الجن ورقى العقارب ، فتكون مؤثرة بذواتها بل هي مؤثرة بأوضاعها ، ولا معنى للوضع إلاّ تعهّد الاستعمال ولا
معنى للاستعمال إلاّ الكشف عن المراد.
فالمتصوّر في عقد النكاح ـ مثلا ـ كشف كل من الإيجاب والقبول عن التزام كل من الزوجين للآخر بآثار
الزوجيّة ، وتعهّده له بما عليه من أحكامها ، وإعلامه هذا التعهّد بهذه الألفاظ ، ولا نمنع بعد ذلك إمكان اعتبار العلاقة بين الزوجين ، وانتزاعها من التعهّد المذكور ، وللكلام تتمّة ستقف عليها إن شاء الله في مبحث الأوامر.
وقد استبان بما ذكرنا [ ه ] أمور :
منها : أنّ تمام الوضع بالإعلام فلا يكاد يحصل الغرض إلاّ به ، ولا ينحصر الإعلام بلفظ خاص ، وبكيفيّة
مخصوصة فيحصل بلفظ سمّيته ، وجعلته ، ووضعته ، بل بنفس الاستعمال مع القرينة في وجه ، كما لو وجّه
الخطاب إلى شخص ، وناداه بـ ( يا زيد ) قاصدا إعلام الحاضرين بأنه سمّاه زيدا ، فبالاستعمال يحصل الإعلام بالوضع. لا نفس الوضع ، كما سمعناه مرارا في مجلس الدرس عن الشيخ الأستاذ (1) ، وهو مبني على ما كان يذهب إليه من أنّ الوضع جعل العلاقة.
وقد يكتفي عن التصريح به بالشهرة وكثرة الاستعمال ، فتقومان مقام الإعلام ، وهذا هو الوضع (2) التعيّني.
فالوضع على هذا ليس إلاّ قسما واحدا في حدّ ذاته ، وإنما التعدد في طرق الإعلام.
--------------------
(1) هو صاحب كفاية الأصول الآخوند محمد كاظم الخراسانيّ ( قدس سرّه ).
(2) الوضع تعيين اللفظ للدلالة على المعنى بنفسه ، فالتعيين جنس يشمل التعينيّات ، والمراد ما يشمل التعيين
عن قصد كما في المرتجل ويسمّى هذا النوع من الوضع بالوضع التعييني ، والتعيين من غير قصدكما في
المنقولات بالغلبة ، ويسمّى هذا النوع من الوضع بالوضع التعيّني.
والمصنّف أنكر هنا تنويع الوضع ، وصرّح أنّ التعدّد في طرق الإعلام ، ( مجد الدين ).
وقاية الاذهان
_ 59 _
ومنها : أنّ الوضع في عمومه وخصوصه يتبع التعهّد ، فيمكن عمومه في جميع الأزمان والحالات ، ولجميع الأشخاص ، كما هو الحال في سائر الألفاظ الموضوعة.
ويمكن أن يختص ببعض ذلك فيكون موضوعا لقوم دون آخرين ، وبزمان معيّن ، وإلى أجل مضروب ، وهذا وإن كان نادر الوقوع ، ولكنه بمكان من الإمكان.
ولعلّ منها : تسمية الأطفال بأسماء لا تناسب الكبار ، ومخاطبتهم بألفاظ لا تناسب إلاّ ألسنتهم وحالاتهم ، وهكذا الألفاظ التي لا يتفوّه بها إلاّ الأندال (1) ، ويأنف منها الأشراف.
بل قد يرجع عن التعهّد في استعمال خاص كما في المجاز عند أستاذنا المؤسّس (2) لأساس التعهّد ـ سقى الله معهده ـ وإن كان لي فيه نظر ستعرف وجهه في بحث الاستعمال.
ومنها : أنه كما يمكن وضع اللفظ لمعنى واحد ، يمكن وضعه لمعان متعدّدة ، وجمل شتّى مختلفة غير مرتبطة من غير لحاظ التركيب ، كما لو قال : إني متى طلبت الماء ، وأردت الإخبار عن قيام عمرو ، ومجيء زيد ، والنهي عن الكلام ، أتكلّم بهذا اللفظ.
ولهذا الكلام مزيد توضيح وبيان سيأتي في خلال المباحث الآتية إن شاء الله تعالى.
ومنها : أنّ الوضع هو تعهّد الاستعمالات الآتية ، فلا معنى للوضع إذا لم يلحقه الاستعمال ، كما أنّ الاستعمال ـ كما سيأتي ـ هو الوفاء بالتعهّد ، أعني الوضع ، فلا وضع لو لا الاستعمال ، ولا استعمال لو لا الوضع.
--------------------
(1) جمع نذيل : الخسيس من الناس والمحتقر في جميع أحواله ، الصحاح 5 : 1828 ، القاموس المحيط 4 : 56 ، مجمع البحرين 5 : 480 ( نذل ).
(2) صاحب تشريح الأصول ، ( مجد الدين ).
لا بد للواضع من معنى يلاحظه حال الوضع ، فإن كان الملحوظ معنى عامّا كليّا ووضع اللفظ بإزائه ، سمّي
بالوضع العام والموضوع له كذلك ، وإن كان معنى خاصّا ووضع اللفظ لذلك الخاصّ ، سمّي كل منهما خاصا ، وإن لاحظ العام ووضع اللفظ لكل فرد فرد منه ، سمّي الوضع عاما والموضوع له خاصّا.
وقد حكم بامتناع العكس ، لأن الخاصّ لا يكون مرآة للعام إلاّ بعد تجريده عن الخصوصية وعند ذلك يرجع إلى
العام ، لأنّ الخاصّ بعد التجريد عنها يكون عامّا.
قلت : يكفي في ذلك الاتحاد ـ ولو بوجه ـ بين المعنى الملحوظ والموضوع له ، وهذا موجود في هذا القسم.
ولو لزم الاتحاد من جميع الوجوه لزم امتناع القسم الثالث أيضا ، إذ العام بوصف كونه عاما غير الخاصّ ،
ويكفي مثالا لذلك : أنه لو رأى شبحا من بعيد ، ولم يعلم أنه جماد أو حيوان أو نبات وعلى كل منها لم يدر أنه من أيّ نوع ، فوضع اللفظ بإزاء ما هو نوع له بحسب الواقع ومتّحد معه في الصورة النوعية ، ولا شك في أنّ الموضوع له في هذه الصورة ملحوظ إجمالا ، وليس وجهه إلاّ الجزئي المتصوّر ، إذ المفروض أنّ الجامع لم يتحقق عنده إلاّ بعنوان الاتحاد مع هذا الشخص.
ثم إنّ المثال للوضع المطابق للموضوع [ له ] بقسميه واضح ، فمن قبيل ما إذا كانا عامّين : أسماء الأجناس ،
ومن قبيل ما إذا كانا خاصّين : الأعلام الشخصيّة ، وأما الوضع الخاصّ مع عموم الموضوع له فعلى فرض إمكانه غير متحقّق الوقوع.
وأما عكسه ، فقد عدّ منها جماعة من المتأخرين وضع الحروف وما شابهها ، فحكموا بأنّ الواضع لاحظ حين
الوضع معنى الاستعلاء ـ مثلا ـ ووضع لفظ ( على ) لكلّ جزئي من جزئيّاته ، وللواقع مرآة لحال مدخوله.
وقاية الاذهان
_ 61 _
وقد استدلّوا على ذلك بوجوه ستة تجدها مفصّلة في كتاب هداية (1) الجدّ العلاّمة ـ أعلى الله مقامه ـ وأثر التكلّف
باد على أكثرها ، بل على جميعها.
ويعلم منها أنّ الّذي ألجأهم إلى هذا التكلّف هو زعمهم انحصار التخلّص عن المنافاة بين وضعها للمفهومات الكلّية
وبين عدم صحّة استعمالها إلاّ في الجزئيّات ، في ذلك ، وعدم إمكان الفرق بينها وبين معانيها الاسمية إلاّ بذلك ،
ولا شك أنه لو تأتّى لهم الجمع بين الأمرين ، والفرق بينهما ، لما ذهبوا إلى هذا التكلّف الّذي لا يقبله الطبع السليم
، ويرفضه الذهن المستقيم.
ولهذا ذهب جماعة من محقّقي المتأخّرين ، أولهم ـ فيما أعلم ـ الجدّ العلاّمة في ( الهداية ) إلى أنها موضوعة
بالوضع والموضوع له العامين ، وأنّ معانيها كلّية كمعاني متعلّقاتها ، ويمكن بيانه من وجوه :
أولها : ما ذهب إليه ـ طاب ثراه ـ وملخّصه : أن الحروف موضوعة للمعاني الرابطية المتقوّمة بمتعلّقاتها
الملحوظة مرآة لحال غيرها ، وذلك المعنى الرابطي مأخوذ في الوضع على وجه كلّي ، ولكن لا يمكن إرادته من اللفظ إلاّ بذكر ما يرتبط به ، فلا يمكن استعمال اللفظ في ذلك المعنى الكلّي إلاّ في ضمن الخصوصيّات الحاصلة من ضمّ ما جعل مرآة لملاحظته لتقوّم المعنى الرابطي به ، فالحصول في ضمن الجزئي من لوازم الاستعمال فيما وضعت له لا لتعلّق الوضع بتلك الخصوصيات ، فعدم استعمالها في المعنى العام على إطلاقه إنّما هو لعدم إمكان إرادته كذلك ، لا لعدم تعلّق الوضع به كما زعموه (2).
ثانيها : ما قرّره السيد الأستاذ ـ قدس سره ـ وتوضيحه يبتني على مقدّمة
--------------------
(1) راجع هداية المسترشدين : 31 ـ 36.
(2) مقتطفة من الهداية ، ومن أراد التفصيل فليراجعها ( منه ره ) راجع هداية المسترشدين : 32.
وقاية الاذهان
_ 62 _
وهي : أنّ من المفاهيم ما لا يوجد في الخارج إلاّ تبعا للغير ، فتلك المفاهيم كالابتداء والانتهاء ـ مثلا ـ موجودة
بغيرها ، ومأخوذة صفة من صفاتها ، ولكنها توجد في الذهن على قسمين :
أولهما : أن توجد على نحو وجودها في الخارج ، أعني قائمة بغيرها مندكّة فيها.
وثانيهما : أن توجد مستقلّة بنفسها ، بمعنى أن يلاحظها المتصوّر في حدّ نفسها ، ويجرّدها عن الخصوصيات
التي لا توجد في الخارج بدونها ، ولا شك في إمكان وجودها في الذهن بهذا النحو ، أعني استقلالا ، وإن احتاج
في تصوّرها إلى تصوّر ما يقوم بها ، ومجرّد الاحتياج إلى الغير لا يوجب أن يكون ذلك الغير جزءا منها ،
ودخيلا في وضعها ، وما أشبهها من هذه الجهة بالأعراض فإنها تحتاج إلى الجوهر في وجودها الخارجي من
غير أن يكون الجوهر جزءا من معناه ، وبالربح الّذي لا بدّ في تصوّره من تصوّر التجارة ، إلى غير ذلك من
أشباهها وهي كثيرة.
ثم نقول : إنّ الحروف موضوعة لتلك المعاني الموجودة على نحو الوجود الخارجي ، ومعانيها الاسميّة
موضوعة لتلك أيضا ولكن على النحو الثاني وهي في اللحاظ الأول كلّيات كما في اللحاظ الثاني ، إذ اختلاف
اللحاظ لا يوجب الاختلاف في الحقيقة ، واحتياجها في الذهن إلى مفاهيم ترتبط بها لا يوجب جزئيّتها ، كما لا يوجبها احتياجها في الخارج إلى محالّ توجد بها.
ثالثها : ما ذهب إليه الشيخ الأستاذ (1) ، وبيّنه في مواضع من كتبه ، وهو : ( أنّ الحرف وضع ليستعمل وأريد
منه معناه حالة لغيره وبما هو في الغير ، ووضع غيره ليستعمل وأريد منه معناه بما هو هو.
وعليه يكون كل من الاستقلال بالمفهوميّة وعدم الاستقلال بها إنما اعتبر في جانب الاستعمال ، لا في المستعمل
فيه ليكون بينهما تفاوت بحسب المعنى ،
--------------------
(1) صاحب الكفاية طاب ثراه ( مجد الدين ).
وقاية الاذهان
_ 63 _
فلفظ ( الابتداء ) لو استعمل في المعنى الآلي ، ولفظة ( من ) في المعنى الاستقلالي لما كان مجازا ، أو استعمالا
له في غير ما وضع له وإن كان بغير ما وضع له ، فالمعنى في كليهما في نفسه كلّي طبيعي يصدق على كثيرين
، ومقيّدا باللحاظ الاستقلالي أو الآلي كلّي عقلي ، وإن كان بملاحظة أنّ لحاظه وجوده ذهنا كان جزئيّا ذهنيّا ،
فإنّ الشيء ما لم يتشخّص لم يوجد وإن كان بالوجود الذهني ) (1) انتهى.
وحاصل ما يفهم من هذا الكلام ، ومن سائر ما بيّنه في غير هذا المقام ، هو اتّحاد الوضع والموضوع له بين
الحرف وبين متعلّقه ، ولكن الواضع جعل على متابعيه أن لا يستعمل لفظ ( الابتداء ) مثلا إلاّ على النحو الاستقلالي ولفظ ( من ) إلاّ على النحو الآلي التبعي ، من غير أن يكون لكلّ من اللحاظين دخل في الموضوع له ، بل صرّح في غير هذا المقام بامتناع أخذ كلّ من اللحاظين في المعنى ، وجعله من خصوصيّاته ، وقد نقل ذلك عن التفتازاني أيضا.
ويردّه أنّ اللازم من متابعة الواضع إنما هو استعمال ما وضع له مع مراعاة ما اعتبره من القيود فيه ، وأما
متابعته في سائر أوامره فليس بلازم ولو قلنا بأنه الشارع ، إذ الكلام في متابعته من حيث إنه واضع لا شارع إلاّ
أن يكون وجوب هذه المتابعة من قبيل وجوب الصلاة والصيام وحرمة مخالفته كحرمة شرب المدام (2) ،
والمتابعة بهذا المعنى خارجة من محل الكلام.
ولازم ما ذكره ترادف لفظي ( الابتداء ) و ( من ) وهذا مما يقطع بفساده كلّ متضلّع في العربيّة ، ومطّلع على
مبادئ العلوم الأدبيّة.
وقوله : ( فلفظ ( الابتداء ) لو استعمل في المعنى الآلي ، ولفظة ( من ) في المعنى الاستقلالي لما كان مجازا )
(3) إلى آخره.
نقول : نعم ، لا يكون مجازا ولا حقيقة ، بل يكون غلطا قبيحا ، إذ من أسمج التعبير وأقبحه قول القائل : ( من ) زيد خير من ( إلى ) عمرو أو : ( من ) سيري البصرة و ( إلى ه ) الكوفة ، إلاّ أن يكون المراد منه اللفظ كما في قوله : ألام على لوّ (1) وفي قوله : هل ينفع شيئا ليت (2) أو تحسّنه صناعة بديعيّة ، هذا.
وأما على ما تقدم من السيد الأستاذ فهما مختلفان بحسب المفهوم إذ الملحوظ الاستقلالي غير الملحوظ الآلي وإن اشتركا بعد تجريد المعنى عن اللحاظين.
هذا ، وفي معاني الحروف مسلك آخر ، وهو أدقّ وألطف ممّا تقدّم ، ذهب إليه جماعة أو لهم ـ فيما أعلم ـ نجم الأئمة الرضي في شرح الكافية ، وتبعه غير واحد من المتأخرين.
وحاصله على اختلاف تقادير الذاهبين إليه : أنّ الحروف لا معاني لها أصلا ، بل هي كالعلم المنصوب بجنب الأسماء (3) لتعيّن مواقعها من الكلام ، وتربط بعضها ببعض ، وما هي إلاّ كرفع الفاعل ونصب المفعول ، فكما أنّ رفع ( زيد ) ونصب ( عمرو ) في قولك : ضرب زيد عمرا لا يزيدان في الجملة معنى أصلا ، ولا وظيفة لهما إلاّ تعيين أن موقع ( زيد ) فيها موقع الفاعل ، و ( عمرو ) موقع المفعول.
كذلك موقع ( الباء ) و ( في ) في قولك : ضربت فلانا بالسوط في الدار فإنه لا
--------------------
(1) صدر بيت ، لم يسمّ قائله ، وتمام البيت هكذا :
الأم على لوّ وإن كنت عالما ii
بـأذناب لوّ لم تفتني iiأوائله ii
(2) صدر بيت ، وتمامه هكذا :
ليت وهل ينفع شيئا ليت ii
ليت شبابا بوع iiفاشتريت ii
من أبيات رؤبة بن الحجاج بن رؤبة التميمي.
(3) شرح الكافية 1 : 10.
وقاية الاذهان
_ 65 _
حاجة إليهما إلاّ لربط الاسمين أعني السوط والدار بالضرب ، وبيان أنّ موقع الأول كونه آلة للضرب ، والثاني محلا له من غير أن يزيدا معنى فيها أو يشيّدا مبنى لها ، فليست الحروف إلاّ روابط للأسماء الواقعة في الكلام ، تعيّن مواقعها ، وتضعها في مواضعها.
وهذا المسلك في معاني الحروف ـ على قربه للوجدان ـ قريب إلى الخبر المأثور المشهور عن واضع علم النحو عليه السلام (1)(2) ، وتعريف أئمة الإعراب للحرف ، إذ لو كانت للحروف معان قد وضعت لها شاركت الأسماء في الإنباء عن مسمّياتها ، ولم يكن قوله عليه السلام في حدّ الاسم ، إنه : ( ما أنبأ عن المسمّى ) حدّا مانعا ، لأنّ الاختلاف في أنواع المنبأ لا يستلزم عدم صدق النبأ.
وكذلك قوله عليه السلام : ( والحرف ما أوجد معنى في غيره ) وقول النحاة : ( إنّ الحرف ما دلّ على معنى في غيره ) إذ ظاهرهما أنّ الحرف يوجد معنى في الغير بوصف كونه معنى ، أو يدلّ عليه كذلك.
هذا إجمال القول في تقريب هذا القول إلى الأفهام ، وعليك بكتب أصحابه إن شئت تفصيل الكلام.
وإن كان لا بدّ من مثال لهذا القسم من الوضع ، فليكن وضع أعلام الأجناس ، فإنها ممّا اختلفت فيه الآراء ، وذهبت الأفكار فيها كل مذهب ، حتى ألجأ بعضهم إلى أنّ التعريف فيها لفظي ، وقاسه بالتأنيث اللفظي ـ وأنت تعلم بالبعد الشاسع ما بين الأمرين ـ وبعضهم إلى تكلّف أمور دقيقة ، نعلم أنّ الواضع بعيد عنها بمراحل.
--------------------
(1) هو الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب صلوات الله عليه ، والخبر ما رواه أبو الأسود الدؤلي عنه عليه السلام ، وهذا الخبر أشهر من أن يذكر ( مجد الدين ).
(2) راجع الأشباه والنّظائر للسيوطي 1 : 12 ، وتهذيب التهذيب 12 : 12 ، ومعجم الأدباء 14 : 49 ، وكنز العمال 10 : 283 ـ 29456 ، وتأسيس الشيعة : 40.
وقاية الاذهان
_ 66 _
ولو قيل : بأنّ الواضع لأعلام الأجناس لاحظ جنس الأسد ـ مثلا ـ وهو عام ، ثم وضع لفظ أسامة لكل فرد فرد منها بخصوصيّاته الشخصيّة ، كما لو لاحظ الإنسان عنوان المولود له ، وسمّى كلّ واحد منهم محمّدا ، فهي أعلام ، لأنها موضوعة للشخص بخصوصيّاته وتشخّصاته ، ومعارف كسائر الأعلام ، ولا فرق بينها وبين سائر الأعلام إلاّ أنّ الملحوظ فيها الجنس ، ولهذا سميت بأعلام الأجناس.
واعلم أنّ من الحروف ما لم يوضع لإيجاد ربط ، ولا لإفادة معنى ، بل وضعت لأغراض اخر من تزيين الكلام ونحوه ، وهذا نوع آخر من التعهّد يقاربه ولا يطابقه ، كما يظهر للمتأمّل.
وقد منع السيد الرضي (1) وفاقا للمبرد ، وقوع هذه الحروف في الكتاب العزيز ، لظنّهما لزوم اللغو الّذي ينبغي أن ينزه عنه كلام الله سبحانه ، كما بيّنه ـ رضي الله عنه ـ في تفسيره المسمّى بـ ( حقائق التنزيل ودقائق التأويل ) (2)(3) عند
--------------------
(1) هو سيّد العلماء ، وأشرف الفقهاء ، وأزهد الفضلاء ، وأشعر الشعراء أبو الحسن محمد بن السيّد النقيب أبي أحمد حسين بن موسى بن محمد بن موسى بن إبراهيم بن الإمام الهمام موسى ابن جعفر الصادق صلوات الله عليهما ـ أخو السيد المرتضى علم الهدى ـ الملقّب بالسيد الرضي ، المشتهر بذلك ، وأمره في الثقة والجلالة أشهر من أن يذكر ، وأعلى من أن يسطر ، هذا.
ونقل أنه كان يوما عند الخليفة الطائع لله العبّاسي وهو يعبث بلحيته ويرفعها إلى أنفه ، فقال له الطائع : أظنّك تشتمّ منها رائحة الخلافة. فقال الرضي : بل رائحة النبوّة. هذا.
وله تصانيف كثيرة ، منها : التفسير الكبير المذكور في المتن ، ومنها : كتاب نهج البلاغة ، وهو معروف ، تولّد الرضي سند 359 ، وتوفي سنة 406 ، فكان عمره الشريف سبع وأربعين سنة ، فرحمة الله تعالى عليه ( مجد الدين ).
(2) وهذا الكتاب غير محتاج إلى التوصيف ، بل هو أحسن من كل تصنيف ، وهو أبسط من التبيان الّذي هو للشيخ الطوسي ، راجع مستدرك الوسائل [ ج 3 ص 510 ] ( مجد الدين ).
(3) حقائق التأويل للشريف الرضي : 165.
وقاية الاذهان
_ 67 _
الكلام على ( الواو ) في قوله تعالى : ( وَلَوِ افْتَدى بِهِ ) (1) ، وهذه شبهة ضعيفة ، إذ التزيّن ونحوه من أغراض الفصاحة ، ومعه تنتفي اللغوية ، فانظر أيها الأديب إلى موقع ( الهاء ) من قوله تعالى : ( ما أَغْنى عَنِّي مالِيَهْ. هَلَكَ عَنِّي سُلْطانِيَهْ ) (2) وأنّ هذا الحرف الزائد كيف زاد الكلام حسنا ، وأكسبه رونقا ، وكيف ينحط الكلام إذا حذفته منه ، ويذهب منه رونق الوحي الإلهي ، وبهاء المعجز النبوي.
( الواضع )
اختلفوا في واضع اللغات ، فذهبت الأشاعرة إلى أنه الله تعالى ، وجماعة إلى أنه البشر ، وآخرون إلى تفاصيل (3) تجدها مفصّلة في ( الفصول ) (4) وغيره.
ولا يخفى على من عرف ما ذكرناه في حقيقة الوضع ، أنّ كلّ متكلم ـ بأيّ لغة كانت ـ هو واضع حقيقة وإن جرى الاصطلاح على تخصيص الواضع بالمتعهّد الأول ، لأنه تعهّد ، والتعهد ـ كما عرفت ـ حقيقة الوضع ، ولا فرق بينه وبين الواضع الأول إلاّ التابعيّة والمتبوعيّة ، وكون تعهد الأول تفصيليّا ، والثاني إجماليّا ، فمن تعهّد بالتكلّم بالعربية ـ مثلا ـ فقد تعهّد إجمالا بجميع ما تعهّد به سائر المتكلّمين بها ، وينحل ذلك التعهّد إلى تعهّدات كثيرة بعدد مفردات تلك
--------------------
(1) آل عمران : 91.
(2) الحاقة : 28 و 29.
(3) واعلم أنّ في تعيين الواضع ثلاثة أقوال مشهورة :
الأول : ما ذهب إليه الأشعري وجماعة ، وهو أن الله تعالى هو الواضع.
الثاني : ما ذهب إليه أصحاب أبي هاشم ، وهو أنّ الواضع هو البشر إمّا واحدا أو أكثر.
الثالث : ما ذهب إليه أبو إسحاق الأسفرائني ، وهو أنّ الواضع في القدر الضروري المحتاج إليه في الاصطلاح هو الله تعالى ، وفي الباقي هو البشر.
لكن الحق ما حقّقه المصنّف في هذا الكتاب ، وهو الّذي يقبله الذوق الصحيح وأولو الألباب.
( مجد الدين ).
(4) انظر الفصول الغرويّة : 23.
وقاية الاذهان
_ 68 _
اللغة ، هذا.
وأما المتعهّد الأول فلا سبيل إلى تعيينه على سبيل القطع ، وما تشبّث به أرباب الأقوال السابقة ، فهي وجوه ضعيفة ، وتخرّصات واهية ، غير أنّا نقول : من الواضح الّذي ينبغي أن يقطع عليه أنه ليس لكلّ واحدة من اللغات المعروفة واضع شخصي قد تصدّى الوضع لكل واحدة واحدة من مفرداتها ، ولا جماعة قد تعاقدوا واجتمعوا لذلك ، بل الّذي يشهد به الاعتبار ، ويدلّ عليه تتبّع اللغات ، ومقايسة مفردات بعضها ببعض ، أنّ جميعها مأخوذ من أصول قليلة قديمة قد خالفت أصولها ، واختلفت ما فيها ، لاختلاف المتكلّمين بها بحسب اختلاف بلادها وأزمنتها وغيرهما حتى قلّت المشابهة بين كثير منها ، بل عزّت بين بعضها وبعض ، ولكن قد بقي إلى اليوم ما يشهد بصحة ما قلناه ، هذه اللغة المباركة العربية إذا قست بين مفرداتها وبين مفردات اللغة العبرية رأيت بينهما من المشابهة الكلّية ما تصدّق قول بعض الأدباء : إنّ الفرق بين اللغتين (1) كالفرق بين اللفظين.
وكذلك شباهتها بالسريانية ، حتى قال عبد الملك بن حبيب : إنها عربية محرّفة ، وإنّك ترى اليوم اختلاف المتكلّمين بلغة واحدة كالفارسية ـ مثلا ـ فيها حتى يكاد أن لا يفهم أهل صقع من بلادها لسان أهل صقع آخر ، بل هذا الاختلاف يشاهد كثيرا بين بلد (2) واحد ، وقراه المتّصلة به.
ثم إنّ المخالطة بين القبائل ، وفتح (3) بعضها بلاد بعض أوجب اختلاط فروع الأصول المختلفة ، ولذلك ترى اليوم في اللغة الفارسية من الألفاظ العربية ما
--------------------
(1) كالعربي والعبري ( مجد الدين ).
(2) كبلدنا أصبهان وكثير من قراه المتّصلة به أو القريبة إليه كقرية ( جز ) والقرية الكبيرة المعروفة بـ ( سدة ) فإنّ أهلهما يتكلّمون بينهم لغة خاصّة بهم لا يكاد يعرفها أهل البلد ، وقد شاهدت ذلك بالعيان ، والله المستعان ( مجد الدين ).
(3) كفتح العرب بلاد الفرس في صدر الإسلام ( مجد الدين ).
وقاية الاذهان
_ 69 _
يكاد أن يربو على ألفاظها الأصلية ، وتكثر في العربية المعرّب والدخيل.
ثم إنّ الصنائع المخترعة والمكتشفات الجديدة تستدعي بالطبع وضع الألفاظ المولدة ، كما أنّ توسعة نطاق العلوم
توجب جعل الاصطلاحات العلميّة فتحدث في اللغة ألفاظا كثيرة لا عهد لأربابها الأقدمين بها ، ولا شك أنّ أحد الكتب المصنّفة في الحكمة أو الأصولين لو عرض على عرب زمان الجاهلية لزعمته من الرطانة الهنديّة أو اليونانيّة.
وبالجملة كلّما كثرت الألفاظ التي تستعمل على نحو من التوسعة يعود وضعا تعيّنيّا للمستعمل فيه ، والتي تستعمل
على سبيل التحريف فتكون لغة أصلية كأكثر أمثلة الاشتقاق الكبير والأكبر ولغيرهما من أسباب كثيرة يد قوية في حصول التباينات بين المتقاربة من اللغات ، وهذا المقام يتحمل بحثا طويلا نكله إلى تتبّع الناظر وتأمّله ، وإنما غرضنا الإشارة لا التفصيل ، هذا.
وأما قوله تعالى (1) : ( وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ ) (2) فلا ينافي ما قلناه ، إذ لم يظهر المراد من الأسماء ، وأنها هل
كانت من قبيل اللغات أو غيرها ، وفي تفاسير أهل البيت عليهم السلام ما يدلّ على الثاني وعلى الأول ، فلا يعلم بأيّ لغة كانت ، فلعلّها كانت بغير لغات البشر ، أو ببعض أصولها المجهولة ، والله العالم.
--------------------
(1) هذا جواب عن احتجاج القائلين بأن الواضع هو الله تعالى ، والاحتجاج ما ذكره في الفصول وغيره ، وهو قوله تعالى : ( وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها ).
ووجه الدلالة : أنّ المراد بالأسماء إمّا معناها الأصلي أعني العلامات ، فيتأوّل الألفاظ لكونها علامة لمعانيها ، والتعليم فرع الوضع ، أو معانيها العرفي أعني ما يقابل الأفعال والحروف ، فيدلّ على وضعه لها بتقريب ما مرّ ، وعلى وضعه لهما لتعسّر أداء المراد بها بدونهما غالبا ، ولعدم قائل بالفصل ، فتدبّر ( مجد الدين ).
(2) البقرة : 31.
أما الموضوع : فكل ما تناله يد القدرة رفعا ووضعا ، أو إيجاده على عدد خاص أو كيفية خاصة ونحو ذلك ،
وأمكن إعلام الغير به فهو قابل للوضع ، وأتمّ الموضوعات نفعا ، وأسهلها استعمالا الألفاظ ، ثم الكتابة وإن كانت تفوق على الألفاظ بإمكان الإفهام لغير الحاضرين ، بل لغير الموجودين ، وبقائه بها في آلاف من السنين ، ثم ما بعدهما من المراتب ، حتى تنتهي النوبة إلى النصب التي لا يعلم بها إلاّ الطريق ، وعدد الفراسخ ونحوهما.
وأما الموضوع له : فكلّ ما يتعلّق الغرض بإفهامه الغير يكون قابلا للوضع له ، سواء كان معقولا أوّليا أو ثانويّا (1) ، كلّيا أو جزئيا ، إلى غير ذلك من الأقسام التي يصعب سردها ، بل يتعذّر عدّها حتى أنه يمكن وضع اللفظ للّفظ ومنه أسامي الحروف ، فلفظ الجيم موضوع لأول الحروف من لفظ جعفر ، والعين لثانيها كما قال الخليل ، وعدّ جماعة أسماء الأفعال منه ، وزعموا أنّ لفظ ( صه ) مثلا موضوع للفظ اسكت ، وهكذا ، ولكنه بعيد جدّاً ، بل الظاهر أنها موضوعات لمعان الأفعال ، لكن مع خصوصيّات حرفيّة ، فلفظ ( صه ) موضوع لطلب السكوت ، لكن مع زجر ومنع زائد على ماهية الطلب ، نظير وضع اليد على فم المتكلّم حال الكلام ، وكذلك لفظ ( هلمّ ) فهو موضوع لطلب المجيء ، لكن مع خصوصيّة تشبه الإشارة باليد ، ولعلّه لما فيه من الجفاء ومخالفة الأدب لا يخاطب الوضيع به الشريف ، ولهذا (2) منعت من التصريف والاشتقاق ، فهي بأن تسمّي أفعال الحروف أولى وأجدر من تسميتها بأسماء الأفعال.
--------------------
(1) يعني كالمحاذاة والفوقية والتحتيّة ( مجد الدين ).
(2) إشارة لما ذكر أوّلا أي مع خصوصيّات حرفيّة ، أي فكما أن الحروف غير قابل للتعريف والاشتقاق فهكذا أسماء الأفعال ( مجد الدين ).
الاستعمال ثمرة الوضع وفائدته وهو وفاء الواضع بالوعد وعمله بالتعهّد الّذي سبق منه ، بل لولاه لم يكن معنى للوضع ، ولم يتحقق له وجود في الخارج بغيره ، لأنه ـ كما عرفت ـ تعهّد الاستعمالات المتأخرة عنه فلا موضوع للتعهّد لو لا الاستعمال ، وحقيقته إفهام المعنى للمخاطب بإسماعه اللفظ ، وجعل اللفظ آلة لإحضار ما يريد من المعاني في ذهنه ، ومرآة تريه الأشياء بما هي عليها من النسب والخصوصيّات على ما يريد المتكلّم إراءتها له سواء كان مطابقا للواقع أم لا ، وسواء كان على طريق الجدّ منه أو الهزل بأيّ غرض سنح ، وداع اتّفق.
وبالجملة قوام الاستعمال بأمرين : إلقاء اللفظ على مسمع المخاطب ، وقصد إلقاء المعنى في ذهنه به ، فلا يشترط فيه غيرهما ، فمتى اجتمعا تحقق الاستعمال ، وينتفي بانتفاء أحدهما.
القسم الثاني
وأنت إذا أتقنت هذا الأمر الواضح ـ بعد البيان الّذي يغنيه صريح الوجدان عن تجشّم البرهان ـ عرفت الحق في عدة مسائل تضاربت فيها الأفكار ، واختلفت فيها الأنظار.
منها : أنه لا فرق بين القضية الصادقة والكاذبة في كون ألفاظهما مستعملة في معانيها لما عرفت من أنه لا معنى للاستعمال إلاّ إرادة المتكلّم إلقاء المعنى على السامع من غير أن يكون لمطابقة الواقع وعدمها دخل فيه ، خلافا لبعض مشايخنا (1) حيث كان رحمه الله يخصّص الاستعمال بالأولى ويزعم أنّ الكاذب
--------------------
(1) صاحب تشريح الأصول ( مجد الدين ).
وقاية الاذهان
_ 72 _
يغري السامع بالجهل ، ويوهمه أن قد استعمل الألفاظ في معانيها لا أنه يستعملها فيها وما كان يزيد في بيان ذلك
، على أنّ الوضع من أفعال العقلاء ، وأغراضهم لا تتعلّق إلاّ ببيان الواقعيّات فالكذب خلاف حكمة الوضع فلا يصدر من الواضع.
وهذا منه من الغرابة بمكان ، بل هو ـ فيما أرى ـ نقض لما شيّده في الوضع من محكم البنيان ، إذ عرفت أنّ كل
متكلّم بلغة واضع حقيقة ، ولا خصوصيّة للواضع الأول إلاّ المتبوعيّة ، والاختراع والتكلّم باللغات لا يختص بالعقلاء.
وأيضا الكذب من الأغراض العقلائية ، والعقل بالمعنى (1) الّذي يدعو إلى الوضع وأمثاله لا يمنع عن الكذب ،
بل قد يدعو إليه والعاقل لا يتحاشى عن الكذب إلاّ برادع أخلاقي أو شرعي كما يتحاشى عن سائر المحارم.
وبالجملة لا معنى للاستعمال ـ كما عرفت ـ سوى إرادة إفهام السامع معنى من المعاني بدواع وأغراض تدعوه
إلى ذلك ، واختلاف الأغراض في الحسن والقبح والحلّيّة والحرمة لا يوجب الاختلاف في الاستعمال.
ومنها : أنّ بعض الأساتيذ (2) ذكر في كتابه :
( أنّ حقيقة الاستعمال ليست مجرّد جعل اللفظ علامة لإرادة المعنى بل جعله وجها وعنوانا له ، بل بوجه نفسه
كأنّه الملقى ، فلذا يسري إليه قبحه وحسنه كما لا يخفى ) (3) إلى آخره.
وبنى عليه عدم جواز استعمال اللفظ المشترك في أكثر من معنى واحد ، وصرّح بجواز جعله علامة لمعان
كثيرة.
أقول : من الواضح لدى من أتقن معرفة ما ذكرناه سابقا ، أن لا معنى
--------------------
(1) احتراز عن العقل الحقيقي وهو ما عبد به الرحمن واكتسب به الجنان ( مجد الدين ).
(2) صاحب الكفاية طاب ثراه ( مجد الدين ).
(3) كفاية الأصول : 36.
وقاية الاذهان
_ 73 _
للاستعمال إلاّ إفهام المراد ، ولا يحصل ذلك إلاّ بجعل اللفظ علامة للمعنى بالمعنى الّذي عرّفناك به ، ولا نتعقّل وراء ذلك شيئا نسمّيه جعل اللفظ وجها وعنوانا للمعنى كما ذكره هنا ولا رميا للمعنى به كما كان يذكره في مجلس البحث.
وأما ما ذكره من سراية القبح إلى اللفظ فهو في غاية الخفاء ، وإن قال فيه : كما لا يخفى وما تراه من قبح التكلّم ببعض الألفاظ فليس لقبح اللفظ (1) ، بل لقبح إفهام المعنى للسامع ، وإحضاره في ذهنه ، ولهذا ترى هذا القبح موجودا حتى في الإشارة التي صرّح في بعض فوائده ـ على ما ببالي ـ أنه من قبيل العلامة لا إلقاء المعنى ، وكذا في غيرها من العلامات ، ولهذا المقام تتمّة مهمّة تسمعها في مسألة استعمال المشترك في معنييه إن شاء الله.
ومنها : أنّ صاحب الفصول قال ما لفظه : ( هل الألفاظ موضوعة بإزاء معانيها من حيث هي أو من حيث كونها مرادة للافظها ؟ وجهان ) (2).
ثم ذكر (3) ما يمكن أن يستدلّ لكلّ من الوجهين.
وجزم صاحب الكفاية بالأول فقال ، وهذا لفظه : ( لا ريب في كون الألفاظ موضوعة لمعانيها من حيث هي لا من حيث هي مرادة للافظها ، لما عرفت من أنّ قصد المعنى على أنحائه من مقوّمات الاستعمال فلا يكاد يكون من قيود المستعمل فيه ، هذا.
--------------------
(1) إذ لو كان لقبح اللفظ لزم ذلك ، أي يكون ذلك القبح ولو كان السامع غير عالم بالوضع ، والحال أنه ليس كذلك قطعا ، فتأمّل ( مجد الدين ).
(2) الفصول الغرويّة : 17.
(3) ذكر صاحب الفصول دليلين للقول الأوّل ، أوّلهما : إطلاقهم بأن الوضع تعيين اللفظ للدلالة على المعنى من غير اعتبار حيثيّة.
وثانيهما : أنّ الحيثية المذكورة أمر زائد على المعنى ، فالأصل عدم اعتبارها في الوضع.
ولكن صاحب الفصول ضعّف الدليلين ، ومن أراد التفصيل فليراجع الفصول [ ص 17 ].
( مجد الدين )
وقاية الاذهان
_ 74 _
مضافا إلى ضرورة صحة الحمل والإسناد في الجمل بلا تصرف في ألفاظ الأطراف ، مع أنه لو كانت موضوعة لها بما هي مرادة لما صحّ بدونه ، بداهة أنّ المحمول على ( زيد ) في ( زيد قائم ) والمسند إليه في ( ضرب زيد ) هما نفس القيام والضرب لا بما هما مرادان ، مع أنه يلزم كون وضع عامة الألفاظ عاما والموضوع له خاصا ، لمكان اعتبار خصوصيّة [ إرادة ] (1) اللافظين فيما وضع له اللفظ ، فإنه لا مجال لتوهم أخذ مفهوم الإرادة فيه كما لا يخفى ، وهكذا الحال في طرف الموضوع له ) (2).
ثم نقل ما نقله في الفصول عن الشيخ الرئيس والمحقّق الطوسي من مصيرهما إلى أنّ دلالة الألفاظ تتبع الإرادة (3) ، وتصدّى لتأويل كلامهما بما يغني عنه ما نلقيه عليك من صحيح القول المعتضد بواضح البيان ، ونقول : قد عرفت سابقا عدم معقوليّة جعل العلقة ابتداء بين اللفظ والمعنى ، وإنما المعقول التزام الواضع وتعهّده بأنه متى ما أراد إفهام الغير بما في ضميره من معنى معيّن أتى بلفظ معيّن ، وبعد هذا التعهّد والإعلام به يصير اللفظ متى أطلقه دليلا على إرادته إفهام ذلك المعنى فقط من غير أن يكون بين اللفظ والمعنى ربط ابتدائي مع قطع النّظر عن الإرادة.
فالقائل بأنّ الألفاظ موضوعة للمعاني من حيث إنّها مرادة ، إن أراد ما قرّرناه ـ وظنّي أنه لا يريد غيره ـ فهو حقّ لا مناص عنه ولا ضير فيه ، وكيف ينكره المتأمل ؟ وصريح الوجدان يشهد بأنّ المفهوم من قول القائل : ( زيد قائم ) ليس إلاّ إرادته إفهام السامع هذه النسبة الخاصة بين زيد والقيام حتى أنّ مطابقته للواقع وعدمها ليست مفهومة من اللفظ بل تعرف بضم أمور خارجية
إليه ، كالعلم بعدالة المخبر ، فكلام الصادق والكاذب في الإخبار على حدّ سواء في الدلالة اللفظية ، وبهذا يصح
لك أن تختصر الكلام ، وتقول : إنّ اللفظ إمّا تكون دلالتها على أنّ لافظها أراد إفهام معانيها ، وإمّا أن تكون على الوقوع واللاوقوع ، وحيث إنّ الشق الثاني خارج عن عهدة اللفظ يتعيّن الأول.
وإن أراد أنّ معاني الألفاظ مقيّدة بالإرادة بمعنى أنها لوحظت بالمعنى الاسمي قيدا لها فوضوح فساده مغن عن
الإطالة في ردّه ، وما ذكره هذا الأستاذ من الإيراد لا يتوجّه على ما قرّرناه أصلا.
أما قوله : ( وإنّ قصد المعنى من مقوّمات الاستعمال ) فللتأمل في فهمه مجال ، ومهما كان المراد منه فليس
الاستعمال إلاّ الإتيان باللفظ لإرادة إفهام المعنى ، وهذا لا محذور فيه أصلا.
وأمّا ما ذكره ( من صحة الحمل بلا تصرف في [ ألفاظ ] (1) الأطراف ) (2) إلى آخره فهو أجنبي عمّا قلناه ، ويتّجه على من يقول بتقييد المعاني بالإرادة بالمعنى الاسمي إن وجد قائل به.
وكذا ما ذكره أخيرا ، على أنه فيه : أنّ كلّ لفظ يدل بالوضع على معنى جعلوه من باب عموم الموضوع له ،
وفي قباله الألفاظ الدالة على المعنى الخاصّ ، ولا مشاحّة في الاصطلاح.
فاستبان مما ذكرناه : أنّ الدلالة اللفظية لا تتحقق إلاّ في الألفاظ الصادرة عن شاعر قابل للإرادة ، وما يرى من
انتقال الذهن إلى المعنى عند سماع اللفظ من غيره فهو من باب أنس الذهن ، لا من باب الدلالة قطعا.
ومنه يظهر الجواب عما أورده في الفصول ( من أنه يلزم على تقدير أن تكون الحيثية المذكورة داخلة في المعنى أن يكون كل لفظ متضمّنا معنى حرفيا
--------------------
(1) الزيادة من المصدر.
(2) كفاية الأصول : 16.
وقاية الاذهان
_ 76 _
وهو بعيد عن الاعتبار ) (1) انتهى.
وأنت تعلم أنّ مثل هذا إنما يتوجه على من يجعل هذه الحيثية مأخوذة في المعنى على نحو القيديّة ، ونحن لا
نقول به ، ولا يقول به أحد ـ فيما أظن ـ وإنما نقول : إنّ معنى وضع اللفظ هو كشف اللفظ عن المراد كما يدل عليه لفظ المعنى ، وأين هذا من اعتباره في الموضوع له ؟
ومنه يظهر مراد الشيخ والمحقق الطوسي (2) فيما ذهبا إليه من تبعيّة الدلالة للإرادة ، بل هو ـ إذا تأمّلت ـ عبارة
أخرى عن القول بوضع الألفاظ من حيث كونها مرادة ، وأقصى الفرق أنّ هذا بيانه في مقام الوضع ، وذاك في
مقام الاستعمال ، ولكن هذا الأستاذ حمل كلام المحقّقين على ما يليق به ويليق بهما ، وخصّ القول الآخر بحمله
على ما لا يقول به من له حظّ من العلم.
المشترك
لا ريب في إمكان الاشتراك (3) بين المعنيين ، بل وقوعه في الجملة ، ولا ينافي
--------------------
(1) الفصول الغروية : 17.
(2) قوله : مراد الشيخ والمحقّق الطوسي.
أقول : المراد بالأوّل هو الشيخ الرئيس حسين بن عبد الله بن سينا صاحب التصانيف المشهورة كالقانون
والإشارات وغيرهما ممّا لا مجال لنا في ذكرها.
تولّد الشيخ الرئيس سنة 373 ، وتوفّي جمعة شهر رمضان ، وكان يكنّى بـ ( أبي علي ).
والمراد بالثاني هو الخواجة نصير الملّة والدين محمد بن محمد بن الحسن الطوسي ، المتوفى سنة 672 ( مجد الدين ).
(3) الاشتراك على قسمين :
الأوّل : الاشتراك اللفظي وهو أن يكون اللفظ مشتركا بين المعنيين فما زاد ، بوضعين فما زاد ، وهو المراد عند الإطلاق في كتب الأصول.
الثاني : الاشتراك المعنوي وهو أن يوضع اللفظ لمعنى جامع لفردين أو الأفراد ، وهذا ليس باشتراك في الحقيقة
، ولم يكن له إلاّ وضع واحد.
والمراد من قولهم : المجاز خير من الاشتراك هو الاشتراك اللفظي لا المعنوي ، فافهم ( مجد الدين ).
وقاية الاذهان
_ 77 _
ذلك التعهّد الّذي عرفت أنه حقيقة الوضع ، لأنّ شموله لجميع الاستعمالات بالعموم ، فيمكن تخصيصه ببعض
دون بعض ، ويتعهّد في بعض استعمالاته للّفظ بغير تعهّده الأول مثلا تعهّده بأنه لا ينطق بلفظ العين إلاّ إذا أراد
إفهام الجارحة (1) يعمّ جميع استعمالاته له ويشملها بالعموم ، فيخصّص بالوضع الثاني بغير ما إذا أراد إفهام
الذهب ، فمرجع الوضعين إلى أنه لا يتكلّم بهذا اللفظ إلاّ إذا أراد أحد المعنيين ، وبحكم الوضع يعرف نفي غيرهما من المعاني ، ويبقى تعيين أحدهما في عهدة القرينة ، ولهذا تسمّى القرينة فيه معيّنة.
وإذا عرفت حقيقة الحال في المشترك لا يصعب عليك البيان في المترادف الّذي هو عكسه.
ومن منع وقوعهما لزعمه أنّهما منافيان لحكمة الوضع فقد أخطأ المرمي ولم يصب المحزّ ، إذ كثيرا ما تقتضيهما الحكمة وتدعو إليهما قواعد الفصاحة ونكات الصناعة.
ومع ذلك كلّه فلا يذهب عليك أنّهما قليلان جدّاً بحسب أصل اللغة ، فكثير من الألفاظ التي ترى أنها مترادفة في
بادئ النّظر موضوعة لمعان متقاربة ، والتي يدّعى أنها مشتركة لفظا موضوعة لمعنى واحد فتكون مشتركة معنى ، وما كان منهما على حقيقة الاشتراك والترادف فمنشؤهما تداخل اللغات وحدوث الأوضاع التعيّنيّة وكثرة الاستعمالات أو المسامحة فيها باستعمال اللفظ فيما يقارب معناه ، وإلاّ فمن البعيد حدوثهما من واضع واحد ، هذا.
وأما استعمال اللفظ في أكثر من معنى واحد ، فأكثر المتأخّرين على المنع
--------------------
(1) لعلّه غلط مطبعي ، وصحيحة : الجارية أو الباكية أو غيرهما من معانيها المعروفة ، والأوّل أظهر لتشابه
اللفظين ( مجد الدين ).
وقاية الاذهان
_ 78 _
عنه مطلقا (1) بل استحالته (2) عقلا ، وذهب جماعة إلى المنع في المفرد ، وجوازه في غيره ، وآخرون إلى
التفصيل بين النفي والإثبات.
والحقّ جوازه مطلقا (3) بل وقوعه كثيرا ، بل حسنه ، وابتناء كثير من نكات الصناعة عليه.
أما الأول فلوجود المقتضي ، وعدم المانع.
أما المقتضي فهو الوضع لأنّ الموضوع له هو ذوات المعاني بأوضاع عديدة من غير تقييد بالوحدة وجدانا ، ولا تمانع بين الوضعين ، فكل وضع يقتضي الاستعمال مطلقا.
وأما عدم المانع فلأنه إن كان ثمّة منع فإمّا أن يكون من جهة نفس الوضع ، أو الواضع أو من العقل ، أما من
جهة الوضع فقد عرفت أنه لا يمنع منه ، بل يقتضيه ، وأما من جهة الواضع فلأنه لم يلاحظ حال الوضع وجود وضع آخر ولا عدم وجوده ، فاستعماله في حال الاجتماع عمل بالوضع كاستعماله حال الانفراد ، وأما عدم المانع عقلا فليس في المقام ما يوهمه إلاّ ما ذكره غير واحد.
قال الوالد العلاّمة ـ أعلى الله مقامه ـ في المقدّمة الرابعة من كتاب التفسير (4) ما لفظه : ( إنّ المانع من استعمال اللفظ في أكثر من معنى عدم إمكان حقيقة الاستعمال فيه ).
وملخّص بيانه : أن الاستعمال عبارة عن إيراد اللفظ بإزاء المعنى ، وجعله
--------------------
(1) سواء كان مفردا أو غيره ، نفيا أو إثباتا ( مجد الدين ).
(2) وبها قال صاحب الكفاية طاب ثراه [ انظر كفاية الأصول : 36 ] ( مجد الدين ).
(3) في المفرد وغيره ، في النفي والإثبات ( مجد الدين ).
(4) هذا التفسير من أحسن التفاسير لكنه غير تام ، وهو مشتمل على مقدّمات وتفسير سورة الفاتحة وآيات من
أوائل سورة البقرة وهو موجود بخطّ مصنّفه ـ طاب ثراه ـ عندي ، وتوفي ـ قدّس سرّه ـ في سنة 1308 [ هجرية ] وترجمته مذكورة بقلم أخيه في آخر التفسير المذكور ، المطبوع [ بالطبعة الحجريّة ] في إيران ، [ وفي الطبعة الحديثة في أول التفسير ] ( مجد الدين ).
وقاية الاذهان
_ 79 _
قالبا له ، ومرآة للانتقال إليه ، وآلة لتصويره في ذهن السامع ، كما أنّ الوضع عبارة عن تعيين لفظ المعنى
وتخصيصه به على وجه كلّي بحيث متى أطلق أو أحسّ فهم منه ذلك المعنى ، ومفاد المقامين هو صيرورة اللفظ
كلّية في الثاني ، وفي الكلام الخاصّ في الأول بإزاء المعنى بحيث يكون اللفظ المركّب من حيث كونه مجتمعا وحدانيّا بإزاء المعنى البسيط أو المركّب من حيث كونه مركّبا وحدانيّا ، فالمحاكاة هنا بين اللفظ الواحد والمعنى الواحد ولو كانت الوحدة اعتبارية ، والحاكي الواحد في الاستعمال الواحد لا يحكي إلاّ حكاية واحدة عن الشيء الواحد ، ومن ضروريّته أن لا يقع بإزاء الأكثر ، ولا قالبا له ولا مرآة له لبساطته في هذا اللحاظ إلاّ أن يلاحظ الأكثر من حيث الاجتماع واحدا فيخرج عن العنوان ويندرج تحت استعمال اللفظ في مجموع معنيين وهو غير الموضوع له ، فإن تمّت العلاقة صحّ مجازا ، وإلاّ بطل.
وإن شئت قلت : معنى الوضع تخصيص لفظ بمعنى بحيث يكون الأوّل بتمامه واقعا بحذاء الثاني ، ويصير
بكلّيّته مرآة له ومتمحّضا في الدلالة عليه فلا يطابقه الاستعمال إلاّ حال وحدة المعنى ، وتوضيحه موكول إلى فنّه
) (1) انتهى.
وقال الأستاذ (2) بعد ما ذكر اختلافهم في المسألة على أقوال ، ما لفظه : ( أظهرها عدم جواز الاستعمال في
الأكثر عقلا ، وبيانه : أنّ حقيقة الاستعمال ليس مجرّد جعل اللفظ علامة لإرادة المعنى ، بل جعله وجها (3) وعنوانا له ، [ بل ] (4) بوجه نفسه كأنه الملقى ، ولذا يسري إليه قبحه وحسنه كما لا يخفى ، ولا يكاد يمكن جعل اللفظ كذلك إلاّ لمعنى واحد ، ضرورة
--------------------
(1) مجد البيان في تفسير القرآن : 75 ـ 76.
(2) صاحب الكفاية ، ( مجد الدين ).
(3) ونفس هذا الدليل يحتاج إلى بيان. ( مجد الدين ).
(4) الزيادة من المصدر.
وقاية الاذهان
_ 80 _
أنّ لحاظه هكذا في إرادة معنى ينافي لحاظه كذلك في إرادة الآخر ، حيث إنّ لحاظه كذلك لا يكاد يكون إلاّ بتبع
لحاظ المعنى فانيا فيه فناء الوجه في ذي الوجه ، والعنوان في المعنون ، ومعه كيف يمكن إرادة معنى آخر معه
كذلك في استعمال واحد مع استلزامه للحاظ آخر غير لحاظه كذلك في هذا الحال.
وبالجملة ، لا يكاد يمكن في حال استعمال واحد لحاظه وجها لمعنيين ، وفانيا في الاثنين إلاّ أن يكون اللاحظ
أحول العينين ) (1) انتهى.
أقول : وهذان الكلامان (2) مغزاهما (3) واحد ، وهو إثبات درجة رفيعة للاستعمال فوق ما نعرفه من الكشف عن المراد ، والدلالة على المعنى بواسطة الوضع فكأنه كلام (4) أخذ من كتب أهل المعقول فجعل في غير موضعه من كتب الأصول ، ولا أظنّ الوالد ، ولا هذا الأستاذ ينازعان في إمكان الكشف عن المراد بغير هذا الطريق الّذي سمّياه استعمالا ، بل على نحو العلامة الّذي صرّح بجواز جعله لأشياء متعدّدة ، ونحن لا نتصوّر قسمين للإفهام يسمّى أحدهما استعمالا ، ويكون إلقاء للمعنى ، وفناء للّفظ فيه ، ونحو ذلك من التعبير ، ويسمّى الآخر علامة تدلّ على المراد ، فإذا ضممت إلى ذلك ما عرفت من أنّ الإفهام في المحاورات ليس إلاّ بجعل الألفاظ علائم للمعاني ، ارتفع النزاع بيننا وبينه ، وصحّت لنا دعوى الاتّفاق على الإمكان حتى في متعارف المحاورات ، ولم يبق إلاّ النزاع في تسمية ذلك بالاستعمال وعدمها ، وهذا نزاع لفظي بحت لا طائل تحته ،
--------------------
(1) كفاية الأصول : 36.
(2) أي كلام الوالد [ صاحب التفسير ] والأستاذ [ صاحب الكفاية ] ( مجد الدين ).
(3) أي مفادهما ومعناهما واحد ( مجد الدين ).
(4) لا يخفى أن ما ذكره صاحب الكفاية وغيره من [ أنّ ] الاستعمال عبارة عن فناء اللفظ في المعنى فناء
الوجه في ذي الوجه ، والمرآة في المرئي ، والعنوان في المعنون ، ادّعاء محض ، بل دقّة عقليّة في مسألة
لغويّة أدبيّة محضة من غير مناسبة ( مجد الدين ).
وقاية الاذهان
_ 81 _
ونحن ندع له إنشاء هذا اللفظ لينحلّ له ذلك المعنى الغير المتصوّر كرامة له وكراهة للمنازعة معه.
وقد ذكر هذا الأستاذ في بعض كلامه : أنه لا يمكن استعمال اللفظ في معنيين إلاّ إذا كان المستعمل أحول العينين
(1) وما هذا إلاّ خطابة حسنة ، ولكن أحسن منها أن يقال : إنه يكفي في ذلك أن لا يكون ذا عين واحدة فإذا كان ذا عينين أمكنه استعمال العين في معنيين.
واعلم ، أنّ أقوى أدلّة الإمكان وأسدّها الوقوع ، وهذا النحو من الاستعمال واقع كثيرا ، وهو في كثير من المواقع حسن جيّد جدّاً.
وعليه تدور رحى عدّة من نكات البديع كبراعة الجواب والتورية وأحسن أقسام التوشيع ، فانظر ـ إذا شئت ـ إلى قول القائل في مدح النبيّ الأكرم والحبيب الأعظم صلّى الله عليه وآله ، من البسيط :
ا
لمرتمي في دجى ، والمبتلى بعمى ii
والـمشتكي ظمأ ، والمبتغي iiدينا ii
يـأتون سـدّته مـن كـل iiناحية ii
ويـستفيدون مـن نـعمائه iiعينا ii
تراه قد استعمل الكلمة الأخيرة من البيت الثاني في معان أربعة يوضّحها البيت الأوّل.
وإلى (2) قول القائل في جواب السائل ، من الكامل :
أيّ المكان تروم ثمّ من الّذي ii تمضي له فأجبته iiالمعشوقا ii
أراد بالكلمة الأخيرة معناه الاشتقاقي ، وقصرا كان للمتوكّل بسامراء.
وقول المشتكي طول ليلته ودماميل في جسده : ( وما لليلتي وما لها فجر ).
ولا أدري ما ذا يقول المانع في هذه الأبيات الثلاثة ونظائرها الكثيرة ، فهل
--------------------
(1) كفاية الأصول : 54 ـ 55.
(2) معطوف على قوله : فانظر إذا شئت إلى قول القائل ، وكذا ( قول المشتكي ) [ الآتي ] ( مجد الدين ).
وقاية الاذهان
_ 82 _
يصادم الوجدان ، ويزعم إهمال الألفاظ الثلاثة أعني : العين والمعشوق والفجر ، وعدم استعمالها في معنى أصلا ، ولازمه انعدام معنى كلّ بيت بأجمعه ، ضرورة توقف معاني سائر ألفاظه على وجود المعنى للقافية ، أو يلتزم باستعمالها في أحد المعاني ، ولا يكترث بامتناع الترجيح بلا مرجّح ، وحينئذ تلزم اللغوية في سائر ألفاظ البيت ؟!
فلو حمل ـ مثلا ـ لفظ العين في البيت الأول على إرادة الشمس صلح أول البيت ، ولزم اللغو في سائر ألفاظه ، أو المعشوق في الثاني على المعنى الاشتقاقي لم يبق معنى لقوله : أيّ المكان تروم ، وكذلك حمل الفجر ـ في الثالث ـ على الصبح يلزم منه محذور اللغوية في قوله : وما لها ، وهكذا ، وكأنّي به ولا يقول بهذا ولا بذاك ، بل يؤوّلها إلى إرادة المسمّى وهو من أبرد التأويل ، وستعرف الكلام فيه قريبا إن شاء الله.
وإذا انتهيت إلى التورية البديعيّة ، وفرّقت بينها وبين التورية العرفيّة ، ولم تقع فيما وقع فيه علماء البديع من الخلط بينهما ، ونخلتها (1) من الشواهد الغريبة التي ليست من بابها فقد انتهيت إلى ما يزيح عنك كل ريب ، ولا يدع لك مجالا للشبهة فيما قلناه ، واتّضح لديك أنّ هذه النكتة التي هي من أجلّ صنائع البديع مبنيّة على استعمال اللفظ في أكثر من معنى واحد ، وتفصيل القول لا يناسب موضوع هذا الكتاب ، وقد أوضحت جميع ذلك في رسالتي التي سمّيتها : ( السيف الصنيع لرقاب منكري البديع ) وشرحته فيها شرحا كافيا.
ومجمل القول هنا : أنّ علماء البديع جعلوا مبنى التورية على لفظ يكون له معنيان : أحدهما قريب ، والآخر بعيد ، فيقصد المتكلّم المعنى البعيد ، ويوهم السامع القريب ، وهذا إنما يناسب التورية العرفيّة وهي التي يسمّيها العرب
--------------------
(1) نخل الدّقيق : غربلته ، الصحاح 5 : 1827 ، مجمع البحرين 5 : 497 ( نخل ).
وقاية الاذهان
_ 83 _
بالملاحن والمعاريض وتقول فيها : إن في المعاريض مندوحة عن الكذب.
وتختلف الفقهاء في وجوبها لدى الاضطرار إلى الكذب ، نحو قولك : ما رأيت زيدا ولا كلّمته ، فإنك تفهم السامع
عدم رؤيتك له ، وتكلّمك معه ، وتضمر في نفسك أنّك ما ضربت ريته ، ولا جرحته على غموض معنى إضمار المعنى في النّفس كما ستعرف إن شاء الله.
وحيث إنّ الغرض في هذه التورية إغفال السامع عن المراد ، وإخفاء الواقع عليه لزم فيها اختلاف المعنيين
ظهورا وخفاء ، وكون المراد هو الخفي منهما ، وامتنع ترشيحها بما يناسب المعنى البعيد لكونه نقضا للغرض ، بل قد يلزم ذكر ما يلائم القريب إذا اقتضى المقام التأكيد في تمويه الأمر على السامع ، وتبعيده عن الواقع ، وتسمّى حينئذ في الاصطلاح بالتورية المبيّنة ، وأين هذه من التورية البديعة البديعية التي يقصد الشاعر أو الناثر إفهام المعنيين معا لأنّ في ذلك كمال صنعته وإظهار قدرته ، ولهذا تراه إذا غفل السامع عن أحدهما يجتهد في إفهامه ، ويصرّح له بقصده ، ولا تتوقف ـ كأختها (1) ـ على اختلاف المعنيين في الظهور والخفاء ، بل إذا كانا
متكافئين في الظهور كانت أبدع في الصنعة ، وأملح في الذوق ، ومع اختلافهما في ذلك فكثيرا ما يرشّح البعيد بما يقرّبه إلى المعنى الآخر احتيالا منه في جعلها في مرتبة واحدة أو في درجتين متقاربتين ، والقوم لعدم تنبّههم للفرق بين التوريتين وقع لهم الخبط في الخلط بين القسمين ، فذكروا تعريف التورية العرفيّة وأحكامها وأقسامها للتورية البديعيّة ، ثم تكلّفوا في بعض الشواهد التي يتقارب فيها المعنيان للّفظ بجعل أحدهما بعيدا والآخر قريبا ، وكثيرا ما يعجزون حتى عن التكلّف ، فيرون السكوت عن ذلك هو الأجدر بهم والأصلح لهم.