعل الثواب على امتثاله ، والعقاب على تركه ، إذ الفعل بهما يصير ذا صلاح عنده ، وبالجملة لا بدّ لوقوع الفعل في هذا القسم من اجتماع الإرادتين ، بمعنى إرادة الآمر وإرادة المأمور ، فالفعل مستند إليهما ، واختياري لهما معا ، لكن إحدى الإرادتين في طول الأخرى ، أراد الآمر فأراد المأمور ، ولعلّه بذلك يفتح لك الباب إلى فهم قوله عليه السلام : ( لا جبر ولا تفويض ) (1) وتفصيل ذلك لا يناسب المقام.
المقام الثاني : في أن الإرادة هل هي عين الطلب أو غيره ؟
فنقول : المنسوب إلى الأشاعرة هو الثاني ، وإلى العدلية (2) هو الأول ، وربّما نسب إلى ـ الجدّ ـ العلاّمة ، وستعرف ما فيه إن شاء الله.
--------------------
(1) بحار الأنوار 5 : 17 ـ 27 ، التوحيد للشيخ الصدوق : 362 ـ 8 ( تصحيح وتعليق السيد هاشم الحسيني الطهراني وطبع جماعة المدرسين بقم المشرفة ).
(2) قوله : وإلى العدلية إلى آخره ، أقول : المراد بالعدلية في هذا المقام بل في كل موضع مع الإطلاق هم الإماميّة والمعتزلة لأنّهم هم القائلون بالعدل لله تعالى ، وأنّ لازم مذهب الأشاعرة نفي العدالة عنه تعالى لأنهم هم الجبرية المستلزم مذهبهم هذا نفي العدل عنه تعالى ، وتفصيل ذلك لا يناسب المقام ( مجد الدين )
وقاية الاذهان
_ 179 _
وملخّص الكلام فيه أنّ الأشاعرة إن أرادوا إثبات صفة نفسانية أخرى غير الإرادة ، فهو واضح الفساد ، ضرورة إنّا لا نجد في أنفسنا عند الطلب غير الإرادة ـ بالمعنى الّذي عرفت ـ شيئا آخر.
وإن أرادوا أنّ الطلب معنى ينتزع عن الإرادة في مرتبة الكشف والإظهار ، فهو غير الإرادة المجرّدة مفهوما وإن اتّحدا ذاتا ، وبعبارة أخرى : إنه إظهار الإرادة ، وإعلام الغير بها ، وإلزامه بإيجاد متعلّقها منه ، ونحو ذلك من التعبير فهو حقّ لا محيص عنه ، إذ الوجدان يشهد بتفاوت الحال بين الإرادة المجرّدة والإرادة المظهرة ، واختلاف حكمهما ، والهيئات إنما وضعت لبيان تلك الصفة النفسيّة وإظهارها فقبل إظهارها لا يسمّى طلبا ولا أمرا ، ولا يقال : إنه طلب كذا أو أمر كذا.
وأنت إذا تأمّلت في أدلّة الفريقين واطّلعت على ما احتجّ كلّ منهما على ما ذهب إليه واعترض الآخر عليه ، علمت أنّ الّذي أثبته الأشاعرة ، ونفاه العدليّة ، هو إثبات صفة أخرى غير الإرادة ، هذا آية الله العلاّمة (1) احتجّ على الاتحاد بأنّا لا نجد في الآمر أمرا آخر مغايرا للإرادة ، إذ ليس المفهوم منه إلاّ إرادة
--------------------
(1) هو آية الله في العالمين وأستاذ الخلائق أجمعين حسن بن سدين الدين يوسف بن علي بن المطهّر الحلّي المشهور بالعلاّمة أعلى الله مقامه وعلوّ درجته ، غير محتاج إلى البيان وأشهر من أن يقام عليه البرهان ، وهو قدّس الله رمسه صاحب تصانيف كثيرة ومؤلفات جليلة ، بل هو أكثر العلماء تأليفا وأجلّهم تحقيقا وتصنيفا حتى قال بعض العلماء ما معناه : ( إنّ مؤلّفاته في الكثرة على حدّ بحيث انّها قد حوسبت ، فصار بإزاء كلّ يوم من أيام عمره ألف بيت من المصنفات ).
ولد صاحب الترجمة في التاسع والعشرين من شهر رمضان المبارك سنة 648 ووفاته (ره) يوم السبت الحادي والعشرين من محرم الحرام سنة 726 ، فكان عمره الشريف ثمانية وسبعين سنة ، وقد تلمّذ ـ طاب ثراه ـ عند والده سدين الدين ، وخاله صاحب الشرائع ، والمحقق الطوسي وغيرهم رحمة الله تعالى عليهم أجمعين إلى يوم الدين ( مجد الدين ).
وقاية الاذهان
_ 180 _
الفعل من المأمور ، ولو كان هناك معنى آخر لا ندركه فلا شك في كونه أمرا خفيّا في غاية الخفاء إلى آخره ، إلى غير ذلك من كلام الفريقين.
والعلاّمة ـ الجدّ ـ لم يخالف العدليّة في ذلك ، ولم يجنح إلى قول الأشاعرة قطّ ، بل هو من ألدّ أعداء هذه المقالة ، وأشدّ من خاصمهم ، وقد قال في بحث مقدمة الواجب بعد ما بيّن مذهب العدليّة من أنّ حقيقة الطلب عندهم هي الإرادة المتعلّقة بفعل الشيء أو تركه ، ما نصه : ( وقد خالف في ذلك الأشاعرة ، فزعموا أنّ الطلب أمر آخر وراء الإرادة ، وجعلوه من أقسام الكلام النفسيّ المغاير عندهم للإرادة والكراهة.
وقد عرفت أنّ ما ذكروه أمر فاسد غير معقول ، مبني على فاسد آخر ، أعني الكلام النفسيّ ) (1) انتهى.
فلينظر المنصف إلى هذا الإمام كيف يجعل مقالة الأشاعرة أمرا فاسدا غير معقول مبنيا على فاسد آخر.
ثمّ ليعجب ممّن نسب إليه موافقتهم ، ويخالف في كلامه سنّة الأدب ، وهو لم يعرف صحيح مرامه من صريح كلامه ، مع أنه ـ طاب ثراه ـ لم يأل في إيضاح ما يرومه جهدا ، ولم يبق لمتأمل فيه عذرا فقال ما لفظه : ( والّذي يقتضيه التحقيق في المقام ، أنّ هناك إرادة لصدور الفعل من الغير بحسب الواقع ، واقتضاء له بحسب الخارج ، لإيقاعه الفعل بإلزامه به وندبه إليه ، ومن البيّن أنّ الثاني لا يستلزم الأول وإن كان الظاهر صدور الاقتضاء على طبق الإرادة الواقعية ، لظهور إلزام المأمور بالفعل مثلا في كون ذلك الفعل محبوبا للآمر ، ومرادا له بحسب الواقع إلاّ أنه مع العلم بالتخلّف لا يخرج عن حقيقته )
--------------------
(1) هداية المسترشدين : 133.
وقاية الاذهان
_ 181 _
إلى آخره (1).
وأنت إذا أعطيت التأمل حقّه في هذا الكلام ، وأضفت إليه سائر ما أورده في المقام ، عرفت براءة هذا الإمام من هذه الوصمة ، وأنه لا يريد إلاّ ما يحكم به كل عقل سليم ، من أنّ الاقتضاء الخارجي والإلزام بفعل الشيء أو تركه غير الإرادة النفسيّة المتعلّقة بأحدهما ، كما قال في بعض كلامه ، وهذا لفظه :
( وأنت خبير بأن المعنى المذكور يعني الإرادة الواقعية ليس معنى إنشائيّا حاصلا بالصيغة ، حتى يندرج من جهته الأمر في الإنشاء ، لظهور كون ذلك أمرا قلبيّا حاصلا قبل أداء الصيغة ، وإنما يحصل لها بيان ذلك وإظهاره ) (2) إلى آخره.
وبالجملة من الواضح أن الاقتضاء وهو الطلب غير الإرادة أعني الصفة النفسيّة ، بل الطلب مسبّب عنها ، وإظهار لها ، وإفهام للغير بها ، وهو متأخر عنها رتبة تأخر المعلول عن العلّة ، والطلب من مقولة الفعل أو ما يقاربه ، وما أشدّ تغايرهما وأبعد ما بينهما.
وقال الشيخ الأستاذ طاب ثراه في الكفاية ما لفظه : ( الظاهر أن يكون الطلب الّذي هو معنى الأمر ليس هو الطلب الحقيقي الّذي يكون كليّا بالحمل الشائع الصناعي ، بل الطلب الإنشائيّ الّذي لا يكون بهذا الحمل طلبا مطلقا ، بل طلبا إنشائيّا ، ولو أبيت إلاّ عن كونه موضوعا للطلب فلا أقلّ من كونه منصرفا إلى الإنشائيّ منه عند إطلاقه ، كما هو الحال في لفظ الطلب أيضا ، وذلك لكثرة الاستعمال في الطلب الإنشائيّ ، كما أنّ الأمر في لفظ الإرادة على عكس لفظ الطلب ، والمنصرف عنها عند إطلاقها هو الإرادة الحقيقة ، واختلافهما في ذلك ألجأ بعض أصحابنا إلى الميل إلى ما ذهب إليه الأشاعرة من المغايرة بين
الطلب والإرادة ، خلافا لقاطبة أهل الحق ، والمعتزلة من اتحادهما ) (1) انتهى.
وتراه في ظاهر كلامه ، قسّم الطلب إلى قسمين حقيقي وإنشائي ، ثم جعل الحمل في أحدهما شائعا صناعيّا ، وصرّح بعدمه في الآخر ، ولا أدري لأي مكرمة فاز أحدهما بهذا الحمل ، ولأي ذنب حرم الآخر منه ، وكيف يعقل أن يكون شيء مصداقا لمفهوم ، ولا يحمل عليه بهذا الحمل! وهل هذا إلاّ كقولك : إن الحيوان له نوعان :
ناطق ، وصامت ، ثم يجعل حمل أحدهما على مصاديقه صناعيّا دون الآخر؟
وقد فسّره بعض من زوال (2) هذا الكتاب مدة طويلة ، وهو يعاني اليوم تدريسه (3) ، بأنّ المراد : أنّ لفظ الطلب المطلق مجاز في الإنشائيّ ، وحقيقي في الحقيقي.
وهذا على بعده من اللفظ ، وغموض في معناه لا يوجب الاختلاف في ناحية الحمل أصلا ، فلو قلت : مررت بأسد في الآجام ، ورأيت أسدا في الحمام ، فالحمل في قوليك معا شائع صناعي قطعا.
وبالجملة معنى هذا الكلام ملتبس علي جدّاً ، ولعل عند غيري فيه ما يزيح (4) الإشكال.
وأما قوله : واختلافهما في ذلك ألجأ بعض أصحابنا إلى الميل إلى ما ذهب إليه الأشاعرة ، إلى آخره ، فهو يريد به العلامة ـ الجدّ ـ وبه كان يصرّح في مجلس الدرس اللهم غفرا ، وحاشا مقدّم الفن ، وشيخ الصناعة أن يلجئه هذا الاختلاف
--------------------
(1) كفاية الأصول : 64.
(2) أي مارس. ( مجد الدين )
(3) هو السيّد محمّد النجف آبادي مدرس الكفاية في أصفهان ، وكنت حاضرا حين مذاكرات المصنف معه في
هذا الباب وأنا في ريعان الشباب ، ونسأل الله تعالى حسن العاقبة والمآب. ( مجد الدين )
(4) أي يزيل. ( مجد الدين ).
وقاية الاذهان
_ 183 _
اللفظي الطفيف (1) ، إلى الغلط في مسألة عقلية كلامية ، ويفارق ما عليه عامة الإمامية.
وقد عرفت بما بيّنا من صحيح مرامه ونقلنا من واضح كلامه ، أنّ الّذي حققه في المقام مما لا يسع أحدا إنكاره
، مجبرا كان أو عدليّا ، إماميّا كان أو معتزليّا.
وإذا انتهيت إلى كلام شيخنا صاحب تشريح الأصول في الاعتراض على هذا الإمام ، وتأمّلت في تلك الإشكالات
السبعة المملّة ، وأضفت إليه ما أورده غيره عليه ، علمت أنّ العلامة ـ الجدّ ـ بواد ، وهؤلاء في واد ، وأنّه يحق له أن يتمثل بقول القائل :
سارت مشرّقة وسرت مغرّبا ii
شـتّان بين مشرّق iiومغرّب ii
وبالجملة المسألة كما عرفت عقلية كلامية ، لا لفظية لغويّة ، وإن أوهم خلافه ظاهر الكفاية ، حيث فسّر اتحاد الطلب والإرادة بقوله : بمعنى أنّ لفظيهما موضوعان بإزاء مفهوم واحد ، إلى آخره ، وهي في نفسها واضحة ليست بذات أهمية ، ولكنّ الدفاع عن العلاّمة ـ الجدّ ـ ألجأنا إلى التطويل ، أداء لبعض حقوقه ، حذار عقوقه ، والفضل بيد الله ، وللكلام تتمة تقف عليها قريبا إن شاء الله.
قال الشيخ الأستاذ (2) ـ طاب ثراه ـ في الفوائد ، ما نصه : ( إنّ الإنشاء هو القول الّذي يقصد به إيجاد المعنى
في نفس الأمر ، لا الحكاية عن ثبوته وتحقّقه في موطنه من ذهن أو خارج ، ولهذا لا يتصف بصدق ولا كذب ، بخلاف الخبر ،
--------------------
(1) الخفيف ( مجد الدين )
(2) الشيخ محمد كاظم الخراسانيّ صاحب الكفاية ( مجد الدين )
وقاية الاذهان
_ 184 _
فإنه تقرير للثابت في موطنه ، وحكاية عن ثبوته في ظرفه ومحلّه ، فيتصف بأحدهما لا محالة ) (1).
أقول : ما ذكره في معنى الإنشاء من إيجاد المعنى بالقول أمر لا نتعقّله لأن الألفاظ لا علّيّة لها بأنفسها لإيجاد المعاني ، ولا يمكن جعل العلّية لها ، لما تقرّر في محلّه من عدم قابليتها للجعل ـ وقد سبق بيانه في مبحث الوضع ـ ولا وظيفة للّفظ إلاّ الدلالة على المعنى بالوضع ، ومرتبة المعنى مقدمة على اللفظ فكيف يعقل إيجاده به!
وأيضا يشهد الوجدان بأنّ القائل : اضرب فلانا. لا يريد به إيجاد أمر معدوم باللفظ ، بل يريد إفهام المخاطب معنى اللفظ على حذو ما يريده في الإخبار ، ولا فرق بين الإخبار وبينه من هذه الجهة ، وإن كان ثمّة فرق فهو في ناحية المعنى المفهوم منهما.
وكان يذهب بعض مشايخنا إلى أنّه موضوع للدلالة على وجود الإرادة في النّفس ، وأنه يشارك الإخبار في قبوله الكذب المخبري ، بمعنى أنه يمكن أن يخبر عن وجودها في نفسه مع عدم وجودها فيها ، ويفارقه في عدم قبوله الكذب الخبري ، إذ لا يعقل خطأ الإنسان في إرادة نفسه ، ولا يمكن أن تكون له إرادة ولا يعلمها ، بخلاف الإخبار.
والّذي يظهر لي في المقام هو أنّ الهيئة موضوعة للدلالة على الإرادة بضميمة معنى حرفيّ يعبّر عنه بالاقتضاء والبعث ، فإن كانت موجودة في النّفس فهي مستعملة في معناها بالإرادة الجدّية والاستعمالية معا ، وإلاّ فهي مستعملة فيه بالثانية فقط ، ولكن الظاهر منهما عند الشك هو انبعاثها عن الإرادة الجديّة ، ووجودها في النّفس على حذو ما سبق في مبحث المجاز ، فمفاد هيئة افعل هو
--------------------
(1) فوائد الأصول : 17.
وقاية الاذهان
_ 185 _
مفاد إني مريد منك الفعل ، ولا تخالفه إلاّ في أمرين :
أحدهما : أنّ دلالة الهيئة بسيطة ، ودلالة الجملة الخبرية حاصلة من عدّة دوالّ ومدلولات.
والثاني : اشتمالها على المعنى الحرفي المتقدم ، وبمثله نقول في التمني ، والترجّي ، ونحوهما ، ويمكن أن يعدّ
ما ذكرناه شرحا لكلام العلاّمة ـ الجدّ ـ فراجع.
هذا ، وقد ذكر صاحبنا (1) العلاّمة ـ أدام الله أيامه ـ في المقام ، ما حاصله ـ بعد تنقيحه وتوضيحه ـ : إنّ الإرادة وما شابهها من الصفات النفسانيّة قد يتحقق في النّفس بتحقق مبانيها ، كاعتقاد النّفع الموجب لحصول الإرادة ، أو التمني ، أو الترجي على اختلاف مواردها ، وقد توجدها النّفس لمصلحة في نفسها ، واستشهد عليه بأن المسافر قد يتعلّق غرضه بالصوم في بلد ، وإتمام الصلاة فيه ، ويتوقف ذلك على إرادة الإقامة عشرة أيام لا على نفسها ، ولهذا يحصل الغرض بحصول ذات الإرادة ، وإن لم يمكث فيه غير يوم واحد مع الشرط المذكور في محلّه من كتب الفروع ، فتوجد النّفس الإرادة من غير أن تكون مصلحة في متعلّقها ، وكذلك التمني ونحوه ، وإذا تحقق هذا نقول : إن استعملت الألفاظ الدالة على هذه الصفات مع وجودها في النّفس ولو بإيجادها لها تكون مستعملة في معانيها ، ونلتزم بعدم ذلك مع عدمها مطلقا (2) انتهى.
وببالي أنه ـ دام إفضاله ـ نقل لي هذا عن سيدنا الأستاذ ـ طاب ثراه ـ مع مثال آخر ، وهو أنه لو فرض أنّ من يمكنه الاطّلاع على الضمائر قال لرجل : إذا أردت الحج أعطيتك فرسا وألف دينار حججت أم لم تحج ، فإنه لا إشكال في
--------------------
(1) الحاج شيخ عبد الكريم اليزدي دام ظلّه العالي ( المصنف )
(2) درر الفوائد 1 : 40.
وقاية الاذهان
_ 186 _
تحقق الإرادة من الرّجل لتحقق الصلاح فيها مع عدمه في متعلّقها ، ولكن هذا لا يلائم ما سلف ـ في مبحث
الإرادة ـ من أنها العلم بالصلاح في متعلّق الإرادة ، والجواب عنه على ذلك المبنى لا يخلو عن صعوبة.
صيغة افعل تدل بمادّتها على الطبيعة المجرّدة عن جميع الاعتبارات حتى الوجود والعدم ، وبهيئاتها على الطلب
، ومفاد الأمرين معا هو تعلّق الطلب بتلك الطبيعة اللابشرط ، وحيث لا يمكن أن تكون ذلك متعلّقة للإرادة عقلا يجب اعتبار وجود ما زائدا على ما يقتضيه وضع المادة والهيئة. والوجود يمكن اعتباره على أنحاء :
أحدها : الوجود الساري في جميع الأفراد نظير ( أَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ ) (1).
ثانيها : الوجود المقيد بقيد مّا ، كالمرة والتكرار ، والفور والتراخي ، ونحو ذلك.
ثالثها : صرف الوجود في مقابلة العدم الأزلي من دون لحاظ أمر آخر معه ، وكان السيد الأستاذ يعبّر عن هذا
النحو من الوجود تارة بانتقاض العدم الأزلي ، وتارة بطرد العدم ، وحيث لا يوجد دليل على تعيين أحد هذه الأقسام يجب حمل الأمر على هذا النحو الثالث لأنه المتيقن ، وغيره يشتمل على زيادة مدفوعة بالأصل.
وبهذا يظهر لك أنّ الفور والمرة ونحوهما مما توهّم دلالة الأمر عليه ، جميعه خارج عن مفاد الصيغة ، فلا يصار إلى أحدها إلا بدليل ، وبعد وروده لا ينافيها لا مادّة ولا هيئة.