القطع في طريقيته في الحقيقة إلى الواقع ومؤدّى الطريق ، وفي كونه بمنزلته في دخله في الموضوع إلى أنفسهما )
(1) انتهى.
وعلى مذهبه من عدم جواز إرادة معنيين من استعمال واحد
(2) ، لا يتوقف عدم الجواز على كون أحدهما استقلاليا والآخر آليا ، بل يكفي لزوم تنزيلين وإن كانا من نوع واحد.
ثم أقول : بل يلزم تنزيل ثالث ، وهو تنزيل القطع بالموضوع التعبّدي منزلة القطع بالموضوع الواقعي ، إذ لا شك في أن القطع يختلف باختلاف متعلّقة والقطع المأخوذ موضوعا هو المتعلّق بالخمر الواقعيّة ـ مثلا ـ لا التعبّدية فلا بدّ من تنزيل آخر.
وربما يجاب عنه بأنّ دليل حجّية الأمارة يثبت الواقع تعبّدا ، والجزء الآخر أعني الطريق المعتبر ثابت بالوجدان ، فيكون الحال فيه كالحال في سائر الموارد التي تثبت فيها الموضوعات المركّبة بعضها بالوجدان ، وبعضها بالتعبّد.
وهذا إن تمّ ـ على تأمل فيه ـ لا يفي إلاّ بالتخلّص عن الإشكال الأول ، ويكون بمعزل عن الإشكال الثاني ، إذ كون هذا الطريق المعتبر متعلقا بنفس الموضوع المأخوذ في الحكم ممّا لا يثبته وجدان أو تعبّد ، وقد صعب أمر هذا الإشكال على القوم ، وأعياهم أمره ، حتى أنّ الأستاذ وإن ذكر في الحاشية
(3) وجها لتوجيهه ، ولكنه ظهر له ما فيه من الخلل ، فرجع عنه في ( الكفاية ) وجزم بعدم إمكانه
(4).
وإني أرى السبيل إلى حلّه واضحا بعد ما اتضح في محله من ثبوت جميع
--------------------
(1) كفاية الأصول : 264.
(2) كفاية الأصول : 36.
(3) حاشية فرائد الأصول : 7 ـ 8.
(4) كفاية الأصول : 264.
وقاية الاذهان
_ 459 _
لوازم الطرق وحجيّتها حتى المثبتة منها ، ولا ملازمة أجلى وأبين من الملازمة بين الطريق وبين كون مؤدّاه الواقع ، بل لا معنى لجعل الطريق والتعبّد به إلاّ ذلك.
نعم يشكل ذلك بادئ بدء في مثل الاستصحاب الّذي ثبت في محله عدم ثبوت أصوله المثبتة.
ولكن لا يخفى أنّ من التنزيل الواحد ما ينحلّ إلى تنزيلات متعدّدة بمعنى أنّ عناوينه تختلف باعتبار ما يضاف إليه ، كاستصحاب الزوجية بين زيد وهند ، فإنّه بإضافته إليه يكون زوجا ، وبإضافته إليها تكون زوجة ، وتكون أختها أخت الزوجة ، وهكذا.
ولو شئت قلت : كما أنّ لوازم الماهيّات في التكوينيّات وإضافتها تكون مجعولة بجعل تلك الماهيّات ، فكذلك الأمر في التشريعيّات ، فتكون لوازمها التي لا تكاد تنفك عنها عقلا أو عرفا مجعولة ومنزّلة بنفس جعلها وتنزيلها ، ويأتي له مزيد بيان إن شاء الله في مبحث الاستصحاب.
وقاية الاذهان
_ 460 _
القطع ـ العلم ـ الإجمالي
والكلام عليه يقع في مواضع :
أولها : في كفايته في تنجّز التكليف وثبوته.
وثانيها : في كفايته في مقام الامتثال.
وثالثها : في لزوم الالتزام به ، وعدم جواز المخالفة الالتزامية.
أما الأول ، فقد عرفت أنّ العلم لا يعقل فيه الإجمال ، وأنّ الإجمال لا يكون إلاّ في متعلّقه ، وعرفت أيضا أنّ العقل لا يفرّق فيما للعلم من الآثار بين تعيّن متعلّقه وإجماله ، وأنّ الخمر المعلوم وجوده ـ مثلا ـ في أحد إناءين كالمعلوم وجوده في إناء واحد.
نعم لا بد من تفصيل القول في بيان شرائط تنجّز التكليف به وما فيه من الأقوال وما يترتب عليه من الفروع ، وتعرف إن شاء الله جميع ذلك في مبحث البراءة والاشتغال.
وأما الثاني ، وهو كفايته في مقام الامتثال فينبغي القطع بها حتى في التعبّديات ومع التمكن من العلم التفصيليّ وإن استلزم التكرار ، فضلا عن التوصّليات ، وعمّا لم يتمكن من العلم التفصيليّ ولم يستلزم التكرار ، وذلك لأنّ الأمر لا يقتضي إلاّ إتيان متعلّقه بجميع أجزائه وشروطه ، والمفروض إتيان المكلّف به كذلك ، والحكم في مقام الامتثال للعقل وحده ، ولا فرق عنده بين إتيان فعل واحد يعلم بأنه مصداق المأمور به ، وبين إتيانه بفعلين يعلم بأن أحدهما هو المصداق له ، والعلم بالفراغ الّذي يحكم به حاصل هنا حصوله في غيره.
وما دعا الشيخ الأعظم إلى إطالة الكلام فيه (1) ـ على وضوحه ـ إلاّ
--------------------
(1) انظر فرائد الأصول : 14 وما بعدها.
وقاية الاذهان
_ 461 _
ذهاب جماعة إلى عدم كفايته ، وما دعا هؤلاء إلاّ اعتبارهم الوجه والتميز الّذين ادّعى بعض مشايخنا القطع بعدم اعتبارهما ، وهو غير مجازف فيما ادّعاه.
واحتمال كون التعيين دخيلا في الفرض فلا يمكن التمسك في نفيه (1) بإطلاق الدليل ، فيه بعد الغض عن إمكان دعوى القطع أيضا على عدم اعتباره ، ان أصالة البراءة جارية فيه ، وكافية لدفعه ، وقد سبق بيانه في مبحث المقدّمة.
وقد يستدلّ على عدم كفايته تارة بدعوى الإجماع ـ الممنوع وجوده أولا ، وحجيته ثانيا ـ وتارة بأنّ العقلاء لا يعدّون ذلك إطاعة ، بل لا يرونه إلاّ لعبا بأمر المولى.
وفيه : أنّ ذلك فرية على العقلاء ، وحاشاهم من الفرق في حصول الامتثال بين من أتى بشيء واحد يعلم أنه المأمور به وبين من أتى بشيئين يعلم أنه أحدهما ، وإن خطّأه من جهة اللغوية ، ولا يكون ذلك إلاّ مع الغرض العقلائي ، وإلاّ فلا تخطئة ولا عتاب.
ومنه يظهر الجواب عن دعوى كون سيرتهم على خلافه ، إذ هي مع وجود الغرض ممنوعة ، ومع عدمه فهي مستندة إلى اللغوية لا إلى البطلان ، ولو سلّم أنه يعدّ لاعبا ، فما هو إلاّ لعبا في طريق الامتثال لا في نفس الامتثال ، ومثله لا ينافي حصول الإطاعة.
فاستبان من ذلك جواز الاحتياط مع التمكن من الظن التفصيليّ المعتبر ـ الظن الخاصّ ـ وأنه هو الأولى والأحسن ، كما أوضحه الشيخ الأعظم ، ولكن ذكر أثناء كلامه لزوم تقديم المظنون على غيره (2) ، وجرى هو وأصحابه على ذلك في رسائلهم العمليّة ، فتراهم يحكمون بتقديم القصر على التمام أو العكس ، حيث
--------------------
(1) أي : نفي الاحتمال.
(2) فرائد الأصول : 16.
وقاية الاذهان
_ 462 _
كان الفتوى على أحد الأمرين من القصر أو التمام ولم يظهر لي بعد وجه له.
وأقصى ما يقال : إنّ مع تقديم المظنون على المحتمل يعلم بوجود الأمر الواقعي ، فيأتي به قاصدا امتثال الأمر المعلوم ، بخلاف ما لو قدّم غيره ، وفيه ما لا يخفى.
وأما الثالث ، وهو وجوب الالتزام وحرمة المخالفة الالتزامية ، فالقائل بوجوب الالتزام بالحكم إن أراد وجوب الالتزام بالحكم الواقعي إجمالا والإذعان له بما هو عليه ، فهذا أمر يجب الإذعان به ، ولا يجوز إنكاره لأن لازم التديّن بالشريعة التسليم لما فيها من الأحكام.
وإن أراد الالتزام بشخص الحكم الواقعي ، فهو على إطلاقه تكليف بغير المقدور.
وإن أراد لزوم التديّن بأحد الحكمين من الوجوب والتحريم على سبيل الخبرين المتعارضين ، فهو أمر ممكن في نفسه ، وقياس المقام بالخبرين ، فاسد لعدم تنقيح المناط ووجود الفارق.
وبالجملة ، لا دليل على لزوم الالتزام بأيّ معنى كان ، بل لا مانع من الالتزام بحكم آخر في مورد الشك كالإباحة لدى دوران الأمر بين الوجوب والحرمة ، إذ الالتزام بالحكم الواقعي لا ينافي الالتزام بغيره في مرحلة الظاهر ، فلا تنافي بين الالتزامين ، كما أنّه لا منافاة بين الحكمين على ما ستعرف قريبا إن شاء الله.
واعلم أنّ الالتزام معنى يدركه الوجدان ، ويضيق عنه نطاق البيان ، وتختلف أسماؤه باختلاف الموارد ، كعقد القلب على شيء ، والبناء عليه ، والانتحال له ، ولعلّ منه التجزّم الّذي تقدّم نقله عن السيد الأستاذ ـ طاب ثراه ـ ولم أجد لأحد من مشايخي ـ رحمهم الله ـ ولا لغيرهم بيانا شافيا له ، إلاّ بيانا إجماليا من العلاّمة الوالد طاب ثراه.
وقاية الاذهان
_ 463 _
وعهدي ببعض (1) مشايخي ، وهو ينكره أصلا ، ولا يراه إلاّ العزم على الأفعال الخارجية ، وهو خلاف الوجدان ، إذ الشاك المنتحل الّذي يحكم الفقهاء بإسلامه غير المنافق الّذي يوافق المسلمين في أفعالهم ، والبناء على الثلاث والأربع لدى الشك في الركعات غير مجرّد ترك الركعة الأخرى ، أو الإتيان بها ، على ما هو ظاهر جمع من الفقهاء ، بل صرّح به بعضهم على ما بالبال ، وقد يبني الإنسان على أمر لا يترتب عليه شيء من أفعاله ، والجحود القلبي معنى لا يستطاع جحوده ، قال عزّ من قائل : ( وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ) (2).
اللهم اجعل أنفسنا مذعنة بربوبيتك ، وقلوبنا أوعية لمحبّتك ، وألسنتنا ناطقة بشكر نعمتك ، وصلّ على محمد وآله خيرتك من خليقتك.
كمل ما أردنا إيراده في مباحث القطع قبيل الصبح من منتصف شهر صفر عام 1337 [ الهجرية ].
عبد الله الفقير إليه ، أبو المجد محمد الرضا آل العلاّمة صاحب هداية المسترشدين.
--------------------
(1) الأستاذ الفريد الشيخ فتح الله النمازي شيخ الشريعة ، المعروف بـ ( شريعت ) طاب ثراه ، هامش الأصل.
(2) النمل : 14.
وقاية الاذهان
_ 464 _