ثم جعلوا التورية العرفية نكتة أخرى ، وغيّروا اسمهما إلى الموارية مع ضمّ ما ليس من بابها إليها ، مع أنّ الإنصاف أنّ لفظ التورية بالعرفية ألصق ، وهي بها أحقّ لأنها من ورّى الحديث إذا أخفاه (1) ، ولا إخفاء في البديعيّة أصلا ، بخلاف العرفيّة ، كما عرفت.
  ولا بدّ لنا في توضيح ما ادّعيناه من الفرق بين التوريتين ، وكون اللفظ في البديعية مستعملا في المعنيين ، من ذكر بعض الشواهد ليرى السامع بالعيان صحّة ما أوضحناه بساطع (2) البرهان.
  قال سراج الدين الوراق ـ وقد اجتمع برئيسين يلقّب أحدهما بشمس الدين والآخر ببدر الدين ، ثمّ فارقهما ـ :
لمّا رأيت الشمس والبدر iiمعا      ii

قـد  انجلت دونهما iiالدياجي      ii

حقّرت نفسي ومضيت iiهاربا      ii

وقلت : ما ذا موضع السراج      ii
  فلفظ السراج يحمل على معناه اللقبي إذا حمل لفظ الشمس والبدر عليهما ، ويكون المعنى أنه لا موضع له معهما لانحطاط رتبته عنهما ، وعلى ما يستضاء به إذا حمل اللفظان على النيّرين ، ويكون المعنى أنّ السراج لا ضوء له معهما ، والمعنيان كما ترى متكافئان (3) أو متقاربان ، واللفظ مستعمل قطعا ، وحمل اللفظ على أحدهما يذهب برونقه ويحطّ من قدره ، على أنه ترجيح بلا مرجّح (4).
  وقوله (5) أيضا :
فـها أنـا شاعر iiسراج      ii

فاقطع لساني أزدك نورا      ii
--------------------
(1) انظر الصحاح 6 : 2523 ، القاموس المحيط 4 : 399 ( علا ).
(2) متعلّق بـ ( ليرى ) لا بـ ( أوضحناه ) ( مجد الدين )
(3) أي متساويان ( مجد الدين ).
(4) الترجيح بلا مرجّح صحيح إن كان المعنيان متكافئين ، أمّا إن كانا متقاربين فلا ( مجد الدين )
(5) أي : سراج الدين الوراق ( مجد الدين ).

وقاية الاذهان _ 85 _

  فلو حمل قطع اللسان على قطّ الشمعة لم يبق محلّ لذكره لفظ ( الشاعر ) ، ولو حمل على الصلة لم يبق موضع للفظ ( السراج ) فلا بدّ من حمله على المعنيين معا.
  وقول الآخر :
قـام يـقطّ iiشـمعة      ii

فهل رأيت البدر قطّ      ii
  وهل ترى الحسن الّذي يأخذ بمجامع القلب ويسحر اللبّ إلاّ من استعماله لفظ قطّ في معنيين ؟ ولا أدري أيّهما القريب المورّى به ، وأيّهما البعيد المورّى عنه ؟ وأيّهما الّذي أراد إخفاءه ؟ ولما ذا يخفيه ، وفي إظهاره ظهور قدرته وكمال صنعته؟.
  ومثله قول الآخر في مليحة قامرت مليحا ( من مجزو الرجز ) :
قـالـت أنــا iiقـمرته      ii

قلت اسكتي فهو قمر (1)      ii
  وحمل لفظ القمر على النيّر فقط موجب لعدم ارتباط الشطرين ، وعلى خصوص معناه الفعلي مخلّ بفصاحته ، ومخلق لديباجته ، ومنزله من الدرجة العالية التي لها من الحسن إلى درك كلام سوقي سافل ، وبحمله على ما وصفنا يلتئم الشطران ، ويظهر حسن البيان.
  وقول القائل من أهل العصر (2) ـ كان الله له ـ في مخلّعته المشهورة :
واحرب  القلب من صغير      ii

عـليّ  مـن تـيهه iiتكبّر      ii

صـغّره  عـاذلي iiولـمّا      ii

شـاهد ذاك الـجمال iiكبّر      ii

لـمّا  رأى صورة iiسبتني      ii

صدّق ما مثلها تصوّر (3)      ii
--------------------
(1) استعمل الشاعر لفظة قمر في معنيين ، أي هو النيّر ، أو غلب في القمار ( مجد الدين ).
(2) وهو نفس المصنّف ـ طاب ثراه ـ ( مجد الدين ).
(3) راجع ديوانه المطبوع ص 77 ـ 78.

وقاية الاذهان _ 86 _
  وعلى هذا النمط البديع جرى في كثير (1) من أبيات القصيدة قال قائلها ، وليقل من شاء ما شاء إني لعمر الفضل قد أردت من هذه القوافي الثلاثة معاني ستة من كل واحدة اثنين ، وفي هذا كفاية لمن تأمّل وأنصف إن كان ذا ذهن سليم ، ولم تأخذه سورة العصبيّة للرأي القديم.
  وعلى ذكر التورية ، فلا بأس بالإشارة إلى نكتة مهمّة ـ وإن كانت خارجة عن المقصود ـ وهي أنّ التورية بقسميها وإيهامها لا تختص موردها بلفظ واحد له معنيان ، كما في كلام كثير من علماء الفنّ ، بل تأتي في كل كلام يمكن انصرافه إلى وجهين وأكثر سواء كان لاشتراك لفظ من ألفاظه أو لتردّده بين لفظ لفظين (2) ، كقول القائل من أهل العصر (3) ـ كان الله له ـ في موشحة بديعيّة في وصف الخدّ ، من بحر المجتثّ :
عن دم قلبي تخضّب (4)      ii

فـصح لـو قيل عن iiدم      ii
  أو لاحتمال رجوع الضمير إلى أكثر من واحد ، كقوله فيها أيضا :

فقسه بالبدر إن تمّ

  إذ الضمير في ( تمّ ) يحتمل رجوعه إلى القياس ، وإلى البدر ، أي : إن تمّ القياس ، أو إن تمّ البدر.

--------------------
(1) كقوله ـ طاب ثراه ـ في تلك القصيدة :
لدولة الحسن نحن جند      ii

وأنت سلطانها iiالمظفّر      ii
لأنّ المراد من المظفّر ، المعنى الفعلي وهو المظفّر والمنصور على الأعداء ، والمعنى اللقبي ، إذ هو لقب سلطان ذلك الوقت ( مظفر الدين شاه القاجاري ) ( مجد الدين ).
(2) كالبيت [ الآتي ] فإن الكلمة الأخيرة منها مركّب من لفظين ، أعني الجار والمجرور ، أو لفظ واحد على اختلاف المعنيين ( مجد الدين ).
(3) المصنّف نفسه ـ طاب ثراه ـ ( مجد الدين ).
(4) وقبله : خدّ زها باحمرار ، راجع ديوانه المطبوع ص 128.

وقاية الاذهان _ 87 _
  أو لكون اللفظ بعضا لكلمة أخرى كما في صنعة الجمع بين الاكتفاء (1) والتورية ، إلى غير ذلك من الأسباب التي تفنّن فيها المتأخرون من أهل البديع ، فأحسنوا فيها كلّ الإحسان.
  ومن أغرب ما أذكره الآن ، قول أحدهم : « قلب بهرام ما رهب » فقد استعمل الكلمة الأولى في معنيين ، ثم جمع في الكلمتين الأخريين بين استعمال اللفظ في نفسه وفي معناه ـ على ما يقولون ـ فصار لمجموع الكلام معنيان مختلفان.
  ولعمري لقد أحسن فيه ، وأرتج (2) باب التأويل بالمسمّى على أصحابه ، ومثله قول القائل : « وكل ساق قلبه قاس ».
  وقول القائل (3) من أهل العصر ـ كان الله له ـ : ( من مخلّع البسيط )
قد نقط الخال دال iiصدغ      ii

منك كجنح الغراب حالك      ii

كم خطّ كفّ الجمال iiذالا      ii

وما رأينا شبيه ذلك (4)ii      ii
  ولئن ضيّق بعضهم نطاق التورية من هذه الجهة فقد توسّع في الشواهد عليها بما لا مساس له بها أصلا فذكر منها شواهد إيهام التورية والمغالطة والتوجيه وغيرها من ضروب الصناعة.

--------------------
(1) الاكتفاء في الصناعة أن يأتي [ الشاعر ] ببيت قافيته بعض الكلام أو الكلمة ، وشاهده مع التورية قول ابن مكانس :
أفـدي  الّـذي قد جاءني iiزائرا      ii

مـسـتوفرا  مـرتكبا iiلـلخطر      ii

فـلـم يـقـم إلاّ بـمقدار iiمـا      ii

قلت له أهلا وسهلا ومر ( حبا).      ii
( منه رحمه الله ).
(2) أرتج : أغلق ، الصحاح 1 : 317 ، القاموس المحيط 1 : 190 ، مجمع البحرين 1 : 302 ( ترج ).
(3) معطوف على قول القائل ، أي : ومثله قول القائل من أهل العصر ... والمراد من تلك العبارة [ قول القائل من أهل العصر ] في أي موضع وقعت من الكتاب ، نفس المصنّف ( مجد الدين ).
(4) راجع ديوانه المطبوع : 107 ـ 108.

وقاية الاذهان _ 88 _
  ولقد أفضى بنا الكلام إلى ما هو خارج عن مقتضى المقام ، فلنعد إلى المقصود ، ونقول : إنّ أقصى ما تناله أيدي المانعين من التكلّف في تأويل هذه الأمثلة وأمثالها حملها على أنّ اللفظ مستعمل في معنى آخر يشمل المعاني المفهومة منه ، إمّا على نحو شمول الكلّ لأجزائه ، أو شمول الكلّي لجزئيّاته كمفهوم المسمّى ، ويسمّونه بعموم الاشتراك ، ولا يخفى ما في كلّ منها من الضعف.
  أما الأول (1) ، فلأنه لا يتأتّى إلاّ فيما تعلّق حكم واحد بالجميع أو أمكن تعلّق الأحكام المتعدّدة بالمجموع دون ما إذا كان لكلّ معنى لا يشاركه الآخر فيه كلفظ العين في مديح النبويّ السابق (2) ، وما يصنع المرتمي في الدجى بالماء والذهب ، ومبتغي الدين بالشمس والماء ، وهكذا هذا.
  على أنّ الوجدان الصحيح يحكم بأنّ المستعمل لم يلاحظ الهيئة المجموعية في استعماله قطّ ، ولم يتعلّق له غرض به وأنّ مركّبا من الشمس والماء والباصرة والذهب لمعجون طريف ما اهتدى إليه جالينوس (3) طول عمره ، ولم يذكره طبيب في قرابادينة (4).
  وأما الثاني (5) ، فإن أرادوا أنّ المستعمل لا بدّ له من ملاحظة مفهوم المسمّى حين الاستعمال أوّلا فهذا ممّا لا ننكره ، ولكن لا يلزم منه اتحاد المستعمل فيه ، كما أنّ ملاحظة الجزئي في الوضع الخاصّ والموضوع له العام لا توجب اتّحاد الموضوع له ، وملاحظة مفهوم العام في العام الأفرادي لا يلزم منه اتّحاد الحكم ،

--------------------
(1) أي على نحو شمول الكلّ لأجزائه ( مجد الدين ).
(2) تقدم في صفحة 87.
(3) جالينوس طبيب حكيم يوناني معروف ( مجد الدين ).
(4) قرابادين معرّب لفظ يوناني ، والمراد : معجم الأدوية وخواصّها ( مجد الدين ).
(5) أي على نحو شمول الكلّي لجزئيّاته ( مجد الدين ).

وقاية الاذهان _ 89 _
  فإذا كان الأمر في الوضع والحكم هكذا فليكن في الاستعمال كذلك ، فكما أنّ ملاحظة الجزئي حال الوضع لا ينافي تعدّد الموضوع له ، وملاحظة مفهوم العام واستعمال اللفظ فيه لا ينافي تعدّد الحكم ، كذلك لا ينافي ملاحظة مفهوم المسمّى تعدّد الاستعمال.
  ومن هذا يظهر الجواب عمّا جعله بعض الأساتيذ عمدة مستنده في المنع وهي امتناع توجّه النّفس إلى شيئين في زمان واحد ، كما أنّ المبصرات الكثيرة لا تبصر بنظرة واحدة.
  وقد عرفت أنّ جميع ذلك لو سلّم فهو لا ينافي تعدّد المستعمل فيه ، كما أنّ ملاحظة الجزئي حال الوضع لا ينافي تعدّد الموضوع له.
  وإن أرادوا به استعمال اللفظ في المسمّى ، فيرد عليه :
  أولا : أنّ الألفاظ إنما وضعت للمعاني بلحاظ ذواتها لا بلحاظ عناوين خارجة عنها كالمسمّى وغيره.
  وأيضا الاستعمال في المسمّى لو سلّمنا صحّته فإنما يحسن فيما إذا كان الحكم متعلّقا بهذا العنوان ، كقولك : عبد الله خير من عبد المسيح ، أي المسمّى بعبد الله خير من المسمّى بعبد المسيح لصدق التسمية في الأول ، وكذبها في الثاني ، وهذا نادر في موارد الاستعمال.
  هذا ، على أنه قد مرّت عليك من الشواهد مالا يمكن فيه هذا التأويل ، كما نبّهناك عليه ، فراجع.
  ثم إنّ للمانعين تشبّثات أخرى لا بأس بالإشارة إليها وإلى ما يرد عليها.
  منها : ما ذكره العمّ ـ طاب ثراه ـ في الفصول ، وهو : ( أن الّذي ثبت [ من الوضع ] (1) جواز استعمال اللفظ في معنى واحد ، وأما استعماله فيما زاد عليه فلم

--------------------
(1) الزيادة من المصدر.

وقاية الاذهان _ 90 _
  يتبيّن لنا بعد الفحص ما يوجب جوازه ، ومجرّد إطلاق الوضع ـ على تقدير تسليمه ـ مدفوع بعدم مساعدة الطبع عليه ، فقضيّة كون الأوضاع توقيفيّة ، الاقتصار على القدر المعلوم ) (1) انتهى.
  ولا أدري كيف لا يسلّم إطلاق الوضع ، مع أنّ اعتبار قيد الوحدة في المعنى ممّا يقطع بخلافه كما يعترف به ، وكون الموضوع له في حال الوحدة لا يقضي إلاّ بعدم كون الآخر موضوعا له بهذا الوضع ، ويتبعه عدم صحّة الاستعمال به ، ولا يوجب ذلك عدم وضع آخر وإلاّ لامتنع الاشتراك ، ولا عدم صحة الاستعمال بملاحظة الوضع الآخر.
  وما أبعد بين ما أوضحناه لك من حسن هذا النحو من الاستعمال ، وكونه مبنى كثير من نكات صناعة البديع ، وبين ما يدّعيه من عدم مساعدة الطبع عليه.
  ثمّ إنّ توقيفيّة الأوضاع لا يوجب توقيفيّة الاستعمال ، وإني لأعجب من استدلال مثله رحمه الله بمثل هذا في مسألتنا هذه ، وهي لغويّة محضة ، لا شرعية يتأتّى فيها لزوم الاحتياط.
  ومنها : ما ذكره أيضا من عدم تحقّق مثل هذا الاستعمال في لغة العرب قديما وحديثا مع مسيس الحاجة إليه ، وعدم الوجدان بعد الاستقراء يدلّ على عدم الوجود ، وهو يورث ظنّا قويّا بعدم الجواز إن لم يوجب العلم به ، والظنّ حجّة في مباحث الألفاظ (2) انتهى.
  وقد عرفت ثبوت الاستعمال على هذا النحو كثيرا ، وفي دعوى عدم الجواز ما تقدّم في سابقه ، وفي المراد من حجيّة الظن في هذا المورد وأمثاله خفاء وغموض.

--------------------
(1) الفصول الغرويّة : 55.
(2) الفصول الغروية : 54 ـ 55.

وقاية الاذهان _ 91 _
  ومنها : عدم ثبوت الإذن من الواضع فيه ، وفيه ما تقدّم مرارا من عدم توقف الاستعمال على إذنه ، بل يصحّ حتى مع تصريحه بالمنع إن لم يرجع إلى تخصيص الوضع.

  تتمة

  من الأقوال : جواز الاستعمال على هذا النحو في التثنية والجمع دون المفرد نظرا إلى أنّ اللفظ فيهما في قوّة تكرير المفرد ، ولا ريب في جواز الاستعمال مع التكرار ، وأيضا لا ريب في جواز ذلك في الأعلام ، وظاهر أنّ الاتفاق هناك في مجرّد اللفظ.
  وأجاب عنه في الفصول : ( بأنّا لا نسلّم أنهما في قوة تكرير المفرد حتى في جواز إرادة المعاني المختلفة منهما ، وسبكهما من الأعلام مؤوّل بالمسمّى مجازا ) إلى آخر كلامه.
  وقال في أثنائه : ( وممّا يدل على التأويل المذكور في الأعلام دخول لام التعريف عليها حينئذ مع امتناع دخولها على مفردها ، ووصفها معها بالمعرّف وعند التجريد بالمنكر ) (1).
  أقول : اللفظ مهما استعمل لا يدلّ إلاّ على إرادة طبيعة المعنى فقط من غير لحاظ التعدّد فيه ولا عدم التعدّد ، وحينئذ فلا بدّ في استفادة أحدهما إلى دالّ آخر ، وأداة التثنية والجمع حرفان موضوعان لبيان التعدّد من غير لحاظ أنّ المعنيين هل هما بوضع واحد أو بأوضاع شتّى ، فكما أنّ استفادة التعدّد من اللفظ محتاجة إلى أحد الأداتين كذلك تحتاج في كونهما بوضع واحد أو بوضعين إلى دالّ آخر ، فإذا قلت : رأيت عينين لم يدلّ الاسم إلاّ على تعلّق الرؤية بطبيعة العين

--------------------
(1) الفصول الغرويّة : 56.

وقاية الاذهان _ 92 _
  فقط من غير لحاظ الانفراد والتعدّد ، فضلا عن لحاظ الوضع الواحد أو الوضعين ، ولا الحرف إلاّ على التعدّد من غير دلالة على أنّ التعدّد بوضع واحد أو وضعين ، فإذا أتبعته بقولك : سحّارة وخرّارة (1) فقد أزحت الإجمال عن اللفظ ، وأعلمت السامع باستعمالك اللفظ في المعنيين ، ولم تخرج بذلك عن معنى الحرف ، ولم تستعمله في غير ما وضع لأجله ، والوجدان السليم يكفي المنصف شاهدا على ذلك ، إذ لا ترى في قولك : رأيت عينين سحارة وخرّارة ، تكلّفا ولا تأويلا أصلا ، بل لا ترى فرقا بين قولك هذا ، وبين قولك : رأيت عينين جاريتين. إلاّ أنّ الأول ألطف في الذوق ، وأبدع في السمع ، وعليه جرى الحريري في مقاماته ، فقال ـ من الخفيف ـ :
جاد بالعين حين أعمى هواه      ii

عينه فانثنى بلا عينين (2)ii      ii
  ولعمري لقد أحسن ، وأخطأ من خطّأه في ذلك ، وعليه يجري كثير من بديع أمثلة التوشيع (3) ، كقول الصفي الحلّي :
رأيـت  بـدرين مـن وجه ومن قمر      ii

في ظلّ جنحين من ليل ومن شعر (4)      ii
  بناء على ما يذهبون إليه من كون استعمال البدر في الوجه مجازا ، وأنّ المجازات لها أوضاع نوعيّة ، لا على ما حقّقناه سابقا.
  وقول بلديّة (5) السيّد حيدر رحمه الله في رثاء الحسين عليه السلام :
فـظاهر فـيها بـين درعـين iiنـثرة      ii

وصبر ودرع الصبر أقواهما عرى (6)      ii

--------------------
(1) الخرير : صوت الماء ، ومنه عين خرّارة ، الصحاح 2 : 643 ( خرر ).
(2) مقامات الحريري : 80.
(3) التوشيع في اصطلاح البديعيّين أن يأتي الشاعر باسم مثنّى ، ثم يأتي باسمين مفردين يفسران الأوّل ( منه قدّس سرّه ).
(4) ديوان صفي الدين الحلّي : 723.
(5) أي من بلده وموطنه ، لأنهما من أهل الحلّة من بلاد العراق ( مجد الدين ).
(6) ديوان السيد حيدر الحلّي 1 : 80.

وقاية الاذهان _ 93 _
  ولهذا يسبكان في الأعلام فلا يحتاجان إلى هذا التأويل البارد أعني التأويل بالمسمّى كما ذكره العم (1) ـ طاب ثراه ـ وتبعه فيه غيره ، فإنه تأويل ثقيل على السمع سمج لا يقبله الطبع ، وحسب المنصف ملاحظة نفسه حال الاستعمال إذ لا يرى المسمّى يخطر منه بالبال.
  وأما استدلاله على التأويل المذكور بدخول اللام عليها حينئذ فليس ذلك لتأويل المسمّى ، بل الوجه فيه أنّ التعدّد ينافي المعرفة المحضة فيدخل اللام عليها كما يضاف في مثل هذا الحال ، كقوله :
عـلا زيدنا iiيوم      ii

النقا رأس زيدكم      ii
  مع أنّ الظاهر عدم التزامهم بالتأويل المذكور فيه.
  إذا عرفت ذلك ، نقول : هذا القائل إن أراد هذا المعنى فهو حقّ لا ينبغي أن يقابل إلاّ بالقبول ، إذ لا بدّ لبيان التعدّد من دالّ عليه من الأداتين أو غيرهما ممّا يفيد فائدتهما.
  وإن أراد أنّهما يدلاّن على أحد المعنيين ومدخولهما على المعنى الآخر فهو واضح الفساد إذ هما حرفان ، وأين الحرف من إفادة معنى الاسم.
هذا ، على أنّ كلاّ من الحرف ومدخوله إن دلّ على أحدهما المعيّن ، والآخر على الآخر المعيّن فهو ترجيح بلا مرجّح ، وإن دلّ كلّ على أحدهما على وجه الترديد فهو باطل كما بيّنه العم (2) رحمه الله في ردّ صاحب المفتاح (3) ، فلاحظ كلامه إن شئت ، وتأمّل فيه.

--------------------
(1) في الفصول الغروية [ : 56 ] ( مجد الدين ).
(2) الفصول [ : 53 ] ( مجد الدين ).
(3) وهو أبو يعقوب يوسف بن أبي بكر محمد بن علي السكاكي المتوفى سنة 626 ه‍ صاحب مفتاح العلوم.

وقاية الاذهان _ 94 _
  تنبيه

  التورية العرفيّة مما يشهد بها الوجدان وقد استعملتها العرب ، ونطق بها مستفيض الأخبار ، ولكن تطبيقها على القواعد العلمية لا يخلو عن صعوبة إذ مبناها ـ كما عرفت ـ على أن يفهم السامع معنى يريد غيره ، ولا نتصوّر من الإرادة في المقام إلاّ ما يريد إفهامه ، فإن كان مطابقا للواقع كان صدقا وإلاّ كان كذبا ، ولا واسطة بينهما حتى يصحّ بها تثليث القسمين ، أو يجعل مرتبة من الكذب هي أخفّ قبحا من غيرها ، أو مرتبة من الصدق لا تجوز إلاّ مع الضرورة.
  وبالجملة ، الصدق والكذب قسمان من الاستعمال ، والاستعمال ـ كما عرفت ـ لا معنى له إلاّ الإفهام ، فإذا قصد إفهام غير الواقع فقد تحقّق موضوع الكذب ، ولا يبقى محلّ لإرادة غير المستعمل فيه ، ولكنها ـ كما عرفت ـ أمر وجداني ، فهل المراد بها إخطار المعنى الآخر ، أو عقد القلب عليه ، أو الكلام له حقيقة أخرى في النّفس (1) واللفظ كاشف عنه كما تقوله الأشاعرة ؟ وجوه لا تطمئن النّفس بشيء منها.
  وقد نقل لي جمع من أصحابنا عن أستاذ والدي صاحب البدائع ـ طاب ثراهما ـ أنه كان يحكم بكونها كذبا ، ويقول : إنّها تبتني على الكلام النفسيّ الباطل عند الشيعة ، ولكنها ـ كما عرفت ـ أمر وجداني ، فالشأن في معرفة حقيقتها ، لا المكابرة في إنكارها ، وبطلان الكلام النفسيّ مطلقا غير معلوم ، وللكلام عليه محلّ آخر ، وهذا أحد مشكلات العلم التي لم أقدر على حلّها ، ولعلّ

--------------------
(1) وهي الكلام النفسيّ الّذي قالت به الأشاعرة ، وقيل في ذلك :
إنّ  الـكلام لفي الفؤاد iiوإنما      ii

جعل اللسان على الكلام دليلا      ii
( مجد الدين )

وقاية الاذهان _ 95 _
  غيري يهتدي إلى ما خفي عليّ ، أو يحدث الله بعد ذلك أمرا.

القول في مباحث الحقيقة والمجاز

  لا يخفى أنّ من أهمّ ما يترتب على ما حقّقناه في مسألتي الوضع والاستعمال معرفة حقيقة الّذي يسمّى بالمجاز ، ولنقدّم قبل بيانه خلاصة ما وصل إلينا من كلام محقّقي علماء الأصول والبيان ، ونقول :
  قالوا : إنّ اللفظ إن استعمل فيما وضع له فهو حقيقة ، وإن استعمل في غيره بعلاقة معتبرة مع قرينة معاندة فهو مجاز ، وإلاّ فهو غلط.
  والمحققون من علماء البيان زادوا قسما آخر ، وهو الكناية ، وعرّفوها بلفظ أريد به لازم معناه مع جواز إرادته ، فأخرجوها عن حدّ الحقيقة بكونها مستعملة في غير ما وضع له ، وعن المجاز لاعتبارهم فيه القرينة المعاندة ، وجعلها بعضهم من أقسام الحقيقة.
  ثمّ اختلفوا في وضع المجازات على أقوال ، فالجمهور ـ كما في الفصول ـ ( على أنّها موضوعة بالوضع التأويلي التعييني النوعيّ ، وأنّ صحته متوقفة على نقل النوع ، وخالف في ذلك شرذمة ، فاعتبروا نقل الآحاد ، ويلزمهم أن تكون المجازات التي أحدثها فصحاء المتأخّرين وغيرهم غلطا ، وهو غلط ).
  ( وربّما فصّل بعض الأفاضل بين الألفاظ التي ضبطوا معانيها المجازية كالحروف وصيغ الأمر والنهي وبين غيرها ، فاقتصر في الأول على القدر المنقول دون الثاني ) (1) انتهى.
  وربّما يقال بأنه لا يحتاج المجاز إلى وضع آخر ، بل هو موضوع بنفس وضع اللفظ للمعنى الحقيقي ، فإذا وضع له اللفظ فقد وضع لجميع ما يناسبه ، وتوجد

--------------------
(1) الفصول الغرويّة : 24.

وقاية الاذهان _ 96 _
  فيه العلاقة معه ، فهو يشبه لوازم الماهيّات التي لا تحتاج إلى جعل ، بل لا يعقل جعلها ، وإنما تجعل بجعل ملزوماتها.
  وقد يقال بأنّ المجازات لم تنلها يد الوضع لا أصالة ولا تبعا ، بل جواز إطلاق اللفظ على ما يناسبه طبعيّ ، وهذا نظير ما عن بعضهم في مسألة استعمال اللفظ في نفسه.
  ويظهر هذا الوجه من الفصول ، مع زيادة قوله : ( إنه مبني على المسامحة والتأويل في الوضع الأصلي ) (1) وستعرف البحث في معنى التأويل الواقع في كلامه ، وفي كلام المشهور.
  ولبعض (2) المؤسّسين في كتابه المسمّى بـ ( تشريح الأصول ) كلام مسهب في هذا المقام ، ولا يخلو بظاهره عن اضطراب وتهافت.
  وحاصل ما كان يذكره في مجلس الدرس : أنه رجوع عن عموم التعهد بالوضع الأول في استعمال خاص ، وأنه لا فرق بين النقل والمجاز إلاّ أنّ الأول عدول كلّي عن الوضع الأول ، والثاني في خصوص استعمال خاص لا في سائر الاستعمالات.
  ومنه يعلم أنّ وضع المجازات شخصي يقع بوقوع المجاز ، وبيانه إنّما هو بقرينة واحدة جامعة للمعانديّة والمعيّنيّة ، أو بقرينتين : إحداهما معاندة للحقيقة ، والأخرى معيّنة لإحدى المجازات.
  وأثر التكلّف ظاهر على هذه الوجوه ، بل كثير منها ممّا يقطع بفساده ، فلو حلف الإنسان بغموس (3) الإيمان على أنّ واضع اللغة لم يكن يعرف هذه العلائق حتى يضع لكل نوع منها وضعا جديدا لم يحنث ، ولم تلزمه الكفارة ، بل ولو حلف

--------------------
(1) الفصول الغرويّة : 25.
(2) هو الشيخ على النهاوندي مؤسّس أساس التعهّد في الوضع ( مجد الدين ).
(3) هي اليمين الكاذبة الفاجرة ، لسان العرب 6 : 157 ( غمس ).

وقاية الاذهان _ 97 _
  على أنه لم يصدر منه وضع آخر لكان كذلك.
  وما ذهب إليه صاحب التشريح فيبعده ، بل يشهد بفساده القطع بأنّ استعمال المجاز ليس بتعهد خاص شخصي ، بل هو أمر مرتكز في ذهن السامع قبل سماعه هذا اللفظ ، قد استعمله آباؤه من قبل كذلك.
  وأمتن هذه الطرق ما تقدّم عن صاحب الفصول ، ولكن يتّجه عليه أنّ دلالة الألفاظ ليست بذاتية ، بل هي جعلية ، وليس الجعل إلاّ الوضع ، فكيف يعقل أن تدلّ على معنى بدونه ، والقرينة من شأنها نفي المعنى الموضوع له لا إثبات الوضع لغيره إلاّ أن يبتنى قوله : ( مبني على المسامحة والتأويل ) على المسامحة والتأويل ، ويرجع إلى ما سنبيّنه لك إن شاء الله.
  ولصعوبة إثبات الوضع للمجازات التزم جماعة بأنّ دلالتها ليست وضعيّة ، فوقعوا في تكلّفات هي أشدّ وأبين فسادا ممّا وقع فيها إخوانهم من قبل ، كما لا يخفى على من راجع هداية ـ الجدّ ـ العلاّمة ، وغيره من الكتب المبسوطة.
  ولمعرفة حقيقة الحال في المجاز مسلك آخر ـ يطابقه الوجدان ، ويعضده البرهان ، ولا يعرض على ذهن مستقيم إلاّ قبله ، ولا على طبع سقيم إلاّ رفضه (1) ـ وهو أنّ تلك الألفاظ مستعملة في معانيها الأصليّة ، ومستعملها لم يحدث معنى جديدا ، ولم يرجع عن تعهّده الأول ، بل أراد بها معانيها الأوّلية بالإرادة الاستعمالية على نحو سائر استعمالاته من غير فرق بينهما في مرحلتي الوضع والاستعمال أصلا.
  بيانه : أنّ الطبع السليم يشهد بأنّ القائل : ( إني قاتلت اليوم أسدا هصورا ) (2) و ( قابلت أمس قمرا منيرا ) وهو لم يقاتل إلاّ رجلا شجاعا مشيحا ، ولم

--------------------
(1) الرفض : الطرح ( مجد الدين ).
(2) أسد هصور : الأسد الشديد الّذي يفترس ويكسر ، الصحاح 2 : 855 ، لسان العرب 5 : 265 ( هصر ).

وقاية الاذهان _ 98 _
  يقابل إلاّ وجها صبيحا لا يريد إلاّ إلقاء المعنى الأصلي الموضوع له على السامع ، وإفهامه إيّاه وإن لم يكن مطابقا للواقع ، ولم يكن ذلك منه على سبيل الجدّ.
  وقد عرفت سابقا أنه لا معنى للاستعمال إلاّ ما أريد إفهامه للسامع وإلقاؤه عليه ، سواء كان صدقا أو كذبا ، جدّاً أو هزلا ، بأيّ داع سنح وغرض اتّفق.
  ولو لا إرادة معاني هذه الألفاظ لما كان موقع للتعجب عن محبوبته إذا ظلّلته عن الشمس (1) ، أو زارته آخر الشهر (2) ، ولا لليأس من رجوع محبوبه (3) ، ولا لتكذيب الناس إذا رجع (4) ، ولا للمفاخرة مع قمر السماء بأنّ قمره معدّل بلا تعديل ، وأنه لا ممثّل له ولا مثيل (5) ، ولا للتعجب عن عدم ذهاب الدجى مع طلوع

--------------------
(1)
قـامت تـظلّلني ومن iiعجب      ii

شمس تظلّلني من الشمس (1)      ii
(2)
زارتك في ليل سرار ومن      ii

أبـصر  بدرا آخر iiالشهر      ii
(3)
يؤيسني من لقائك iiقولهم      ii

بأنه لا رجوع للقمر (2)      ii
(4)
رجـعـت  فـأحييت الـغريّ iiوأهـله      ii

وكذّبت قول الناس لا يرجع البدر (3 4)      ii
(5)
قل للسماء دعي الفخار فإنّ ذا      ii

قـمري  بـغير ممثّل iiومثيل      ii

قـمر  الـسماء معدّل iiبثلاثة      ii

ومـعدّل قـمري بـلا تعديل      ii
(1)
قامت تظلّلني من الشمس      ii

نفس أعزّ عليّ من نفسي      ii
( مجد الدين )
(2) من أبيات صفي الدين الحلّي ، انظر ديوانه : 455.
(3) إنّ الخمسة المتحيرة من السيّارات السبعة لها رجوع إقامة واستقامة ، والقمر لا رجوع له ولا إقامة ، فقال : إنّ رجوع بدري دليل على كذب أهل الهيئة حيث قالوا : لا رجوع للقمر ( مجد الدين ).
(4) للمصنف طاب ثراه ( مجد الدين ) وراجع ديوانه : 86 ، (5) إنّ أهل الهيئة والفلك احتاجوا في ضبط حركة القمر إلى ثلاثة تعديلات ، وأثبتوا له أفلاكا كالحامل والجوزهر (3) ، فقال طاب ثراه : إنّ قمري خير من قمر السماء ، لأنّه معدّل من غير احتياج إلى تعديلات ثلاثة ولا أفلاك متعدّدة ( مجد الدين ).

وقاية الاذهان _ 99 _
  الشمس على رمح (1) ، إلى غير ذلك ممّا لو عدّدناه لأفضى بنا إلى الإسهاب ، والخروج عن موضوع الكتاب.
  ولهذا إذا سمّي الشجاع أسدا سمّي صوته زئيرا ، وولده شبلا ، ومحلّه خيسا ، أو الجميلة ظبية سمّي صوتها بغاما ، وولدها خشفا ، ودارها كناسا ، بل لو خالف هذا النظام فقال : ( رأيت أسدا يتبعه طفله ) أو ( ظبية تحمل طفلها ) لكان أدون في الفصاحة بمراتب من قوله : ( رأيت أسدا يتبعه شبله ) أو ( ظبية تحمل خشفها ) بل ربّما عدّ من مستبرد التعبير ، وسمج الكلام إلاّ أن تجبره جهات أخرى ، ولا وجه لجميع ذلك إلاّ أنّ المقصود منها المعاني الأصلية ، وهذا ظاهر لدى الخبير بحقائق فنّ البيان وصناعة البديع ، وكتابنا هذا موضوع في فن أصول الفقه لا في فنون البلاغة كي يتّسع لنا المجال في سرد الشواهد والأمثال ، ولكني لم أملك عنان القلم وما عليه جناح حتى أثبت قول ابن معتوق في محبوبته وقد روّعها الصباح :
وتـنهدت  جـزعا فـأثّر كفّها      ii

في صدرها فنظرت ما لم انظر      ii

أقـلام  يـاقوت كـتبن iiبعنبر      ii

بـصحيفة البلّور خمسة iiأسطر      ii
  نشدتك والإنصاف إلاّ نظرت إلى قوله : ونظرت ما لم انظر ، وتأمّلت في
  الحامل والجوزهر من مصطلحات أهل الهيئة. انظر : مفاتيح العلوم : 220 ، وكشّاف اصطلاحات الفنون 1 : 356 و 407.
--------------------
(1) لقائل :
بـدا وجـهه مـن فوق أسمر iiقدّه      ii

وقد لاح من ليل الذوائب في iiجنح      ii

فقلت عجيبا كيف لم يذهب iiالدجى      ii

وقد طلعت شمس النهار على رمح      ii



وقاية الاذهان _ 100 _
  السبب الّذي أوجب له العجب فهل ضرب المرأة الجميلة المختضبة صدرها ضربا يسود موضع الضرب منه ، وهو أمر مبذول لعلّه أو غيره نظر إلى أمثاله كثيرة ، أو هو حقيقة كتابة أقلام الياقوت خمسة أسطر بالعنبر على البلّور ، وأين موضع هذه البلاغة التي تأخذ بمجامع القلب ، وهذه الملاحة التي تسحر اللبّ ، فهل هو في مجرّد وضع الأقلام موضع الأصابع ، ولفظي العنبر والبلّور موضعي السواد وبياض الصدر ، أم في وضع معاني هذه الألفاظ في موضع معاني تلك ؟
  ثم إذا قرع سمعك قول الوأواء (1) الدمشقي في محبوبته لما جرت دموعها على خدّيها ، وعضّت أناملها حذر الفراق :
فاستمطرت لؤلؤا من نرجس وسقت      ii

وردا وعـضّت على العنّاب iiبالبرد      ii
  أيّ صورة تصوّرها هذه الألفاظ في مرآة ذهنك فتسكرك بلا راح ، وتطربك بلا سماع ، هل إمطار اللؤلؤ من النرجس ، وسقي الورد ، وعضّ العنّاب بالبرد ، أم تلك الحالة المحزنة المشجية ، أعني امرأة تبكي ، وتعضّ أناملها ؟
  فإن كان الثاني وكان هذا حكم إنصافك ، فقد أخطأت أنا ولم يحسن الوأواء ، وإن كان الأول فقد أحسن نظما وأحسنت فهما ، وأنت ـ أعزك الله ـ إذا أعطيت التأمل حقّه فيما نبّهناك عليه في هذا المثال ، وجعلته أنموذجا لنظائره من صنوف الاستعمال علمت علما لا يشوبه شك ، ولا يحوم حول حماه ريب ، أنّ المجاز ليس وضع اللفظ محل اللفظ ، بل هو وضع المعنى محلّ المعنى ، وهذا هو الّذي يورثه الملاحة ، ويوجب لها المبالغة وإخوانها من نكات الصناعة ، وإلاّ فالألفاظ متكافئة غالبا ، ولفظ الخدّ ليس بغريب ولا بثقيل على اللسان وهو

--------------------
(1) الوأواء ، بفتح الأول ، وسكون الثاني ، وفتح الثالث ، وسكون الرابع ، شاعر معروف من أهل دمشق ( مجد الدين ).

وقاية الاذهان _ 101 _
  بمعناه أحقّ ، ودلالته عليه أوضح ، فلأمر ما عدل عنه إلى الورد ؟ تأمّل فيما قلناه ، تجده واضحا إن شاء الله.

  فصل

  وليت شعري ما ذا يقول القائل بأنّ اللفظ مستعمل في غير معناه في مثل قوله : هو ملك بل ملك ، وفلان شجاع بل أسد ؟ وكيف يمكن أن يكون المراد من الملك ـ بالفتح ـ والأسد ، الملك ـ بالكسر ـ والشجاع ؟ وقد ذكرهما أوّلا وأضرب عنهما ، وما ذا يقول في الاستعمالات التي يصرّح فيها بنفي المعنى الحقيقي ، كقوله تعالى : ( ما هذا بَشَراً إِنْ هذا إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ ) (1) على أظهر الوجهين فيه ، وكقولك : ليس هذا بوجه بل هو بدر ، وليس هذه كف بل هي بحر ؟ وما ذا يقول في مثل قولهم : يا أخا البدر ، ويا أخت الشمس ونحوهما ؟ كقوله :
حـكيت أخاك البدر عند iiتمامه      ii

سنا وسناء مذ تشابهتما سنّا (2)      ii
  مما لا يمكن فيه تفسير شيء من المضاف ولا المضاف إليه بغير معناه إلاّ بتكلّف يمجه السمع ، وينبو عنه الطبع (3).
  وفي مثل قوله ـ من الوافر ـ :
وفي ديباجتيه فتيت مسك      ii

يقال له بزعم الناس حال      ii
  وفي مثل قوله ـ من البسيط ـ :
يـا من يريني المنايا واسمها iiنظر      ii

من السيوف المواضي واسمها مقل      ii
--------------------
(1) يوسف : 31.
(2) أي : أربعة عشر [ على حساب الجمل ] وجه المشابهة : فلك أربع عشرة سنة ، وللقمر أربع عشرة ليلة ( مجد الدين ).
(3) أي : يأباه السمع ولا يقبله الطبع ( مجد الدين ).

وقاية الاذهان _ 102 _
  إلى غير ذلك من الموارد التي تنيف على الألوف بل على آلافها مما إذا أطاعهم التكلّف في واحد منها عصاهم في عشرة ، وإذا فتح لهم باب التأويل في عشرة أرتج عليهم الباب في الف ، وقد سبقت أمثلة لذلك ، منها :
تـبدّت ومرآة السماء iiصقيلة      ii

فأثّر فيها وجهها صورة البدر      ii
  وإذا كان الشاعر يصحّ له إنكار البدر ، ودعوى أنّ البازغ في السماء هو صورة محبوبته ، فما ذا يمنعه من دعوى أنّ ذلك البدر هي بعينها ، فينفي التعجّب إذا زارته ليلا قائلا : ولا عجب فالبدر بالليل يطلع ، ويتعجّب إذا رأته نهارا قائلا : ومن عجب أن يطلع البدر نهارا.
  فكأنّ القوم قصرت أنظارهم على مثل : أسد يرمي. ونحوه ، وغفلوا عن هذه الأمثلة وأمثالها (1).

  فصل

  ولعلّك تقول : إنّ المجاز ـ على ما ذكرت ـ كذب ، وتغفل من الفرق بين الإرادة الجدّيّة والاستعمالية.
  وبيانه : أنّ الكذب الّذي هو قبيح عقلا ، ومحظور شرعا هو الّذي يكون الغرض منه إلقاء السامع في خلاف الواقع ، وإغراءه بالجهل ، وتصديقه بمعنى اللفظ ، وتكون إرادته الجدّيّة الواقعيّة مطابقة لإرادته الاستعمالية.
  وأما في المجاز فليس الغرض من إلقاء المعنى إلى السامع إلاّ مجرّد تصوّره له من غير أن يريد تصديقه واعتقاده به ، ولهذا يأتي بالقرينة التي سمّوها بـ
--------------------
(1) لهذا البحث تتمة يلاحظ الملحق بالرسالة ( منه طاب ثراه ).
والظاهر أنها سقطت من الملحق فلم نعثر عليه.

وقاية الاذهان _ 103 _
  ( المعاندة ) لزعمهم أنّها تعاند الحقيقة ، وفي الحقيقة هي تعاند الإرادة الجدّيّة ، فهو يأتي بها ، لأنه لا غرض له إلاّ بنفس الاستعمال وتصوّره لمعناه ، ويتعمّد الكاذب تركها لأنه يريد تصديق المخاطب به لغرض له هناك وراء تصوّر السامع وصرف الاستعمال ، فالمجاز إلى الكذب ما هو وليس به ، وليس هذا ببدع في المجاز ولا بأمر تختص به ، بل سبيله سبيل أشباهه من نكات الصناعة وتفنّنات البلغاء كالمراجعة (1) فكم تقول : قال لي الدهر كذا ، فقلت له كيت وكيت ، ولم يجز بينكما حديث قط.
  وكالتجريد فإنك تجرّد من نفسك شخصا تخاطبه ويخاطبك ، وتنقل المفاوضة بينكما ولا واقع لها أصلا ، وإنما يتّضح الحال بالإكثار من الشاهد والمثال ، وبه تخرج عن موضوع الكتاب ، ولا يسعه المجال ، ويغنيك عنه تتبّع ما للبلغاء من المنظوم والمنثور.
  قال أحد شعراء اليتيمة :
أرأيت  ما قد قال لي بدر iiالدجى      ii

لـمّا  رأى طرفي يطيل iiهجودا      ii

حـتّام  تـرمقني بطرف iiساهر      ii

أقصر فلست حبيبك المفقودا (2)      ii
  متى وقع هذا الخطاب ، وبأيّ لغة كان الجواب ، فهل تسمح نفسك أن تسمّي هذا القائل كاذبا والكاذب ممقوت ، وقد أحسن هذا وأجاد ، أو تعتقد صدقه فتكون بمراحل عمّا أراد ؟
  وبالجملة ، من أراد تنزيه جميع كلام الفصحاء من الكذب الاستعمالي فقد

--------------------
(1) وكقول الشاعر :
وقلت لبدر التمّ تعرف ذا الفتى      ii

فـقال نـعم هذا أخي iiوشقيقي      ii
( مجد الدين )
(2) البيتان لأبي الفتح علي بن محمد الكاتب البستي ، راجع يتيمة الدهر 4 : 308.

وقاية الاذهان _ 104 _
  حاول صعبا ، بل رام ممتنعا ، فحال المجاز حال غيره من مذاهب البلغاء ، ويشبه من هذه الجهة ما يتكلّم به على سبيل المزاح والمجون (1) ، ولهذا قال الفقهاء : إنّ المبالغة ليست بكذب كغيرها من هزل الكلام ومجونه.

  فصل

  ومما ذكرنا في المجاز يتّضح الحال في الكناية ، ويستغنى به عن تلك التكلّفات والتطويلات المملّة المذكورة في كتب الأصول والبيان ، وأنّ الحال فيها كالحال في المجاز بعينه ، والألفاظ فيها مستعملة في معانيها الحقيقة بالإرادة الاستعمالية ، والغرض الّذي يعبّر عنه بالإرادة الجدية هو الملزوم.
  ومن الغريب ما ذكروه في الفرق بينها وبين المجاز من لزوم القرينة المعاندة فيه وعدمها فيها مع أن الحال فيهما واحد ، لأنّ السامع إن كان عالما بالغرض الأصلي ، وعدم مطابقته مع الاستعمال فهو يستغني عن القرينة فيهما معا ، وإلاّ فهي لازمة في الكناية لزومها في المجاز بعينه ، فمن قال : ( زيد طويل النجاد ) (2) كناية ، وكان السامع بليدا يزعم أنه يريد الإخبار عن طول النجاد (3) فلا بدّ أن ينصب له قرينة تدلّه على أنّ المراد طول قامته ، وأنه لم يشتمل سيفا طول عمره ، ولم يصاحب عاتقه نجاد قط.
  ومن هذا يظهر خطأ من جعل الكناية قسيما للحقيقة والمجاز ، وثلّثهما بها ،

--------------------
(1) مجن مجونا فهو ماجن : من لا يبالي قولا ولا فعلا ، القاموس المحيط 4 : 270 ، مجمع البحرين 6 : 314 ( مجن ).
(2) من ألفاظ المدح عند العرب ، قولهم : فلان طويل النجاد ، أو كثير الرّماد ، كناية عن طول القامة ، وكثرة الضيافة ( مجد الدين ).
(3) نجاد : حمائل السيف ، القاموس المحيط 1 : 340 ، الصحاح 2 : 543 ( نجد ).

وقاية الاذهان _ 105 _
  وقال في تعريفها : إنها استعمال اللفظ في غير ما وضع له مع جواز إرادته منها (1).

  فصل

  وهذا الّذي قرّرناه في المجاز غير الّذي ذهب إليه السكاكي في الاستعارة من الحقيقة الادّعائية لأنّ ما ذكرناه يعمّ مطلق المجاز مرسلا كان أم استعارة ، والسكاكي يقول بمقالته في خصوص الاستعارة ، ولم يظهر لي إلى الآن وجه للفرق يدعو مثل هذا الأستاذ إلى التفصيل ، فقولك في مريض ـ يئس من برئه الأطبّاء ، وانقطع من شفائه الرجاء ـ : هذا ميت ، كقولك ذلك فيمن لا يرجى نفعه ولا يخشى ضرّه ، وقولك في متاع نفيس ينفق في السوق : هذا ذهب ، كقولك ذلك فيما يشبه الذهب بعينه.
  وببالي أنّ بملاحظة مجموع كلامه في المفتاح يظهر أنه يعم مذهبه في مطلق المجاز ، وإنما خصّ الاستعارة بالمثال لأنها من أشهر أقسامه وأهمها ، فليراجعه من شاء.
  ومن البعيد من مثله أن يفرّق بينهما من غير فارق أصلا ، إذ الادّعاء الّذي بنى عليه مذهبه ممكن في جميع أقسام المجاز ، وأيّ فرق في إمكان ادّعاء فرد آخر للميّت والذهب ـ في المثالين المتقدّمين ـ إذا كان بعلاقة الأول ، أو بعلاقة التشبيه.
  وعمدة الفرق بين المقالتين هي أنّ السكاكي يبني مذهبه على أنّ التصرف في أمر عقلي ، وأنّ المستعير يدّعي أنّ للمشبّه به فردا آخر وهو المستعار له ، ويجعل مقالته غرضا لسهام الانتقاد والاعتراض عليه ، بأن اللفظ موضوع للفرد الواقعي لا الادّعائي فيعود الاستعمال إلى المجاز اللغوي ، وما ذكرناه لا يبنى

--------------------
(1) انظر الفصول الغرويّة : 28.

وقاية الاذهان _ 106 _
  على الادعاء بهذا المعنى أصلا ، ولهذا تأتي الاستعارة في غير الكلّيات كالأعلام الشخصية ، فنقول ـ في ولد زيد إذا كان يشبهه ـ : هذا زيد ، وفي الجواد : هذا حاتم ، مريدا به الطائي المعروف ، من غير تخصيص له بما فيه نوع وصفية كالمثال الثاني ، ولا حاجة إلى ما تكلّفه التفتازاني بقوله : ( إن المستعير يتأوّل في وضع اللفظ ، ويجعل حاتم كأنه موضوع للجواد ، وبهذا التأويل يتناول الرّجل المعروف من قبيلة طي والفرد الغير المتعارف وهو الرّجل الجواد ) (1).
  وحسبك شاهدا على فساد هذا التكلّف ، وعلى صحة ما قلناه وجدانك عند الاستعمال ، فإنك تريد به مبالغة أنّ هذا الجواد هو ذاك الطائي بعينه.
  رجع إلى انتقاد مذهب السكاكي.
  وكيف يكون المراد من الاستعارة ادّعاء فرد آخر من جنس المشبّه به! ؟ وكثيرا مّا ترى في مليح الكلام ترتيب آثار الفرد المتعارف عليها ، كقول من بات محبوبه عنده ، وزعم أنّ الليل فقد بدره ، وبات ينشده :

أما دري الليل أنّ البدر في عضدي

  وأمثال هذا الاستعمال شائع جدّاً كما تقول في موت عالم : كيف لا تظلم الدنيا وقد فقدت الشمس أو انخسف البدر ، ونحو ذلك.
  ومن الغريب أنه هدم مبناه ، والتزم بالمجاز اللفظي في نحو ( وإذا المنية أنشبت أظفارها ) (2) وغيره مما يسمّيه البيانيّون الاستعارة بالكناية ، ومن حقها ـ على أصولهم ـ أن تسمّى التشبيه بالكناية لأنّ شرط الاستعارة عندهم أن يطوي ذكر المشبّه بالكليّة ، وهنا عكس الأمر فحذف المشبّه به واكتفي عن أداة التشبيه

--------------------
(1) شرح التفتازاني على التلخيص ( المطوّل ) : 363 ، ( والمختصر ) : 2 : 74 ، وحكاه في الفصول الغرويّة : 26.
(2) حكاه في الفصول الغرويّة : 27.

وقاية الاذهان _ 107 _
  بلازم التشبيه ، ومع ذلك فللسكاكي الفضل ولا نبخسه حقّه ولا ننكر سبقه ، فله حسن الاختراع ، ولنا حسن الاتّباع.
  ولعمري أنّ علماء البيان لم ينصفوا السكاكي في هذا المقام حيث أنكروا عليه هذا الادّعاء ، ثم جعلوه محورا يدور عليه معظم أحكامهم في بحث الاستعارة ، فمنعوها في الأعلام معلّلين ذلك بأنها تقتضي إدخال المشبّه في جنس المشبّه به ، ولا يمكن ذلك في العلم لمنافاته الجنسيّة.
  وربّما قالوا بمقالته بعينها مع تغيير اللفظ كقولهم : إن الاستعارة يفارق الكذب بأنها مبنية على التأويل بدعوى دخول المشبّه في جنس المشبّه به ، ولا معنى لهذا التأويل إلاّ أن يؤول إلى ذلك.
  وربّما صرّحوا به بلفظه كقولهم : والشرط في حسن الاستعارة أن لا يشمّ رائحة التشبيه لفظا لأن ذلك يبطل الغرض من الاستعارة أعني ادّعاء دخول المشبّه في جنس المشبّه به إلى غير ذلك ممّا لا يخفى على المتتبّع الماهر ، ولا تنس قولهم : إنّ الاستعارة مبنية على تناسي التشبيه ، وتأمّل في معنى التناسي أوّلا ، ثم في السبب الداعي إليه ، إلاّ أن يقال : إنّ المحقّقين منهم لم ينكروا الادّعاء الّذي يدّعيه ، وإنما أنكروا عليه خروجه بذلك عن المجازيّة.

  فصل

  ولا نكترث بأن تسمّي ما ذكرناه إنكارا للمجاز أصلا ، ولا نتحاشى عنه بعد ما ذهب إليه الأسفرائيني من المتقدّمين وإمام العربية غير مدافع عنه ولا مختلف فيه أعني الشيخ أبا علي الفارسي (1) ، ولكن ينبغي أن تعلم أنه كما يصح

--------------------
(1) هو الفاضل الأقدم ، والإمام الأعظم حسن بن أحمد بن عبد الغفار بن محمد بن سليمان بن أبان المكنّى بـ ( أبي علي ) المشتهر بهذه الكنية : الفارسي ، النحوي الشيعي المشهور ، المتولّد سنة 288 ، المتوفى سنة 377 ، وكان عمره 89 سنة. ( مجد الدين ).

وقاية الاذهان _ 82 _
  يصادم الوجدان ، ويزعم إهمال الألفاظ الثلاثة أعني : العين والمعشوق والفجر ، وعدم استعمالها في معنى أصلا ، ولازمه انعدام معنى كلّ بيت بأجمعه ، ضرورة توقف معاني سائر ألفاظه على وجود المعنى للقافية ، أو يلتزم باستعمالها في أحد المعاني ، ولا يكترث بامتناع الترجيح بلا مرجّح ، وحينئذ تلزم اللغوية في سائر ألفاظ البيت ؟!
  فلو حمل ـ مثلا ـ لفظ العين في البيت الأول على إرادة الشمس صلح أول البيت ، ولزم اللغو في سائر ألفاظه ، أو المعشوق في الثاني على المعنى الاشتقاقي لم يبق معنى لقوله : أيّ المكان تروم ، وكذلك حمل الفجر ـ في الثالث ـ على الصبح يلزم منه محذور اللغوية في قوله : وما لها ، وهكذا ، وكأنّي به ولا يقول بهذا ولا بذاك ، بل يؤوّلها إلى إرادة المسمّى وهو من أبرد التأويل ، وستعرف الكلام فيه قريبا إن شاء الله.
  وإذا انتهيت إلى التورية البديعيّة ، وفرّقت بينها وبين التورية العرفيّة ، ولم تقع فيما وقع فيه علماء البديع من الخلط بينهما ، ونخلتها (1) من الشواهد الغريبة التي ليست من بابها فقد انتهيت إلى ما يزيح عنك كل ريب ، ولا يدع لك مجالا للشبهة فيما قلناه ، واتّضح لديك أنّ هذه النكتة التي هي من أجلّ صنائع البديع مبنيّة على استعمال اللفظ في أكثر من معنى واحد ، وتفصيل القول لا يناسب موضوع هذا الكتاب ، وقد أوضحت جميع ذلك في رسالتي التي سمّيتها : ( السيف الصنيع لرقاب منكري البديع ) وشرحته فيها شرحا كافيا.
  ومجمل القول هنا : أنّ علماء البديع جعلوا مبنى التورية على لفظ يكون له معنيان : أحدهما قريب ، والآخر بعيد ، فيقصد المتكلّم المعنى البعيد ، ويوهم السامع القريب ، وهذا إنما يناسب التورية العرفيّة وهي التي يسمّيها العرب

--------------------
(1) نخل الدّقيق : غربلته ، الصحاح 5 : 1827 ، مجمع البحرين 5 : 497 ( نخل ).

وقاية الاذهان _ 108 _
  على مذهبنا ذلك يصحّ معه أيضا قول تلميذه ابن جني ، وهو أنّ أكثر لغة العرب مجازات ، وأنه لا اختلاف بين هذين الإمامين ، ولا تناقض بين القولين ، ولا أظنّك تحتاج إلى مزيد بيان إن كنت أتقنت ما أسلفنا فهما وأحطت به علما.
  بل يحق لك العجب من قوم تعجّبوا من الأسفرائيني ، وحاولوا تأويل كلامه بما لا يرضى به كما في إشارات الأصول (1) ، ومن ابن الدهان حيث قال بعد ما نقل عن أبي علي هذا القول ، ما حاصله : ( إنّ العجب كلّ العجب من هذا الإمام كيف أذهب بهاء لغة العرب ورونقها لأنهما قائمان بالمجاز ، وشتّان بين قوله وقول تلميذه ابن جني ) انتهى.
  وكان الأجدر به أن يتعجّب من نفسه حيث ترك تعاطي صنعة أبيه ، وكانت هي اللائقة به ، وتكلّف العلم ورأس ماله هذا الفهم ، وكيف يرضى المنصف بأن يكون ابن من يبيع الدهن اهتدى إلى الواضح البديهي ، وهو أن العرب تدعو الخدّ بالورد وتعبّر بالغصن عن القد ، وخفي ذلك على مثل هذا الأستاذ! ؟
  ولقد وقعت فيما وقع فيه الشيخ أبو علي ، وذلك أني لمّا ألقيت هذا المذهب على جماعة من الطلبة كانوا يقرءون علي كتاب الفصول في النجف الأشرف سنة (1316) لم يلبث حتى اشتهر ذلك مني في أندية العلم ومجالس البحث فتلقّته الأذهان بالحكم بالفساد ، وتناولته الألسن بالاستبعاد.
  وعهدي بصاحبي الصفي وصديقي الوفي وحيد عصره في دقّة الفهم واستقامة السليقة وحسن الطريقة العالم الكامل الرباني الشيخ عبد الله الجرفادقاني (2) ـ رحم الله شبابه ، وأجزل ثوابه ـ سمع بعض الكلام علي فأدركته شفقة الأخوّة ، وأخذته عصبيّة الصداقة ، فأتى داري بعد هزيع (3) من الليل وكنت
--------------------
(1) إشارات الأصول ج 1 ورقة 9 ـ 10.
(2) أي : الكلبايكاني ، انظر الذريعة ـ للعلاّمة الشيخ آقا بزرگ الطهراني ـ 16 : 234 ـ 922.
(3) معنى هزيع من الليل أي : طائفة ، وهو نحو من ثلثه أو ربعه ، الصحاح 3 : 1306 ( هزع ).