وقاية الأذهان والألباب
ولباب أصول السنّة والكتاب


  ترجمة مختصرة
  لسيدنا الأستاذ السيد محمد الفشاركي رحمه الله (1).
  هو من أسرة كريمة النجار ، عريقة في الفخار ، أصلها من الشرفاء الطباطبائية القاطنين ببلدة ( أزوارة ) (2) هاجر منها جدّه الأعلى أعني الأمير شريف ، وأخوه الأمير مشرّف ابنا الأمير أشرف ، إلى ( قهپاية ) من نواحي أصبهان ، فتوطّن الأمير مشرّف قرية ( وير ) والأمير شريف قرية ( فشارك ) وولد بها صاحب الترجمة سنة 1253 ، وكان عمره لمّا توفّي والده الحاج الأمير أبو القاسم ، ستّ سنين ، وسافر إلى العراق وهو ابن إحدى عشرة سنة ، وجاور الحائر الشريف ، وكفله هناك أخوه العالم السيد إبراهيم المعروف بـ ( الكبير ) فكمّل العربيّة والمنطق ، ثم اشتغل بالفقه وأصوله على عدّة من علمائه كالعالم الشهير السيد ابن المجاهد الطباطبائي ، والأستاذ المعروف بـ ( الفاضل الأردكاني ).
  ولمّا قدم إليه رئيس المذهب وطراز (3) شرفه المذهّب ، آية الله في الزمن الحاج ميرزا محمد حسن الشيرازي ، انقطع إليه ، واقتصر في الحضور عليه ، وسافر معه إلى سامراء وتوطّنها معه ، فآثره على جلّ أصحابه حتى صار عيبة سرّه المصون من العيب ، وخزانة علمه المنزّه من الريب ، ولمّا كثرت أشغال العلاّمة المذكور ، لتحمّله أعباء الإمامة ، وتفرّده بالرئاسة العامّة ، فوّض أمر التدريس إليه ، واعتمد في تربية الأفاضل عليه ، فقام بتلك الوظيفة بهمّة دونها العيّوق (4) ،

--------------------
(1) الترجمة بقلم المصنّف طاب ثراه.
(2) وهو معرّب ( زوارة ) التي تكون قربية من أصبهان ( مجد الدين ).
(3) الطراز : حاشية الثوب ، وجمال الثوب بجمال حاشيته.
(4) العيّوق من نجوم السماء ، والعبارة إشارة إلى علوّ همّة المترجم.

وقاية الاذهان _ 136 _

  وأقام للعلم بها أنفق سوق حتى صارت كعبة العلم ومطاف أصحابه ، ومنتجع وفد الفضل ومراد طلاّبه.
  ولمّا أصابت أمّة العلم فيها عين الزمان ، وشتّتت شملها يد الحدثان ، وهاجر أستاذه العلاّمة إلى دار الكرامة ، هاجر بأهله وأولاده إلى الغريّ الشريف ، والغريّ إذ ذاك مجمع شيوخ الطائفة وسدنة العلم ، ومختلف ذوي الفضل والفهم ، فتهافتت عليه الطلاّب تهافت الفراش على الشمع ، وضربوا إليه أكباد الإبل ما بين بصر الأرض والسّمع ، فوردت الأفهام لديه من علوم الشريعة أعذب منهل وأصفى شريعة ، وشرع في الدرس العمومي في داره الشريعة ، ثم وضع له منبر التدريس في القبّة التي فيها قبر أستاذه (1) ، فدرس هناك مدّة ، ثم في الجامع المعروف بـ ( الجامع الهندي ) وربّما كان له مجلس درس آخر في داره يحضره خواصّ أصحابه ، وكنت ـ والحمد الله ـ منهم ، وقد حضرنا عليه فيها قطعة صالحة من كتاب البيع ومسألتي المشتق واللباس المشكوك وغيرها.
  وكان ـ سقى الله رمسه ـ قد فرّغ نفسه الشريفة للعلم والعبادة وتحامى الرئاسة ، ولو شاء أن يكون مرجعا للتقليد لرميت إليه منها المقاليد ، ولكنّه لفظ الدنيا لفظ النواة ، ورماها رمي الحجيج الحصاة ، ورأى الاجتناب عنها أولى ، وأنّ الآخرة خير له من الأولى ، فسلك مسلك أجداده الأمجاد ، وعاش فيها عيش الزهّاد ، ما بنى فيها دارا ، ولم يخلّف عقارا ، حتى أنّه لم يكن له لمّا أدركناه خادم يخدمه ، بل كان يذهب إلى السوق بنفسه لشراء حوائجه والطلبة حافّون به يسألونه عمّا أشكل عليهم من درسه وهو واقف على باب بعض الحوانيت.
  وكان مع ما منحه الله من الطبع الحرّ والإباء المرّ ـ وذلك منه شنشنة هاشمية لا أخزميّة ، وسجيّة علويّة فاطميّة ـ في أقصى درجات حسن الخلق والتواضع

--------------------
(1) السيد محمد حسن الشيرازي المتقدّم ذكره ( مجد الدين ).

وقاية الاذهان _ 137 _
  والتعطّف على طلبة العلم ، وكانوا يختلفون إليه على اختلاف طبقاتهم واختلاف مراتبهم ومآربهم ، حتّى أنّ الأصاغر منهم يقصدونه للسؤال عن بعض عبارات الكتب الابتدائية فيسمح لهم بالجواب ، ويلاطفهم في الخطاب وهو جالس في صحن داره على التراب.
  ولم يزل لأبناء العلم كالوالد الشفيق ، وبيته كالبيت يحجّون إليه من كلّ فجّ عميق ، إلى أن وقف عمره على ثنيّة الوداع ، وأذنت مزنة (1) الفض بالإقلاع ، فظهرت في كفّه الشريفة قرحة أقرحت منّا القلوب والأكباد ، ووددنا أن نفديه منها بأرواحنا لا الأجساد ، وتولّدت منها عوارض أخرى ، إلى أن لزم داره ، واستمرّ به المرض مدّة تقرب من شهر حتى قضى نحبه ، وجاور ربّه في شهر ذي القعدة الحرام من شهور سنة 1316 ولا تسأل عمّا جرى في جنازته من العويل والبكاء ، وقد جرت عن العيون بدل الدموع الدماء ، ودفنّاه في إحدى حجرات الصحن الشريف من جهة باب السوق الكبير على يسار الداخل إليه.
  وكان قليل التصنيف جدّاً ، على أنّي سمعت منه في الدرس يقول : إنّي لم أباحث قط من غير مطالعة ، بل ولا من غير كتابة.
  والموجود ـ الآن ـ ممّا خطّه بقلمه : قطعة في شرح أوائل رسالة البراءة من رسائل الشيخ الأعظم ، ورسالة في الدماء الثلاثة ، ورسالة في خلل الصلاة.
  وخلّف من الذكور أربعة :
  أوّلهم : الشاب العالم الفاضل السيد محمد باقر ، وكان وضيّ الطلعة ، دمث الأخلاق ، محبوبا عند أهل العلم.
  وكان صهر أعزّ أصدقاء والده ، العلاّمة الآقا ميرزا محمد تقي آية الله الشيرازي الثاني ، وكان مدبّر أمره ومستودع سرّه ، ولكنّه أدركه المحاق قبل

--------------------
(1) المزنة : السحابة الممطرة [ الصحاح 6 : 2203 مزن ] وإقلاعها كناية عن انتهاء عمره.

وقاية الاذهان _ 138 _
  الإبدار (1) ، وقضى ـ وعمره من أقصار الأعمار ـ حدود سنة ستّ أو سبع وثلاثين.
  وثانيهم : العالم الفاضل الكامل السيد عباس ، وهو ـ على ما يبلغني عنه ـ قد جمع بين طريف المجد وتالده ، وسلك في سبل المكارم طريق والده ، وهو اليوم قاطن أرض الغريّ ، مجدّ في الاشتغال ، ويزداد كلّ يوم في الكمال كالهلال ، وسوف يلوح في سماء العلم بدرا ( ولا بدّ لابن الصقر أن يشبه الصقرا ).

إنّ الـهلال إذا رأيـت نموّه      ii

أيقنت أن سيصير بدرا كاملا      ii
  وثالثهم : السيد العالم الفاضل السيد علي أكبر ، وقد استوطن عاصمة طهران ، وهو الآن أحد علماء تلك البلدة ووجوهها.
  ورابعهم : الشاب المهذّب الصفيّ السيد أبو طالب ، وكان (2) رحمه الله يحبّه حبّا شديدا ، وقد انقطعت عنّي أحواله ببعد الديار وانقطاع الأخبار.
  هذا ، وأمّا وصف محاسن خلاله ومحامد أقواله وأحواله وأفعاله وما منحه الله من العلم والتقوي وحسن البيان وطلاقة اللسان فإنّه يدع سحبان وائل وهو أعيا من بأقل.
  وهذا أمر أعترف بعجزي عنه ، فليعذرني الناظر ، وما أساء من اعتذر ، ولو لا خوف تسرّع القرّاء إلى الإنكار لذكرت بعضها ، ولكن صدور الأحرار قبور الأسرار ، وحسبك منها ما تراه في خلال هذا الكتاب من غرر فوائده ، ومن رأي من السيف أثره فقد رأى أكثره.
  وأسأل الله أن يجزيه عنّا أفضل جزاء المحسنين ، ويحشره مع أجداده الطاهرين ، وأنا أعبّر عنه بـ ( السيّد الأستاذ ) أو بـ ( سيّدنا الأستاذ ).

--------------------
(1) أي : مات شابا كالقمر لم يصل منتصف الشهر.
(2) أي : وكان والده ...

وقاية الاذهان _ 139 _
بسم الله الرحمن الرحيم


  وبه ثقتي
  أما بعد حمد الله الّذي جعل الحمد أول كتابه (1) ، وآخر دعوى (2) ساكني دار ثوابه (3) ، والصلاة على محمد والطاهرين من ولده ، والصالحين من أصحابه.
  فإنّه لمّا ظهرت الفتن في بلاد العراق ، وقامت الحرب فيها على ساق ، تحكّم الدهر الجائر ، لا ، بل حكم عليّ القدر القاهر ، بالمهاجرة عن بلاد عقّ تمائمي (4) فيها الشباب ، وأول أرض مسّ جلدي منها التراب.
أرض الغري وبوركت iiأرضا      ii

أرضى ولست بغيرها أرضى      ii
--------------------
(1) أي أوّل القرآن الكريم في سورة فاتحة الكتاب ( مجد الدين ).
(2) أي وجعل الحمد آخر دعوى ساكني ( مجد الدين ).
(3) أي الجنة ، وهذه إشارة إلى قوله تعالى : ( وَآخِرُ دَعْواهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ ) ( مجد الدين )
(4) التمائم : جمع التميمة ، وهي ما يعلّق على الطفل لأجل الحفظ ( مجد الدين ).

وقاية الاذهان _ 140 _
  ففارقت معاهد أنسي ولذاتي ، ومواطن إخواني ولداتي ، وسرت (1) عام (1333) إلى بلاد الأمن والإيمان ، أعني بلاد إيران ، وألقيت عصا التسيار في سيّدة أمصارها ، ضرّة رياض الجنان : أصفهان.
  فهناك أحاطت بي أفاضل حملة العلم وطلاّبه إحاطة الهالة (2) بالقمر المنير ، وحاموا حولي كما يحوم الصادي (3) حول العذب النمير ، وكثيرا مّا كنت أكتب ما أقرّره لهم من مسائل أصول الفقه بعد الفراغ من التدريس ، في قطع متفرقة من أسحية القراطيس ، من غير أن أفصّل شذورها في ضمن فصول وأبواب ، لأنّي لم أقصد به تأليف رسالة في ذلك الفن ، ولا تصنيف كتاب ، ولكن بعض الأفاضل (4) من الأصحاب عرف قدرها ، فجمع شملها ، ثم عرضها علي ، وحثّني على إعادة النّظر فيها ، وتهذيبها ، وطلب منّي ترتيبها ، وتبويبها ، فأجبته إلى ذلك خوفا على تلك الأعلاق النفسيّة من الضياع ، وطمعا في أن يعمّ بها الانتفاع.
  فهاك أيها الطالب لحقائق هذا الفن ، ولباب هذا العلم ، وما كنت تبتغيه ، وأرجو أن يكون ـ إن شاء الله ـ كما ترتضيه ، فقد مخضت لك الرغوة عن الصريح ، وميّزت السقيم من الصحيح ، وفرّقت بين الدرّ والمخشلب (5) ، وأخلصت

--------------------
(1) وكان المسير أيام الحرب العموميّة ( بين الملل ) وكثرة الخوف والتعب ، وكيف والقائد العثماني ( حسين رءوف ) يقتل الطلبة الشيعي فكيف العالم ، وكان من منّ الله تعالى أنّ الليلة التي أردنا المسير ليومها وصل إلينا خبر انعزاله ( مجد الدين )
(2) الهالة : الدائرة المنعقدة حول القمر وهو تشبيه حسن لحلقة الدرس ( مجد الدين ).
(3) الصادي : طالب الماء ، أو العطشان ( مجد الدين ).
(4) وهذا البعض هو الشيخ محمد رضا البافراني من خواص المصنّف. ( مجد الدين )
(5) المخشلب بضم الأول وسكون الثاني وفتح الثالث والرابع ، وهي الدرر الجعليّة ، ومعناها بالفارسية ( خر مهره ) ( مجد الدين ).

وقاية الاذهان _ 141 _
  عن المموّه (1) صافي الذهب ، وجمعت فيه خلاصة ما وصل إليه الفكر ، وما تلقّيته عن مشايخ العصر ، لا سيّما ما استفدته عن سيدي ومولاي وأستاذي ومن عليه استنادي وعنه إسنادي ، الإمام العلاّمة أبي المكارم السيد محمد الفشاركي الأصفهانيّ ، ثم الحائري النجفي ، أعلى الله تعالى في غرف الجنان رتبته ، وسقى بصيّب الغفران تربته ، فقد حرصت على أن لا يشذّ عني شيء منه ، فجعلت جمعه وكدي (2) ، بعد ما بذلت في فهمه جهدي ، وأنا أعلم أنه قد فاتني منه الكثير ، وأنّ مثلي لا يخلو في فهم مقاصد مثله عن قصور وتقصير ، فما وجدت فيه من السفاسف فذلك من نقصان هذا العبد ، والكمال للربّ سبحانه وحده ، وقد يتكهّم العضب الصيقل ، ويضلّ الخريت عن لاحب السبيل ، ولكن رجائي منك لحسن ظني بك ، أن لا تسارع في الانتقاد ، وأن تحكم قبل قيام البينة بالفساد ، ولك الحكم بعده إن ألزمت نفسك الإنصاف ، الّذي هو من أشرف الأوصاف.
  هذا ، وقد سبق من هذا الكتاب جزء في مسألتي الوضع والاستعمال ، جعلته كالمدخل إليه ، وأفردته عنه لعذر بيّنته فيه ، وأنا أشرع بتوفيق الله تعالى في بيان سائر مباحث الألفاظ ، وأجعل عناوين المسائل غالبا ما هو المصطلح عليه لدى أهل العلم في هذا الزمان.

الحقيقة الشرعية

  قال في الفصول ، ما لفظه : ( الحقيقة الشرعية : هي الكلمة المستعملة في معناها الشرعي بوضع شرعي فخرج بقولنا : في معناها الشرعي ، ما استعمل في غيره ولو بوضع شرعي كإبراهيم ، وبقولنا : بوضع شرعي.
  الكلمة المستعملة في

--------------------
(1) المموه بضم الأول وفتح الثاني وفتح الثالث مشدّدة : الذهب المزيف فهي مرادف المطلى ( مجد الدين ).
(2) وكدي أي همي ومرامي ( مجد الدين ).

وقاية الاذهان _ 142 _
  معناها الشرعي بوضع لغوي ، أو عرفي ، أو بوضع شرعي لمعنى آخر ، فإنّ المتبادر منه أن يكون بمقتضاه الأوّل ، أو لأنّ الظاهر منه أن يكون الوضع سببا مستقلا في صحة الاستعمال ، وليس الأمر في المجاز كذلك ).
  ( وينبغي أن يعتبر قيد الحيثية في الوضع الشرعي ، فيخرج مثل لفظ الحسن والحسين عليهما السلام فإنه وإن كان لمسمّاهما تعلّق بالشرع لحكم الشارع بوجوب اتّباعهما ، والاعتراف بإمامتهما ، إلاّ أنه لم يضع اللفظين من حيث كونهما شارعا بمعنى أن لا مدخلية لكونه شارعا في التسمية ، بخلاف مثل لفظ الصراط والميزان والجنة والحساب ، بناء على أنها حقائق في معانيها الشخصية ، أو المخصوصة ، فإنّ لجهة الشرع مدخلا فيها ، لأنّ الغرض الداعي إلى وضعها ، إنما هو بيان آثارها الشرعية ) (1) إلى آخره.
  قلت : لعلّ الوجه في أخذه قيد الاستعمال في الحدّ ، ما قرّروه من أنّ اللفظ قبل الاستعمال لا يسمّى حقيقة ولا مجازا ، وفيه بحث ليس هذا موضع بيانه ، ولكن يمكن أن يحرّر البحث في وضع الشارع لهذه الألفاظ وعدمه.
  فيقال : الحقيقة الشرعيّة هي الكلمة التي وضعها الشارع لمعانيها الشرعية ، ثم ينازع في ثبوتها وعدمه ، فيستغنى عن هذا القيد ، فيتأتّى النزاع ولو فرض عدم الاستعمال أصلا ، إلاّ أن يقال بعدم تحقق الوضع إذا لم يلحقه الاستعمال ، وقد مرّ القول فيه.
  ثم إنّ ما ذكره في لفظ الصراط وغيره لا يتم إلاّ إذا كان المراد من الشرع جميع ما أتى به الشارع ولو في الأمور التي أخبر بها من المغيبات التي كشف عنها ، ولفظ الشرع لا يساعد عليه إلاّ أن يكون حقيقة شرعية ، ولا أعرف أثرا شرعيا ابتدائيا لهذه الألفاظ ، إلاّ أن يكون وجوب التصديق بمسمّياتها ،

--------------------
(1) الفصول الغرويّة : 42.

وقاية الاذهان _ 143 _
  فهي ـ إذن ـ كلفظي الحسن والحسين ، وقد حكم بخروجهما عن حدّ البحث ، ولو اكتفى في الأثر الشرعي ولو بوسائط لاتّسع المجال ، ودخل في حريم الجدال ألفاظ الملائكة والحور والقصور ، إلى غير ذلك.
  ومع الغض عن جميع ذلك ، لا شك في أنّ النزاع يختص بما يتعلّق به الأحكام الشرعية ابتداء إذ لا يتعلّق غرض الباحث عن أصول الفقه إلاّ به.
  اللهم إلاّ بجعل الكلام فيها ، كما في الأوامر والنواهي والعموم والخصوص ونحوها ممّا يبحث فيه عن عموم الألفاظ وإن اختص غرض الأصولي بخصوص الوارد منها في الكتاب والسنة ، وفيه بعد.
  والأخصر الأولى ، أن يقال : إنّ الحقيقة الشرعية هو اللفظ الّذي وضعه الشارع لمعنى شرعي من حيث إنّه شارع ، بل لك أن تترك قيد الحيثيّة لما مرّ ، فإن الحسن والحسين ليسا بمعنى شرعي بالمعنى الّذي عرفت.
  والشارع هو النبيّ صلّى الله عليه وآله على المشهور ـ أو هو الله تعالى ـ على قول ـ ويؤيده قوله تعالى : ( شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً ) (1) الآية الكريمة ، أو كلّ منهما شارع ـ في وجه آخر ـ وأيّا كان تخرج عن النزاع الألفاظ الواردة في غير كلام الله تعالى ، وكلام رسوله صلّى الله عليه وآله.
  وبهذا يظهر قلّة الجدوى في هذه المسألة عند أصحابنا لأن أكثر أخبار الأحكام عندهم مروي عن الصادقين ومن بعدهما من الأئمة على جميعهم السلام.
  فهي ـ على هذا ـ حقائق متشرعية ، ولو تكلّف لشمول النزاع لها فلا شك في أن هذه الألفاظ المبحوثة عنها قد وصلت إلى حدّ الحقيقة في زمانهم فتقلّ الفائدة أيضا.

--------------------
(1) الشورى : 13.

وقاية الاذهان _ 144 _
  اللهم إلاّ في ألفاظ نبويّة قد وردت من طرقهم ، وعلم نقلهم لها بألفاظها.
  إذا عرفت ذلك كلّه ، فاعلم أنهم قد اختلفوا في استعمال الشارع لهذه الألفاظ ، فقال قوم : إنه استعمال حقيقي لأنه وضعه لهذه المعاني ، وقال آخرون : إنه مجاز ، وفصّل آخر بين ألفاظ العبادات والمعاملات ، فأثبتها في العبادات ، ونفاها في المعاملات.
  ونقل عن الباقلاني إنكار استعماله في غير معانيها اللغوية ، وأنّ الزيادات شروط للصحة أو القبول (1).
  ورماه القوم بالضعف والوهن بقوس واحدة ، وليس عندي بذلك البعد ، بل هو الحقّ في الجملة (2) لما ستعرف.
  والواجب أولا ، معرفة ما لهذه الألفاظ المتداولة بين الفقهاء من الأقسام ليظهر الحال في كلّ منها ، إذ منها ما نعلم بأنها اصطلاحات علميّة لم تحدث إلاّ بعد تدوين علم الفقه ، وذلك بعد عصره صلّى الله عليه وآله بل وعصر التابعين ، كلفظ طبقات الإرث ومناسخاته ، فما كان من هذا القبيل فسبيله سبيل سائر الاصطلاحات المتداولة في سائر العلوم ، وهو عن هذا النزاع بمراحل (3).
  ومنها ألفاظ لمعان معروفة يعلم استعمال الشارع لها ، ولكن لا على سبيل النقل والوضع ، بل على سبيل متابعة اللغة وإن جعل لها حدودا وزادها موانع وشروطا ، وهذا لا يلزم وضعا جديدا ، كما يظهر بالتأمل ، وذلك كالنكاح ، والطلاق ، والظهار ، والعتق ، وهذا القسم كثير جدّاً ، بل منه ـ فيما أرى ـ الشطر الأكثر ،

--------------------
(1) الفصول الغرويّة : 43 ، هداية المسترشدين : 94.
(2) في بعض الأقسام الآتية ( مجد الدين ).
(3) أي بعيد عن محل النزاع بمسافة كثيرة ، إذ الكلام في الألفاظ الواردة في كلام الشارع ، لا الألفاظ والمعاني التي حدثت بعده صلّى الله عليه وآله ، بل بعد عصر التابعين ، وحاصله : أنّ النزاع في الحقيقة الشرعية لا المتشرعة ( مجد الدين )

وقاية الاذهان _ 145 _
  حتى أنّ الباقلاني جعل جميع هذه الألفاظ منه ، وأنكر استعماله في غير المعاني اللغوية ولو مجازا (1).
  ومن هذا القبيل ألفاظ العبادات التي كانت معروفة قبل الشارع كالحج والطواف ، بل الصلاة ـ في وجه ـ كما لعلّه الظاهر من قوله تعالى : ( وَما كانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلاَّ مُكاءً وَتَصْدِيَةً ) (2).
  ومنها ألفاظ لمعان دينية ، لا عهد للعرب بها ، وهي ألفاظ قليلة ، ومهما وردت عنه فالغالب كونها مقرونة بقرائن تعيّن المراد منها ، وهذا أيضا ممّا يوجب قلّة النّفع في هذا البحث ، ويحطّ من قدره.
  وبالجملة ، ذكر القوم هذا النزاع فيها ، وسكتوا عمّا لها من الأقسام ، بل أدخل بعضهم في حريمه جميع الألفاظ المتداولة في ألسن المتشرّعة الكائنة حقيقة عندهم في المعاني الشرعية.
  وقد تنبّه لوضوح فساده صاحب الهداية (3) ، ووضع للتي تدور مدار البحث عليها شروطا ملخّصها : كون الألفاظ متداولة في ألسنة المتشرعة من قديم الأيام ، وأن تكون بالغة حدّ الحقيقة عند المتشرّعة في ذلك الزمان ، وأن تكون تلك الألفاظ هي التي يعبر بها الشارع عن تلك المعاني غالبا ، وحكم بشمول النزاع لجميع ما اجتمعت فيه هذه الشروط من هذه الألفاظ ، واستظهر ذلك من القائلين بثبوت الحقيقة الشرعية ، ثم اختار القول بالإثبات ، واستدلّ له بوجوه عرف مواقع النّظر (4) فيها ، فاعتذر بأنّ من ضمّ بعضها إلى بعض تحصل المظنة

--------------------
(1) الفصول الغروية : 43.
(2) الأنفال : 35.
(3) الشيخ محمد تقي صاحب ( هداية المسترشدين ) جدّ المصنّف طاب ثراهما ( مجد الدين )
(4) عرف ضعفها ، وورود الإشكال عليها ( مجد الدين )

وقاية الاذهان _ 146 _
  وهي كافية في المقام (1).
  أقول : ومع مراعاة ما ذكره من الشروط فالقول بثبوتها في جميع هذه الألفاظ صعب جدّاً.
  نعم لا ينبغي الريب في ثبوتها في الجملة ، فالحقّ مع المثبت إن قنع بالإيجاب الجزئي في مقابل السلب الكلّي ، ولا سيّما لو جعل الوضع أعم من التعييني والتعيّني ، لأنّا نعلم أنّ مثل لفظ الصلاة الّذي كان لا يقرع أسماع الصحابة في كل يوم وليلة أقلّ من عشرين مرّة ، كانوا يفهمون هذه العبادة من اللفظ من غير احتياج إلى قرينة ، ولكن الظاهر عدم الوضع تعيينا ، بل حصوله تعيّنا في صدر الإسلام.
  وكان بعض مشايخنا رحمه الله يذهب إلى ثبوت الوضع على النحو الأول ، ويقول : إنّ قوله عليه السلام : ( إنّ الصلاة ثلث طهور ، وثلث ركوع ) (2) وقوله : ( لا يضر الصائم إذا اجتنب أربع خصال ) (3) ونحو ذلك بمنزلة ما يقوله مخترع بعض المعاجين : إن الإطريفل (4) أجزاؤه كذا وكذا ، فإنه بيان للوضع وإعلام به بلسان بيان أجزائه الموضوع له ، وهذا استحسان حسن ، مأخوذ من كلام العلاّمة ـ الجدّ ـ في الهداية ، ولكن هذه الروايات لم ترد عن النبيّ صلّى الله عليه وآله ، بل وردت في أزمنة لا يحتاج إثبات الحقيقة فيه إلى دليل.

--------------------
(1) هداية المسترشدين : 93 ـ 94.
(2) الفقيه 1 : 22 ـ 66 ، الكافي 3 : 273 ـ 8 ، التهذيب 2 : 140 ـ 544 والحديث مروي عن الصادق عليه السلام ، ونصّ الحديث هكذا : ( الصلاة ثلاثة أثلاث ، ثلث طهور ، وثلث ركوع ، وثلث سجود ).
(3) الفقيه 2 : 67 ـ 276 وفيه عن الإمام الباقر عليه السلام.
(4) بكسر الهمزة وسكون الطاء المهملة وكسر الراء وسكون الياء وكسر الفاء : معجون معروف ودواء مشهور في الطب القديم ( مجد الدين )

وقاية الاذهان _ 147 _
  واعلم أنّ الشيخ الأستاذ (1) بعد أن استقرب الوضع التعيّني في الألفاظ المتداولة على لسان الشارع ، قال ما لفظه :
  ( هذا كلّه بناء على كون معانيها مستحدثة في شرعنا ، وأما بناء على كونها ثابتة في الشرائع السابقة ، كما هو قضية غير واحد من الآيات ، مثل قوله تعالى : ( كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ كَما كُتِبَ ) (2) إلى آخره ، وقوله : ( وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِ ) (3) وقوله تعالى : ( وَأَوْصانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ ما دُمْتُ حَيًّا ) (4) إلى غير ذلك ، فألفاظها حقائق لغويّة لا شرعيّة ، واختلاف الشرائع فيها جزءا وشرطا لا يوجب اختلافها في الحقيقة والماهيّة ، إذ لعلّه كان من قبيل الاختلاف في المصاديق والمحققات كاختلافها بحسب الحالات في شرعنا ) (5) انتهى.
  واعترض عليه بعض الأعلام (6) دام توفيقه بقوله : إنّها حكايات معان بألفاظ دالّة على تلك المعاني في عرف المخاطب بهذا الكلام ، ولا يدلّ على كونها دالّة على تلك المعاني في العرف السابق ، وهذا واضح.
  أقول : لو اقتصر في بيان هذا المدّعى بهذا المقدار من البيان لكان ورود هذا الاعتراض واضحا كما ذكره ، إذ الآيات الكريمة تدلّ على ثبوت تلك الماهيّات في تلك الشرائع ، لا على أنّها كانت تسمّى بهذه الألفاظ ، كيف ولغات

--------------------
(1) الشيخ محمد كاظم الخراسانيّ صاحب الكفاية طاب ثراه في الكفاية ( مجد الدين )
(2) البقرة : 183.
(3) الحج : 27.
(4) مريم : 31.
(5) كفاية الأصول : 21 ـ 22.
(6) وهذا البعض ، الشيخ عبد الكريم اليزدي ( مجد الدين ) وانظر درر الفوائد 1 : 16 ـ 17.

وقاية الاذهان _ 148 _
  أهلها لم تكن عربيّة ، وما أرسل الله رسولا إلاّ بلسان قومه (1) ، وهذه لغات عربية قطعا ، ومرادفاتها في تلك اللغات معروفة ، وما هي إلاّ كسائر ألفاظ الآية التي نقلت معانيها بألفاظ العرب.
  ولكن هذا الكلام ـ فيما أرى ـ مقتطع أصلا ودليلا من كلام صاحب الفصول ، ولو أنّ هذا الأستاذ كان نقله بجملته لم يتّجه عليه هذا الاعتراض ، وكان قد برئ من عهدته ، وهاك كلام الفصول بنصّه ، قال : ( فالذي يقوى عندي ، أنّ جملة من تلك الألفاظ قد كانت حقائق في معانيها الشرعية في الشرائع السابقة كالصلاة ، والصوم ، والزكاة ، والحج ) (2).
  ثم قال بعد ذكر الآيات المتقدمة : ( وإذا ثبت أنّ هذه الماهيّات كانت مقررة في الشرائع السابقة ثبت كون هذه الألفاظ حقيقة فيها في لغة العرب في الزمن السابق لتديّنهم بتلك الأديان ، وتداول ألفاظها بينهم ، وعدم نقل لفظ آخر عنهم بإزائها ، ولو كان لقضت العادة بنقله ، ولا يقدح وقوع الاختلاف في ماهياتها بحسب اختلاف الشرائع ـ إلى أن قال ـ فيكون الاختلاف في المصاديق لا في نفس المفهوم ، كاختلاف مصاديق مهيّاتها المعتبرة في شرعنا باختلاف الأحوال تمكنا وعجزا ، تذكّرا ونسيانا ، وغير ذلك ، فكما لا يوجب هذا الاختلاف تعدّد الوضع مع تفاحشه في البعض كالصلاة ، فليكن الاختلاف المذكور كذلك ) (3) انتهى.
  فتراه ـ طاب ثراه ـ قد سدّ طريق هذا الاعتراض بقوله : ( لتديّنهم بتلك الأديان ) إلى آخره.
  نعم في كلامه اختلال من جهة أخرى ، وهي أنّ الظاهر من آخر كلامه أنّ هذه الألفاظ بأعيانها كانت موضوعة لتلك الماهيّات في تلك اللغات حيث قال

--------------------
(1) مضمون الآية (4) من سورة إبراهيم.
(2) الفصول الغروية : 43.
(3) الفصول الغروية : 43.

وقاية الاذهان _ 149 _
  بعد ما مرّ نقله : ( ثم على تقدير تحقق هذه الحقائق في الشرائع السابقة فهل هي بوضعه تعالى لها فيها ، أو بوضع أول نبي شرعت تلك الماهيات في شرعه ، أو بغلبة الاستعمال في لسانه ، أو لسان متابعيه ، أو الجميع ) (1) انتهى.
  وهذا لا يثبت بهذه الحجة ، إذ وجود هذه الماهيّات في لغة العرب لا يستلزم أن تكون أسماؤها عندهم تلك الأسماء الموضوعة لها في اللغة الأخرى ، هذه الفرس تديّن بدين العرب ، وللعبادات المقررة فيه كالصلاة والصوم ألفاظ في لغتهم (2) غير تلك الألفاظ ، وقد عرفت سابقا معلومية لغات تلك الشرائع ، وأنّها غير هذه اللغات.
  وقد ذكره أخوه ـ الجدّ ـ طاب ثراه هذا الوجه في عداد الوجوه الدالّة على ثبوت الحقيقة الشرعية ، وتنبّه لما يقرب من هذا الإشكال ، ودفعه بما ملخّصه : ( أن العرب كانوا يعبّرون عنها بهذه الألفاظ ، ولذا وقع التعبير بها في الكتاب العزيز ، فكانت تلك الألفاظ معروفة عندهم وإن كان المعبّر عنها في أصل شرعهم من غير اللغة العربية ) (3).
  وبالجملة يكفي فيما يرومه صاحب الفصول من كونها حقائق لغويّة وجودها في لغة العرب قبل زمان الشارع ، واستعماله لها في تلك المعاني من غير حاجة إلى كونها هي تلك الألفاظ الموجودة في أصل ذلك الشارع ، فتكون ألفاظا عربية أصلية لا عبرية دخيلة في لغة العرب.
  هذا ، وثمرة النزاع تظهر في حمل ما ورد في كلام الشارع من هذه الألفاظ

--------------------
(1) الفصول الغرويّة : 43.
(2) كما ترى أنّهم يقولون للصلاة ( نماز ) وللصوم ( روزه ) ونحو ذلك ( مجد الدين )
(3) هداية المسترشدين : 98.

وقاية الاذهان _ 150 _
  على معانيها الشرعية على القول بثبوت الحقيقة الشرعية (1) ، ولكنه يتوقف على ثبوت تأخّر الاستعمال عن الوضع ، ولا طريق إليه غالبا ، وأما الأصل فهو إمّا مثبت أو معارض.

المشتق

  وهو كما في الفصول : ( هو اللفظ المأخوذ من لفظ ويسمّى الأول فرعا ، والثاني أصلا ، ولا بدّ بينهما من مناسبة لتحقق الأخذ والاشتقاق.
  وأقسامه ثلاثة لأن الفرع إمّا أن يشتمل على أصول حروف الأصل وترتيبه أولا ، والأول هو المشتق بالاشتقاق الصغير ، ويقال له : الأصغر أيضا والثاني إما أن يشتمل على حروف الأصل أولا ، والأول هو المشتق بالاشتقاق الكبير ، ويقال له : الصغير أيضا كجبذ وجذب ، والثاني هو المشتقّ بالاشتقاق الأكبر كثلم وثلب ، وحيث يطلق المشتق هنا فالمراد منه القسم الأول.
  وحدّه : لفظ وافق أصلا بأصول حروفه ولو حكما مع مناسبة المعنى وموافقة الترتيب ـ إلى أن قال ـ وقولنا بأصول حروفه. احتراز عن المشتق بالاشتقاق الأكبر ، وعن دخول مثل الاستعمال (2) والاستخراج حيث يتوافقان في الحروف الزوائد ، وعن خروج مثل الخروج والاستخراج حيث لا يتوافقان في الحروف الزوائد ، وقولنا : حكما. لدخول مثل ( قول ) و ( قال ) لأن الألف المقلوبة ، واو حكما ، وكذلك ( عد ) من ( وعد ) فإنّ الفاء المحذوفة بحكم المذكور ، وقولنا : مع مناسبة المعنى ، احتراز عن مثل ( اضرب ) بمعنى ( أعرض ) بالنسبة إلى الضرب بمعناه المعروف ـ إلى أن قال ـ مع موافقة الترتيب احتراز عن المشتق بالاشتقاق

--------------------
(1) وعلى معانيها اللغوية على القول بعدم ثبوتها ، لكن ذلك كلّه عند عدم القرينة ( مجد الدين )
(2) في المصدر : ( الاستعجال ).
(4) تلخيص المفتاح بشرح المختصر للتفتازاني : 60.

وقاية الاذهان _ 151 _
  الكبير ، فإنه وإن اشتمل على حروفه الأصلية لكنه لا يشتمل على ترتيبه ).
  ثم قال رحمه الله : ( ولا بدّ في الاشتقاق من تغيير في اللفظ تحقيقا للأصلية والفرعية ، والأخصر أن يقال : ليتحقق الأخذ ، وهو أعم من الحقيقي والحكمي ، فيدخل نحو ( فلك ) مفردا وجمعا ) (1).
  هذا ، وبيان المهمّ من مسائل هذا البحث يتم برسم أمور :
  الأول : قد عرفت أنه لا بدّ في الاشتقاق من مبدأ وأصل ، وذلك المبدأ لا بدّ أن يكون كالطبيعة السارية في الأفراد موجودا بتمامه في تمام المشتقات ، ويكون تمايز أفراده بتمايز تشخّصاته الخارجة عنه ، ويكون مع كلّ فرد متلبّسا بصورته ، متشخصا بتشخصاته من غير أن يكون له تشخصا وصورة ، بل يكون قائما بحقيقة ووحدته النوعية أو الجنسية ، وإلاّ فلا يكون مبدأ ، بل يكون فردا كسائر الأفراد ، فالمصدر الّذي يقال إنّه المبدأ ليس موجودا في جميع المشتقات بما هو هو ، فلا يمكن أن يكون مبدأ لجميعها ، لا بحسب المعنى ، ولا بحسب اللفظ.
  أما الأول ، فلأنّ المبدأ لا بدّ أن يكون معرّى عن الهيئة في مرحلة ذاته لكي يكون قابلا لأن تعتريه أيّ هيئة أريد اشتقاقها منه ، فهو كالهيولى التي لا صورة لها في حدّ ذاتها وإن احتاجت إليها في مرحلة فعليّتها ، أو كالقسم الّذي لا يمكن أن تكون له خصوصية في قبال سائر الأقسام ، وإلاّ كان قسما ، لا مقسما كالكلمة ، فإنها بذاتها ليست مشخّصة بتشخص أحد أقسامها الثلاثة ، وإلاّ كان أحدها ، ولا يتشخّص آخر في قبالها وإلاّ كان قسما رابعا لا مقسما ، بل هي في مرحلة ذاتها عريّة عن جميع الصور ، وتظهر مع كلّ من الاسم والفعل والحرف بصورته المختصة به.
  إذا تقرّر ذلك ، نقول : إنّ المصدر له خصوصية زائدة على الذات كسائر
--------------------
(1) الفصول الغروية : 58 و 59.

وقاية الاذهان _ 152 _
  المشتقات ، فهو إذن يعدّ أحدها لا مبدأ لها ، اللهم إلاّ أن يعتبر في حدّ ذاته ، ويجرّد عن صورته ، ويكون بعد ذلك قابلا لأن تعتوره أيّ هيئة كانت من هيئات المشتقات ، ولكن هذا ليس بأمر يختص بالمصدر ، بل يشاركه فيه جميع المشتقات ، وما من مشتق إلاّ ويمكن اعتباره مبدأ لجميع المشتقات التي من بابه كذلك ، وذلك لأنّ كل شخص إذا جرّد عن تشخصه كان نوعا ، وإذا جرّد عنه النوع كان جنسا ، وهكذا هلمّ صاعدا إلى جنس الأجناس.
  وبالجملة لا يمكن أن يكون المصدر مبدأ مع بقائه على صورته ، ويمكن ذلك مع تجريده عنها ، ولكنه لا يكون حينئذ مصدرا ، ويشاركه في ذلك جميع المشتقات التي من بابه.
  وأما الثاني أعني عدم صلاحية المصدر لذلك بحسب اللفظ ، فلأنّ له أوضاعا نوعيّة ، وما له وضع نوعي لا يصلح لأن يكون أصلا ومبدأ.
  أما الأول فلأنّ له أصنافا وأنواعا مختلفة ، وكل صنف ونوع منه مشتمل على أفراد متماثلة ، ولا يمكن ذلك عادة إلاّ بالوضع النوعيّ ، بل صرّح علماء العربية بقياسيّة عدّة منها ، كـ ( فعل ) للمصدر المعدّى الثلاثي ، وغيره ، ولا معنى لكونه قياسيّا إلاّ عدم توقفه على السماع في كل مادّة مادّة ، ولو كان شخصيّا ليتوقّف عليه فصحّته من غير سماع حتى في الجوامد كالتحجّر والتطيّن آية نوعيّة الأوضاع فيها.
  وأما الثاني فلأنّ الوضع النوعيّ يحتاج إلى مبدأ سابق عليه إذ الواضع إذا وضع فعلا ـ مثلا ـ للماضي من كلّ مادة ، فلا بدّ أن تكون موادّ تلك الألفاظ ، وطبائع تلك المعاني معيّنة قبل ذلك ، وتكون مادّة كلّ لفظ بإزاء طبيعة معنى ، وهذا البرهان هو الّذي أحوجنا إلى الالتزام بأصل لزوم المادة في المشتقات ، ولولاه لكنّا في مندوحة من الالتزام به رأسا ، وذلك لأنه لمّا علمنا من تتبّع المشتقّات أنّ هيئة واحدة شخصيّة في موادّ لا تحصى كثرة تدل على الماضي مثلا ، والمضارع أو

وقاية الاذهان _ 153 _
  غيرهما ، علمنا أنّ وضع تلك الهيئات نوعي إذ من البعيد ـ بل من المقطوع بعدمه ـ أن يضع الواضع في كلّ مادّة مادّة على كثرتها هيئة ( فعل ) للماضي ، و ( يفعل ) للمضارع وهلمّ جرّا ، فإنه لغو وعبث صرف لا تكاد أن يصدر عن عاقل.
  وإذا أضفت إلى ذلك ما تعلمه من أنّ الماضوية ، أو المضارعية ، أو المصدرية ـ مثلا ـ يفهم من تلك الهيئات من غير توقف على فهم المادة ، وتذكرت ما نبّهناك عليه من قياسيّة تلك الهيئات ، وصحّة إجرائها حتى في الجوامد ، عرفت أنّ القطع الّذي ادّعيناه ليس بكذب ولا بجزاف ، والوضع النوعيّ ـ كما عرفت ـ يحتاج إلى مبدأ سابق عليه ، احتياج الصورة إلى الهيولى.
  وكان السيد الأستاذ يقول : إن أسماء المصادر أولى بأن يكون مبادئا لمشتقّاتها ، ولكنها قليلة في لغة العرب ، فلا يمكن اعتبارها في جميع الأبواب.
  فالتحقيق في المقام أن يقال : للواضع أن يلاحظ أولا حروف لفظ المادة مجرّدة عن كلّ هيئة ، وصورة إجمالية أو تفصيلية كحروف ( ض ) ( ر ) ( ب ) ويضعها بإزاء صرف المعنى كذلك غير ملحوظ معه نسبة إلى فاعل ، أو مفعول ، أو زمان ، ونحوها من الخصوصيّات حتى المصدرية وهو المعنى الساري في جميع المشتقات بوحدته المطلقة ، ويفعل كذلك في كلّ الموادّ التي يريد وضعها ، ثم يعقبه بوضع الهيئات.
  لا يقال : يلزم ـ على ما ذكرت ـ أن يكون معاني المشتقات مركبة ، وسيأتي أنها بسيطة ، بل يلزم منه ما هو أمرّ من التركيب ، وهو أن يدلّ كلّ واحد منها على معنيين متعدّدين مستقلّين غير مركّبين ، وغاية الأمر كونهما متناسبين كبائع التمر ، فإنّهم وإن اختلفوا في بساطة معاني المشتقات وتركيبها ، ولكن لم يقل أحد بتعدّدها.
  لأنا نقول : المادة ملحوظة أيضا في وضع الهيئات ، فيكون الموضوع هي المادّة المتهيّئة بالهيئة الخاصة ، وهو الوضع الحقيقي الدالّ على المعنى ، وليس الوضع

وقاية الاذهان _ 154 _
  الأول إلاّ مقدّمة لهذا الوضع وتهيئة له ، ولا نبالي بعدم تسمية الأول وضعا ، إذ تمام المقصود هو الوضع الثاني ، كذا قال السيد الأستاذ أعلى الله رتبته وقدّس تربته.
  أقول : وهذا أيضا قسم من الوضع يسمّى بالوضع التحصّلي ، كما ذكره ـ الجدّ ـ العلاّمة في الهداية ، ومثّل له بوضع الحروف الهجائية لتركيب الكلمات (1).
  وهذا إن لم يكنه فهو قريب منه ، ولكن ينبغي أن يكون مراده ـ طاب ثراه ـ ملاحظة الموادّ إجمالا عند وضع الهيئات ، إذ ملاحظتها تفصيلا يعيد محذور الوضع الشخصي ، وكما أنّ المحذور يندفع بملاحظة الموادّ إجمالا ، كذلك يندفع بوضع الهيئات في مادة مخصوصة كمادّة ( ض ) ( ر ) ( ب ) ثم قياس بقية الموادّ عليها.
  هذا ، ولي في المقام كلام لعلّه ممّا يرتضيه الأفكار العالية ، والأفهام الثاقبة ، ويتوقّف ذلك على بيان معنى الهيئة ، ونقول مقدمة لتوضيحه : إن المركوز في الأذهان أنّ حروف المباني بأنفسها ومن غير ملاحظة ما بعدها إمّا متحركة أو ساكنة ، وأنّ السكون والحركات الثلاث عوارض على نفس الحروف ، وكيفيّات لها ، وليس الأمر كذلك عند دقيق النّظر ، كما نبّه عليه الشيخ نجم الأئمة (2) في شرح الكافية (3) ، بل الحرف بنفسه ليس بمتحرك ولا ساكن ، وليس الّذي يدّعى متحركا إلاّ الّذي بعده أحد حروف الإعراب أعني : الألف والياء والواو ، أو مرتبة ناقصة خفيفة منها ، وهي التي تسمّى بالفتحة والكسرة

--------------------
(1) هداية المسترشدين : 23.
(2) هو إمام العربية ، وركن الأدبيّة ، وفخر الإماميّة ، رضي الدين محمد بن الحسن الأسترآبادي ، المشتهر بالشارح الرضي ، صاحب شرح الكافية ، وشرح الشافية اللذين لم يعمل مثلهما ، بل ولا نظيرهما من حيث التحقيق ، وقد اعترف بذلك الموافقون والمخالفون ( والفضل ما شهدت به الأعداء ) وكلاهما مبسوطان موجودان الآن عندي ، وله أيضا شرح قصائد ابن أبي الحديد السبع المشهورات في فضائل أمير المؤمنين عليه السلام ، وغير ذلك ، وبالجملة ، فهذا الرّجل محقّق ، مدقّق ، عالم ، فاضل ، جليل القدر ، عظيم المنزلة ، شيعيّ اثنا عشري ، هذا ، وتوفي طاب ثراه سنة (686) من الهجرة المقدّسة ( مجد الدين )
(3) شرح الكافية 1 : 23 ـ 24.

وقاية الاذهان _ 155 _
  والضمة ، ولا الساكن إلاّ الّذي لم يكن بعده أحدها ، سواء كان بعده حرف من غيرها أو لم يكن حرف أصلا ، ومن شأن هذه الحروف أنّ قلّتها في الكلام توجب صعوبة النطق ، بل عدم إمكانه كما في ابتداء الكلام ، وكثرتها توجب ركاكته وانحلاله ، ولهذا منعوا من التقاء الساكنين ، ومن توالي أربع حركات أو أكثر ، وفي بعض اللغات (1) المتعارفة لا توجد هذه الحروف إلاّ تامة ، وليس فيها ما نسمّيه فتحة وضمة وكسرة.
  إذا عرفت هذا ، فاعلم أنّ هيئات المشتقّات ليست إلاّ حروفا تامة وناقصة وزّعت على حروف المادّة ، وجعلت خلالها على ترتيب مخصوص ، وليست هيئة ( مضروب ) إلاّ ميم وواو ، جعلت الميم قبل الحرف الأول من المادّة ، والواو ما قبل آخرها ، وما هي إلاّ كلفظ ( من ) من حيث الوضع والمعنى.
  وقد سبق منّا في مبحث معاني الحروف أنّ الحروف ليست إلاّ علامات لتعيين موضع مدخولاتها ، فلفظ ( في ) في قولك : زيد في الدار. لا وظيفة لها إلاّ تعيين أنّ الدار في هذه الجملة موضعها الظرفية ، وكذلك الحرف المتخلّل بين حروف المادّة لا موقع لها إلاّ بيان أنّ المادة في هذا الاستعمال وقعت موقع المفعوليّة ، وقس عليه سائر الهيئات المشتقات.
  وبالجملة ، فالحروف على قسمين : قسم يقع بجميع حروفه قبل الأسماء كـ ( من ) و ( إلى ) ونحوهما ، وقسم يتفرق بين أجزاء المادة ، والسرّ في ذلك واضح.
  الثاني : أنه قد تقدّم في صدر المبحث عن ( الفصول ) تعريف لفظ المشتق وعن السيد الأستاذ تعريف المبدأ ومعناه إجمالا ، وبقي علينا البحث عن معنى المشتق وما يصلح للمبدئيّة.
  فنقول : لو قيل : إنّ المشتق هو المادّة الملحوظة ببعض تطوّراتها وحيثيّاتها

--------------------
(1) كاللغة الأروبائية ( مجد الدين )

وقاية الاذهان _ 156 _
  لم يبعد كلّ البعد عن الواقع ، فعلى هذا فالمبدأ هو الملحوظ بذاته من غير نظر إلى شيء من اعتباراته ، والمشتق هو المبدأ مع لحاظها معه.
  وبهذا يظهر الفرق بينهما من غير حاجة إلى تلك التطويلات المملّة ، والعبائر المفصّلة التي فهمها أشكل من فهم أصل المسألة.
  ويظهر أيضا السرّ في عدم صحّة حمل المبدأ على الذات ، وصحة حمل المشتق عليه ، إذ من الواضح أنّ المبدأ بما هو مبدأ مباين مع الذات ، فمفهوم القيام غير ( زيد ) ولكنّه عين ( زيد ) باعتباره الفاعلي ، وعين ( عمرو ) باعتباره المفعولي ، وهكذا.
  ثم إنّ الاعتبارات التي تعتور الموادّ ذات أنواع شتّى ، وأكثر الأنواع له أصناف بها تحصل للمشتق أبواب مختلفة ، ويبتنى منها صيغ مختلفة ، فإن لوحظ المبدأ باعتبار ثبوته للشيء فقط كالحسن والقبيح فهو باب الصفة المشبّهة.
  وإن كان معه اعتبار الكثرة والشدّة ونحوهما ، فهو معنى صيغ المبالغة كالشرّيب والقتّال ونحوهما ، وعكسه باب التصغير بحسب أصل الوضع لا ما يؤتى منه للتعظيم ببعض العنايات.
  وإذا بلغت الشدّة مرتبة تورث التعجّب ، فهي باب أفعال التعجّب ، وينبغي التأمل في عدّ هذا الباب من الأفعال ، مع أنه ألصق بالأسماء ، ولا يوجد فيه شيء من العلائم اللفظيّة والمعنويّة للفعل ، اللهم إلاّ ببعض التأويلات المذكورة في محلّها.
  وإذا وجدت المادّة في شيئين ، وكانت في أحدهما أشدّ من الآخر كان باب أفعل التّفضيل.
  ومنه يظهر التقارب بين صيغ المبالغة وبينه ، إذ لا فرق بينهما ، إلاّ أنّ تلك الصّيغ موضوعة للأشديّة المطلقة ، وباب ( أفعل ) للأشديّة النسبيّة.
  وإن كان باعتبار صدوره ، فإن لم يعتبر فيه الوقوع على الغير ، والزّمان

وقاية الاذهان _ 157 _
  فهو اسم الفاعل من اللازم كقائم ، وإن أخذ فيه الوقوع على الغير فهو اسم الفاعل من المتعدّي كـ ( ضارب ).
  وإن اعتبر الآليّة ، أو الزّمان ، أو المكان للمبدإ فهو اسم آلة ، أو زمان ، أو مكان.
  وإن كان معه اعتبار الزّمان على النحو الآتي فمع اعتبار الاتّصاف به فقط مع زمن مّا ، فهو من باب الفعل اللازم ، ومع ملاحظة وقوعه على الغير فهو باب المتعدّي المجرّد ، وبعض الزّوائد مثل باب الأفعال.
  ومع ملاحظة مطاوعة المبدأ فهو من باب الانفعال نحو كسّرته فانكسر ، وقد يأتي من هذا الباب عدم ملاحظة الفاعل أصلا نحو : انفطر الجدار ، حيث يراد به صرف ظهور الأثر من غير لحاظ مطاوعة الغير أصلا.
  وقد يكون باعتبار تكلّف المادّة فهو بعض معاني باب التفعّل كـ ( تجلّد ) أو باعتبار قيام فرد واحد منه لشخصين نحو زيد وعمرو تراميا.
  أو باعتبار طلب المبدأ كبعض معاني باب الاستفعال نحو الاستعلام ، إلى غير ذلك ممّا لا يساعد على استقصائه الحال ، ولا يسعه المجال.
  وما ذكرناه فانّما هو من باب النموذج ، قصدا لتنشيط همم أذكياء المحصّلين في استخراج معاني سائر الأبواب.
  وليعلم أنّ لتنوّعات الموادّ أنواعا غريبة ، وضروبا شتّى ، حتّى أنّ باب الأفعال كثيرا ما يأتي لإزالة المبدأ على خلاف غالب المشتقّات التي هي لقيام المبدأ بها ، نحو أشكيته أي : أزلت شكايته ، وبه فسر الجمهور قوله تعالى : ( إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكادُ أُخْفِيها ) (1) أي : أزيل خفاءها ، فعلى المتأمّل الفطن أن يعلم أنّ جميع ذلك نحو من اعتبار القيام ، ولا يخرج شيء منه عمّا عرفت من الأقسام.
  ثمّ لا يخفى أنّ جميع ما ذكر ، إنّما هو بحسب وضع الأبواب ، فلا ينافي

--------------------
(1) طه : 15.

وقاية الاذهان _ 158 _
  خروج بعضها عن الأصل ، لخصوصيّات لبعض الموادّ ، أو عنايات خارجيّة في بعض الاستعمالات ، واستقصاء ذلك متعسّر ، بل متعذّر ، ومع ذلك فليس من وظائف هذا الكتاب.
  هذا ، وقد كان السيّد الأستاذ قدّس الله تربته وشرّف رتبته ، يقول ـ عند ذكر بعض هذه الأقسام ـ : إنّها إنّما تكون بالنظر إلى كلّية الأبواب ، فلا ينافي وجود مادّة من الموادّ غير قابلة لتمام تلك الاعتبارات ، إذ لم يستعمل بعضها في اللّغة ، أو صرّح بعدمه علماؤها. قلت : توقف صحّة الاستعمال على السّماع ينافي ما أسّسه رحمه الله من الوضع النّوعي للهيئات ، بل مقتضاه جوازه ، حتّى مع منع الواضع عنه ، لما عرفت سابقا في مبحث معاني الحروف ، من عدم معقوليّة شرط الاستعمال.
  وبالجملة مجرّد عدم الاستعمال ، بل ومجرّد منع اللّغويّين عن بعض الهيئات في بعض الموادّ لا يوجب عدم قابليّة المادّة ، بل لا بدّ أن يكون كلّ من عدم الاستعمال أو المنع مسبّبا عن قصور في نفس المادّة أو الوضع.
  أما الأول فمثاله : المساجلة ، فإنّها بمعنى المفاخرة (1) ، ولا تستعمل من غير باب المفاعلة ، والسر فيه أنّ السجل في اللّغة بمعنى الدّلو العظيمة (2) ، ولا مناسبة بين الدّلو والفخر حتّى يطّرد القياس ، ويتأتّى منه جميع الهيئات ، وإنّما المناسبة المصحّحة للاستعمال في خصوص هذا الباب (3) ، أنّ المتفاخرين لمّا كان كلّ منهما إذا أتى بمكرمة لنفسه أو منقبة لعشيرته عارضه الآخر بمثله ، ونزح من ركيّ مكارمه دلوا كدلوه ، كانا كالمتساجلين ، يمتح (4) هذا دلوا والآخر أخرى.

--------------------
(1) راجع لسان العرب 11 : 326.
(2) لسان العرب 11 : 325.
(3) أي : باب المفاعلة ( مجد الدين ).
(4) الماتح : المستقي من البئر ، من أعلاها ، لسان العرب 2 : 588.

وقاية الاذهان _ 159 _
  وأما الثاني فمثاله : المناضلة وهي بمعنى المراماة ، ولا يأتي ـ فيما أعلم ـ من غير باب المفاعلة ، أو ما فيه معناها أيضا ، والسر فيه أنّ الواضع لم يضع أصل النضل للرمي كما فعله في لفظ الرمي ، كي يصحّ منه جميع الهيئات ، وإنّما وضع المادّة المتهيّئة بهيئة هذا الباب خاصة.
  ومن هذا الباب : الملوان بمعنى الليل والنهار ، حيث لا يستعمل مفرد هذا اللفظ ، وذلك لأنّ الواضع لم يلاحظ مادّة الملو مستقلا ، كما فعله في لفظ الليل ، بل لاحظها مقرونة بصورة التثنية ، ووضعها مقيّدة بها لمجموع الليل والنهار.
  ومن هذا النمط الألفاظ المفردة التي لا تثنّى ولا تجمع ، والجموع التي لا مفرد لها من جنسها ، وهي في غاية الكثرة في لغة العرب.
  هذا كلّه في البحث عن معنى المشتق ، وأمّا البحث عن معنى المبدأ ، فمختصر الكلام فيه أنّه كلّ ما أمكن أن ينتزع منه اعتبار يتّحد مع الذات ، كالأفعال ، والصفات ، والحالات ، وغيرها حتّى الجوامد ، نحو : أدماه ، فإنّ الدم وإن كان اسم عين ، لكنّه كجرح وقتل ، لاتّحادهما في المناط المذكور ، ومثله : ( تدثّر ) و ( تجورب ) ونحوهما ، لأنّ منهما ينتزع عنوان اللبس والاشتمال.
  وما يرى من غرابة الاشتقاق في بعض الجوامد فمنشؤه قلّة الاستعمال ، إذ الاستعمال في تأهيل الوحشي من الألفاظ ، وتسهيل الوعر منها عمل عظيم ، ألا ترى أنّ الرمح ، والسيف ، والخنجر ، أسماء ثلاثة للأعيان الثلاثة من السلاح ، والرمح بلغ حدّا من الشيوع حتّى صار كالقائم والقاعد ، فلا يتّصف بحسن ولا قبح ، والسائف لطيف في الذوق لاستعماله قليلا في كلمات الفصحاء ، والمخنجر قبيح ، ولا منشأ له إلاّ عدم الاستعمال ، وعلى هذا فلا فرق بين المشتقّات الأصليّة وما يسمّى بالاشتقاقات الجعلية إلاّ أنّ الموادّ في الأولى لا أوضاع لها تامّة إلاّ في ضمن الهيئات ـ على ما مرّ تحقيقه ـ بخلاف الثانية.
  الثالث : أنّ المشتقّات على قسمين : فعليّة واسميّة ، فالكلام هنا في مقامين :

وقاية الاذهان _ 160 _
  الأوّل : قد مرّ القول في معنى الفعل إجمالا ، ونزيده توضيحا ، ونقول : مدلول الفعل هو الحدث المقيّد بالزمان ، والنسبة إلى فاعل مّا على نحو دخول التقييد ، وخروج القيد ، فمدلول الفعل مركّب من أمرين : نفس الحدث ، والتقييد ، بل إطلاق التركيب عليه مسامحة ، لأنّ ذلك التقييد ليس أمرا مغايرا للحدث ، بل هو من خصوصيّاته وحدوده ، فمدلوله حقيقة هو الحدث الخاصّ كالمصدر وسائر المشتقّات ، فجميعها مع اشتراكها في معنى الحدث يتمايز بتمايز الخصوصيّات ، ويتباين بتباين القيود.
  إذا عرفت ذلك عرفت أنّ دلالة الفعل على الزمان ليس بالتضمّن ، كما يظهر من جمهور علماء العربية ، لخروج الزمان ـ بداهة ـ عن مدلوله ، وإنما هو بالالتزام البيّن بالمعنى الأخصّ ، لأنّ مدلوله لمّا كان الحدث المقيّد بالزمان فتصوّره يتوقّف على تصوّر الزمان ، كما في العمى والبصر ، إذ العمى لمّا كان موضوعا لعدم البصر ممّا هو من شأنه ، فتصوّر العمى موقوف على تصوّر البصر ، وبهذا تمتاز دلالة الفعل على الزمان عن دلالته على المكان ونحوه ، مع اشتراك الكلّ في اللزوم العقلي ، إذ دلالته على الزمان دلالة لفظية من القسم الثالث من أقسامها ، بخلاف المكان ، فإنّ دلالته عليه عقليّة صرفة.
  هذا وأما دلالته على التقييد بالزمان ، لا على نفس الزمان يكون تضمّنيّا لأنه من أجزائه العقلية ، وإن لم يكن من أجزائه الخارجية.
  هذا إن قلنا بوجود الدلالة التضمنية ، وتثليث أقسام الدلالات بها ، كما هو المشهور ، وأمّا على ما هو التحقيق من إنكار دلالة الكلّ على الأجزاء دلالة مستقلّة تعدّ في قبال المطابقة ، فلا وجود لهذا القسم من الدلالة أصلا ، كما حقّقه السيد الأستاذ طاب ثراه ، ويأتي تفصيله ـ إن شاء الله ـ في بحث وجوب الأجزاء من مباحث مقدّمة الواجب.
  وإجمال الكلام فيه أنّ التركيب بين الأشياء المتباينة لا يتحقق إلاّ بلحاظ