ومن رام إحداث ثلمة في هذا البنيان الرفيع فلا سبيل له إلاّ المناقشة فيهما ، فشأنه وذلك إن شاء ولكن بعد أن يعلم أنّه يصادم حسّه ويكابر نفسه ، فقد علم كلّ من له أدنى إلمام بالعلم أنّ الشيعة ـ أعلى الله كلمتهم ـ ما زالوا من زمن أئمتهم عليهم السلام إلى اليوم يعملون بالروايات الواردة عن المعصومين في الجملة ، ولا تجد أحدا يتمسّك في شيء من أحكام الدين بمجرّد الظنّ والتخمين.
أتظنّ منتميا إلى هذا المذهب يصبح مفتيا بهدر دم مسلم أو إباحة .... محصنة ، فإذا سئل عن مستنده في فتياه أسنده إلى ظنّ حصل له من الرؤيا ؟ وذمام (1) العلم وحرمة الفضل لا يصدر هذا من متمسّك بحبل أهل البيت أبدا ، حتى من لاك (2) لسانه بمطلق الظنّ.
هذا أحد أعلام الفقه ، وحامل عرش الظنّ المطلق ، الفاضل القمي ، إذا تصفّحت كتابه ( جامع الشتات ) من أول الطهارة إلى آخر الدّيات لا تجد فيه استنادا إلى غير الكتاب والسنّة وما يؤول إليهما قط ، ولا ترى أقل اختلاف بينه وبين سائر أئمة المذهب في طريق الاستنباط.
ولقد أصاب صاحب الفصول حيث قال في أثناء كلامه : ( حتى أنّ القائلين بحجّية الظنّ المطلق كبعض متأخري المتأخّرين ، لا تراهم يتعدّون في مقام العمل عن هذه الأمارات إلى غيرها وإن لم يستفد لهم ظنّ فعلي بمؤدّاها ) (3).
صدق ـ والله ـ وبرّ ، لا تجد غير مطعون في طريقته يترك آثار أهل البيت بغير طعن في أسانيدها ، وإجمال في متونها ، أو معارض لمؤدّياتها.
ومن ذلك كلّه يظهر لك وجه النّظر فيما كرّره الشيخ الأعظم من المناقشة
--------------------
(1) الذمام : الحرمة ، القاموس المحيط 4 : 117 ، الصحاح 5 : 1926 ( ذمم )
(2) اللوك : إدارة الشيء في الفم ومضغة ، مجمع البحرين 5 : 287 ، القاموس المحيط 3 : 328 ( لوك ).
(3) الفصول الغرويّة : 278.
وقاية الاذهان
_ 738 _
في الإجماع والسيرة المتقدّمين ، وأنهما لا يكشفان عن جهة العمل.
ولفظ تقييد الواقع بالطريق وإن وقع في كلام الفصول ، ولكنه لا يريد به تقييد الواقع نفسه ، بل يريد تقييد فعليته به ، وليس ذلك ببدع من القول ، ولا بمذهب قد تفرّد به ، بل هو أمر يقول به كلّ من يقول بالتخطئة ، وبصحّة جعل الأحكام الظاهرية ، وهو لازم جعل الحجّية ، ولكن الشيخ حمل كلامه على التفسير الأول ، فأورد في آخر كلامه ما أورد (1) ، وجرى عليه غيره ، فقال في الكفاية : ( لو سلّم أنّ قضيته لزوم التنزّل إلى الظنّ ، فتوهّم أنّ الوظيفة حينئذ هو خصوص الظنّ بالطريق فاسد قطعا ، وذلك لعدم كونه أقرب إلى العلم ، وإصابة الواقع من الظنّ بكونه مؤدّى طريق معتبر من دون الظنّ بحجّية طريق أصلا ومن الظن بالواقع.
لا يقال : إنّما لا يكون أقرب من الظنّ بالواقع إذا لم يصرف التكليف الفعلي عنه إلى مؤدّيات الطرق ولو على نحو التقييد ، فإنّ الالتزام به بعيد إذ الصرف لو لم يكن تصويبا محالا فلا أقلّ من كونه مجمعا على بطلانه ، ضرورة أنّ القطع بالواقع يجدي في الإجزاء بما هو واقع لا بما هو مؤدّى طريق القطع.
ومن هنا انقدح أنّ التقييد أيضا غير سديد ، مع أنّ الالتزام به غير مفيد ، فإنّ الظنّ بالواقع فيما ابتلي به من التكاليف لا يكاد ينفك عن الظنّ بأنه مؤدّى طريق معتبر ، والظنّ بالطريق ما لم يظنّ بإصابة الواقع غير مجد بناء على التقييد ، لعدم استلزامه الظنّ بالواقع المقيّد به دونه ) (2) انتهى ما أردناه.
أقول : إنّ الّذي قطع بفساده مقطوع بصحته بعد فرض تصرّف الشارع في طرق الامتثال ، وأمره باتّباع بعض ، ونهيه عن بعض ، وحصره فعلية أحكامه
--------------------
(1) من قوله : ( ثم إذا فرضنا ) إلى آخر العبارة [ فرائد الأصول : 134 ] على أنّ في تعبيراتهم ما يوهم الثاني ، وعليه فالخلف في كلامهم أظهر ( منه ).
(2) كفاية الأصول : 318.
وقاية الاذهان
_ 739 _
في مؤدّى أمارات خاصّة ، ورفضه غيرها بعدت عن الواقع أو قربت إليه.
وأما قوله : ( إذ الصرف لو لم يكن تصويبا محالا ) إلى آخره ، فلا أدري أين كان هذا الفرق والحذار من التصويب حين جمع بين الحكمين الواقعي والظاهري بما هو أدهى وأمرّ !؟
وقوله : ( ضرورة أنّ القطع بالواقع يجدي بما هو واقع لا بما هو مؤدّى طريق القطع ) لا شك فيه في مرتبة الواقع ، كما أنّه لا شك في أنّ تنجّزه لا يكون إلاّ بالقطع أو ما يقوم مقامه ، فالذي ادّعى الضرورة على خلافه إن كان ما قلناه فهو أجدر بدعوى الضرورة وأحق بها ، إذ التنجّز لم يكن إلاّ بسببه ، وإن كان غيره فلا تضرّنا تلك الضرورة ولا تنفعه.
وأمّا قوله : ( فإنّ الظن بالواقع لا ينفك عن الظنّ بأنّه مؤدّى طريق معتبر ) فقد كرّره آخر البحث ، فقال : ( مع ما قد عرفت من أنه عادة يلازم الظن بأنّه مؤدّى طريق وهو بلا شبهة يكفي ولو لم يكن هناك ظن بالطريق ) (1) وكرّره أيضا في حاشيته (2).
وهذا الكلام يصلح أن يكون دليلا على قلّة فائدة هذا البحث ، وأمّا أن يكون اعتراضا فلا ، لأنه إذا استلزم الظنّ بالواقع الظنّ بالطريق فقد حصل ما هو الحجة عند صاحب الفصول ، إذ لا يشترط عنده فيها حصول الظن بالطريق من طريق خاص ، فيكفي الظنّ به من أيّ سبب حصل ، إلاّ الحاصل من الطريق الممنوعة ، بل حتى الحاصل منها على ما سبق القول فيه ، وهذا على وضوحه مذكور في كلامه تصريحا وتلويحا في مواضع متعددة.
وكأنّ المعترض زعم أنّ الشرط فيها عنده تعيّن الطريق ، فلا يكفي الظنّ
به إجمالا ، كما ربّما يستظهر من بعض كلامه الآتي نقله ، وأنت تعلم أنّه لا أثر ولا عين لهذا الشرط في كلام صاحب الفصول ، ولا داع له يدعو إليه ، ولا يقتضيه حجّته ، وبحسبه أن يظنّ كونه مؤدّى خبر معتبر وإن لم يعرفه على التعيين ، فلو فرض أنه ورد في حكم فرعي خبران ، يظنّ بحجّية أحدهما دون الآخر ، أو قطع من قول صادق ـ كالصدوق ـ بورود رواية مظنونة الاعتبار قد ترك نقلها ، أيظنّ بمثل صاحب الفصول التوقّف عن الحكم فيه على طبقها ؟
هذا ، ولهذا الأستاذ في حاشيته كلام طويل واعتراضات كثيرة على هذا القول ، وقد جعله مردّدا أمره بين أن يكون المراد صرف التكليف عن الواقع إلى المؤدّى وبين إناطة التكاليف الواقعية بإصابة الطرق إليها ، أو إناطة تنجّزها بالإصابة ، بأن يكون المنجّز من التكاليف خصوص ما أصاب إليه طريق ممّا علم اعتباره إجمالا ، وجعل ثاني الوجوه ظاهر الكلام (1) المنقول في الكتاب عن بعض الفحول ، وثالثها مراد صاحب الفصول مدّعيا أنّه يظهر من ملاحظة كلامه بتمامه ، ولم ينسب أوّلها إلى أحد ، ولكن أطال القول في ردّه (2).
وحيث إنّه جزم بمراد صاحب الفصول ـ ونحن معه ، والصرف بالمعنى الأوّل لا يقول به أحد من أئمة هذا القول ـ صرفنا عنان القلم عن نقل ما اعترض عليه ، على أنّ للنظر فيه مواضع ، واقتصرنا من كلامه على ما يتعلّق بما جعله مراد صاحب الفصول ، وعزّاه إلى بعض الفحول إيثارا للاختصار على
--------------------
(1) ليس في النسخ الموجودة لديّ كلاما منقولا بهذا العنوان ، وأظنّ أنّ مراده قول الشيخ : ( وبذلك ظهر ما في قول هذا المستدلّ ) إلى آخره.
والظاهر أنّه مسامحة لأنّه كلام الشيخ في ( الهداية ) لا كلام صاحب الفصول ، ثمّ إنّ الظاهر اتّحاد مراد أصحاب هذا القول وإن عبّروا تارة بالفعليّة وأخرى بالتنجّز ، إذ الفرق بينهما بما ينافي المقصود اصطلاح حادث بعد زمانهم. ( منه ).
(2) انظر : حاشية فرائد الأصول : 84.
وقاية الاذهان
_ 742 _
ظن بالأمرين إجمالا ، حيث إنّه يستلزم الظن بالإصابة في بعض موارده وهو كما ترى ، حيث إنّ العقل لا يجوّز التنزّل عن الظن التفصيليّ بالأمرين لو كان بمقدار الكفاية في البين إلى الظنّ بهما إجمالا ، وإلاّ فليجوّز التنزّل إليه ولو كان أمر الإجمال والتفصيل على عكس ذلك ، أي إلى الظن بالواقع إذا كان من أطراف ما ظنّ اعتباره ، فتأمّل.
والحاصل : أنّ مقدّمة العلم الإجمالي بنصب طرق خاصة وإن سلّم أنّها تقتضي اختصاص التكليف الفعلي أو المنجّز بمؤدّياتها من الواقعيات ، إلاّ أنّ قضية ذلك ـ على حسب لزوم التنزّل في حال التعذّر إلى الظن بما يجب العلم به بدونه ـ هو الرجوع إلى الظنّ بالواقعيات المؤدّية إليها الطرق ، لا الظنّ بالطريق وحده ، ولا بالواقع كذلك لانفكاك الظنّ بكلّ عن الآخر ، إلاّ أنّه لا انفكاك عن طرف الظنّ بالواقع في غالب المسائل الابتلائية ، بخلافه من طرف الطريق ، كما لا يخفى.
هذا ، مع أنّ اختصاص التكليف الفعلي أو المنجّز بمؤدّياتها حال التمكن من العلم بالطرق دون التمكن من العلم بالواقعيات لا يقتضي التنزّل إلى الظن بالمؤدّيات وحده حال انسداد باب العلم بكليهما ، بل كما كان العلم بكلّ منهما حال انفتاح بابه كافيا كان الظن به كذلك حال انسداده ) (1).
أقول : ما جعله مفتتح اعتراضاته وخاتمتها من قياس الظن حال الانسداد بالعلم حال الانفتاح ، لا مجال له إلاّ على تقرير دليل الانسداد بالتقرير المشهور ، وأمّا على ما تفرّد به صاحب الفصول فلا ، وكيف يلزم بهذا القياس ؟! بعد دعواه القطع بجعل الحجة ، وانحصارها في الكتاب والسنّة ، وعدم فعلية غير مؤدّاهما من الأحكام ، أو عدم تنجّزها على ما استظهره من كلامه.
--------------------
(1) حاشية فرائد الأصول : 84 ـ 85.
وقاية الاذهان
_ 743 _
وعليه ، فالظن بمجرد الواقع ظن بما لا يعلم فعليته أو تنجّزه ، ودعوى حكم العقل بتنجّز التكاليف الواقعية بالظن في هذا الحال مصادرة ممنوعة.
ويظهر وجه المنع ممّا سبق من أول البحث إلى آخره ، فراجع ، ولا يهمّنا الآن الكلام على قوله ، وليس ذلك في العلم لحصول الأمرين به وإن كان يأتي في موضعه إن شاء الله.
وأمّا قوله : ( هذا مع ما عرفت ) إلى آخره ، فهو ما كرره مرارا في ( الحاشية ) وفي ( الكفاية ) وقد عرفت الكلام عليه ، وهو ظاهر فيما احتملناه في مراده من زعمه أنّ صاحب الفصول يشترط التعيين في الطريق ، وإلاّ فكيف السبيل إلى رفع التهافت البيّن بين قوله : ( الظنّ بالواقع ظنّ بالأمرين ) وبين قوله بلا فصل : ( وإن لم يكن ظنّ بحجّيته في البين ).
وأمّا ما أطال فيه القول من عدم الملازمة بين الظن بالطريق وبين الظن بالواقع فما هو إلاّ الخروج عن مفروض البحث ، أعني عدم فعلية غير مؤدّيات الطرق من الأحكام ، ولا سيّما على ما يذهب إليه هذا الأستاذ من أنّ الفعلية هي قوام الحكم وحقيقته ، ومناط الطاعة والمعصية ولا يجب امتثاله قبل بلوغه هذه المرتبة حتى مع العلم به.
وبالجملة ، مدار التكاليف اللازم امتثالها لدى صاحب الفصول على قيام الحجّة وإصابتها الواقع ، فلا فعلية ـ وإن شئت قلت : ولا تنجّز ـ لغير مداليلها ، ولا يهمّه أمر الواقع أصلا.
فظهر أنّه لا محصّل لما حسبه حاصل كلامه من أنّ قضية مقدّمة العلم الإجمالي بنصب طرق خاصة هو الرجوع إلى الظن بالواقعيات المؤدّية إليها الطرق لا الظن بالطريق وحده ولا بالواقع كذلك.
وظهر أيضا أنّ انفكاك الظن بكلّ عن الآخر غير ضائر بصاحب الفصول ، وعدم الانفكاك غالبا من طرف الظن بالواقع غير نافع للمعترض.
وقاية الاذهان
_ 744 _
وأمّا قوله : ( مع أنّ اختصاص التكليف الفعلي ) إلى آخره فهو منه عود على بدء ، وقد عرفت الجواب عنه.
ولله قوله : ( ومرجع القطعين عند التحقيق إلى أمر واحد ) (1) إلى آخره ، فما أوجزه وأجمعه لما يفلّ (2) به حدّ الخصم ، ويدحض حجّته ، فبحصره التكاليف الفعلية في مؤدّيات الطرق أخرج غيرها من الأحكام من طرفية العلم الإجمالي فكان جوابا إجماليا مختصرا عن تطويلاتهم في بيان أنّ مقتضاه الاحتياط في جميع المحتملات.
وبحصره الحجّة في أمور مخصوصة أخرج غيرها من الطرق ، ودفع وجوب الاحتياط في مؤدّياتها ، وبلزوم التنزل إلى العمل بما يظن حجّيته ، وحكم العقل القطعي بحجّيته حال انسداد باب العلم إلى تعيينها بالقطع سدّ أبوابا للاعتراضات الاخر ، فكانت النتيجة هو القطع بحجّية الكتاب والسنّة مقطوعهما ومظنونهما فقط ، فتمّ له ما حاوله من حجّية الظنّ الخاصّ الّذي عليه عامة علماء الشيعة وخواصّهم ، سوى قليل من متأخّري المتأخّرين ذهبوا إلى حجّية مطلق الظن قولا لا عملا ، فانظر كيف قلب الدليل على القائل بالظن المطلق ، وأبان صباح الحق من داجي ليل دليل الانسداد ( هكذا هكذا وإلاّ فلا ).
واعلم أنّ جميع ما مرّ من أول البحث إلى هنا وجميع الاعتراضات الموردة على كلام الفصول ممّا تعرّضنا له أو أعرضنا عنه مبني على أن يكون المراد من الانسداد المأخوذ في تقريره هو الانسداد في غالب الأحكام ، بمعنى ملاحظة الأحكام جملة ، وإثبات انسداد باب العلم إلى أكثرها على ما هو مأخوذ في التقرير المعروف ، وعليه يقع الاحتياج إلى إبطال الرجوع إلى البراءة وإلى الاحتياط ، وتبنى الاعتراضات على هذا الكلام ممّا يكون مقتضى الأصول المقرّرة للعلم
الإجمالي وغيره ، وقد جعلنا البحث على فرضه مجاراة وبيانا لصحّة ما ذهب إليه على جميع التقادير ، وإلاّ فهذا الدليل لا يتوقف على الانسداد المذكور ، ولو لم يكن في الشرع سوى حكم واحد لا سبيل للقطع إليه لجرى فيه أيضا.
بيانه : أنّه رحمه الله ان ذكر الأحكام الكثيرة في عنوان الدليل فليس ذكره إلاّ ببيان ما هو الواقع في الخارج الّذي يهم البحث عنه ، وإلاّ فالحال في الحكم الواحد كالحال في الأحكام الكثيرة ، لأنّ بعد العلم بالتكليف وبالطريق المنصوب إليه ، وفقد السبيل إلى تعيينه إلاّ بالظن ، يحكم العقل بحجّية ذلك الظن بمقتضى المقدّمات السابقة ، ولا يبقى محلّ للرجوع إلى الأصلين : البراءة والاحتياط لوجود الحجة المانعة عنهما ، ولهذا لم يتعرض لإبطالهما بالخروج عن الدين ولزوم الحرج ، وتعرّض لهما في بيان التقرير المشهور ، وما ذاك لاستغنائه عن إبطالهما وحاجة القوم إليه ، وهذا مما يزيده بعدا على بعد عنهم ، ويدعه في راحة ممّا أتعب غيره ، وله مزيد توضيح تسمعه في شرح كلام أخيه ـ العلاّمة ـ إن شاء الله.
قال في الرسالة ما لفظه : ( الوجه الثاني : ما ذكره بعض المحقّقين من المعاصرين مع الوجه الأول ، وبعض الوجوه الأخر ، قال : لا ريب في كوننا مكلّفين بالأحكام الشرعية ، ولم يسقط عنّا التكليف بالأحكام الشرعية في الجملة ، وأنّ الواجب علينا أولا هو تحصيل العلم بتفريغ الذمّة في حكم المكلّف بأن يقطع معه بحكمه بتفريغ ذمّتنا عمّا كلّفنا به ، وسقوط التكليف عنّا سواء حصل العلم منه بأداء الواقع أولا حسب ما مرّ تفصيل القول فيه ، وحينئذ فنقول : إن صحّ لنا تحصيل العلم بتفريغ الذّمّة في حكم الشارع فلا إشكال في وجوبه ، وحصول البراءة ، وإن انسدّ علينا سبيل العلم به كان الواجب علينا تحصيل الظن بالبراءة في حكمه إذ هو الأقرب إلى العلم به ، فتعيّن الأخذ به عند التنزّل من العلم في حكم العقل بعد انسداد سبيل العلم والقطع ببقاء التكليف ، دون ما يحصل معه الظن بأداء الواقع ، كما يدّعيه القائل بأصالة حجّية الظنّ وبينهما بون بعيد ، إذ المعتبر في الوجه الأول هو الأخذ بما يظنّ كونه حجّة بقيام دليل ظنّي على حجّيته ، سواء حصل منه الظن بالواقع أو لا.
وفي الوجه الثاني لا يلزم حصول الظن بالبراءة في حكم الشارع ، إذ لا يستلزم مجرّد الظنّ بالواقع الظنّ باكتفاء المكلّف بذلك الظن في العمل ، سيّما بعد النهي عن اتّباع الظن ، فإذا تعيّن تحصيل ذلك بمقتضى العقل يلزم اعتبار أمر آخر يظنّ معه رضاء المكلّف بالعمل به ، وليس ذلك إلاّ الدليل الظنّي الدالّ على حجّيته ، فكلّ طريق قام ظن على حجّيته عند الشارع يكون حجّة دون ما لم يقم عليه ) انتهى بألفاظه.
وقاية الاذهان
_ 747 _
وأشار بقوله : ( حسب ما مرّ تفصيل القول فيه ) إلى ما ذكره سابقا في مقدّمات هذا المطلب ، حيث قال في المقدّمة الرابعة من تلك المقدمات : ( إنّ المناط في وجوب الأخذ بالعلم ، وتحصيل اليقين من الدليل ، هل هو اليقين بمصادفة الأحكام الواقعية الأوّلية إلاّ أن يقوم دليل على الاكتفاء بغيره أو أنّ الواجب أوّلا هو تحصيل اليقين بتحصيل الأحكام ، وأداء الأعمال على وجه أراده الشارع في الظاهر ، وحكم معه بتفريغ ذمّتنا بملاحظة الطرق المقرّرة لمعرفتها بما جعلها وسيلة للوصول إليها ، سواء علم بمطابقة الواقع أو ظنّ ذلك أو لم يحصل شيء منها؟ وجهان ، الّذي يقتضيه التحقيق : الثاني ، فإنّه القدر الّذي يحكم العقل بوجوبه ، ودلّت الأدلّة المتقدّمة على اعتباره ، ولو حصل العلم بها على الوجه المذكور لم يحكم العقل بوجوب تحصيل العلم بما في الواقع ، ولم يقض شيء من الأدلّة الشرعية بوجوب تحصيل شيء آخر وراء ذلك ، بل الأدلّة الشرعيّة قائمة على خلاف ذلك ، إذ لم يبن الشريعة من أول الأمر على وجوب تحصيل كلّ من الأحكام الواقعية على سبيل القطع واليقين ولم يقع التكليف به حين انفتاح سبيل العلم بالواقع ، وفي ملاحظة طريقة السلف من زمن النبي صلّى الله عليه
وآله والأئمة عليهم السلام كفاية في ذلك ، إذ لم يوجب النبي صلّى الله عليه وآله على جميع من في بلده من الرّجال والنسوان السماع منه في تبليغ الأحكام ، أو حصول التواتر لآحادهم بالنسبة إلى آحاد الأحكام ، أو قيام القرينة القاطعة على عدم تعمّد الكذب ، أو الغلط في الفهم ، أو في سماع اللفظ ، بل لو سمعوه من الثقة اكتفوا به ) انتهى.
ثم شرع في إبطال دعوى حصول العلم بقول الثقة مطلقا إلى أن قال : ( فتحصّل ممّا قررناه أنّ العلم الّذي هو مناط التكليف أوّلا هو العلم بالأحكام من الوجه المقرّر لمعرفتها والوصول إليها ، والواجب بالنسبة إلى العمل هو أداؤه على وجه يقطع معه بتفريغ الذّمّة في حكم الشرع سواء حصل العلم بأدائه على
وقاية الاذهان
_ 748 _
طبق الواقع أو على طبق الطريق المقرّر من الشارع وإن لم يعلم ولم يظنّ بمطابقتها للواقع.
وبعبارة أخرى لا بد من معرفة أداء المكلّف به على وجه اليقين أو على وجه منته إلى اليقين من غير فرق بين الوجهين ولا ترتيب بينهما ، ولو لم يظهر طريق مقرّر من الشارع لمعرفتها تعيّن الأخذ بالعلم الواقع على حسب إمكانه ، إذ هو طريق إلى الواقع بحكم العقل من غير توقف لإيصاله إلى الواقع إلى بيان الشرع ، بخلاف غيره من الطرق المقررة ) انتهى كلامه رفع مقامه.
أقول : ما ذكره في مقدمات مطلبه من عدم الفرق بين علم المكلّف بأداء الواقع على ما هو عليه وبين العلم بأدائه من الطريق المقرّر ممّا لا إشكال فيه ، نعم ما جزم به من أنّ المناط في تحصيل العلم أوّلا هو العلم بتفريغ الذمّة دون أداء الواقع على ما هو عليه فيه : أنّ تفريغ الذمّة عمّا اشتغلت به إمّا بفعل نفس ما أراده الشارع في ضمن الأوامر الواقعيّة ، وإمّا بفعل ما حكم حكما جعليا بأنّه نفس المراد وهو مضمون الطرق المجعولة ، فتفريغ الذمّة بهذا على مذهب المخطّئة من حيث انّه نفس المراد الواقعي بجعل الشارع ، لا من حيث انّه شيء مستقلّ في مقابل المراد الواقعي ، فضلا عن أن يكون هو المناط في لزوم تحصيل العلم واليقين.
والحاصل : أنّ مضمون الأوامر الواقعية المتعلّقة بافعال المكلّفين مراد واقعي حقيقي ، ومضمون الأوامر الظاهرية المتعلّقة بالعمل بالطرق المقرّرة ذلك المراد الواقعي ، لكن على سبيل الجعل لا الحقيقة ، وقد اعترف المحقّق المذكور حيث عبّر عنه بأداء الواقع من الطريق المجعول ، فأداء كلّ من الواقع الحقيقي والواقع الجعلي لا يكون بنفسه امتثالا وإطاعة لأمره المتعلّق به ما لم يحصل العلم به.
نعم لو كان كلّ من الأمرين المتعلّقين بالأداءين ممّا لا يعتبر في سقوطه
وقاية الاذهان
_ 749 _
قصد الإطاعة والامتثال كان مجرّد كلّ منهما مسقطا للأمرين من دون امتثال ، وأمّا الامتثال للأمر بهما فلا يحصل إلاّ مع العلم.
ثم إنّ هذين الأمرين مع التمكن من امتثالهما يكون المكلّف مخيّرا في امتثال أيّهما ، بمعنى أنّ المكلّف مخيّر بين تحصيل العلم بالواقع فيتعيّن عليه ، وينتفي موضع الأمر الآخر ، إذ المفروض كونه ظاهريّا قد أخذ في موضوعه عدم العلم بالواقع ، وبين ترك تحصيل الواقع وامتثال الأمر الظاهري ، هذا مع التمكن من امتثالهما.
وأمّا لو تعذّر عليه امتثال أحدهما تعيّن امتثال الآخر ، كما لو عجز عن تحصيل العلم بالواقع ، وتمكّن من سلوك الطريق المقرّر لكونه معلوما له ، أو انعكس الأمر ، بأن تمكّن من العلم وانسدّ عليه باب سلوك الطريق المقرّر لعدم العلم به ، ولو عجز عنهما معا قام الظنّ بهما مقام العلم بهما بحكم العقل ، فترجيح الظنّ بسلوك الطريق على الظنّ بسلوك الواقع لم يعلم وجهه ، بل الظنّ بالواقع أولى في مقام الامتثال لما أشرنا إليه سابقا من حكم العقل والنقل بأولويّة إحراز الواقع.
هذا في الطريق المجعول في عرض العلم بأن أذن في سلوكه مع التمكن من العلم.
وأمّا إذا نصبه بشرط العجز عن تحصيل العلم فهو أيضا كذلك ضرورة أنّ القائم مقام تحصيل العلم الموجب للإطاعة الواقعيّة عند تعذّره هي الإطاعة الظاهريّة المتوقّفة على العلم بسلوك الطريق المجعول لا على مجرّد سلوكه.
والحاصل : أنّ سلوك الطريق المجعول مطلقا أو عند تعذّر العلم في مقابل العمل بالواقع ، فكما أنّ العمل بالواقع مع قطع النّظر عن العلم لا يوجب امتثالا ، وإنّما يوجب فراغ الذّمّة من المأمور به واقعا لو لم يؤخذ فيه تحقّقه على وجه الامتثال ، فكذلك سلوك الطريق المجعول ، فكلّ منهما موجب لبراءة الذمّة
وقاية الاذهان
_ 750 _
واقعا وإن لم يعلم بحصوله ، بل ولو اعتقد عدم حصوله ، وأمّا العلم بالفراغ المعتبر في الإطاعة فلا يتحقق في شيء منهما إلاّ بعد العلم أو الظنّ القائم مقامه ، فالحكم بأنّ الظن بسلوك الطريق المجعول يوجب الظن بفراغ الذّمّة ، بخلاف الظن بأداء الواقع فإنّه لا يوجب الظن بفراغ الذمّة إلاّ إذا ثبت حجّية ذلك الظن ، وإلاّ فربّما يظنّ بأداء الواقع من طريق يعلم بعدم حجّيته ـ تحكّم صرف.
ومنشأ ما ذكره ـ قدس سره ـ تخيّل أنّ نفس سلوك الطريق الشرعي المجعول في مقابل سلوك الطريق العقلي غير المجعول وهو العلم بالواقع الّذي هو سبب تام لبراءة الذمّة فيكون هو أيضا كذلك فيكون الظن بالسلوك ظنّا بالبراءة ، بخلاف الظن بالواقع لأنّ نفس أداء الواقع ليس سببا تامّا للبراءة حتى يحصل من الظنّ به الظنّ بالبراءة ، فقد قاس الطريق الشرعي بالطريق العقلي ، وأنت خبير بأنّ الطريق الشرعي لا يتّصف بالطريقيّة فعلا إلاّ بعد العلم تفصيلا ، وإلاّ فسلوكه أعني مجرّد تطبيق الأعمال عليه مع قطع النّظر عن حكم الشارع ، لغو صرف.
ولذلك أطلنا الكلام في أنّ سلوك الطريق المجعول في مقابل العمل بالواقع ، لا في مقابلة العلم بالعمل بالواقع ، ويلزم من ذلك كون كلّ من العلم والظنّ المتعلّق بأحدهما في مقابل المتعلّق بالآخر ، فدعوى أنّ الظن بسلوك الطريق يستلزم الظن بالفراغ ، بخلاف الظن بإتيان الواقع ـ فاسدة.
هذا كلّه مع ما علمت سابقا في ردّ الوجه الأول من إمكان منع جعل الشارع طريقا إلى الأحكام ، وإنّما اقتصر على الطرق المنجعلة عند العقلاء وهو العلم ، ثم على الظن الاطمئناني ) (1).
أقول : الوجه الّذي حكم ـ طاب ثراه ـ باتّحاده مع الوجه المتقدّم نقله
--------------------
(1) العبارات المنقولة من أول العنوان إلى هنا كلام الشيخ الأنصاري في فرائد الأصول : 135 ـ 137 ، وانظر أيضا لما
نقله عن بعض المحققين : هداية المسترشدين : 384 ـ 385 و 391.
وقاية الاذهان
_ 751 _
عن الفصول هو الوجه الثاني من الوجوه الثمانية التي استدلّ بها على إثبات الظنّ الخاصّ ، ولا بأس بنقله بنصّه ليسهل على الناظر المقايسة بينهما ، قال : ( الثاني : أنّه كما قرر الشارع أحكاما واقعية كذا قرّر طرقا للوصول إليها إمّا العلم بالواقع ، أو مطلق الظنّ ، أو غيرهما قبل انسداد باب العلم أو بعده ، وحينئذ فإن كان سبيل العلم بذلك الطريق مفتوحا فالواجب الأخذ به والجري عليه ، ولا يجوز الأخذ بغيره ممّا لا يقطع معه بالوصول إلى الواقع من غير خلاف بين الفريقين ، وإذا انسدّ سبيل العلم به تعيّن الرجوع إلى الظن
به ، فيكون ما ظنّ أنّه طريق مقرّر من الشرع طريقا قطعيّا حينئذ إلى الواقع ، نظرا إلى القطع ببقاء التكليف بالرجوع إلى الطريق ، وقطع العقل بقيام الظن حينئذ مقام العلم حسب ما عرفت ويأتي ، فالحجّة إذن ما ظنّ كونه حجّة وطريقا للوصول إلى الأحكام ، وذلك إنّما يكون بقيام الأدلّة الظنّية على كونه كذلك ، وليس ذلك إثباتا للظنّ بالظنّ حسب ما قد يتوهّم ، بل تنزّلا من العلم بما جعله الشارع طريقا إلى ما يظنّ كونه كذلك بمقتضى حكم العقل حسب ما مرت الإشارة إلى نظيره في الوجه المتقدم ) (1).
أقول : الوجهان مشتركان في المقدّمتين الأوليين أعني وجود الطرق الشرعية إلى الأحكام الواقعية ، ولكن هذا ـ كما يظهر ممّا تعرفه في بيان محل النزاع ـ اشتراك في المدّعى لا الدليل ، لأنّ المهم الّذي يحاول كلّ منهما إثباته هو تعيّن العمل بالطرق الشرعية ، أعني الظنّ الخاصّ ، فتأمّل.
وبالجملة ، فالتوافق التام بين الوجهين موضع تأمل ، وتحقيقه غير مهم ، وعلى فرض الاتّحاد فلا ريب أنّ تقرير الفصول أتمّ وأوضح ، إذ تعيّن الرجوع إلى الظن بالطريق لا يتم إلاّ بما فيه من قوله : ( وحاصل القطعين يرجع إلى أمر
--------------------
(1) هداية المسترشدين : 393.
وقاية الاذهان
_ 752 _
واحد ) (1) ولا يمكن إخراج سائر التكاليف المحتمل وجودها في غير مؤدّيات الطرق إلاّ به.
ثم إنّ ظاهر التقرير حجّية الظنّ بمطلق الطريق ، وما وضعت هذه الوجوه إلاّ لردّه ، وإثبات تخصيص الحجّة بالكتاب والسنّة ، كما صرّح به في غيره من الوجوه فلا بدّ فيه من قول ( الفصول ) : ( وهذه أمارات محصورة ) (2) فكان هذا الوجه ليس بحجّة تامّة ، بل يتوقف على ما قرّره ـ طاب ثراه ـ في سائر الوجوه ، ولهذا أحال أهمّ أجزائها إلى ما تقدّم من كتابه وما يأتي منه.
ثم إنّ حجة الإسلام الجدّ (3) ـ أعلى الله درجته ـ حكم في شرحه لكتاب والده ، بأنّ هذا الوجه هو الّذي اختاره عمّه (4) معرّضا بقوله : ( وزعم أنّه لم يسبقه إليه أحد ) (5) ولم يلبث حتى فرّق بينهما بوجهين :
أحدهما : تخصيص ( الفصول ) بدعوى القطع بوجود الطرق المجعولة ، واستظهر من والده عدم التفرقة بين الطرق المجعولة وغيرها ، واستشهد عليه بعدّه العلم من الطرق المقررة.
وثانيهما : أنّ مراد والده من الطريق ، الطريق الفعلي ، ومراد عمّه منه الطريق الواقعي ، وفرّق بينهما بوجوه (6) نذكر محصّلها ـ إن شاء الله ـ عند التعرّض لكلامه ، وتبيّن عدم الفرق بينهما من هذه الجهة.
--------------------
(1) الفصول الغرويّة : 277.
(2) الفصول الغرويّة : 278.
(3) هو الشيخ محمد باقر الأصبهانيّ المتوفى سنة 1301 ه ، نجل الشيخ محمد تقي الأصبهانيّ صاحب الكتاب المعروف ( هداية المسترشدين ).
له رحمه الله رسالة في حجّية الظن الطريقي ، وكتاب لبّ الأصول وغيرهما ، فوائد الرضوية : 410.
(4) يقصد بالعمّ : الشيخ محمد حسين الأصبهانيّ صاحب ( الفصول الغرويّة ).
(5) الفصول الغرويّة : 277.
(6) رسالة حجّية المظنّة : 33.
وقاية الاذهان
_ 753 _
وأما الوجه الأول ، فقد عرفت مفصّلا مراد ( الفصول ) من الطريق المنصوب وأنّه أعمّ من الجعل والتقرير ولو بعدم الردع ، وكلام والده العلاّمة مبني عليه ، بل لم يذكر هذه الوجوه إلاّ لإثباته ، وتعرف قريبا الوجه في عدّه العلم من الطرق المقرّرة.
وقبل النّظر فيما أفاده الشيخ الأعظم لا بدّ من التنبيه على أمور :
الأول : قد عرفت مما صدّرنا به البحث من نقل كلام صاحب الهداية أنّ محلّ الخلاف أنّ الحجّة بعد انسداد باب العلم بالأحكام الواقعيّة والطرق القطعية هل هي ظنّ المجتهد من أيّ طريق حصل ، أو أنّ هناك طرقا مخصوصة ، ويعبّر عن الأول بالظن المطلق ، وعن الثاني بالظن الخاصّ ، وأنّ من لا يرى خصوصية لقسم من الظن أو الطرق المؤدية إليها ، ويستدلّ عليه بدليل الانسداد المشهور فهو قائل بالأول ، ومن يرى خصوصية لقسم منه أو لطريق إليها فهو قائل بالثاني.
وعرفت أيضا أنّ هذا الإمام وأخاه العلاّمة يذهبان إلى الثاني والحجّة عندهما خصوص الكتاب والسنّة وما يؤول إليهما ، وهما من ألدّ خصوم الظن المطلق ، وقد ذكر كلّ منهما الدليل المشهور ، وبالغ في الردّ عليه ، وجميع ذلك قد اتّضح ممّا تقدّم ، فلا حاجة بنا إلى تكراره ، ويزيد وضوحا بما يأتي ـ إن شاء الله ـ ونذكرك هنا بما أسلفناه : أنّ عدّهما من المخالفين في عموم نتيجة دليل الانسداد أمر سبق إليه قلم الشيخ ـ طاب ثراه ـ وتبعه فيه عامّة من تأخّر عنه ، وأنّ من الواضح المصرّح به في كلام صاحب الهداية والظاهر من كلام أخيه هو التعميم بناء على الظنّ المطلق.
الثاني : مختار هذا الإمام وجود الدليل القاطع على حجّية الظنون الخاصة ، والمدارك المخصوصة ، كما صرّح به في الوجه الأخير من الوجوه الثمانية ، فقال : ( وقد دلّ على أنّ هناك طريقا خاصّا مقرّرا من صاحب الشريعة لاستنباط الأحكام الشرعية لا يجوز التعدّي عنه في الحكم والإفتاء ما دام التمكّن منه
وقاية الاذهان
_ 754 _
حاصلا ، وما ذكروه من اعتبار القطع في الأصول لا بدّ من حمله على إرادة هذه المسائل ونحوها من مسائل الأصول إن أرادوا بذلك ما يعمّ أصول الفقه ، فكيف يلتزم بانسداد سبيل العلم فيها ، والطريق عندنا هو الرجوع إلى الكتاب والسنّة ! ؟ ) (1).
ثم أخذ في بيان الدليل من تواتر الأخبار ، وقيام السيرة ، وغيرهما إلى أن قال : ( فظهر أنّ الظن الخاصّ الّذي نقول بالعمل به ، وجعله الشارع طريقا إلى معرفة أحكامه هو الظن الحاصل من الرجوع إلى
الكتاب والسنّة ، ولا نقول بحجية ظن سوى ذلك ) (2).
وقال في أثناء تقرير الوجه السادس ما لفظه : ( انعقاد الإجماع على وجوب الرجوع إلى الكتاب والسنّة بالنسبة إلى زماننا هذا وما قبله من الأمور الواضحة الجليّة ، بل ممّا يكاد أن يلحق بالضروريات الأولية ) إلى أن قال : ( ليس المقصود دعوى الإجماع على وجوب الرجوع إلى الكتاب والسنّة باعتبار خصوصيّتهما ، بل المدّعى قيام الإجماع بالخصوص على وجوب الرجوع إليهما ، ليكون الظنّ الحاصل منهما حجّة ثابتة بالخصوص ، إذ لا حاجة ـ إذن ـ في إثبات حجيتهما إلى ملاحظة الدليل العقلي المذكور ، بل هو ثابت بالإجماع القطعي ، فيكون هو ظنّا ثابتا بالدليل ، وليس يعني بالظن الخاصّ إلاّ ما يكون حجيته ثابتة بالخصوص ، لا ما يكون حجيته بحسب الواقع بملاحظة الخصوصية الحاصلة فيه لا من جهة عامّة ، وهو واضح لا خفاء فيه ) (3) إلى غير ذلك مما
يصعب استقصاؤه ، إذ ما من صفحة من صفحات كتابه إلاّ وفيه بيان ذلك تصريحا أو تلويحا.
ثم إنّه ـ طاب ثراه ـ تنزّل عن هذه الدعوى مجاملة مع القائل بمطلق الظنّ ، وإتماما للحجّة عليه ، فذكر وجوها سبعة له أولها : هذا الّذي تعرّض الشيخ له لإثبات أن النوبة لا تنتهي إلى مطلق الظن ، بل الواجب عقلا هو الرجوع إلى الكتاب والسنّة ، وتفريغ الذّمّة عن التكليف في حكم الشارع ظنّا إذا فرض عدم إمكانه على سبيل القطع ، وهذا أيضا مصرّح في كلامه مرّات يتجاوز حدّ العشرات.
منها : ما ذكره في أواخر هذا الدليل ، ونصّه : ( فظهر بما قررناه أنّ اللازم أولا في حكم العقل هو تحصيل العلم بالتفريغ في حكم الشارع ، وبعد انسداد سبيله يتنزّل إلى الظن بالتفريغ في حكمه ، لا مجرّد الظن بالواقع ، وقد عرفت عدم الملازمة بين الأمرين وحصول الانفكاك من الجانبين ).
( نعم لو كان الحاصل بعد انسداد سبيل العلم بحصول التفريغ في حكمه أمورا مفيدة للظن بالواقع من غير أن يكون هناك دليل قطعي أو ظنّي على حجّية شيء منها ، وتساوت تلك الظنون في ذلك ، كان الجميع حينئذ حجّة في حكم العقل وإن لم يحصل من شيء منها ظن بالتفريغ أوّلا ، وذلك لعدم إمكان تحصيل الظن بالتفريغ من شيء منها على ما هو المفروض ، فينتقل الحال إلى مجرّد تحصيل الظن بالواقع ، ويحكم العقل ـ من جهة الجهل المذكور وتساوي الظنون في نظره بالنسبة إلى الحجية وعدمها ، حيث لم يقم دليل على ترجيح بعضها على بعض ـ بحجية الجميع ، والأخذ بأقواها عند التعارض من غير فرق بينها ، فصار المحصّل أنّ اللازم تحصيل العلم بالتفريغ في حكم الشارع كما مرّ القول فيه ، وبعد انسداد سبيله يتعيّن تحصيل الظن بالتفريغ في حكمه ، تنزّلا من العلم به إلى الظن ، فينزّل الظنّ به منزلة العلم ، وإذا انسد سبيله أيضا تعيّن الأخذ بمطلق ما يظنّ معه
وقاية الاذهان
_ 756 _
بأداء الواقع حسب ما ذكر في المقام ، فهناك مراتب متدرّجة ودرجات مترتّبة ، ولا يتدرج إلى الوجه الثالث إلاّ بعد انسداد سبيل الأوّلين ).
( والمختار عندنا حصول الدرجة الأولى ، وعدم انسداد سبيل العلم بالتفريغ من أول الأمر كما سيأتي الإشارة إليه في الوجه الأخير ، لكنّا نقول : إنه بعد تسليم انسداد سبيله إنّما يتنزّل إلى الوجه الثاني دون الثالث ، وإنّما يتنزّل إليه بعد انسداد سبيل الثاني أيضا وتساوي الظنون من كلّ وجه ، وأنّى لهم بإثبات ذلك ، بل من البيّن خلافه ، إذ لا أقلّ من قيام الأدلّة الظنيّة على حجيّة ظنون مخصوصة كافية في استنباط الأحكام الشرعية ، وهي كافية في وجوب الأخذ بها وعدم جواز الاتّكال على غيرها نظرا إلى قيام الدليل القطعي المذكور ، فليس ذلك من الاتكال على الظنّ في إثبات الظنّ ليدور كما ظن ) (1).
فانظر إلى تصريحه بأنّ المختار عنده حصول الدرجة الأولى ، وأنّ مختاره بعد تسليمه انسداد السبيل إليها هو التنزّل إلى الثانية ، ثم الثالثة ، وليكن هذا الكلام على مرأى منك ، فإنّه نافع في مواضع كثيرة من المطالب الآتية.
وهذا هو الظن الخاصّ الّذي يقول به ، ويناضل عنه بحقه وحقيقته ، ولا أدري كيف عزب ذلك عن قلم ولده الجدّ الإمام حجة الإسلام ، فقال : ( إنّ مقتضى الوجوه السبعة : العمل بالظن المطلق في الجملة ) (2).
وإن كان هذا قولا بالظن المطلق فما ذا يكون معنى الظن الخاصّ؟ ولعلّ لذلك رجع عنه ، فقال : ( أمّا القول بالظن المطلق في إثبات الطرق المخصوصة
فهو قول بالظن المخصوص ) (1).
فاتّضح لدى المنصف أنّ صاحبي ( الهداية ) و ( الفصول ) يذهبان إلى ما عليه سائر الفرقة الحقّة من انحصار الحجّة في الكتاب والسنّة ، وأنّه يلزم الرجوع إليهما في معرفة الأحكام وإن لم يفيدا إلاّ الظنّ ، وهذا الظنّ قد ثبت حجيته عندهما بالدليل العقلي المفيد للقطع ، فلا ينتهي النوبة إلى الظن بالواقع أو بطريق غيرهما.
وبعبارة أخرى : المقدّمة الأولى من مقدّمات الدليل المشهور ممنوعة ، فلا محلّ له عندهما أصلا ، فهذا الدليل كالمتقدم عليه في عداد الأدلّة العقلية الدالّة على حجية الخبر بخصوصه ، فكان الأجدر بالشيخ أن يذكرهما معها ، كما صنعه بالوجه السادس من الوجوه الثمانية ، لا أن يجعله نتيجة دليل الظن المطلق ، وهو أعلم بما صنع.
الثالث : قد عرفت الاحتمالات الثلاثة بناء على الظن المطلق من اعتبار كلّ من الظن بالطريق أو الواقع فقط ، واعتبارهما معا ، وأنّ الشيخ ـ قدّس سرّه ـ اختار الثالث ، ونقل الثاني عن غير واحد من مشايخه المعاصرين ، ونسب الأول إلى صاحبي ( الهداية ) و ( الفصول ) وقد اتّضح لديك حال هذه النسبة ، وأنّ صريح الأول وظاهر الثاني على الأول هو التعميم ، فهو ـ إذن ـ مجرّد احتمال أو قول لا يعرف قائله.
وعليه ، فالظنّ المطلق مردّد أمره بين احتمالين ، وما نشأ تثليث الاحتمالات إلاّ من حمل كلام الإمامين على غير وجهه.
وأمّا على الظن الخاصّ فقد قال في ( الهداية ) : ( يحتمل أن يقال بحجية الظنون الخاصة ليكون الحجّة نفس الظن الحاصل من الأدلّة فيناط حجّية
--------------------
(1) رسالة حجية المظنة : 27.
وقاية الاذهان
_ 758 _
الأدلّة عنده بالوصف المذكور ، إلاّ أنّه لا يوافقه بعض كلماتهم ).
( وأن يقال بحجّية طرق خاصة وظنّيات مخصوصة أفادت الظن بالواقع أو لم تفده ، وهذا هو التحقيق في المقام ، إذ ليست حجّية الأدلّة الشرعية منوطة بحصول الظن منها بالواقع ، وإنّما هي طرق مقرّرة لإفادة الواقع على نحو الطرق المقرّرة للموضوعات في إجراء الأحكام المقرّرة لها ) (1).
وصريحه اعتبار الظن بالطريق حصل منه الظن بالواقع أم لا.
وعليه ينبغي أن يحمل ما يوهم خلافه من كلامه ، كقوله في أثناء تقرير الوجه الثامن : ( فظهر أنّ الظن الخاصّ الّذي نقول بالعمل به ، وجعله الشارع طريقا إلى معرفة أحكامه هو الظن الحاصل من الرجوع إلى الكتاب والسنّة ولا نقول بحجية ظنّ سوى ذلك ) (2).
الرابع : الظن الخاصّ عند القائل به حجّة شرعيّة تنجّز الأحكام إذا صادف الواقع ، وتكون عذرا إذا أخطأ به ، ويجري الأصول العملية عند فقدانه ، تقيّد به المطلقات ، ويخصّص به العمومات ، ويبيّن به المتشابهات.
وبالجملة ، هو حجّة قطعيّة ، يترتّب عليه حال الانسداد ما يترتّب على العلم ، وليس كالظن المطلق الّذي يحاول إثباته بذلك الدليل المركّب من مقدّمات تافهة ، لأنّ أقصى وسعه رفع وجوب الاحتياط الّذي يحكم به العقل في موارد الظن بعدم التكليف ، واكتفاء الشارع بالإطاعة الظنّية لا يرفع به الاحتياط في المشكوكات ، ولا يستطاع به تخصيص العمومات الثابتة بالظنون الخاصة ، ومخالفة سائر الظواهر الموجودة فيها ، كما فصّله الشيخ في بيان المقدّمة الثالثة (3).
--------------------
(1) هداية المسترشدين : 386.
(2) هداية المسترشدين : 400.
(3) انظر : فرائد الأصول : 118 وما بعدها.
وقاية الاذهان
_ 759 _
فهو ـ إذن ـ من هذه الجهة كالأصول العمليّة ، إن بالغت قلت : إنّه برزخ بينها وبين الدليل ، وإن حاولت الصدق قلت : إنّه أدون منها من عدّة جهات لا يثبت به حجّة ، ولا يهتدى به إلى محجّة ، وأين هذا ممّا يحاوله الفقيه من التخصيص والتقييد للعمومات والإطلاقات ، والحكم بمؤدّاها عند وجودها ، والرجوع إلى الأصول لدى فقدانها ؟ إلاّ أن يقرّر النتيجة على وجه الكشف ، فإنّه على بعض وجوهه يهون به الخطب ، لكنّه دعوى فاسدة ما بنيت إلاّ على أصل فاسد ، كما تعرفه في محلّه.
الخامس : تنحصر التكاليف الفعلية عندهما فيما كان مؤدّى طرق مخصوصة ، وقد عرفت أنّها الكتاب والسنّة وما يؤول إليهما ، فلا تكليف فعلي منجّز ليس بمؤدّى طريق شرعي.
أمّا صاحب ( الفصول ) فقد مرّ من كلامه ومن شرحه ما فيه الكفاية.
وأمّا صاحب ( الهداية ) فكلامه طافح (1) به ما بين تصريح وتلويح ، وقد قال في أواخر الوجه الثاني ما نقله الشيخ في خاتمة اعتراضاته على ( الفصول ) ويأتي ذكره ما هو صريح في أنّ أحد التكليفين ـ أي : الواقع والطريق ـ منوط بالآخر مقيّد به.
وقال في أثناء تقريب دليل الانسداد على الوجه المعروف ما لفظه : ( وإن أريد به عدم اقتضائه ـ يعني الاشتراك في التكليف ـ تعيّن تلك التكاليف علينا بحسب الواقع مع عدم إيصال الطريق المقرّر في الظاهر للإيصال إليها فمسلّم (2).
وقال في أثناء تقريب آخر لهذا الدليل ما نصّه : ( فالحاصل أنّه لا تكليف بالأحكام الواقعية إلاّ بالطريق الموصل إليها ، فيجدر القول بتكليفنا بالأحكام
الواقعية ، لكن من الطريق المقرّر عند صاحب الشريعة ، سواء كان هو العلم أو غيره ) (1) إلى غير ذلك مما أورده في مواضع شتّى ، بل يظهر من بعضه دعوى الضرورة عليه.
والوجه فيه : أنّه لا شك في أنّ حكم العقل الامتثال العلمي مع التمكن منه من غير فرق بين إتيان الواقع الأصلي وبين إتيان الواقع المجعول ، كما أوضحه ـ طاب ثراه ـ وبعد انسداد باب العلم إليهما فحكمه الامتثال الظني من غير فرق بين الظن بالطريق وبين الظن بالواقع ، كما اختاره العلاّمة الجدّ ، وتقدّم نقله أول البحث ، بل الثاني أحقّ بالاتّباع كما تكرر في كلام الشيخ ، بل كفاية الأول محلّ تأمل كما تكرّر في كلام صاحبنا العلاّمة.
هذا إذا لم يتصرف الشارع في الطرق ، وترك الحكم للعقل ، وعليه يدور رحى دليل الانسداد المشهور.
وأما إذا عمد إلى أصناف الطرق المفيدة للظن فأمضى بعضا ورفض بعضا ، فلا بد أن ينقسم إلى معلوم حجّيته فيتّبع ، وإلى معلوم عدمها فيجتنب ، ولا بد أن تنقسم الأحكام بها إلى فعلية وهي ما كانت مؤدّى تلك الطرق المعتبرة ، وإلى غير فعلية وهي ما لا تكون كذلك.
وأقوى شاهد عليه ـ وإن استضعفوه ـ الاتّفاق على عدم حجّية القياس وأشباهه ، إذ من الواضح أنّه لا يجتمع فعلية الحكم مع النهي عن العمل بالطريق على أنّه دعوى بيّنة لا يحتاج إلى بيّنة ، إذ لا معنى لجعل الطريق إلاّ جعل الحجّة ، ولا معنى للحجّة إلاّ دوران الحكم مدارها ، وبالعكس لا معنى النهي عن الطريق ورفض حجّيته إلاّ عدم فعلية مؤدّياتها.
ثم بعد فرض انسداد سبيل العلم ـ الّذي هو الطريق العقلي الشرعي ،
--------------------
(1) هداية المسترشدين : 403.
وقاية الاذهان
_ 761 _
كما سمعته من صاحب ( الهداية ) وسوف تسمع منّا توضيحه ـ إلى الواقع والطريق المعتبر معا فلا بدّ أن تنقسم الطرق إلى مظنونة الاعتبار ، وإلى ما ليست بمظنونة ، فالأحكام إلى فعلية وإلى غيرها ، ولا شك أنّ مجرّد الظن بالواقع ليس ظنّا بالحكم الفعلي ، وبعبارة أخرى : ليس بحكم تقوم الحجّة عليه ، ولا بدّ من قيام الظن بها مقام العلم في تنجّز الواقعيات بحكم العقل ، كما يظهر من المقدّمات التي ذكرها ـ طاب ثراه (1) ـ فراجع نفسك ثم إنصافك فيما إذا حصل لك الظن بحرمة عصير التمر من قياسه بعصير الزبيب ، وفيما إذا حصل من رواية زيد النرسي الّذي ظننت صحة أصله : ( حرمة عصير الزبيب ) (2).
ألست ترى ظنك من القياس ظنّا لا يمكن أن يحتجّ به الشارع عليك ، بل يكون لك الحجة إذا شربته بنهيه عن القياس ، وتنزيله بمنزلة العدم بخلاف الثاني ، فإنّه ظنّ بحجّة شرعية ينزّله العقل منزلة العلم ، ويراه حجّة قاطعة حال الانسداد.
وهذا المعنى هو الّذي يعبّر عنه ـ طاب ثراه ـ تارة بالفراغ بظاهر الشرع ، وتارة بتفريغ الذّمّة عند الشارع ، أو في حكم الشارع ، وثالثة بحكم المكلّف (3) ، فانظر إلى الاعتراض الآتي من أنّ الحكم بالبراءة ليس من وظيفة الشارع ، ما أسمجه وأبعده من مرام هذا الإمام ، وإلى قولهم : إنّ التقييد بالطريق تصويب ، فهل تراه بهذا المعنى إلاّ عين التخطئة التي يقول بها أهل الحق ، وهل ترى بعد هذا البيان موقعا للتكليف الفعلي بالواقع حتى يعدّ طرفا للعلم الإجمالي أو يعدّ في مقابل الظنّ بالطريق فضلا عن أن يقدّم عليه ؟!.
--------------------
(1) انظر : هداية المسترشدين : 401.
(2) أصل زيد النرسي : 58 ، ومستدرك الوسائل 3 : 135 ، الباب 2 من أبواب الأشربة المحرّمة ( الطبع الحجري ) و 17 : 38 ، الباب 2 ، الحديث 1 ( الطبع الحديث ).
(3) انظر هداية المسترشدين : 391.
وقاية الاذهان
_ 762 _
ونقول في ختام هذه المقدّمات ما يلزمك التنبّه له وهو : أنّ أكثر الاعتراضات الموردة على كلام هذا الإمام ـ ولم أبعد عن الحق إن قلت : جميعها ـ ما نشأ إلاّ عن أمرين :
أحدهما : جعل مقدمات هذا الدليل عين مقدّمات دليل الانسداد المشهور ، وعدّه نتيجة له ، ولقد كرّرنا حتى كدنا أن تملّ القرّاء الكرام أنّ هذا دليل على بطلان ذلك الدليل لا أنّه نتيجة له.
وثانيهما : الغفلة عن أصل المدّعى الّذي صدّر كلامه ببيانه ، وعن سائر الوجوه التي ذكرها لإثباته ، فربما ترك توضيح أمر أو بيان مقدّمة ، لاعتماده على ما حقّقه في موضع آخر ، وما كتاب ( الهداية ) عند أهل ملّة العلم إلاّ قرآن هذا الفن ، يفسّر بعضه بعضا ، ولو لا مخافة الشطح (1) في المقال لقلت : وأهل البيت أدرى بما فيه ، وأعلم بظاهره وخافيه.
رجع ـ مدّعى هذا الرّجل العظيم وشقيقه انحصار الحجّة في زمن غيبته عليه السلام في الثقلين ، الذين أمرنا بالتمسك واستفادة الأحكام منهما ، ونهينا من العدول عنهما ، لا يقوم بغيرهما حجّة ، ولا يهتدى بغيرهما إلى المحجة ، أمّا المدّعى فهذا الحق الأبلج ، وأمّا الدليل عليه فهو هذه الحجج أزاح بها عنه غياهب (2) الخفاء ، وتركه أجلى من ابن ذكاء (3).
فلنعطف عنان القلم نحو شرح ما يلزم من كلامه ، ثم النّظر فيما أورد عليه ، ونبدأ ببيان مراده من قوله : أولا ، في قوله : ( والواجب عليه أولا هو تحصيل
--------------------
(1) الشطح : الخروج عن جادة الاعتدال.
(2) الغيهب : الظلمة. القاموس المحيط 1 : 116.
(3) ذكاء ـ بالضم ـ : اسم الشمس ، ويقال للصبح : ابن ذكاء لأنه من ضوئها ، لسان العرب 14 : 287 ( ذكا ).
وقاية الاذهان
_ 763 _
العلم بتفريغ الذّمّة عند المكلّف ) (1) فإنّه أول اعتراض اعترضوه وكان بمنزلة الأصل الّذي تفرّعت منه سائر ما أوردوه.
فنقول : إنّه ـ قدّس سرّه ـ لم يرد به الترتيب بين تفريغ الذّمّة وأداء الواقع ، ولا أنّ مؤدّى الطريق أمر مستقل في قبال الواقع ، كما فهمه الشيخ (2) ، فبنى عليه جميع اعتراضاته ، بل أراد أمرا واضحا لدى العقل مسلّما عند الكلّ ، وهو أنّ الّذي يحكم به العقل تحصيل فراغ الذّمّة عند الشارع وهو الحاصل بإتيان الواقع الأصلي والواقع الجعلي.
وبعبارة أخرى : تحصيل العلم بإتيان الواقع أو بمؤدّى الطريق من غير ترتيب بينهما بأن يكون اللازم أوّلا تحصيل العلم بالواقع الأوّلي ، وبعده بالواقع الجعلي ، بل المناط هو الجامع بينهما وهو تحصيل العلم بالفراغ عند الشارع كما عبّر عنه وبما يضارعه ، ولهذا أطال القول في جواز العمل بمؤدّيات الطرق مع التمكن من العلم بالواقع وبالعمل به ، كما أشار إليه الشيخ ، وقد صرّح بمراده هذا في مواضع : منها أثناء كلامه على دليل الانسداد المشهور ، فقال : ( الفراغ عند الشارع إمّا بإتيان الواقع أو ما هو بمنزلة الواقع ) وذلك ظاهر من المقدّمة التي نقلها الشيخ ، حيث صرّح بعدم الفرق بين الوجهين وعدم الترتيب بينهما ، فلا حاجة إلى تتبّع سائر ما وقع في كلامه من هذا النمط وتكلّف نقله.
وجميع ما ذكره في المقدّمة وفي بيان هذا الوجه هو الّذي قرّره الشيخ بعينه ، وينبغي أن يعدّ أو في شرح لقوله أول العنوان : ( وليس الواقع بما هو واقع مقصودا للمكلّف إلاّ من حيث كون تحقّقه مبرئا للذمّة ).
فهل ترى ـ رعاك الله ـ فرقا بين المقالين إلاّ تعبير صاحب ( الهداية ) بلفظ
( أولا ) عن قول الشيخ : ( من غير فرق ) ؟ وتفسيره عن الجامع بين الواقعين : الأصلي والجعلي بلفظ المبرئ للذمة عند المكلّف ، فلأيّ سبب نحوّل المطلب المأخوذ منه إلى صورة الاعتراض عليه ، وما دعاه ـ إلاّ توضيح بعد الواضح ـ سوى الردّ على من توهّم من القائلين بمطلق الظن من أنّ التكليف يتعلّق أوّلا بالواقع وبعده بالطريق ، وجعله توطئة لعدم تقدّم الواقع على الطريق حال العلم حتى يلزم منه ما يحاوله الخصم من تقدّم الظن بالواقع على الظن بالطريق.
ويشهد بذلك مواضع من كلامه ، منها : ما بيّنه أثناء ردّ دليل الانسداد وردّ قولهم : إنّ الطريق إلى الوصول إلى الأحكام هو العلم مع الإمكان ، ولفظه : ( وإن أريد أنّ الطريق أوّلا هو العلم بالأحكام الواقعية فينتقل بعد انسداد سبيله مع العلم ببقاء التكليف إلى الأخذ بالظن بها ـ فهو ممنوع ، بل القدر اللازم أوّلا ما عرفت من العلم بأداء التكليف شرعا كما مرّ تفصيل القول فيه. وكون الطريق المقرّر أوّلا في الشريعة هو العلم بالأحكام الواقعية ـ ممنوع ، وليس في الشرع ما يدلّ على لزوم تحصيل العلم بكلّ الأحكام الواقعية ، بل الظاهر أنّه مما لم يقع به التكليف مع انفتاح طريق العلم لما في إناطة التكليف به من الحرج التام بالنسبة إلى عامّة الأنام ، بل المقرّر من الشارع طرق خاصة لأخذ الأحكام ، كما قرّر طرقا خاصة للحكم في الموضوعات التي أنيط بها الأحكام ونزّلها
منزلة العلم بها ) (1).
وقال بعده بعدّة أسطر : ( ومحصّل الكلام : أنّ الطرق أولا إلى الواقع هو ما قرره الشارع ، وجعله طريقا إلى العلم بتفريغ الذّمّة لا نفس العلم بأداء الواقع ، ولذا إذا علمنا ذلك صحّ البناء عليه قطعا ولو مع انفتاح باب العلم بالواقع ، فعدم وجوب مراعاة القطع بالواقع إذا حصل القطع بتفريغ الذّمّة في ظاهر الشريعة
--------------------
(1) هداية المسترشدين : 403 ـ 404.