وربّما يحسن الاستعمال بغير هذه وتلك ، ألا ترى أنه لو أراد أحد أن يقول -------------------- (1) ونظيره قول سلطان المحقّقين خواجه نصير الملّة والدين :
(2) صحيح مسلم 4 : 1941 ـ 2494 ، كنز العمال 14 : 69 ـ 37957 و 37958 باختلاف يسير. وقاية الاذهانوفذلكة المقام : أنّ العلائق ليست بأمور قابلة للحصر ، بل هي تختلف باختلاف المقامات والخصوصيّات ، بل باختلاف اللغات والعادات اختلافا بيّنا ، فمن حاول عدّها فقد كلّف نفسه شططا. وبهذا يتفاخر الفصحاء ، وتعرف منازل الشعراء ، ومنه تظهر قوة جنان الشاعر ، وطول باعه ، وقدرته على الصنعة ، فاستعارة الغيث للسيف لا يقدم عليه إلاّ مثل المتنبي حيث يقول : وأترك الغيث في غمدي وأنتجع (1) وأما علائم الحقيقة والمجاز ، وأصالة الحقيقة فلا شك أنّ المعنى الموضوع له يتبادر إلى ذهن السامع إذا كان عارفا بالوضع ملتفتا إليه ، ولا طريق إلى معرفة الوضع إلاّ بتنصيص الواضع أو أتباعه ، أو معرفة ذلك من تتبّع موارد الاستعمال. ثم إنّ الأصل مطابقة الإرادة الجدّية للاستعمالية لأن الألفاظ إنما وضعت لبيان المقاصد العقلائيّة الواقعية بلفظ مطابق لمعناه وإنما يعدل عنها لدواع أخر لا يصار إليها إلاّ بقرينة معاندة معها لأنّ في عدم نصبها إخلالا بالغرض من الوضع فلا بدّ لمن لم تكن له إرادة جدّية كالمازح والهازل ، أو كانت ولم تكن مطابقة للاستعمال كالمكنّي أو المستعير والمبالغ من نصب القرينة ، وإلاّ كان ناقضا لغرضه. اللهم إلاّ أن يكون غرضه تغرير السامع وإفهامه خلاف الواقع أعني الكذب فمع القطع بعدم الاعتماد على القرينة يقطع بالمراد الواقعي ، ومع الشك يبنى على عدمها كما في نظائرها. -------------------- (1) صدر البيت هكذا : أأطرح المجد عن كتفي وأطلبه ديوان المتنبي بشرح العكبري 2 : 222. وقاية الاذهانوإن كان لا بدّ من تصوّر المجاز بالمعنى المشهور ، وتكلّف الوضع له فأحسن القول فيه أن يقال : إن اللفظ متى حصلت له خصوصية مع معنى من المعاني بواسطة الوضع ، فلازم ذلك حصولها لما يشابهه بل لمطلق ما يناسبه على ما هو المطّرد في سائر الخصوصيّات الحاصلة بين الأشياء ، فالدار إذا صارت لزيد وحصلت علاقة الملكيّة بينها وبينه فلا بدّ من حصول مرتبة منها بين أولاد زيد وإخوته ـ مثلا ـ معها ، وعلى هذا فاللفظ الموضوع لمعنى لا بدّ لوجود مرتبة من الوضع لما يناسبه ، وإذا منعت القرينة عن إرادة المعنى الأصلي الّذي وضع له اللفظ تعيّن إرادة أقرب ما يناسبه. اللهم هذا هو التكلّف الّذي يثقل على السمع ، وينبو عنه الطبع ، وعلى علاّته فهو خير من أكثر ما ذهب إليه ، واعتمد الأفاضل عليه ، ويمكنك أن تجعله شرحا لمقال القائل بأنّ جواز المجاز بالطبع. المجاز المركّب وكما أثبتوا المجاز في المفرد أثبتوه في المركّب أيضا ، وحدّه ـ على ما في الفصول ـ ( استعمال المركّب أو المركّب المستعمل في غير ما وضع له لعلاقة بينهما ، وإن كانت العلاقة مشابهة سمّيت استعارة تمثيلية كقولهم للمتردّد في أمر : أراك تقدّم رجلا وتؤخّر أخرى ، فيصحّ فيه أن يلاحظ ما يلزم من تقدّم رجل وتأخّر أخرى عادة من التردّد ، وعدم ثبات الرّأي ، فتطلق عليه الألفاظ الموضوعة بإزاء ملزومه بعلاقة اللزوم فيكون مجازا مركّبا ، وأن يشبّه حال إقبال المخاطب المتردّد على الأمر تارة وإدباره أخرى بحالة من يتردّد في سلوك طريق فيقدّم رجلا وقاية الاذهانأقول : فعلى ما ذكره ـ طاب ثراه ـ لا يختص المجاز المركّب بخصوص ما كانت العلاقة فيه المشابهة ، بل يكون الحال فيه كما كان في المفرد ، فكما أنّ المجاز في المفرد مقسوم إلى ما كانت العلاقة فيه المشابهة ، فيسمّى استعارة ، وإلى ما كانت غيرها فيسمّى مجازا مرسلا ، فكذلك المجاز المركّب إن كانت العلاقة مشابهة سمّيت استعارة تمثيلية أو التمثيل مطلقا ، وإلاّ كانت مجازا مركّبا كما اصطلح عليه ، وهذا أحسن من تخصيص صاحب التلخيص المجاز المركّب بخصوص الأول (2). عاد كلامه. قال : ( ثم إنهم بنوا أمر المجاز المركّب على ثبوت الوضع للمركّبات ، فالتزموا القول بأن المركّبات موضوعة بإزاء المعاني المركّبة ، كما أنّ المفردات موضوعة بإزاء المعاني المفردة ، وخالف في ذلك العضدي ، فأنكر المجاز المركب رأسا وخصّه بالمفرد محتجّا عليه بأنّ المركّبات لا وضع لها فلا يتطرّق التجوّز إليها ، إذ التجوّز من توابع الوضع ). ( والحقّ ما ذهب إليه الأكثرون من ثبوت المجاز في المركّب ، لكنه عندي لا يبتنى على أن يكون للمركّب وضع مغاير لوضع مفرداته كما زعموه ، بل يكفي فيه مجرّد وضع مفرداته لمعانيها الأفرادية ، فإنّ كلّ مفرد من المفردات إذا دلّ على معناه الأفرادي بالوضع فقد دلّ المركّب منها على المركّب منه بالوضع ، إذ المراد بالمعنى المركّب هو نفس مداليل المفردات المشتملة على النسبة ، كما أنّ المراد باللفظ المركّب هو نفس الألفاظ المفردة المشتملة على النسبة اللفظية ، وكما يجوز -------------------- (1) الفصول الغرويّة : 27. (2) تلخيص المفتاح المطبوع مع شرح المختصر 2 : 95. وقاية الاذهان( فظهر أنه يكفي في مجازيّة المركّب استعماله في غير ما وضع له مفرداته ، كما أنّه يكفي في كونه حقيقة فيه استعمال مفرداته فيما وضعت بإزائه ). ( وأما ما التزموا به من أنّ المركّبات موضوعة بإزاء معانيها التركيبيّة بوضع مغاير لوضع مفرداتها ، ففساده ظاهر إذ بعد وضع المفردات أعني الطرفين والنسبة لا حاجة إلى وضع المركّب ، لحصول المقصود بدونه ، فإنّ وضع الطرفين لطرفي الحكم والنسبة اللفظية للنسبة الذهنية من حيث قصد مطابقتها للواقع وكشفها عنه كاف في إفادة ما هو المقصود قطعا ، فلا يبقى هناك حاجة تمسّ إلى وضع المركّب ). ( وأيضا لو كان المركّب من الطرفين والإسناد موضوعا بإزاء المركّب من مداليلها لدلّ كلّ جملة خبريّة بحسب وضعها على الإخبار بوقوع مدلولها مرّتين تارة تفصيلا كما ذكرناه ، وأخرى إجمالا لما ذكروه ، وعلى قياسها الجمل الإنشائية وغيرها ، وهذا ممّا لا يلتزم به ذو مسكة ). ( نعم لو قيل بأنّ الهيئة التركيبية أو ما يقوم مقامها موضوعة لمجرّد النسبة والربط والمجموع المركّب موضوع لإفادة مطابقتها للواقع لم يلزم منه المحذوران لكنه مع فساده في نفسه بشهادة الوجدان على خلافه ، ومخالفته لظاهر كلماتهم بل صريحها ، غير مجد في المقام إذ لم يقصدوا بالتجوّز في المركّب التجوّز في مثل هذا المعنى ) (1). -------------------- (1) الفصول الغرويّة : 27 ـ 28. وقاية الاذهاننعم ما وضعت المفردات إلاّ لأن يتركّب منها الكلام ، وتفيد فائدة تامة في ضمنه ، كما أنّ حروف الهجاء ما عيّنت إلاّ لأن تتركب منها الكلمات ، ولكن أين يقع هذا مما يرومه هذا القائل من إثبات الوضع للمركّبات وضعا مستقلا مباينا لوضع مفرداته بحيث تكون نسبة الكلمات إلى المركّب كنسبة حروف الهجاء إليها. وما ذكره من توجيه هذا القول في قوله : ( نعم ، لو قيل .... ) إلى آخره ، فيردّه ـ زيادة على ما قرره في تضعيفه ـ أنّ الألفاظ لم توضع إلاّ لبيان ما يريد المتكلم إفهامه المخاطب حقّا كان أم باطلا ، صدقا كان أم كذبا ، وليس في وسعها بيان مطابقة الواقع ، وإنما ذلك وظيفة أمور اخر خارجة عنها من العلم بتحرّز المتكلّم عن الكذب وعدم اتّهامه بالخطإ فيما يخبر عنه ، وقد سبق بيان ذلك مفصّلا في بحث الاستعمال. وأما ما ذكره قبل ذلك لتصوير المجاز في المركّب فغامض جدّاً ، بل لا أعرف لظاهره وجها أصلا ، إذ ليس المركّب إلاّ مجموع تلك المفردات بعينها ، ولا وجود له وجودا مستقلا عنها كما اعترف به في قوله : ( فإنّ كلّ مفرد من المفردات ... ) إلى آخره ، فإذا انتفى الوضع انتفى الاستعمال لأنه فرع الوضع ، وليس وراء المفردات شيء آخر حتى يستعمل في معنى آخر ، فإذا قلت : زيد قائم ـ مثلا ـ فكلّ من المسند والمسند إليه يدلّ بحكم الوضع على معناه ويدل النسبة اللفظية -------------------- (1) الفاتحة : 5. وقاية الاذهانوعليه فقس المثال الّذي ذكره ، وسائر أمثلة الباب ، كقولهم : يد تجرح ويد تأسو (1). ومن المحال أن تدلّ هاتان الجملتان على غير ما تدلّ عليه مفرداتها. وأعجب من ذلك قوله ـ بعد عدة سطور ـ : ( بل التحقيق أنّ مفردات المجاز المركّب غير مستعملة في شيء من معانيها الحقيقة ولا المجازية ، وإنما المستعمل هو المجموع ) (2). ولازم ذلك ـ فيما أرى ـ أن تلغو الجملة رأسا ، ولا يكون لها معنى أصلا ، لأن المعنى فرع الاستعمال ، والاستعمال فرع الوضع ـ كما عرفت ـ والمفردات التي لها وضع لا استعمال لها ، والمستعمل أعني المركّب لا وضع له ، فالمستعمل غير موضوع ، والموضوع غير مستعمل. ولو سلّم ما تقدم من قوله : ( إنه يكفي في وضع المركب وضع مفرداته ) فلا يكفي في إفادة المعنى مع عدم استعمال مفرداته كما يظهر بالتأمل. وقال ـ طاب ثراه ـ في بحث الكناية : ( إنه ليس شيء من مفرداته مستعملا حينئذ ، وإنما لوحظ معانيها واستعمل المجموع ) (3). وظاهر أنّ مجرّد اللحاظ لا يكفي في إفادة المعنى ما لم يقصد به إفهام المخاطب ، ومع هذا القصد يتحقق الاستعمال. وبالجملة لا بدّ ـ إذن ـ من الالتزام باستعمالها إمّا في معانيها الحقيقة كما -------------------- (1) آسى الجرح : داواه ( منه ). (2) الفصول الغرويّة : 28. (3) الفصول الغرويّة : 28. وقاية الاذهانهذا ، على أنه لا معنى للاستعمال إلاّ إرادة الإفهام كما بيّناه سابقا ، ومن الواضح أنّ المتكلم بالمثالين المتقدمين يريد إفهام مخاطبه معنى التقدّم والتأخّر للرجلين ، واختلاف فعل اليدين. وبالجملة فمرامه ـ طاب ثراه ـ في هذا المقام ملتبس علي جدّاً ، وليس مثلي من يسرع في الاعتراض على مثله ، وقد نقلت كلامه بنصّه طمعا في أن يظهر للناظر الفطن في هذا الكتاب ما خفي علي من الصواب. وأنت ـ رعاك الله ـ إذا راعيت الأصلين السابقين ، وسرت على منهاجهما الواضح ، رفعت لك أعلام الحقيقة ، وظهر لك أنّ الحال في مركّب المجاز كالحال في مفرده ، وأنّ ألفاظه مستعملة ولم تستعمل إلاّ فيما وضعت له ، وأنّ المتكلّم به لا يريد بالإرادة الاستعمالية إلاّ إفهام المخاطب تلك المعاني الأصلية التي وضعت لها الألفاظ. وأما إفهامه التردّد في المثال الأول فهو الغرض الداعي إلى الاستعمال وإلى إفهامه هذه الجملة لا أنه المستعمل فيه ، والبعد بين الغرض الداعي إلى التكلّم وبين معنى الكلام بعد شاسع وشوط بطين (3) ، فمن وعدك بجبّة إذا دخل الشتاء ، وبممطرة إذا مطرت السماء تقول له : جاء الشتاء وجادت السماء ، وليس معنى هذين الإخبارين إنشاء : أعطني جبّة وممطرة ، بل تخبره بهما ليتذكر الوعد فينجزهما لك. وإذا تأمّلت المحاورات العرفية ظهر لك أنّ الكثير منها ـ إن لم تكن الأكثر ـ من هذا النمط ، بل ربّما ترتّبت الأغراض ، وتسلسلت الدواعي ، وتكثّرت -------------------- (1) الفصول الغرويّة : 28. (2) الفصول الغرويّة : 28. (3) البطين بمعنى : البعيد ( منه ) وانظر لسان العرب 13 : 57. وقاية الاذهانوبهذا يظهر لك مواقع النّظر في كلام الجدّ الأعظم ـ قدّس سرّه ـ حيث قال في أثناء كلام له ، وهذا لفظه : ( هذا إذا كان المقصود إسناد تلك المحمولات إلى موضوعاتها على سبيل الحقيقة ، وأما إذا لم يكن إسنادها إلى موضوعاتها مقصودا في ذلك المقام ، بل كان المقصود بيان ما يلزم ذلك من التخضّع ونحوه كقولك : أنا عبدك وأنا مملوكك. فلا ريب إذن في الخروج عن مقتضى الوضع إذ ليس المقصود في المقام بيان ما تعطيه [ من ] (1) معاني المفردات بحسب أوضاعها ، فحينئذ يمكن التزام التجوّز في المفردات كأن يراد بعبدك أو مملوكك لازمه ، أو في المركّب بأن يراد من الحكم بثبوت النسبة المذكورة لازمها ، وعلى كل حال فالتجوّز حاصل هناك ) (2) انتهى. وقد عرفت الفرق بين المقصود من التكلّم ، وبين المقصود من الكلام ، وبين الاستعمال وبين الداعي إليه ، والتخضّع هو الداعي إلى أن يقول لمن يريد الخضوع له : أنا عبدك ، لا أنه معنى للكلام ، ويقوله هذا كما يقوله المملوك واقعا من غير فرق من جهة الاستعمال أصلا. ومثله الجمل التي تستعمل في مقام التخويف والتهديد والمدح والدعاء وغير ذلك ممّا لا يدع وضوح الأمر فيها سبيلا إلى تعداد الأمثلة لها. ومن هذا القبيل الجمل الخبرية التي تورد في مقام الطلب فهي مستعملة في معانيها ، لكن لا بداعي الاعلام بل بداعي البعث بنحو آكد كما بيّنه الأستاذ في الكفاية (3) وأحسن ما شاء ، بل وكذلك جميع الجمل الخبرية التي لا يراد منها -------------------- (1) الزيادة من المصدر. (2) هداية المسترشدين : 35. (3) كفاية الأصول : 70 ـ 71. وقاية الاذهان فقال : ( قد تخرج الهمزة من معناه الحقيقي فترد لثمانية أوجه ) (3). ومن المضحك عدّه الاستبطاء منها ، وتمثيله له بقوله تعالى : ( أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللهِ ) (4) (5) إذ من الواضح أنّ ليس معنى الهمزة وحدها ، بل هو معنى حرف الاستفهام الوارد على حرف الجحد ، الداخل على فعل يدلّ بمادته على القرب. فإذا كان جميع ذلك معنى الهمزة فما ذا حبسه عن الجري على ذلك إلى آخر الآية ، ويجعل معنى الهمزة استبطاء خشوع قلوب المؤمنين لذكر الله تعالى ؟ وبالجملة جميع ذلك وأشباهه الكثيرة قد نشأ عن الخلط بين الداعي إلى الاستعمال وبين نفس الاستعمال. -------------------- (1) انظر المطوّل : 43. (2) هو الأستاذ جمال الدين أبو محمد عبد الله بن يوسف بن أحمد بن عبد الله بن هشام المصري الأنصاري الحنبلي النحوي المشتهر بـ ( ابن هشام ) صاحب كتاب مغني اللبيب المتداول بين أهل العلم في هذا الزمان المشتمل على ثمانية أبواب ، ولقد قال في وصف هذا الكتاب أحد الشعراء قصيدة بليغة لا مجال لنا في ذكرها بتمامها منها هذا [ البيت ] :
( مجد الدين ) (3) مغني اللبيب 1 : 24. (4) الحديد : 16. (5) مغني اللبيب 1 : 27. وقاية الاذهان |
وإذا كـان فـي الأنـابيب وقع الطيش في صدور الصعاد (1) | حـيف
يزيدك وجهه حسنا إذا ما زدته نظرا |
أشاب الصغير وأفنى الكبير كـرّ الـغداة ومـرّ العشيّ |