مباحث القطع

  أقسامه ينقسم إلى طريقي وموضوعي ، والمراد بالأول ما يكون الحكم لمتعلّقه ( الواقع ) بما هو واقع من غير مدخليّة لعنوان كونه مقطوعا به.
  وبالثاني ما يكون لهذا العنوان دخل في الحكم ، إمّا بأن يكون الحكم له وحده من غير مدخليّة للواقع فيكون تمام الموضوع ، أو يكون له وللواقع معا فيكون جزءا للموضوع.
  ولك أن تعبّر عن الثلاثة بقولك : الطريقي المحض ، وموضوعي كذلك ، وطريقي موضوعي.
  ثم إنّ اعتبار القطع في الموضوع قد يكون من حيث كونه صفة خاصة ، وقد يكون من حيث كونه كاشفا معتبرا عن الواقع وحجّة عليه.
  وينقسم أيضا ـ وإن شئت قلت : ينقسم العلم ـ باعتبار متعلّقه إلى تفصيلي ، وإلى إجمالي ، وهذا إجمال القول في الأقسام ، ويمرّ عليك القول في كلّ منها إن شاء الله تعالى.

وقاية الاذهان _ 431 _

القطع الطريقي المحض ـ حجّيته

  لا ريب في حجّية القطع بنفسه وعدم إمكان الردع عنه فيما للمقطوع به من الآثار الذاتيّة مطلقا ، بمعنى ترتّبها عليه من غير حاجة إلى جعل جاعل فلا يتوقف القاطع عن ترتيبها عليه إلى أن يضعها له واضع ولا يصغى في مخالفته إذا وزعه (1) وازع ، فمن رأي حيوانا قطع بأنه أسد ، وقطع معه بأنه يفترس الإنسان ، فلا شك في حصول الخوف له ، وارتعاد فرائصه منه ، وتطلّبه معقلا يلتجأ إليه يمنعه عنه ، كلّ ذلك بمجرّد حصول القطع له من غير حاجة له إلى من يجعل قطعه حجّة عليه ، بل ولا يعقل جعله حجّة له ، ولا يمكن ردعه عن ترتيب هذه الآثار إلاّ بإزالة قطعه عن أحد الأمرين.
  وعليه فقس سائر الآثار النفسيّة من الحبّ ، والبغض ، والفرح ، والحزن ، فإنّ الإنسان بمجرّد حصوله له يندفع إلى المحبوب ، ويمتنع عن المبغوض ، وتبرق أسرّة (2) وجهه فرحا ، ويضيق صدره ترحا (3) ، كل ذلك من الواضحات التي يستدلّ بها لا عليها ، وما بطلان الدور والتسلسل الّذين يستدلّ بهما عليه أوضح بطلانا من بطلان احتياج القطع إلى جاعل يجعله بل الظن الّذي هو دونه في الكشف لا يمكن جعله ولا الردع عنه بمقدار ما له من الكشف ، ولا بدّ أن يترتب عليه آثاره الذاتيّة ، فإذا كان العاقل يتجنّب الضرر المظنون ، ويأتي بما يظن النّفع فيه ، فبمجرّد حصول الظن بأحدهما يمتنع عن ذاك ، ويأتي بهذا من غير احتياج إلى

--------------------
(1) وزعته : كففته ، الصحاح 3 : 1297 ( وزع ).
(2) أسرّة جمع ، وأحدها سرّ أو سرر : الخطوط التي في الجبهة ، الصحاح 2 : 683 ، النهاية لابن الأثير 2 : 359 ( سرر ).
(3) الترح ضدّ الفرح ، الصحاح 1 : 357 ( ترح ).

وقاية الاذهان _ 432 _
  جعل جاعل ، ولا إصغاء إلى ردع رادع ، فإذا كان هذا حال الظن الناقص الكشف ، فكيف يكون القطع الّذي هو الكاشف التام.
  هذا في الآثار الذاتيّة ، وأمّا في مقام الإطاعة والعصيان ، وترخيص الشارع في مخالفته بجعل أمارة أو نحوها في قباله ، فقد يقال : إن الحال فيها كالحال في تلك الآثار ، لأنّ من قطع على مائع بأنه خمر ، وعلم أنّ كلّ خمر محرّمة ، حصلت له صورة برهان بديهي الإنتاج ، وهي : أنّ هذه خمر ، وكلّ خمر يجب الاجتناب عنه ، فهذا يجب الاجتناب عنه ، فترخيص الشارع في شربه مع بقاء حكمه بحرمة جميع أفرادها مستلزم للتناقض.
  أقول : لا يخلو هذا التناقض المدّعى لزومه من أن يكون بحسب الواقع ، أو عند الشارع ، أو القاطع ، أمّا الأوّلان فلا شك في عدم لزومه فيهما على نحو الكلّية ، وما أكثر القطع الّذي لا يصادف الواقع ويعلم خطأه الشارع ، فلا يصح الحكم على كلّي القطع بعدم جواز الردع عنه من هذه الجهة ، على أنه لا مانع عنه ، حتى في صورة إصابة الواقع ، كما ستعرف إن شاء الله.
  وأما عند القاطع ، فلا يلزم المحال عنده إلاّ إذا تعلّق الردع عمّا قطع عليه وهو الحكم الواقعي ، بأن يقال : كلّ خمر محرّمة واقعا من غير تخصيص ، وهذه الخمر حلال واقعا ، ومثل هذا لا يجوز حتى في قبال الظنّ ، بل الاحتمال أيضا ، لأنّ امتناع الظن بالتناقض واحتماله كالقطع به ، فلا يعقل أن يقال : إنّ هذا حلال ومظنون الحرمة أو محتملها (1) ، وأمّا إذا كان مفاد الأمارة المعذورية في شربها ، أو رفع تنجّز حرمتها ، ونحو ذلك من المذاهب الآتية في جعل الأحكام الظاهرية ، وتصوّر جعل الأمارات ، فلا تناقض أصلا ، ولا دليل على الإمكان أقوى من الوقوع ، وقد وقع ذلك في ترخيص الشارع في ارتكاب مشكوك الحرمة ، بل

--------------------
(1) أي : لا يعقل أن يقال : إن مظنون الحرمة أو محتملها حلال.

وقاية الاذهان _ 433 _
  ومظنونها في موارد البراءة والبيّنة القائمة على حلّية مظنون الحرمة ، إذ الترخيص لا يختص بصورة عدم المصادفة مع الحرام ، بل مشكوك الحرمة حلال مطلقا إذا كان مورد البراءة ومفاد الأمارة ، فالتناقض المدّعى وجوده موجود فيهما بأقسامه الثلاثة ، إذ من المعلوم وجود محرّمات كثيرة ونجاسات واقعيّة بين هذه المشكوكات التي تجري فيها قاعدتي البراءة والطهارة ، ويعلم إجمالا بمخالفة الأمارة مع الواقع في كثير من المواقع ، فكيف يجوّز ذلك الشارع ، أم كيف يصدّق المكلّف بحلّية ما يظنّ بحرمته ؟ ومن الواضح ـ جدّاً ـ أنّ التصديق باجتماع الضدّين ولو على بعض التقادير محال ، والحكم بأنّ هذا المائع وإن كان حراما فهو حلال تهافت.
  وبالجملة فالإشكال مشترك ، وطريق الحلّ واحد ، وهو أنّ متعلّق القطع والظنّ هو الحرمة الواقعية ، والردع لا يكون عنها أبدا ، بل الإذن يكون مؤمّنا من عقابها أو رافعا لتنجّزها ونحو ذلك من الوجوه الآتية ، فقطع المكلّف بأنّ هذه خمر يجب الاجتناب عنها ، قطع بالحرمة الواقعية ، ولم يردع عنه قط ، ورفع التنجز أو العقاب لم يتعلّق به القطع أبدا.
  فاستبان من ذلك عدم الفرق بين القطع والظن من هذه الجهة ، فليجز في القطع ما يجوز في غيره ، وقد يفرّق بينهما بوجوه :
  أحدها : إنّ الترخيص في ارتكاب مقطوع الحرمة ترخيص في المعصية ، إذ القطع علّة تامة لتحقّق عنوان المخالفة وهو قبيح عقلي لا يجوز كالظلم.
  وفيه انّ الترخيص في المعصية المحتملة بلا عذر ولا مؤمّن قبيح أيضا ، فضلا عن المظنونة ، ومفروض الكلام جواز الترخيص في الحرام الواقعي ، والفراغ عن جواب ابن قبة ، فلا مانع من الإذن مع المصلحة ، ولا معصية مع الإذن فلا ظلم ، فيبقى السؤال عن الفرق بينهما على حاله.

وقاية الاذهان _ 434 _
  ثانيها : إنّ القطع التفصيليّ علّة تامة لتنجّز الحكم ، فلا يجوز الترخيص في مخالفته ، بخلاف غيره.
  وهذا الفرق مبني على كون التنجّز من الآثار الذاتيّة ، وهذه دعوى ليست بيّنه ولا مبيّنة ، بل ليست إلاّ مصادرة محضة.
  ثم إنّ هذا المجيب يرى القطع الإجمالي من قبيل الاقتضاء للتنجّز ، ويصرّح في مواضع من كلامه بجواز الترخيص في ارتكاب طرفي الشبهة المحصورة ، ويرى التفصيل بين المخالفة القطعية وبين المخالفة الاحتمالية بجعل الأولى من قبيل العلّة التامة ، والثانية من قبيل الاقتضاء ، ضعيفا جدّاً ، مع أنّ العلم ـ كما يعلم وتعلم ـ لا يعقل الإجمال فيه ، وإنّما الإجمال في متعلّقه ، ولا شك إلاّ في تعيين الخمر المقطوع بها ، وإلاّ فوجودها بينهما مقطوع به ، فكيف جوّز العقل للشرع قوله : اشرب الخمر المعلوم وجودها في هذين الإناءين ؟ وحظر عليه قوله : اشرب الخمر المعلومة في إناء واحد ؟! وكيف صار التنجز للقطع علّة تامة تارة ، ومقتضيا تارة [ أخرى ] ؟! فهل هذا إلاّ تحكّم على العقل أو حيف منه في الحكم ؟
  ومنها : إنّ مرتبة الحكم الظاهري محفوظة مع الظن والشك لوجود الساتر على الواقع ، فيكون بما هو مجهول الحكم حلالا ، بخلاف القطع الّذي هو الانكشاف التام الّذي لا يدع مجالا للإذن ، ولا موضوعا لحكم آخر.
  أقول : أما عدم بقاء ساتر على الواقع مع القطع فواضح لا ساتر عليه ، ولكن لا ينحصر جعل الحكم الظاهري في وجود الساتر ، بل ليس الوجه في إمكان أخذ الجهل موضوعا إلاّ تأخّر مرتبة هذا الحكم عن الواقع بسببه ، وهذا موجود مع القطع أيضا ، فكما أنّ الشيء بعنوان أنه مجهول الحكم متأخّر عنه فكذلك متأخّر بعنوان أنه مقطوع الحكم ، وهذا واضح على أصل الترتّب الّذي هو الوجه في الجمع بين الأحكام الواقعية والظاهرية ، ويأتي بيانه إن شاء الله.

وقاية الاذهان _ 435 _
  ولا فرق بين القطع وصاحبيه من هذه الجهة (1) قطعا ، وحيث إنّ هذا الأصل غير مرضي عند هذا المجيب نبني الجواب على أصله ، ونقول : إنّ الّذي استقرّ عليه رأيه أخيرا انّ التعبّد بطريق غير علمي إنّما هو بجعل حجّيته ، والحجّية المجعولة غير مستتبعة لإنشاء أحكام تكليفية ، فلا يلزم اجتماع حكمين مثلين ، أو ضدّين ، بل وعلى القول بأنه لا معنى لجعلها إلاّ جعل الأحكام وإن لزم اجتماع الحكمين إلاّ أنهما ليسا بمثلين ولا ضدّين ، على ما أوضحه في أول مبحث الظن من الكفاية (2) ، فراجعه إن شئت.
  ولا يخفى عليك ـ إن تأملت وأنصفت ـ أنّ جعل الحجّية ـ على ما أفاده ـ لا يتوقف على وجود الساتر أصلا ، ولا على كون الشيء مجهول الحكم ، وإنه يجري في القطع بعينه ، فكما يصح جعلها في قبال الظن إذا كان في التعبّد به مصلحة غالبة على مفسدة التفويت ، وتكون النتيجة صحّة الاعتذار إذا أخطأ ، وعدم التجري إذا خالف الواقع ـ وقد أوضحه فيما لم ننقله من كلامه ـ فليكن القطع كذلك ، فوجود المصلحة الغالبة على المفسدة توجب جعل الحجية ، والحجيّة توجب ما ذكره ، وقصارى الفرق : ان القطع لا يحتاج إليها في صورة الإصابة ، لكونه موجبا للتنجز لو لا المانع ، ولا يمنع ذلك من الاحتياج إلى جعل الحجية.
  وأمّا ما كان يقرّره سابقا من تصور المراتب الأربعة للحكم (3) ، وأنّ الأمارة إذا خالفت الواقع تكشف عن عدم فعلية الحكم في موردها ، فالأمر أوضح ، فليكشف عن عدم الفعلية هنا ، كما كشفت عنها هناك.
  فظهر من جميع ذلك أنّ الساتر على الواقع ليس هو الّذي أوجب جواز جعل الطرق حتى يكون عدمه مانعا ، إلاّ أن يجبر هذا الوجه بما سبق من دعوى

--------------------
(1) وإن امتنع من جهات أخر ، نحو لزومه نقض الغرض أو عدم القدرة على الامتثال ( منه ).
(2) كفاية الأصول : 277.
(3) وانظر أيضا حاشية فرائد الأصول : 36.

وقاية الاذهان _ 436 _
  أنّ تنجز القطع من آثاره الذاتيّة ، أو بجعل هذا الوجه عبارة أخرى عنه ، وأيّا كان فما هو إلاّ مصادرة ، أو دعوى من غير بينة.
  فتحصّل من جميع ذلك : أنه لا مانع من جعل الأمارات في قبال القطع إذا اقتضت المصلحة ، ولا من التصرف في حجّيته بالردع عن الحاصل عن سبب خاص أو لشخص كذلك ، فينبغي أن يكون الكلام في حجّية القطع الحاصل عن غير الكتاب والسنة ـ إن كان كلام فيه ـ وفي قطع القطّاع ، وعدم جواز حكم الحاكم بعلمه ، ونحوها في مقام الإثبات لا الثبوت ، وأن يطالب بالدليل على ما يدّعيه ، ولا يصعب إقامته في بعض الموارد ، فإنّك إذا عرفت من غلامك عدم معرفته بجيد المتاع ، وغلبة خطئه على إصابته ، وتسرّعه في قطعه فلا بدّ لك من جعل قول من تثق به حجّة عليه ، وتخبره بأنك تقبل منه الرديء مكان الجيد إذا كان مؤدّى قوله من غير أن تمس الواقع بشيء ، أو تغالطه وتقول : لا أريد الجيد ، بل أريد ما قال الثقة : إنه جيد ، ومالك إن تركت العبد على قطعه إلاّ نقض غرضك وتضييع مالك.
  وعلى هذا ينبغي أن يحمل قول العلاّمة ـ العمّ ـ : يشترط في حجّية القطع عدم منع الشارع عنه ، وتمثيله لذلك بما إذا قال المولى لعبده : لا تعتمد في معرفة أوامري على ما تقطع به من قبل عقلك أو يؤدّي إليه حدسك ، بل اقتصر على ما يصل إليك منّي بطريق المشافهة والمراسلة (1) ، وقد عدّه الشيخ من العجب ، وقال : إنّ فساده يظهر مما سبق من أول المسألة إلى هنا (2).
  وأقول : يحق العجب له ، ويظهر فساده ممّا ذكره وممّا لم يذكره لو كان صاحب الفصول يرى القطع محتاجا إلى الجعل أو قابلا للردع في آثاره الذاتيّة ، وحاشاه من ذلك وهو القائل في جواب دليل المفصّل في حجّية حكم العقل بين

--------------------
(1) الفصول الغرويّة : 343.
(2) فرائد الأصول : 14.

وقاية الاذهان _ 437 _
  النظريّ والضروري ما نصه : ( فإنّ حجية العلم والانكشاف ضرورية فطرية لا نظرية ) (1).
  نعم الإنصاف أنّ إلزام القاطع بالعمل بمؤدّى الأمارة المخالفة لقطعه لا يخلو عن صعوبة ، وإنما قصاراه أن يرى نفسه مخيّرا بينهما لأنه يعلم عدم المؤاخذة ، عمل بهذا أو بذاك إلاّ أن يجعل لها مدخلية في موضوع الحكم ، وهو محتمل كلام الفصول.

هل يمكن تعلّق التكليف بالعمل بالقطع أم لا ؟

  وبعبارة أخرى : هل يمكن إيجاب الإطاعة أم لا ؟ قد يقال بامتناعه لوجوه :
  منها : لزوم التسلسل ، لأن الإطاعة حينئذ يكون موضوعا لإطاعة أخرى ، وتلك أيضا كذلك ، وهكذا إلى مالا نهاية له.
  ويرد عليه : أنّ استحالة ذلك إن كان لاستلزامه صدور أوامر غير متناهية ، ففيه ان الآمر لا يصدر منه إلاّ إنشاء أمر واحد بطبيعة الإطاعة ، ولا مانع من انحلال الإنشاء إلى أفراد غير متناهية ، كقولك : الحمد لله عدد ما في علم الله ، وكقولك في الإخبار : العدد نصف مجموع حاشيتيه.
  وإن كانت الاستحالة من جهة استحالة امتثال أوامر غير متناهية ، ففيه : أنه ينقطع جميعها بامتثال واحد أو مخالفة واحدة ، وذلك لانتفاء جميعها بأحد الأمرين من الإطاعة والعصيان.
  ومنها : أنّ الإطاعة لا معنى لها إلاّ إتيان الفعل بداعي الأمر المتعلّق بموضوعها ، وعلى تقدير وجوبها يلزم أحد الأمرين من كون الأمر داعيا إلى

--------------------
(1) الفصول الغرويّة : 346.

وقاية الاذهان _ 438 _
  نفسه ، أو داعيا وباعثا إلى غير عنوان متعلّقه ، وكلاهما محال.
  وفيه : أنّ القاصد لامتثال الأمر المتعلّق بالإطاعة لا يأتي بالفعل لأجل الأمر المتعلّق بنفسه ، بل يأتي به لتحقق امتثال الأمر المتعلّق بها بإتيانه ، وغايته سقوط الأمر المتعلّق بالفعل أيضا لانتفاء موضوعه ، فالإتيان بالصلاة ـ مثلا ـ كما يكون امتثالا للأمر بها ، يكون أيضا امتثالا للأمر بإطاعة أمرها ، ويمتثل بإيجاد نفس متعلّقه المتحد مصداقا مع متعلّق الفعل.
  ومنها : لزوم اللغو ، إذ لا معنى للأمر إلاّ إيجاد الداعي إلى الفعل والبعث عليه وهو حاصل بالأمر الأول ، فلا فائدة في الثاني.
  وفيه ـ بعد أنّ محذور اللغوية لا يثبت المدّعى وهو الاستحالة العقلية الذاتيّة ـ انّ الأمر الثاني يوجب تأكّد الداعي ، لأنّ من الممكن أن لا ينبعث بأمر واحد وينبعث بأمرين ، وربّما يوطّن نفسه على معصية واحدة دون معصيتين ، بل ربّما لا يؤثر الأمر الأول ، فيستقلّ الثاني بالتأثير.
  ويتضح ذلك إذا اختلفت الآثار وتباينت الأغراض ، فلو فرض أنّ الصلاة لا تجدي إلاّ الثواب في الآخرة ، وإطاعة أمرها يوجب سعة الرزق في الدنيا ، وتركها يورث الفقر ، وكثير من الناس يحبّون العاجلة ويذورن الآخرة ، فالنفع والضرر العاجلان يحرّكان نحو امتثال أمرها دون أمر متعلّقها.
  ومنها : أنّ من شأن الأمر المولوي أن يكون صالحا للتأثير المستقل في انبعاث المكلّف نحو الفعل ، بل لا معنى للأمر إلاّ إيجاد الأمر بنفسه الفعل بالعناية ، وقد سبق توضيحه في بحث الأوامر ، والأمر بالإطاعة لا يصلح لذلك ، لأنّ المكلّف إن كان ممّن يؤثر فيه الأمر ، فالأمر الأول كاف فيه وهو المؤثر في إيجاد الفعل ، لا الأمر بالإطاعة لسبقه رتبة ، وإلاّ فلا يؤثر فيه الأمر بالإطاعة استقلالا.

وقاية الاذهان _ 439 _
  وظني أنّ هذا الوجه مأخوذ من السيد الأستاذ (1) ، ومرضيّ لديه ، ولا يخفى أنه راجع إلى الّذي قبله ، فيرد عليه ما تقدّم ، إذ من الممكن بل الواقع كثيرا ، التفكيك في مقام الإطاعة بين التكاليف المتعددة ، فيطيع بعضا ويعصي بعضا ، وإلاّ لزم أن لا يوجد مصلّ لا يصوم ، وصائم لا يحج ، لا سيّما مع اختلاف الآثار ، وقد مرّ مثاله.
  ولا أرى زيادة لهذا الوجه إلاّ ما أدرج فيه من شرط الاستقلال في التأثير ، وتقدّم الأمر بالفعل على الأمر بها (2) رتبة ، والاستقلال حاصل مع اختلاف الدواعي إلى الامتثال ، فمن لا يريد إلاّ النّفع العاجل في المثال ، فالأمر بالإطاعة هو المؤثّر المستقل في إتيان الفعل من غير مدخل لأمر الصلاة فيه.
  وتقدّم الأمر بالفعل على الأمر بإطاعة أمره رتبة ممّا لا ينكر ، ولكنه لا يوجب خلاف ما قلناه ، أما من جهة المكلّف فلما مرّ بعينه ، وأمّا من جهة الآمر ، فلأنه لا مانع من أن يتصوّر بعد الأمر عدم وقوع مقتضاه وعدم تأثيره فيه ، فيأمر به بعنوان آخر كما في الأمر بالضدّين على الترتّب.
  وأرى الأحسن من الجميع ، أن يقال في بيان الاستحالة : إنّ من المقرّر أنّ تعدّد الأمر لا يكون إلاّ بتعدّد المأمور به ولو حكما ، وإلاّ كان الثاني تكرارا للأول وتأكيدا له وان اختلفا في اللفظ ، وليس قول القائل : اعمل بقطعك ـ أو ـ أطع ، إلاّ بعثا نحو الفعل وطلبا له بعينه ، إذ لا معنى للعمل بالقطع ولا للإطاعة إلاّ إتيان الفعل ، أعني متعلّق الأمر الأول ، فإذن الأمر بها ليس إلاّ تكرار للأمر به وتأكيدا له بعبارة لا تخالفه إلاّ في صرف المفهوم نحو : افعل ولا تترك ، فليس غير الفعل عنوان آخر يتعلّق به الطلب ، ولو تعلّق الأمر بالإطاعة لزم أن يكون الأمر محرّكا

--------------------
(1) هو السيد محمد الفشاركي قدس سره.
(2) الضمير راجع إلى الإطاعة.

وقاية الاذهان _ 440 _
  نحو نفسه ، وهو واضح الفساد ، والمقام يحتاج إلى تحرير تام ، وعند الكلام على الأوامر الإرشادية تعرفه إن شاء الله.

حكم القطع إذا أخطأ الواقع

  مخالفة القطع مع الواقع لا يخلو من أقسام أربعة : لأنه قد يأتي بغير الحرام باعتقاد أنه حرام ، أو يأتي بغير المأمور به باعتقاد أنه مأمور به ، أو يأتي بالحرام باعتقاد أنه حرام آخر ، أو يأتي بالمأمور به باعتقاد أنه مأمور به ولكنه غيره.
  والأول يسمى ـ عندهم ـ بالتجري ، والثاني بالانقياد ، وأما الثالث والرابع ، فلم أجد أحدا تعرّض لهما ، ونحن نذكر ما عندنا في كلّ من هذه الأقسام إن شاء الله.

  التجري

  إذا قطع بحرمة شيء غير محرّم ، فارتكبه ـ ويسمى بالتجري ـ فهل يحكم عليه بقبح الفعل ، واستحقاقه العقاب أم لا ؟
  وإجمال القول فيه : إنه لا شك في كشفه عن سوء سريرته ، وعدم اكتراثه بنهي مولاه ، كما أنه لا شك في عدم تغيّر الواقع عمّا هو عليه من عدم المفسدة بمجرد عروض القطع ، وحدوث عنوان مقطوع الحرمة له.
  ولا ينبغي الشك أيضا في أنه لا يعقل أن يكون بهذا العنوان موضوعا لنهي شرعي ، إذ النهي من شأنه أن يكون وازعا عن متعلّقه ، والمتجرّي لا يرى نفسه إلاّ خارجا عن عنوان المتجري ، لمكان قطعه بخلافه ، فلا يعقل تأثيره فيه وارتداعه به.
  وأما استحقاقه العقاب ، فلا مانع عنه ، بل هو الظاهر ، وذلك لأن الإقدام على المعصية وعدم المبالاة بنهي المولى ونحوهما من التعبيرات المختلفة المؤدّية إلى

وقاية الاذهان _ 441 _
  معنى واحد. وهو التجري ـ بالمعنى الجامع بين المعصية الواقعية ، والتجري الاصطلاحي ـ هو موضوع حكم العقل باستحقاق العقاب ، ولولاه لما حكم العقل به ، ولا توجّه اللوم والذم من العقلاء على مرتكب المعصية ، إذا هي مع التجرد عن هذا العنوان لا يترتب عليها شيء سوى الآثار الذاتيّة ، وتكون كالفعل المبغوض الواقع عن جهل واضطرار ، فالموجب لجواز العقاب ليس إلاّ الإقدام على ما نهي عنه ، لا وقوع المنهي عنه ، فالتجري اصطلاحا وإن لم يكن عنوانا قابلا لأن يتعلّق به النهي الشرعي ، ويعدّ فاعله مرتكبا للحرام ، ولكنه مشترك مع المعصية الواقعية في المناط الّذي يحكم لأجله باستحقاق العقاب ، وهو القبح الفاعلي ـ على ما يعبّر عنه ـ وهذا عنوان لا ينفك عن التجري أصلا.
  ومنه يظهر ضعف ما ذكره بعض الأعلام (1) ـ دام فضله ـ ( من أنّ الّذي أوقع المدّعي لقبح الفعل في الشبهة ، كون الفعل المذكور في بعض الأحيان متّحدا مع بعض العناوين القبيحة كهتك احترام المولى ، والاستخفاف بأمره ، وأمثال ذلك مما لا شبهة في قبحه ، وأنت خبير بأنّ اتّحاد الفعل المتجري به مع تلك العناوين ليس دائما ، لأنّا نفرض الكلام فيمن أقدم على مقطوع الحرمة ، لا مستخفّا بأمر المولى ، ولا جاحدا لمولويّته ، بل غلبت عليه شقوته ، كإقدام فسّاق المسلمين على المعصية ، ولا إشكال في أنّ نفس الفعل المتجرّى به مع عدم اتّحاده مع تلك العناوين لا قبح فيه أصلا ) (2) انتهى بلفظه.
  وقد علمت أنّ هذه العناوين ممّا لا ينفك عن التجري وعن المعصية الواقعية ، وأنها هي المناط في استحقاق العاصي للعقاب كما أنّ العناوين المقابلة لها من احترام أمر المولى والانقياد له ـ بمعناه اللغوي ـ ونحوهما ممّا لا ينفك

--------------------
(1) هو الشيخ عبد الكريم الحائري اليزدي قدس سره.
(2) درر الفوائد 2 : 13 ـ 14.

وقاية الاذهان _ 442 _
  عنها الانقياد الاصطلاحي والإطاعة الواقعيّة ، ولولاه ما استحق ذلك عقابا ، ولا هذا ثوابا ، بل هما معنى الإطاعة والعصيان ، والمناط في القرب والبعد ، فالتجرّي مصداق لهذه العناوين ومحقّقها في الخارج ، لا ملازم معها.
  ومنه يظهر استحالة الفرض الّذي فرضه ، أعني المتجرّي غير المستخف ، إلاّ أن يريد من هذه العناوين ما يزيد على الحاصل منها بنفس التجري ، ولا يناسب ذلك إلاّ الردّ على من أراد تكفير المتجرّي ، لا الحكم عليه باستحقاق العقاب.
  فتلخّص أنّ التجري يشارك المعصية الواقعيّة فيما هو مناط القبح واستحقاق العقاب ، ولا تزيد هي عليه إلاّ في ترتب المفسدة الذاتيّة والمبغوضية التكوينية عليها دونه ، أعني القبح الفعلي ، وقد عرفت بما لا زيادة عليه أنّ المناط في الاستحقاق هي الجهة الأولى لا الثانية ، وان العقلاء لا يذمّون العاصي إلاّ من جهة القبح الفاعلي لا الفعلي ، وقد نبّه الشيخ الأعظم على قبح التجرّي (1) ، ولكن جعله من جهة كشفه عن سوء سريرة المتجرّي ، وكونه في مقام الطغيان والمعصية.
  ويتّجه عليه أنّ التجري مصداق للاستحقاق ونحوه ، وأنه هو بالحمل الشائع ، وهو موضوع لحكم العقل بالقبح واستحقاق العقاب زيادة على ما يستحقّه من الملام على سوء السريرة.
  ويرشدك إليه حكم الوجدان بالفرق الواضح بين من علم سوء سريرته بإتيان ما يقطع بحرمته ، وبين من علم منه ذلك بعلم الرمل مثلا ، وبين حاله قبل الإتيان به وبين حاله بعده ، والذمّ في الأوّل متوجّه على خلقه ، وفي الثاني على فعله ، وشتّان بين ذمّ الشخص وبين ذمّ الفعل.
  فظهر أنّه لا مناص للقائل باستحقاق العاصي العقاب عقلا عن القول

--------------------
(1) انظر فرائد الأصول : 7.

وقاية الاذهان _ 443 _
  به في التجرّي أيضا.
  نعم من (1) أنكر حكم العقل به حتى في المعصية ، وجعل المصحّح للعقاب جعل الوعيد على الحرام ، فهو في سعة منه ، إذ الوعيد مجعول على شرب الخمر لا على الماء.
  هذا ، ولا يذهب عنك أنّ الّذي يحكم به العقل هو استحقاق العقاب في الجملة ، لا خصوص العقاب المقرّر لما قطع به ، فلا يلزمنا القول باستحقاق العقاب على التجري تعيين خصوص العقاب المقرّر لشرب الخمر مثلا ، فمن الممكن أن لا يعاقب عقاب شرب الخمر في الآخرة ، كما لا يحدّ حدّ شربها في الدنيا ، والعقل بمعزل عن تعيين نوع العقاب ومقداره في المعصية الواقعيّة ، فضلا عن غيرها ، وهو فيهما تابع للجعل ، ولكن لا شك في كونه تابعا لها في الشدّة والضعف ، فالتجرّي على الزنا بالمرأة الخليّة أشدّ من التجرّي بالقبلة ، وأضعف من التجرّي على الزنا بالمحصنة.

كلامان لصاحب الفصول ، واعتراض الشيخ عليهما والدفاع عنهما

  يظهر من العلاّمة ـ العمّ ـ التفصيل في التجرّي بين القطع بحرمة شيء غير واجب واقعا ، وبين القطع بحرمة واجب غير مشروط بقصد القربة ، فرجّح العقاب في الأول ، ونفى البعد عن عدمه في الثاني مطلقا ، أو في بعض الموارد نظرا إلى معارضة الجهة الواقعية للجهة الظاهرية ، لأنّ قبح التجرّي ليس ذاتيا ، بل هو بالوجوه والاعتبار (2).

--------------------
(1) [ وهو ] الأستاذ صاحب تشريح الأصول رحمه الله ، ( منه ).
(2) الفصول الغرويّة : 431.

وقاية الاذهان _ 444 _
  وأورد عليه الشيخ ـ طاب ثراه ـ بما حاصله : منع عدم كون قبح التجرّي ذاتيا ، بل هو ذاتي كالظلم ، بل هو قسم منه ، فيمتنع عروض الصفة المحسّنة له ، ومع تسليمه فلا شك في كونه مقتضيا له ، فيبقى على قبحه ما لم يعرض له جهة محسّنة وهي منتفية في المقام (1).
  وقال أيضا : إنّ التجري إذا صادف المعصية الواقعية تداخل عقاباهما (2).
  وأورد عليه : بأنه لا وجه للتداخل ، مع كون التجرّي عنوانا مستقلا في استحقاق العقاب ، لأنه إن أراد وحدة العقاب فهو ترجيح بلا مرجّح ، وإن أراد به عقابا زائدا على محض التجرّي فهذا ليس تداخلا ، لأنّ كلّ فعل اجتمع فيه عنوانان من القبح يزيد عقابه على ما كان فيه أحدهما (3).
  أقول : أما كلامه الأول فلو شئنا تفصيل القول فيه ، لأفضى بنا إلى الإطالة ، ويكفي أن نقول : إنّ الّذي دعاه إلى هذا التفصيل هو الوجدان الحاكم بالفرق بين التجرّي بترك ما كان حراما في الواقع وبين التجرّي بغيره ، كما يظهر من الأمثلة الثلاثة (4) التي ذكرها ، وهذا ما جنح إليه الشيخ بنفسه ، بل اعترف به ، وقال قبل ما نقله عن ( الفصول ) بلا فصل ، ما نصّه : ( الظاهر أنّ العقل يحكم بتساويهما ـ من صادف قطعه الواقع ومن لم

--------------------
(1) فرائد الأصول : 6.
(2) الفصول الغرويّة : 87.
(3) فرائد الأصول : 7.
(4) [ الأمثلة الثلاثة هي ] :
1 ـ لو اشتبه عليه مؤمن ورع عالم بكافر واجب القتل ، فحسب أنه ذلك الكافر فتجرّى ولم يقتله.
2 ـ لو جزم بوجوب قتل نبي أو وصي فتجرّى ولم يقتله.
3 ـ أمر عبده بقتل عدوّه فصادف ابنه ، وزعمه ذلك العدوّ ، فتجرّى ولم يقتله ( منه ) وانظر الفصول الغروية : 431 ـ 432.

وقاية الاذهان _ 445 _
  يصادف (1) ـ في استحقاق المذمة من حيث شقاوة الفاعل وخبث سريرته مع المولى ، لا في استحقاق المذمة على الفعل المقطوع بكونه معصية.
  وربما يؤيد ذلك ، أنّا نجد من أنفسنا الفرق في مرتبة العقاب بين من صادف قطعه الواقع وبين من لم يصادف ، إلاّ أن يقال : إنّ ذلك إنما هو في المبغوضات العقلائية ، من حيث إنّ زيادة العقاب لأجل التشفّي المستحيل في حق الحكيم تعالى ) ثم أمر بالتأمّل (2).
  وذكر أصحابه الشارحون لكلامه في وجه التأمل : إنه لبقاء اختلاف مرتبة الذم مع قطع النّظر عن جهة التشفي (3).
  فإذا كان ـ طاب ثراه ـ يجد من نفسه الفرق المذكور ، ولا يجزم بكونه لأجل التشفي ، فلا يعقل أن يكون له وجه سوى مدخلية الفعل المتجرّى به في قبح التجري وعقابه ، وظاهر لدى كل متأمّل منصف أنّ ذلك يستلزم ما ذكره صاحب الفصول لزوما بيّنا ، إذ يستحيل التساوي مع تفاوت ماله مدخلية فيه ، فلا بدّ أن يتفاوت التجرّي باختلاف المتجرّى به ، ويتم ما نقلنا من كلامه وما حذفناه ، كقوله : ( ويظهر أنّ التجرّي على الحرام في المكروهات الواقعية أشدّ منه في مباحاتها ، وهو فيها أشدّ منه في مندوباتها ، ويختلف باختلافها ضعفا وشدّة كالمكروهات ، ويمكن أن يراعى في الواجبات الواقعيّة ما هو الأقوى من جهاته وجهات التجرّي ) (4).
  وأما ما ذكره من كون قبح التجرّي ذاتيا (5) ، فلا ينافي ذلك ، لأن المراد

--------------------
(1) ما بين الشرطتين من المصنف رحمه الله.
(2) فرائد الأصول : 5 ـ 6.
(3) منهم : الشيخ محمد حسن الآشتياني ـ قدس سرّه ـ في بحر الفوائد : 22.
(4) الفصول الغرويّة : 432.
(5) يعني الشيخ الأنصاري قدّس سره ، انظر فرائد الأصول : 6.

وقاية الاذهان _ 446 _
  ليس كون التجري على قسمين ، فمنه قبيح ، ومنه غير قبيح حتى يتوجه عليه أنّ التجرّي قبيح ذاتا ، ولا أقلّ من كونه مقتضيا للقبح ، بل المراد أنّ الفعل المتجرّى به يجتمع فيه عنوانان : قبيح وهو التجرّي ، وحسن وهو الصلاح الواقعي فيقع بينهما الكسر والانكسار على ما هو المطّرد في سائر الموارد ، وهذا هو مبنى اعتراضه على تعدّد العقاب ، فالتجرّي بما هو تجرّي قبيح ذاتا لم يتغيّر عمّا كان عليه ، وإنما عرض للفعل عنوان آخر مزاحم لجهة التجرّي ، فكان اللازم منه ما عرفت.
  وأمّا تداخل العقابين ، فلا شك أنّ من العناوين المبغوضة ما يكون مقدّمة لما هو أشدّ مبغوضيّة وقبحا ، فعلى تقدير ترتّبه عليها لا يلاحظ إلاّ بلحاظ المقدّمية المحضة ، ولا يوصف إلاّ بالحرمة الغيريّة ، ويكون مبغوضيّتها وعقابها مندكّين فيه ويندمجان فيه اندماج الضعيف في الشديد ، فلا يعدّان إلاّ فعلا واحدا ، بخلاف ما إذا لم يترتب عليها ، فإنّها تستقلّ حينئذ بنفسها ، وتعدّ مبغوضا مستقلا يترتب عليها ما أعدّ لها من العقاب.
  وهذا أمر وجداني له نظائر كثيرة في العرف والشرع ، فمن زنى بامرأة لا يحكم عليه باللحاظ الأوّلي إلاّ بارتكاب كبيرة واحدة وإن سبقه مس العورة منها ونحوه ، ولا يقام عليه إلاّ حدّ واحد ، بخلاف ما إذا لم يترتب عليه ، فإن المس وغيره من المقدّمات واللوازم المحرّمة يعاقب عليها ويعزّر ، ولا يجمع عليه ـ في صورة ترتب الفعل ـ بين الحدّ والتعزير.
  ومثله : قتل المؤمن بالسيف ، إذ لا معنى له إلاّ جرحه جرحا يفضي إلى إفاظة (1) نفسه ، فمن ارتكب ذلك فلا يقتصّ منه إلاّ للنفس وإن أخذت منه الدية فلا يؤخذ منه إلاّ دية واحدة ، ولا يتوب إلاّ عن ذنب واحد ، ولا يترتب عليه أثر

--------------------
(1) فاظت نفسه : خرجت روحه ، الصحاح 3 : 1176 ( فيظ ).

وقاية الاذهان _ 447 _
  تعدّد المعصية لو فرض وجود أثر له ، وكذلك كل مرتبة من مراتب الجرح ، بالنسبة إلى ما قبلها من الحارصة (1) ، والدامية (2) ، والجائفة (3) ، إذ كل لاحقة منها لا توجد إلاّ بما قبلها ، ولا يؤخذ من الثالثة ثلاث ديات ، ولا من الثانية ديتان ، ولا يبعد أن يكون العقاب الأخروي أيضا كذلك ، وهكذا فليكن الحال في التجرّي ، بل الأمر فيه أوضح ، وحيث إنّ المعصية الواقعيّة لا يمكن وقوعها إلاّ بالتجرّي ولا ينفك عنه اكتفي في العقاب عليه بالعقاب عليها وإن كان العقاب أهون ، لو فرض محالا إمكان الافتراق بينهما ، كما أنّ الأمر كذلك لو أمكن الزنا بلا مسّ ، والقتل بلا جرح.
  وكلامه رحمه الله في ( التنبيه الرابع ) من تنبيهات بحث ( مقدّمة الواجب ) كالصريح فيما بيّناه ، حيث عبّر بعد المعصيتين معصية واحدة ، فقال ما لفظه : ( التحقيق أنّ التجرّي على المعصية معصية أيضا لكنه إن صادفها تداخلا ، وعدّا معصية واحدة ) (4).
  فتراه لم يحكم بتداخل العقابين إلاّ لتداخل المعصيتين ، وإن كانت المعصيتان معصية واحدة فلا بدّ أن يكون العقابان عقابا واحدا ، وهذا المعنى الوجداني لا يمكن التعبير عنه بأحسن ممّا قال ، ومن وجد أحسن منه فله الإذن في أن يعبّر عنه إن شاء.
  ومثل هذا موجود في الطاعات أيضا ، فالصلاة مركّبة من الأجزاء

--------------------
(1) الحارصة : الشجة التي تشق الجلد قليلا ، الصحاح 3 : 1032 ( حرص ).
(2) الدامية : الشجة التي تدمي ولا تسيل ، الصحاح 6 : 2341 ( دما ).
(3) الجائفة : الطعنة التي تبلغ الجوف ، الصحاح 4 : 1339 ( جوف ).
(4) الفصول الغرويّة : 87.

وقاية الاذهان _ 448 _
  [ الواجبة ] (1) من سجود وقراءة ، وليست إلاّ إطاعة واحدة ، فليكن الانقياد المقابل للتجرّي مثله ، وهذا مراد هذا الإمام وإن قال الشيخ طاب ثراه : ( ولم يعلم معنى محصّلا لهذا الكلام ) (2).
  ولكن هذا كلّه بناء على ما يذهب إليه من معارضة الجهة الواقعيّة مع الجهة الظاهرية ـ على ما عبّر به (3) ـ ووجود ملاكين للعقاب ، ولكنه خلاف ما حقّقناه من أنّ المناط في القبح والعقاب ليس إلاّ أمر واحد مشترك بين التجرّي والمعصية ، أعني التجرّي اللغوي ، ولا تزيد عليه إلاّ بالقبح الفعلي الّذي لا يناط به قبح ولا ذمّ ، وما قتل ولد المولى الحكيم بسيف عبده إلاّ كموته حتف أنفه إذا لم يكن بتجرّ منه وإقدام على قتله.
  ولا يختص ما ذكرناه بالتجرّي المصطلح عليه ، بل يشمل كلّ فعل وجد فيه عنوانان : الاجتراء والإقدام على المخالفة نحو الإتيان بمقدمات الحرام بقصد ترتّبه عليها وإن لم يتمكن منه كما في ( الفصول ) (4) وقد حكموا بالحرمة على ما يشبه هذا الباب وإن لم يكن داخلا فيه ، كالإقرار بالمعصية قبل التوبة لأنه إظهار للجرأة على الحرام ، وعدم الاكتراث به.
  وأما قصد المعصية وإن كان من أقسامه بحسب الواقع ولكن القصد ليس من الأفعال الخارجية التي هي الموضوعات لمعظم الأحكام الشرعية ، بل هو فعل قلبي من شأنه تصحيح العقاب أو الثواب على الأفعال ، فلا يلاحظ معها إلاّ لحاظا آليا يفني فيها فناء التجرّي والانقياد في المعصية والطاعة ، ويستقلّ بنفسه

--------------------
(1) ورد في الأصل : المستحبّة ، وما أثبتناه يقتضيه السياق.
(2) فرائد الأصول : 7.
(3) الفصول الغرويّة : 431.
(4) الفصول الغرويّة : 431.

وقاية الاذهان _ 449 _
  إذا تجرّد عنها ، ويكون مشمولا لما ورد من أنّ ( نية المؤمن خير من عمله ) (1) إذا كان قصد الطاعة ، ولأخبار (2) العفو إذا كان قصد المعصية ، إمّا مطلقا أو على أحد وجوه التفصيل المفصّلة في ( الرسالة ) (3) وغيرها.
  والشيخ الأستاذ بعد ما حكم على التجرّي بما حكمنا عليه ، جعل العقاب على القصد خاصة ، لظنّه أنّ العنوان الجامع بين التجرّي والمعصية لا يكون اختياريّا ، مصرّحا بأنّ من شرب الماء باعتقاد الخمرية لم يصدر منه ما قصده ، وما قصده لم يصدر منه.
  ثم أورد على نفسه بأنه يلزم استحقاق العاصي أزيد من عقاب واحد ، بل عقوبات على نفس الفعل والاختياري من المقدّمات ، ولا استحقاق في معصية واحدة إلاّ عقوبة واحدة.
  وأجاب عنه بأنّ تعدّد العقوبة يكون بتعدّد إظهار العصيان ، وليس في كل واحد من المعصية والتجرّي بمجرّد القصد أو مع العمل إلاّ إظهار واحد وان اختلف ما به الإظهار طولا وقصرا ، وقاسه بشرب قدح من الخمر ، بحيث يعدّ شربا واحدا ، مدّعيا أنّه كشرب جرعة منها (4).
  أقول : لا يخفى على المتأمّل عدم توقّف البيان الّذي اخترناه على كون الجامع بين التجرّي والمعصية اختياريا ، ومع الغضّ عنه فمن الواضح أنّ شرب المائع بعنوانه فعل اختياري قصده الشارب وقد وقع ما قصده ، ولهذا يترتب عليه آثاره ، فيفطر به الصوم ، ويبطل به الصلاة ، ويحنث به النذر ، وكذا في أمثال هذا المثال ، كمن قتل مؤمنا باعتقاد أنه زيد فبان أنه عمرو ، ونظر إلى أجنبية قاطعا

--------------------
(1) أصول الكافي 2 : 69 ـ 2.
(2) انظر الكافي 2 : 313 ، باب من يهمّ بالحسنة أو السيّئة.
(3) انظر فرائد الأصول : 7 ـ 8.
(4) حاشية فرائد الأصول : 13 و 15.

وقاية الاذهان _ 450 _
  بأنها هند وظهر أنّها أختها.
  وما تداول عند الفقهاء واستدلّ به ( ما وقع لم يقصد وما قصد لم يقع ) فهو أجنبي عن المقام ، وله موارد لا ترتبط به أصلا ، وما كان مثل هذا يخفى على أستاذ مثله ، ولعلّ وراء ما فهمنا من كلامه أمر غفلنا عنه.
  وحمل صاحبنا العلاّمة ـ أدام الله أيامه ـ هذا الكلام على محمل بعيد فقال ما بعضه بلفظه : ( إنّ كلّ عنوان يكون ملتفتا إليه حال إيجاده ، وكان بحيث يقدر على تركه يصير اختياريا وإن لم يكن موردا للغرض الأصلي ، مثلا لو شرب الخمر ـ مع العلم بكونه خمرا ـ لا لأنه خمر ، بل لأنه مائع بارد ، يصح أن يعاقب عليه ، لأنه شرب الخمر اختيارا وإن لم يكن كونه خمرا داعيا له ، ومحرّكا له على الشرب لأنه يكفي في كون شرب الخمر اختياريا صلاحية كون الخمريّة رادعا له ، وكونه قادرا على تركه.
  ونظير هذا محقّق فيما نحن فيه بالنسبة إلى الجامع ، فإنّ من شرب مائعا باعتقاد أنه خمر يعلم بأنّ هذا مصداق لشرب المائع ويقدر على تركه ، فكيف يحكم بعدم كون شرب المائع اختياريا له ؟! فإن خصّ العنوان الموجود اختيارا بما كان محطّا للإرادة الأصلية للفاعل ، فاللازم أن يحكم في المثال الّذي ذكرنا بعدم كون شرب الخمر اختياريا لعدم تعلّق الإرادة الأصلية بعنوان الخمر كما هو المفروض ، ولا أظنّ أحدا يلتزم به ، وإن اكتفى في كون العنوان اختياريا بمجرّد كونه معلوما وملتفتا إليه حين الإيجاد بحيث يصلح لأن يكون رادعا له ، فحكمه بعدم كون الجامع فيما نحن فيه ـ أعني شرب المائع ـ اختياريا لا وجه له ) (1) انتهى.
  ولا أرى في كلام الأستاذ عينا ولا أثرا لما حمله عليه ، وأين قوله : ما وقع لم

--------------------
(1) درر الفوائد 2 : 12 ـ 13.

وقاية الاذهان _ 451 _
  يقصد ، من وقوع المقصود من غير أن يكون الداعي إليه عنوان الحرام؟
  وأما ما أورده على نفسه من تعدّد العقاب فهو في مسألة التجرّي ساقط من أصله ، على أصله أعني عدم اختيارية الفعل الّذي لأجله قصر العقاب على القصد ، ومع الغض عنه فما ذكره في الجواب لا يقوم بعبء دفعه.
  وقياسه بشرب الكأس من الخمر والجرعة منها ، قياس مع الفارق ، لأنّ القصد يباين الفعل بحسب الذات والمحلّ والرتبة ، إذ القصد من قبيل الإرادة ، وموطنه القلب ، وهو متقدّم على الفعل الّذي هو حركة الأعضاء في الخارج تقدّم العلّة على المعلول ، وأين هذا من الفعل الواحد المستمر ؟ فكيف لا توجب هذه الفروق الظاهرة تعدّد المظهر ويوجبه مجرّد الفصل بين الجرعات؟! فلا مناص له إلاّ الالتزام بتعدّد العقاب ، أو جعله على أحدهما ، أو الإذعان بمذهب صاحب الفصول من تداخل العقابين (1) ، وهو أهون الثلاثة ، على شدّة إنكاره له.
  ثم إنّ ما أرسله إرسال الأصول الموضوعة من مساواة شرب قدح من الخمر مع جرعة منها ، ينبغي أن يكون المراد مساواتهما في عدم صدق التعدّد ، وما يترتب عليه من الآثار فقط ، إذ المفسدة في الفرد الطويل أكثر فالنهي آكد ، فالاستحقاق أشدّ ، إذ غصب الدار ساعة واحدة لا يساوي غصبها سنة مستمرّة ، بل غصبها أضعاف الساعة متفرقا لا يساوي نصف السنة ، وكذا الحال في التجرّي ، وشتّان بين مشتغل به طول النهار وبين مشغول به بعض ساعة منه ، والوصل والفصل وإن أوجبا صدق الوحدة والتعدّد عرفا فحاشا أن يوجبا اختلافا في حكم العقل ، وإذن لا يبقى إلاّ التعبير في أحدهما بتعدد العقاب ، وفي الآخر بأشدّيته ، والمعاني لا تختلف باختلاف الألفاظ.
  واعلم أنّ التجرّي لا يختص بالقطع التفصيليّ ، بل يجري حكمه في العلم

--------------------
(1) انظر الفصول الغرويّة : 87.

وقاية الاذهان _ 452 _
  الإجمالي ، بل في الاحتمال فضلا عن الشك والظن.
  والضابط : كلّ إقدام لا يؤمن فيه الوقوع في الحرام المنجّز ، فمن ارتكب أحد أطراف العلم الإجمالي يكون متجريا ، مردّدا أمره بحسب الواقع بين التجري الاصطلاحي والحرام الواقعي ، وكذلك الحال في الإقدام مع الشك وصاحبيه في مورد يجب فيه الاحتياط ، والحكم في الجميع ما سمعته ، ولكنه يختلف شدّة وضعفا مع اتّحاد المتجرّى به دائما ، فالتجري مع الشك أقوى منه مع الاحتمال ، وأضعف من الظن ، ولكنه يختلف إذا قست المحرمات بعضها ببعض ، فالتجري بالإقدام الاحتمالي على قتل المؤمن أشدّ من الإقدام الظني على قتل حيوان محترم ، وهو بالإقدام مع الشك على وطء المحصنة أشدّ من الإقدام على وطء الحليلة الحائض ظنّا ، والوجه فيه ظاهر على نحو الكليّة وإن كان الحكم في كثير من جزئيات الموارد لا يظهر إلاّ للضليع في الفن ، الخبير بمصالح الأحكام ، ومن لك بمثله كله ؟

الانقياد

  وقد عرفت أنه إتيان غير المأمور به مع القطع بأنه مأمور به ، فهو عكس التجرّي ، ويظهر الحكم في أقسامه ممّا سمعته ، وقد دلّ السمع ـ موافقا لحكم العقل ـ على ترتّب الثواب عليه ، كما يظهر من بعض أخبار النيّة وغيره ، بل ودلّ عليه بمعناه الأعم ، كقوله تعالى : ( وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهاجِراً إِلَى اللهِ ) (1) الآية ، إلى غير ذلك ممّا ورد في ظواهر الكتاب والسنّة في موارد مختلفة.

القسمان الأخيران

  أما الأول منهما ، أعني إتيان الحرام مع القطع بأنه حرام آخر ، فله أقسام

--------------------
(1) النساء : 100.

وقاية الاذهان _ 453 _
  شتّى ، ويختلف باختلافها الحكم ، لأن كلاّ من المعصية الواقعة والمتجرّي بها إمّا أن يكون مساويا مع الآخر أو مختلفا معه شدّة وضعفا ، وأيضا قد يترتب على أحدهما أو على كليهما أثر دنيوي من حدّ أو كفارة ونحوهما ، وقد لا يترتّب عليهما سوى العقاب الأخروي.
  فإن تساويا فلا إشكال في ترتب العقاب المشترك واستحقاق المتجرّي له ، فمن أكل لحما باعتقاد أنه لحم الخنزير ، فبان أنه لحم الكلب ، أو حنث النذر بزعمه فبان أنه خالف العهد ، فقد أكل ذلك لحم حيوان نجس عامدا ، فيعاقب عليه كما في صورة إصابة القطع ، وهذا ترك واجبا يعلم أنّ عليه كفّارة شهر رمضان ـ على أحد الأقوال ـ فيلزمه الكفارة ، وهذا بحسب الواقع قسم من المعصية الواقعيّة ، إذ هو إقدام على حرام قصده بعنوانه الجامع ، ووقع ما قصده ، ولا كلام فيه إلاّ ما سمعته عن الأستاذ ـ طاب ثراه ـ من عدم كون الجامع اختياريا (1) ، وقد عرفت الكلام عليه مع بعض الأمثلة له.
  وإن اختلفا ، فلا شك في أنّ قبح التجرّي والذمّ عليه يتبعان ما زعمه القاطع لا الواقع ، فارتكاب الصغيرة باعتقاد أنها كبيرة أشد تجرّيا من ارتكاب الكبيرة باعتقاد أنها صغيرة.
  وأما الآثار الجعلية ، فإن لم يكن العصيان ملحوظا فيها أصلا كالضمان فلا شك في أنه يتبع الواقع ، فمن أتلف على حرّ عبده الّذي لا يعرف قيمته أو أخطأ في قيمته ، فهو يضمن قيمته الواقعيّة ، وكذا إذا اعتقد في مائع أنّه خمر لذمّي فبان أنه خلّ لمسلم.
  وإن كان ملحوظا فيها كأبواب الحدود والكفّارات ، كما لو وطئ زوجته الحائض في أول الحيض باعتقاد أنه الوسط أو العكس ، فإن كان المأتي به الأقل

--------------------
(1) انظر حاشية فرائد الأصول : 13.

وقاية الاذهان _ 454 _
  فالظاهر عدم وجوب الأكثر عليه لعدم تحقّق الّذي جعله الشارع موضوعا لكفّارة الأكثر ، كما أنّ من الظاهر وجوب الأقل عليه ، لأن الأقل المأخوذ بلا شرط داخل في الأكثر ، وكذا يعزّر من ارتكب من أجنبيّة ما يوجب التعزير معتقدا أنه ارتكب منها موجب الحد.
  وإن كان المأتي به هو الأكثر ، فإن كان التجرّي بغير القطع ، وكان الإقدام مع احتماله فلا يبعد الحكم بترتّب أثر الأكثر عليه ، لأنه إقدام على المعصية الواقعية بلا مؤمّن من تبعة التكليف ، فيقتصّ ممّن تعمّد قتل إنسان يشك في أنه مسلم أو ذمّي فبان أنه مسلم أو علم بإسلامه وشك في كونه ذكرا أو أنثى ، بل لا يبعد أن يكون الحال كذلك في العقاب المعيّن ، لأنه ارتكب كبيرة بلا مؤمّن عقلي أو شرعي إلاّ أن يقال : كما أنه يقبح العقاب على أصل التكليف بلا بيان يقبح كذلك مع عدم بيان أشدّية العقاب ، فإذا تردّد الحرام بين الكبيرة والصغيرة فلا يجوز أن يعاقب عقاب الكبيرة بلا بيان أنها كبيرة ، وللكلام تتمة تقف عليها إن شاء الله.
  ومنه يظهر الإشكال في صورة القطع بأنه الأقل.
  وإذا كان الأثران مختلفين في النوع ، كما لو زنى بامرأة قاطعا بأنها ليست من محارمه ، فبان أنها أخته ، أو العكس فالمسألة في غاية الإشكال ، إذ لا يمكن القول بأنّ حدّه الجلد لعدم صدور موجبه منه ، ولا القول بأنّ حدّه القتل لعدم قصده لموجبه وعدم وقوعه باختياره ، ولا أظن فقيها ـ بين سمع الأرض وبصرها ـ يلتزم بسقوط الحدّ عنه أصلا ، أو يعيّن عليه حدّا آخر خارجا عن الحدّين.
  وإن رام أحد نفي البعد عن الأول منهما نظرا إلى قاعدة درء الحدّ بالشبهة ، فقد أخطأ المرمي ، ولم يعرف مورد تلك القاعدة ، وإن قال أحد بالثاني منهما فقد تقوّل على الدين ، وقال فيه بغير علم ولا برهان.
  وقد ذكرت ـ والشيء بالشيء يذكر ـ مسألة ألقاها خالي العلاّمة السيد

وقاية الاذهان _ 455 _
  الصدر ـ طاب ثراه ـ على علماء النجف ، فاختلف أقوالهم فيه ، وهي أنّ رجلا صام قضاء يوم من شهر رمضان في يوم الشك من شعبان ، وأفطر بعد الظهر ، ثم ظهر أنه مستهلّ الشهر ، لا يمكن أن يقال بوجوب كفّارة إفطار القضاء عليه لعدم وقوعه في شهر رمضان ، ولا بوجوب كفّارة الأداء عليه ، لعدم تنجّز التكليف به عليه ، ولا سبيل إلى الالتزام بعدم الكفّارة عليه مطلقا لأنه مقدم على إفطار صوم يعلم بوجوب الكفّارة على إفطاره.
  وبالتأمل فيما ذكرنا في هذه الأقسام يظهر الحال في القسم الآخر وهو ما إذا كان الأثر مترتّبا على أحد الأمرين من التجرّي والمعصية ، كما لو سرق زاعما أنه من غير الحرز فبان أنه منه ، والأوجه أنه من قبيل الأثرين المختلفين لأنّ لكلّ منهما أثرين مختلفين من التعزير والقطع ، أو العكس في وجه ، أو أفطر يوما بزعم أنه من شهر رمضان ، فبان أنه صوم كفّارة النوم عن صلاة العشاء.
  هذا ، ولا يخفى أنّ ما ذكرناه مع غضّ النّظر عن الخصوصيّات التي قد تستفاد من الدليل لبعض الأقسام المتقدّمة أو أمثلتها كما لو قيل بأنّ العلم بالإحصان أو المحرمية مأخوذ في موضوع حكمي القتل والرجم ، ونحو ذلك.
  وقد استقرب أحد أصدقائنا من أعلام العصر ـ دام بقاؤه ـ أنّ الحدّ في المثالين هو الجلد ، لأنه الحدّ العام المجعول للزنا ، وإنما خرج منه الزنا بمعلومة الإحصان والمحرمية ، ولا يكون من باب التمسك بالعامّ بالشبهة المصداقية.
  وقد أصاب في ذلك ووجهه ظاهر ، وإنما الإشكال أولا في استفادة كون الجلد هو الحدّ العام ، وثانيا في استفادة كون العلم جزءا للموضوع في غيره.
  وهنا قسم آخر يناسب هذه الأقسام وإن لم يكن من بابها ، وهو أن يقدم على فعل يكون مصداقا لعنوانين أو أكثر من المحرّمات ولا يعلم إلاّ بعضها ، كما لو علم خمريّة مائع ولم يعلم أنّها مغصوبة من الذمّي ، وهي في آنية من الذهب.
  قد يقال فيه : إنّ قيام الحجّة على الحرمة ـ ولو في الجملة ـ كاف في صحّة

وقاية الاذهان _ 456 _
  العقاب على الجميع ، نظير ما مرّ في الإقدام على الحرام المردّد بين الكبيرة والصغيرة.
  والظاهر خلافه لأنه وإن كان بعنوان أنه خمر معلوما ، ولكنه بعنوان أنه مغصوب ، وأنه في آنية الذهب مشكوك ، فيكون من هاتين الجهتين شبهة بدوية يجري فيها الأصل ، ولا يكفي قيام الحجة على جهة في صحّة العقاب على غيرها من الجهات.
  وممّا ذكرنا في التجرّي يظهر الحال في الانقياد ، لأنه على العكس منه ، وإن وجد فرق طفيف في بعض الجزئيات فالاعتماد فيه على فطانة المطالع.
  وأقول ، لا مفتخرا بل معتذرا : إني لم أجد أحدا تعرّض لهذين القسمين ، حتى أبني القول على أساسه وأستضيء بنبراسه ، وفي مثله مظنة نبوة الفكر وكبوة القلم ، فالرجاء ممّن عثر على خطأ فيما ذكرته الصفح ، ثم الإصلاح.

القطع المأخوذ في الحكم

  لا يعقل أخذ القطع بالحكم في موضوع ذلك الحكم للزوم الدور ، ولا في مثله أو ضدّه إذا كانا في رتبة واحدة ، للزوم المحالين من اجتماع المثلين أو الضدّين ، وأمّا أخذه في مرتبة متأخّرة فلا يلزم فيه شيء منهما ، وقد مرّ بك إجماله ، ويأتيك تفصيله إن شاء الله.
  هذا ، وقد عرفت أنّ اعتبار القطع قد يكون باعتبار أنه صفة نفسيّة كالحبّ والبغض ، وقد يكون باعتبار أنه كاشف معتبر عن الواقع ، وعلى كلّ منهما قد يعتبر على نحو كونه تمام الموضوع ، وقد يعتبر على أنه جزء له ، فالأقسام ـ على ما يقال ـ أربعة وإن كنت في ريب من إمكان بعضها ، كالمأخوذ على نحو تمام الموضوع على وجه الطريقية ، لأنه إذا لم يكن للمقطوع به دخل في الحكم فما معنى الطريق إليه ؟ بل إمكان المأخوذ جزءا للموضوع من هذا القسم أيضا