ما بينهم من خلافات في النزعات والاتجاهات يقدرون للحسين (ع) مكانته من الإسلام وصلاته بجده صاحب الرسالة وقد سمعوا منه الكثير الكثير مما كان يقوله فيه وفي اخيه الحسين وكيف كان يعامه في مجالسه العامة والخاصة ، ورأوه احيانا وكأن الغيب قد تكشف له عن مصيره يبكي لحالة ولما يجري عليه ، وكانوا يبكون لبكائه ، فليس بغريب اذا ألهب مصرعه على النحو الذي وقع عليه المشاعر وأرهف الاحاسيس وأطلق الألسن وترك في نفوس المسلمين اثرا حزينا دامياً يجمع القلوب حول هذا البيت المنكوب :
                                       وأي رزية عدلت حسينا        غـداة  تبينه كفا iiسنان
    نعم ليس بغريب اذا استعظم الناس على اختلاف ميولهم ونزعاتهم هذا التنكيل الشائن بعترة الرسول الامين (ص) وسلالته وفلذات كبده وقرة عينه ورأوا فيه كفرانا لحقه وتعريضا لغضبه وامتهانا لكرامته وقال قائلهم :
مـاذا  تـقولون اذ قال النبي لكم        مـاذا  فـعلتم وأنـتم اخر iiالامم
بـعترتي وبـأهلي بـعد iiمفتقدي        نصف اسارى ونصف ضرجوا بدم
ما كان هذا جزائي اذ نصحت iiلكم        ان تـخلفوني بشر في ذوي iiرحم

  فبهذا وأمثاله قالت النائحات في جميع العواصم والبلاد الاسلامية يندبن الحسين ومن قتل معه من بنيه واخوته وأنصاره ويبكن لمصارعهم وما جرى لهم من حفيد هند وأبي سفيان وجلاديه وانطلقت الالسن الشاعرة ترثيه وتصور أسف النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وهو في قبره وحزنه العميق على سبطه واحتجاجه على أمته التي لم تحفظ له حقاً وترع له حرمة وتلقي على الامويين مسؤلية جريمتهم ومروقهم من الدين وانتهاكهم لجميع الحرمات والمقدسات .

من وحي الثورة الحسينيّة _ 78 _

  لقد هال الناس هذا الحادث الجلل حتى الامويين انفسهم فأقض المضاجع وأذهل العقول وارتسم في الاذهان حتى اصبح الشغل الشاغل للجماهير وحديث النوادي ومسرحا خصباً للتخيلات وادعى الناس في المدينة غيرها ان الجن كانت تنوح على الحسين وانهم سمعوا هاتفا يقول كما جاء في الطبري وابن الاثير :
ايـها القاتلون جهلا iiحسينا        ابـشروا بـالعذاب iiوالتنكيل
كل اهل السماء يدعو عليكم        مـن نـبي ومـلاك iiوقبيل
قد لعنتم على لسان بن داود        ومـوسى  وصاحب iiالانجيل
  وراحوا يتصورون لمدة شهرين او اكثر كأن الحيطان ملطخة بالدماء ساعة تطلع الشمس حتى ترتفع كما نص على ذلك الطبري في تاريخه .
  ورووا عن النوار زوجة خولي بن يزيد الاصبحي انها قالت لزوجها ليلة دخل الكوفة برأس الحسين وأدخله عليها : لقد جاء الناس بالذهب والفضة وجئتني برأس الحسين ، وكان قد وضعه تحت اجانة في صحن الدار فقامت من فراشها غضبى وخرجت الى الدار فرأت نوراً يسطع مثل العمود من السماء إلى الاجانة وطيوراً بيضاء تتهاوى من السماء وترفرف حولها .
  كما استغل الشعراء هذا الحادث المفجع فرووا حوله شتى الاحاديث وصاغوها بألوان شعرية دامية يصدرها قلب مكلوم ثائر حزين يدعو الى الثورة العارمة بعنف وصرامة ويسجل تلك الاحزان العلوية بأسف ولوعة مناديا يالثارات الحسين وغلبت على الأدب الشيعي والشعر الشيعي وبخاصة العراقي منه هذه النزعة الحزينة الباكية ، وغدوا امام ادب تبعثه عاطفتان بارزتان عاطفة الحزن وعاطفة الغضب تصدره الاولى حزينا باكيا وتبعثه الثانية قويا ثائراً ومن هذه النماذج التي حفظها لنا تاريخ تلك

من وحي الثورة الحسينيّة _ 79 _

  الفترة ما رواء الرواة عن عبدالله بن الحر الجعفي ، الذي زار المعركة بعد ايام من حدوثها وهو يتلوى اسفا ولوعة ويتمنى لو انه وفق لنصرته والاستشهاد بين يديه وأنشد على قبر الحسين ( عليه السلام ) :
يـقول امـير غـادر حـق iiغـادر        الا  كـنت قاتلت الحسين بن iiفاطمه
فـيـا  نـدمي ألا اكـون iiنـصرته        الا كــل نـفس لا تـسدد iiنـادمه
وانـي لانـي لـم اكـن من iiحماته        لـذو حـسرة مـا ان تفارق iiلازمه
سـقى  الله ارواح الـذين iiتـآزروا        عـلى  نصره سقيا من الغيث iiدائمه
وقـفت عـلى أجـداثهم iiومـجالهم        فـكاد الحشى ينقض والعين iiساجمه
لعمري لقد كانوا مصاليت في الوغى        سـراعا  الى الهيجا حماة iiخضارمه
تـأسوا  عـلى نصر ابن بنت iiنبيهم        بـأسيافهم  اسـاد غـيل iiضراغمه
ومـا  ان رأى الـراؤن افضل منهم        لـدى  الموت سادات وزهرا قماقمه
أتـقـتلهم ظـلما وتـرجو iiودادنـا        فـدع خـطة لـيست لـنا iiبملائمه
لـعمري  لـقد راغـمتمونا iiبقتلهم        فـكم نـاقم مـنا عـليكم ونـاقمه
اهــم مـرارا ان اسـير iiبـجحفل        الـى  فـئة زاغت عن الحق ظالمه
فـكـفوا والا زرتـكـم iiبـكـتائب        اشـد  عـليكم من زحوف iiالديالمه
  ومن هؤلاء الذين أحسوا بأخطار تلك الجريمة النكراء رضي بن منقذ العبدي فقال :
ولـو  شـاء ربي ما شهدت iiقتالهم        ولا جعل النعماء عندي ابن جابر (1)

---------------------------
1 ـ لقد كان كعب بن جابر احد جنود الجيش الذي شارك في حرب الحسين ( عليه السلام ) ، فقالت له زوجته بعد ان رجع من المعركة اعن علي ابن فاطمة وقلت سيد القراء وكان قد قتل برير سيد القراء في الكوفة لقد اتيت عظيما من الأمر والله لا اكلمك من رأسي كلمة ابدا ، فأجابها بأبيات يفتخر فيها بفعله وضمنها بيتاً يذكر فيه انه انقذ رضي بن منقذ من القتل حيث أعانه على قتل خصمه .

من وحي الثورة الحسينيّة _ 80 _

لـقد كان ذاك اليوم عارا iiوسبة        تـعيره الابـناء بـعد iiالمعاشر
فـيا ليت اني كنت من قبل iiقتلة        ويوم حسين كنت في رمس قابر
  لقد أحس المسلمون على اختلاف ميولهم ميولهم واتجاهاتهم بالندم والخيبة لخذلانه وعدم مناصرته ، وحتى الذين قاتلوه وقادوا المعركة ضده كانوا يبكون ويندبون مصيرهم السيء فقد جاء عن عمر بن سعد الذي قاد تلك المعركة انه كان يقول : لا تسل عن حالي فانه لم يرجع غائب عن منزله بأشر مما رجعت به فلقد قطعت القرابة القريبة وارتكبت الامر العظيم وحتى ان يزيداً بكى ونعدم على قتله وكلما ذكر الحسين كان يقول : وما عليّ لو احتملت الاذى وأنزلت الحسين معي في داري وحكمته فيما يريد وان كان علي وهن في سلطاني حفظاً لرسول الله ورعاية لحقه وقرابته من رسول الله لعن الله ابن مرجانة فانه اضطره وقد سأله ان يضع يده في يدي او يلحق بثغر من الثغور حتى يتوفاه الله فلم يجبه الى ذلك فبغضني الى قلوب المسلمين بقتله وزرع لي في قلوبهم العداوة فأبغضني البر والفاجر مالي ولابن مرجانة لعنه الله وغضب عليه .
  وحينما علم ملك الروم بتلك المجزرة غضب لذلك وكتب إلى يزيد كتاباً جاء فيه : لقد قتلتم نبيا او ابن نبي ظلما وعدوانا على حد تعبير البيهقي في كتابه المجالس والجسادي ، وقال عثمان بن زياد شقيق عبيد الله : والله لوددت انه ليس من بني زياد رجل الا وفي انفه خزامة الى يوم القيامة وان حسينا لم يقتل .
  والى جانب تلك الآثار السيئة النفسية التي خلفتها تلك المجزرة الرهيبة في نفوس الجماهير المسلمة ، فلقد كان لها اعظم الاثر في تقويض الدولة الأموية وعدم الاطمئنان اليها واستغلها اعداء اهل البيت كابن الزبير وأمثاله وجعل يندد على يزيد والامويين ويرثي الحسين وأصحابه ويلعن

من وحي الثورة الحسينيّة _ 81 _

  اهل الكوفة لخذلانهم اباه ويزيد بن معاوية وجميع من اشترك في قتاله ويقول : أبعد الحسين نطمئن إلى هؤلاء القوم ونصدق لهم قولا ، اما والله لقد قتلوه طويلاً بالليل قيامه كثيراً بالنهار صيامه أحق بما هم فيه منهم وأولى في الدين والفضل .
  لقد استغل ابن الزبير مصرع الحسين وراح يندبه ويتباكى عليه في حين لم يكن في العالم الإسلامي احد أثقل عليه من الحسين ( عليه السلام ) ولم يكن معاوية ويزيد ابنه أشد عداء للبيت العلوي من ابن الزبير وكان ذلك معروفاً لدى عامة المسلمين لان مواقفه من امير المؤمنين وتحريضه عليه في البصرة وسواها لا تزال ماثلة لهم وبالإضافة إلى ذلك فلقد اشترك هو وطلحة في التغرير بعائشة وأخرجاها من البيت الذي أمرها الله ان تقر فيه الى البصرة لتقود المعركة ، وقد قال فيه وفي ابيه امير المؤمنين : ما زال الزبير منا اهل البيت حتى خرج ولده عبدالله ، وكان وجود الحسين في مكة حائلا بينه وبين الاتصال بالناس وقال له ابن عباس بعد ان يئس من اقناع الحسين بعدم التوجه الى العراق : قرت عينك يا ابن الزبير بخروج الحسين إلى العراق .
  لقد أقر الحسين عين الزبير وهيأ له بخروجه من مكة المناخ المناسب لغرس أطماعه ولم يبق على الساحة غيره فالتف حوله المكيون وغيرهم وبخاصة بعد تلك المجزرة التي ادمت قلوبهم وألهبت مشاعرهم وأصبحوا يدركون ان الاخطار باتت تهددهم وتطاردهم من كل جانب ومكان .
  لقد كان موقف ابن الزبير من مصرع الحسين ( عليه السلام ) اشبه ما يكون بموقف معاوية من مصرع عثمان بن عفان وهما كما يبدو من تاريخهما من معدن واحد في الدجل والنفاق والاجرام واستعمال الدين غشاء للتضليل والتمويه عندما تدعو الحاجة ، لقد كان بن هند يتمنى ان يقتل عثمان خلال ثورة المهاجرين والأنصار عليه ويعمل بكل ما لديه من وسائل الاجرام من اجل ذلك ليتخذ من قتله اداة للتشنيع على علي ( عليه السلام )

من وحي الثورة الحسينيّة _ 82 _

  والمطالبة بالخلافة وكان بتمنى لعائشة كان تقتل في البصرة ليشنع بقتلها على امير المؤمنين كما صارحها بذلك خلال زيارته للمدينة بعد ان تم له الاستيلاء على السلطة .
  اما ابن الزبير فلم يكن شيء من الدنيا أحب من خروج الحسين من مكة إلى العراق ومن المصير الذي انتهى اليه وكان يرغبه في الخروج إلى العراق والاستجابة لطلب اهل الكوفة بأسلوب مليء بالمكر والدهاء وحينما بلغه نبأ مقتله ووجد المسلمين على ما بينهم من خلاف في الاتجاهات يتململون لما جرى عليه ويندبونه ويلعنون أمية وأشياعها طابت نفسه واطمأن لمصيره وراح يتباكى على الحسين ويردد فضله وما جرى عليه في مجالسه واجتماعاته ويندد بالأمويين وجرائمهم تجاوباً مع شعور الجماهير ورغباتهم دجلاً ونفاقا ليعبر من وراء ذلك الى السلطة التي كان يتمناها واستطاع بهذا الاسلوب الماكر ان يستحوذ على العدد الأكبر من مسلمي الحجاز الذين كانوا يبحثون عن بديل للأمويين وأصبح الناس يقولون ، كما جاء في رواية الطبري : ليس لها بعد الحسين غير ابن الزبير وتمت له البيعة في الحجاز بسبب ما جرى للحسين وبنيه واخوته وأسرته من قتل وتمثيل وسبي وامتهان لعترة الرسول وكرامته وتوالت الانتفاضات في مختلف انحاء العالم الإسلامي ضد الامويين وأنصارهم وشعار الثائرين فيما بينهم من خلاف في الاتجاهات يا لثارات الحسين .
  ولم تخمد ثورة في مكان إلا لتقوم ثورة اخرى في مكان آخر بسواعد الشيعة وشعارهم الوحيد يا لثارات الحسين .
  لقد كانت تلك المجزرة ذا حدين استفاد منها اعداء الحسين كابن الزبير الذي استغلها في الحجاز للتشهير بيزيد والأمويين وجعل يتباكى ويتظاهر بالحزن على الحسين وأصحابه حتى اجتمع الناس عليه والتفوا من حوله ، كما ايقظت شيعة الحسين وجعلتهم يشعرون بأخطائهم وتقصيرهم وتخاذلهم عنه وعن ابيه وأخيه وانضمن اليهم جميع العناصر

من وحي الثورة الحسينيّة _ 83 _

  المناوئة للأمويين من الموالي وغيرهم واتفقوا جميعاً على صيحة واحدة تستر وراءها اغراضهم المختلفة يا لثارات الحسين ، فكان لهذه الصيحة الصدى الواسع في جميع الأوساط الإسلامية الذي اقلق الظالمين وزعزع عروشهم وقوض دعائهم دولتهم في المشرق العربي وأصبحوا لعنة على لسان الاجيال إلى قيام يوم الدين وباء الحسين وحده بالفخر الذي لا فخر مثله في تاريخ بني الإنسان وحسبه انه وحده في هذه الدنيا الشهيد بن الشهيد وأب للمئات من الشهداء والقدوة لكل ثائر على الظلم والظالمين وفراعنة العصور في كل مكان وزمان .

من وحي الثورة الحسينيّة _ 84 _

لمحات عن حياة العقيلة قبل معركة كربلاء
  بعد هذه اللمحات عن مواقفها من معركة كربلاء وما تلاها من الاحداث الجسام التي صمدت فيها العقيلة كالطود الشامخ وضعضعت كبرياء اولئك الجلادين وقلبت الدنيا على رؤوسهم ، وقبل الحديث عن مرقدها ارى من الوفاء لحقها العظيم عليّ وعلى كل من آمن برسالة جدها وأبيها وأخويها التي كانت تجسدها في جميع مواقفها من الطغاة والحاكمين ان نشير ولو بصورة موجزة عن المراحل التي مرت بها في صباها وشبابها وأمومتها تلك المراحل التي أهلتها وأعدتها لان تكون في عداد العظماء من أبطال التاريخ ومن طلائعهم بعد ابيها واخوتها .
  لقد كانت ولادتها في مطلع جمادي الاولى من السنة الخامسة لهجرة جدها من مكة إلى المدينة كما جاء في بعض المرويات ، وجاء في بعضها ان ولادتها كانت في مطلع شعبان من السنة السادسة بعد أخويها الحسن والحسين ( عليه السلام ) ، ولما ولدت جاءت بها امها الزهراء الى ابيها وقالت له : سمها يا ابا الحسن ، فقال : ما كنت لأسبق جدها رسول الله في تسميتها وكان غائباً عن المدينة يومذاك ، ولما رجع من سفره سأله امير المؤمنين

من وحي الثورة الحسينيّة _ 85 _

  عن اسمها ، فقال على حد تعبير الراوي : ما كنت لأسبق خالقها في اسمها ، فهبط عليه الأمين جبرائيل وقال له : ان الله قد اختار لها اسم زينب ، وأخبره كما يدعي الراوي بما يجري عليها من المصائب فبكى النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وقال : من بكى لمصاب هذه كان كمن بكى لمصاب أخويها الحسن والحسين .
  وكانت تكنى كما يدعي الشيخ فرج القطيفي في كتابه المرقد الزينبي بأم كلثوم وأم الحسن ، وتلقب بالصديقة الصغرى وعقيلة بني هاشم على لسان جماعة وعلى لسان آخرين عقيلة الطالبيين الى غير ذلك من الصفات الفاضلة التي تغلب على الاسم احيانا .
  لقد ولدت الحوراء زينب في بيت لا شيء فيه من متع الدنيا ولهوها وزخرفها ورأت النور في ذلك البيت الطاهر الذي ضم أباها سيد الوصيين وأمها سيدة نساء العالمين وأخويها ريحاتني رسول رب العالمين .
  ولدت في بيت كان النبي لا يشغله عنه شاغل ولا ينساه في ليله ونهاره وكلما دخله يقبّل من فيه من أحفاده ويشمهما ويبتسم لهما وينعم فيه بالسكينة والاطمئنان ، في ذلك البيت ولدت الحوراء ورضعت من ثدي الطهر والفضيلة بضعة الرسول الاعظم ودرجت مع اخويها سيدي شباب اهل الجنة وأخذت العلم عن ابيها باب مدينة العلم ورأت جدها الرسول ممثلا في امها فاطمة بجميع صفاته ومزاياه ، وحينما فقدت امها في السنة السادسة من عمرها قالت : يا أبتاه يا رسول الله الان فقدناك فقداً لالقاء بعده ، وهي تعني بذلك انها بفقد امها التي كانت تجسد أباها قد فقدت جدها ايضاً .
  لقد انعكست صفات الزهراء سيدة نساء العالمين ومزاياها في نفس ابنتها عقيلة بني هاشم وظهرت واضحة جلية في زهدها وعبادتها وصبها في الشدائد ، وقال من تحدث عنها من الرواة : انها لم تدخر شيئاً من

من وحي الثورة الحسينيّة _ 86 _

  يومها لغدها وتمضي عامة لياليها بالتهجد وتلاوة القرآن ، وحتى في ليلة الحادي عشر من المحرم وهي تتلوى من آلام تلك المجزرة الرهيبة واخوتها صرعى مجزرين كالاضاحي لم تدع صلاة الليل وتلاوة القرآن ، وقد تحدثنا عن صبرها وشجاعتها وبعض مواقفها الخالدة التي كانت ولا تزال من اغنى المواقف البطولية بالقيم والمثل العليا في تاريخ الابطال .
  لقد بقيت زينب ابنة علي مع امها ست سنوات وفي هذه المرحلة من طفولتها كانت ترى امها الزهراء تقوم للصلاة والعبادة حتى ينقضي الشطر الاكبر من الليل وتبيت طاوية وتطعم ما عندها الايتام والمساكين وتلبس الثياب الخلقة البالية وتكسو الفقراء جديد الملابس ، ورآها سلمان الفارسي مرة فبكى وقال : ان قيصر وكسرى بناتهما في السندس والحرير وابنة محمد رسول الله في تلك الثياب البالية .
  وبلا شك في ان تلك الصور التي كانت تشاهدها العقيلة وهي في هذا السن من طفولتها قد انعكست في نفسها ورافقتها حتى النفس الاخير من حياتها لان مشاهدات الاطفال وما يحيط بها في المراحل الاولى من حياتهم وما يمر عليهم في سن الطفولة تترك آثاراً في نفوسهم ترافقهم في الغالب ما داموا بين الاحياء .
  ويؤكد علماء النفس ان الطفل في السنة الثالثة من عمره تبدأ مرحلة التوافق بينه وبين بيئته ومرحلة التمييز بين الالفاظ والمعاني ، وان نموه العقلي في هذه المرحلة يتجه به إلى كشف ما يحيط به مما يرى ويسمع وهذا الكشف يترك آثاراً تعمل عملها في نفس الطفل ترافقه إلى اخر يوم من حياته .
  هذا بالإضافة إلى ان السيدة زينب سلام الله عليها بعد وفاة امها الزهراء عاشت برعاية ابيها امير المؤمنين الذي كان يجسد جدها الرسول من جميع نواحيه بين أخويها الحسن والحسين ( عليه السلام ) وتولت حضانتهم

من وحي الثورة الحسينيّة _ 87 _

  امرأة من كرام النساء وأفاضلهن وهي امامة بنت زينب بنت رسول الله وكان قد تزوجها امير المؤمنين ( عليه السلام ) بعد وفاة الصديقة الزهراء ( عليها السلام ) بوصية منها ، وجاء في وصيتها له كما ترويها جميع الآثار ، وأوصيك يا ابن العم ان تتزوج بعد وفاتي من امامة ابنة اختي فانها ستكون لولدي مثلي ، وبالفعل فلقد كانت امامة كما كانت ترجوه منها خالتها من ناحية عطفها ورعايتها لأولادها بالإضافة إلى ما كانوا ينعمون به من رعاية ابيهم الذي كان يلقنهم من اسرار الكون وغوامضه ، وظلت العقيلة في رعاية ذلك البيت الكريم بيت النبوة والإمامة إلى ان تجاوزت سن الطفولة الى مطلع الصبا والشباب ، ونساء المسلمين يومذاك كان من عادتهن ان يخرجن ليلا لزيارة قبر النبي وأداء فريضة العشاء إلى جواره كما كان يفعل الرجال ثم يرجعن الى بيوتهن وملامح السرور والبهجة بادية على وجوههن وأرادت العقيلة ان تخرج لزيارة قبر جدها والصلاة إلى جواره كما يفعل النساء ، ولكن والدها لم يشأ لها ان تخرج كما يخرج غيرها من النساء والمسجد مملوء بالزائرين والمصلين من الرجال فكان يخرج معها بعد ان يعود الزائرون الى بيوتهم ويخرج الحسن والحسين عن يمينها وشمالها ويتقدمهم هو ليخمد ضوء القناديل اذا وجد في مرقد جدها احد من الرجال ، وذات ليلة ارادت ان تخرج في اول الليل مع الزائرات اللواتي كن يخرجن لأداء الصلاة فخرج يتقدمها ليخفت ضوء المصابيح ، وفجأة أحس المصلون من الرجال والنساء ان ضوء المصابيح اخذ يخفت واحداً بعد واحد خفوتا ظاهراً وعلى عجل وظل يضيق ويضعف حتى شمل المسجد كله ضوء مختنق ولم تبق من الضوء الا ومضات ضئيلة توشك ان تنطفىء فيعم الظلام المسجد والحرم من كل جوانبهما فتطلعت العيون الأشعث بن قيس الكندي كما جاء في بعض المرويات ، ففي بعض الأيام الغاضبة لتتعرف من هو الذي أضعف تلك المصابيح واحداً بعد واحد ولم يترك منها سوى ومضات ضئيلة لا تجديهم شيئاً ، ولما عرفوه تركوه يفعل

من وحي الثورة الحسينيّة _ 88 _

  ما يشاء لانه لا يفعل غير الصواب ، وراحت العيون تتطلع لتعرف الاسباب التي حملته على ذلك فرأت أشباحاً ثلاثة قد تقدمت نحو قبر النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وما ان وصلوا اليه حتى وقفوا إلى جانبه لفترة طويلة في خشوع وتضرع ثم رجع الثلاثة عن القبر الشريف يمسحون دموعهم وانصرفوا باتجاه باب الحرم راجعين الى بيت ابيهم الكريم ، وتقدم امير المؤمنين ( عليه السلام ) نحو المصابيح يفك خناقها ويعلي أضوائها ، وكان الثلاثة الذين تقدموا نحو الحرم في ستر ذلك الضوء الخامد اولاده الحسن والحسين وبينهما ابنته زينب ارادت ان تزور قبر جدها في الوقت الذي يجتمع فيه الزائرون فتقدمها ليخمد الضياء ومضت اليه بين أخويها حتى لا يرى شخصها احد من الناس .
  وبقيت العقيلة في ذلك البيت الكريم في رعاية ابيها وأخويها وخالتها امامة وزودة ابيها أسماء بنت عميس التي لم تكن بأقل عطفا وحنوا على اولاد فاطمة من امهما والتي احتضنتها لتكون زوجة لولدها عبدالله بن جعفر بعد سنوات قليلات .

من وحي الثورة الحسينيّة _ 89 _

زواجها من عبدالله بن جعفر
  لما بلغت الحوراء مبلغ الزواج وتخطت عهد الطفولة طلبها الكثيرون من الاشراف وكان الامام يردهم برفق ولين لانه كان كما يبدو قد صمم على زواجها من ابن اخيه عبدالله بن جعفر الطيار ، كما كان النبي يرد خاطبي امها الزهراء ليزوجها من ابن عمه اول القوم اسلاما وأكثرهم جهاداً وتضحية في سبيله بأمر من الله سبحانه ، وكان ممن خطب الحوراء الاشعث بن قيس الكندي كما جاء في بعض المرويات ، ففي بعض الايام والإمام ( عليه السلام ) جالس في داره دخل عليه رجل بَيِّن الطول عليه مسحة من الجمال ومظهر من مظاهر العنف والبطش ، وكان قد صار على ابواب الكهولة وبدأ يخطو نحو الكبر ، فوقع نظره على فتاة قد اضاء صباها ولمعت محاسنها ، وهي تدرج بين يدي ابيها ، وحينما رأته الفتاة قد دخل على حين غفلة اسرعت الى غرفة في الدار عجلى تتعثر في أذيالها لاسيما وقد رأته ينظر اليها وتكاد نظراته تستبق خطواتها خطواتها المسرعة ، وكان قد ملأ عينيه منها قبل ان تغيب عنه وأعجب بحسنها وشمائلها ، وأحسن ما رأت عيناه من الخفرات الحسان .

من وحي الثورة الحسينيّة _ 90 _

  وكان الرجل في خمول وضعة في اوساط المسلمين ، وإلى جانب ذلك فاتكا شجاعا جميلا ، وهو أخمل حسباً وأوضع نسبا إذا قيس حسبه ونسبه بالقرشيين فضلا عن اهل هذا البيت الذين بلغوا القمة في كل ما يتفاضل فيه الناس من كل نواحيهم ، ولكن الذي جرأه على الحديث مع امير المؤمنين بأمر من هذا النوع ان الخليفة الأول ابن ابي قحافة كان قد تلطف به وزوجه من اخته أم فروة فجرأته هذه المصاهرة على التطلع الى بنات الانبياء والاوصياء .
  وما كادت الحوراء زينب تصل إلى داخل البيت بتلك السرعة الخاطفة حتى قال الاشعث لعلي ( عليه السلام ) : من هذه الفتاة يا ابا الحسن ، فرد عليه قائلا : انها ابنتي زينب ابنة الزهراء ، فقال له : زوجنيها يا ابا الحسن ، فاستخف به امير المؤمنين ( عليه السلام ) وقال له : لقد غرك ابن ابي قحافة بنفسك اذ زوجك اخته أم فروة وأصبحت لا تنظر لنفسك الا من زاوية هذه المصاهرة ، ناسيا اصلك ونسبك ومكاتك الوضيعة في نفوس العرب والمسلمين ، وأصبحت تطمع بالفواطم والعواتك من بنات هاشم وعبد المطلب (1) .
  وقد حمله الصلف والغرور على ان يرد على امير المؤمنين بقوله : لقد زوجتم من هو أخمل مني حسباً وأوضع مني نسباً وهو المقداد بن عمر المعروف بالمقداد الاسود ، فرد عليه امير المؤمنين قائلا : ذاك رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) قد فعله وهو أعلم بما فعل ولئن عدت إلى مثلها لأسوأنك .
  لقد كان الأشعث فظا غليظاً ثقيلاً على اكثر المسلمين لغلظته وجفوته

---------------------------
1 ـ الفواطم جمع فاطمة وقد اصبح كالعلم على مجموعة من الهاشميات فهن فاطمة الزهراء وفاطمة بنت اسد وفاطمة بنت الحمزة وغيرهن ، كما وان العواتك جمع عاتكة وهو اسم لمجموعة من نساء الهاشميين البارزات منهن عاتكة بنت عبد المطلب عمة النبي ، وأم زينب بنت جحش التي تزوجها النبي بعد ان طلقها زيد بن حارثة .

من وحي الثورة الحسينيّة _ 91 _

  وجرأته على الحق وكان من المتآمرين على امير المؤمنين بعد ان تولى الخلافة ويعمل لمصلحة معاوية وقد لعنه علي ( عليه السلام ) اكثر من مرة وزجره وحاول ان يضع حدا لتجاوزاته ومؤامراته وأخيراً اشترك في قتله مع عبد الرحمن بن ملجم وجماعة ممن سخرهم معاوية لذلك كما وان ابنته جعدة قد حققت لمعاوية ما كان يتمناه ويعمل من اجله فدست السم إلى الحسن بن علي ( عليه السلام ) بعد ان اغراها معاوية بالمال ووعدها بأن يزوجها ولده الخليع يزيد بن ميسون ، واشترك ولده قيس بن الأشعث في جميع الجرائم التي ارتكبها معاوية وولده يزيد مع العلويين وشيعتهم .
  لقد بقيت العقيلة في بيت ابيها والخطاب يتوافدون عليه من هنا وهناك ، وكان يردهم وكأنه كان قد صمم على امر ينتظر الوقت المناسب لتنفيذه لا سيما وقد سمع النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) يقول وهو ينظر إلى اولاد علي وجعفر قبل ان يتجاوزوا سن الطفولة بناتنا لبنينا وبنونا لبناتنا كما جاء في بعض المرويات عنه .
  واذا لم يكن النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) جدا لأولاد جعفر فانه لهم بمنزلة الأب والجد وهو وليهم ولا شيء أحب إلى الجد من اقتران أحفاده بعضهم ببعض لانه يعتبر ذلك تأكيداً لنسله وامتدادا لنوع من انواع وجوده ، ولا بد وأن يكون عليا ( عليه السلام ) الذي كان في كل مراحل حياته يقتدي بأقوال الرسول وأفعاله قد سمع من الرسول هذه المقالة واعتبرها تأكيداً لما كان يضمره نحو اطفال اخيه جعفر شهيد مؤتة وبطل الإسلام الخالد وكان كفيلهم وولي امرهم بد استشهاد اخيه ، فنفذها كما أراد رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ورد جميع الخطاب الذين كانوا يتوافدون عليه من هنا وهناك للحصول على شرف المصاهرة الذين يحصلون عليه بزواجهم من ابنة علي والزهراء ، ولا احسب ان احدا كان اقرب إلى قلب علي ( عليه السلام ) بعد اولاده من اولاد اخيه جعفر بن ابي طالب وعلى رأسهم عبدالله بن جعفر وكانوا في عداد

من وحي الثورة الحسينيّة _ 92 _

  اولاده ونشأوا في بيته وبخاصة بعد ان تزوج من امهم أسماء بنت عميس بعد استشهاد زوجها جعفر الطيار ووفاة ابي بكر عنها .
  وقبل ان نتابع الحديث عن زينب وزوجها عبدالله في بيتهما الجديد كزوجين كريمين من اكرم ما عرفه بيت ابي طالب بعد بيت ابيها واخوتها ، ارى من الوفاء لبيت ابي طالب الذي كان له الفضل الأكبر على الإسلام والمسلمين كما تؤكد جميع الشواهد التي مر بها الإسلام ورسول الإسلام في مراحله الأولى انه لولا بيت ابي طالب لكان مصير محمد ورسالته كمصير زكريا ويحيى وغيرها من الانبياء الذين كانوا يتعرضون للقتل والمصاردة من بني اسرائيل قبل ان تنتشر رسالاتهم ، وقديما قال الجاحدون لنبوة شعيب كما حكى الله عنهم في كتابه : ولولا رهطك لرجمناك .
  لقد وقف ابو طالب وزوجته فاطمة بنت اسد وأولادهم إلى جانبه منذ اعلان الدعوة وأعلن أبو طالب بأنه سيمنع عنه كل من تحدثه نفسه بالأساءة اليه ، والنيل منه ، كما اوقفت زوجته فاطمة بنت اسد نفسها لخدمته في اليوم الذي مات فيه جده عبد المطلب ، وكانت كما وصفها هو صلى الله عليه وآله تفضله على أولادها في المأكل والملبس وفي كل شيء وظل يذكرها ويترحم عليها حتى النفس الأخير من حياته ، وسبق ولداها علي وجعفر جميع المسلمين إلى الإسلام والإيمان برسالة محمد فكان أولهم علي بعد خديجة الكبرى ، ومر أبو طالب وعلي يصلي وحده إلى جانب محمد ( صلى الله عليه وآله وسلم ) فقال لولده جعفر : صل جناح ابن عمك فأسلم بعد اخيه علي بأمر من ابيه وظل ابو طالب حياته بعد مبعث النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) يدافع ويناضل عن رسالة محمد بكل طاقاته وامكانياته ويقول :
ولقد علمت بأن دين محمد        من  خير اديان البرية iiدينا

  ومع ذلك فان رواة السنة ومحدثيهم الذين كانوا ولا يزالون يجترون

من وحي الثورة الحسينيّة _ 93 _

  مرويات أذناب الأمويين وصنائعهم الذين سخروهم للكذب والأفتراء على الإسلام وحماة الإسلام ودعاته المخلصين هؤلاء يدعون بأن أبا طالب مات كافرا برسالة محمد وأبا سفيان بن حرب العدو اللدود للإسلام ولكل من آمن به وجاهد في سبيله مات مؤمناً في حين انه كان في اكثر مواقفه لا يتحاشى المجاهرة بشركه ووثنيته ، وقد ذكرنا سابقا ان ابا طالب لو لم يكن ابا لعلي عليه السلام لكان من الصديقين ومن خيار المسلمين .

لمحات عن إسلام جعفر الطيار وهجرته ووفاته
  وأعود لأكرر انه قبل الحديث عن زواجهما ارى من الوفاء لهذا البيت الكريم ان اشير ولو بايجاز لجعفر الطيار ثالث المسلمين ووالد عبدالله بن جعفر الذي اختار له النبي عقيلة بني هاشم لتكون زوجة له كما ذكرنا .
  لقد كان جعفر الطيار اكبر من علي ( عليه السلام ) بعشر سنين كما يدعي اكثر المؤرخين ولم يسبقه احد إلى الإسلام سوى خديجة الكبرى وعلي وكان هو ثالث المسلمين والمصلين وقد ذكرنا ان أباه راى عليا يصلي عن يمين النبي فقال لولده جعفر : صل جناح ابن عمك ومضى امد غير قصير وليس في مكة من يعبد الله سبحانه سوى محمد وعلي وخديجة بنت خويلد وجعفر بن أبي طالب فكان النبي يتقدمهم للصلاة في اوقاتها وعلي عن يمينه وجعفر عن يساره وخديجة من خلفه ، وكان جعفر يشبه النبي في خلقه وخلقه كما وصفه النبي بذلك كما كان يكنيه ابا المساكين .
  وجاء عن ابي هريرة انه كان يقول : لقد كنت اسأل الرجل من اصحاب رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) عن الآية من القرآن وأنا أعلم بها منه ولكني كنت اسأله

من وحي الثورة الحسينيّة _ 95 _

  ليطعمني شيئا ، وكنت ان سألت جعفر بن أبي طالب لم يجبني حتى يذهب بي الى بيته فيطعمني ثم يجيبني .
  وجاء في الحديث عن رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) انه قال : لقد اختارني الله في ثلاثة من اهل بيتي انا سيدهم لقد اختارني وعليا وجعفر والحمزة بن عبد المطلب ، وفي المجد الأول من الاستيعاب ، خلال حديثه عن جعفر بن ابي طالب ان النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) قال : دخلت الجنة البارحة فإذا جعفر يطير مع الملائكة .
  لقد كان جعفر بن ابي طالب من المهاجرين الأولين الى الحبشة حين وسعت قريش حلقة الاضطهاد على المسلمين في مكة وكان خروجه بايعاز من النبي (صلى الله عليه وآله وسلم ) فخرج هو وزوجته وجماعة من المسلمين المستضعفين من مكة فراراً بدينهم وولدت له فيها عبدالله وعونا ومحمداً ، ولقي المسلمون من النجاشي ملك الحبشة من الرعاية وكرم الضيافة والإحسان ما أثار غضب قريش وتخوفها من هذه الظاهرة التي ستكون بداية لتحول جديد في تاريخ العلاقات بينهم وبين الاحباش الذين كانوا على ارتباط معهم في مختلف مرافق الحياة ، وبقاء المسلمين الى جوارهم سيضاعف من هذا التحول وربما يؤدي الى توتر الاجواء بينهما وبالتالي الى القطيعة بين البلدين المتجاورين ، وقد تصبح الحبشة مقرا لعدد كبير من المسلمين ومنطلقا لدعوتهم التي تساندها دولة لا طاقة لهم على مقابلتها ، هذه الاحتمالات كلها اصبحت تراود القرشيين بعد ان بلغتهم حفاوة الاحباش بالمسلمين فراحوا يعملون بكل ما لديهم من الوسائل لايجاد فجوة بين الطرفين واعادة العلاقات بينهما إلى سابق عهدها واخراج المسلمين من بلادهم ، فجمعوا مبلغاً من الأموال ليشتروا بها أنفس الهدايا وأثمنها للملك وبطارقته ، وبعثوا بالهدايا مع عمرو بن العاص وعمارة بن الوليد شقيق خالد بن الوليد ، وكتبوا الى النجاشي يحذرونه من المسلمين

من وحي الثورة الحسينيّة _ 96 _

  ويطلبون منه ان يردهم الى مكة ، وكان ابن العاص حديث عهد بالزواج من احدى المكيات الفاتنات في جمالهن فلم يستطع فراقها فمضت معه في تلك الرحلة وفي الطريق كانت تتحدث إلى عمارة ويتغازلان وكان فتى مديد القامة جميلا بهي الطلعة فتعلقت به وتعلق بها واخيرا هجرت فراش زوجها وارتمت في فراشه ، وعبثا حاول ابن العاص ان يضع حدا لشذوذها وبالتالي بقيت بينهما يشتركان بالاستمتاع بها (1) .
  وسبقت أنباء هذه الفضيحة إلى المهاجرين والنجاشي ، وحاول عمارة وابن العاص ان يشحنا النجاشي وبطارقته على الإسلام والمسلمين ، وباءت جهودهما بالفشل الذريع بعد ان تولى جعفر بن ابي طالب الحديث مع النجاشي وبطارقته وحدثهم عن ابن عمه محمد ورسالته وقرأ عليهم بعض الآيات من القرآن ومن سورة مريم ، كما ذكر المؤلفون في سيرة الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ورجع الوفد فاشلا إلى قريش يتعثر بأذيال الخيبة وبقي النجاشي على كره واحسانه الى المهاجرين ، كما بقي جعفر بن ابي طالب ومن معه في الحبشة إلى السنة السابعة من هجرة الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وفيها رجع إلى المدينة ، والنبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) كان قد اتجه لحرب اليهود في خيبر واستولى عليها بعد ان اقتحم امير المؤمنين حصونهم وجندل أبطالهم وفرسانهم وفي اليوم الذي رجع فيه النبي إلى المدينة دخلها جعفر بمن معه من المسلمين فقام إليه النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وقبله ما بين عينيه وقال : ما ادري بأيهما أشد فرحا بقدوم جعفر او بفتح خيبر وقال له : انت أشبه النسا بخَلقي وخُلقي وقد خلقتَ من الطينة التي خلقتُ منها ، كما جاء في ذخائر العقبى للمحب الطبري وغيره من مجاميع الحديث .
  وأعطاه وزوجته أسماء من غنائم خيبر مثل ما اعطى غيره من

---------------------------
(1) محمد رسول الحرية للشرقاوي .

من وحي الثورة الحسينيّة _ 97 _

  المسلمين الذين اشتركوا في فتحها ، وبقي مع النبي بعد رجوعه الى المدينة أشهرا معدودات وبدخول السنة الثامنة للهجرة بعث رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) احد اصحابه وهو الحارث بن عمير بكتاب الى ملك بصري من ارض الشام ، فلما بلغ الرسول مؤتة تعرض له شرحبيل الغساني احد ولاة الروم وقتله ولم يقتل غيره ممن كان يبعثهم رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) الى الملوك والامراء ، فاشتد ذلك على النبي ( صلى الله عليه آله وسلم ) وجهز جيشاً من ثلاثة آلاف مقاتل بقيادة جعفر بن ابي طالب وعين اثنين غيره للقيادة على التوالي فيما لو قتل جعفر وهما زيد بن حارثة وعبدالله بن رواحه ، وانطلق الجيش الى مشارف الشام يجد في سيره وحينما بلغت أخباره ملك الروم أوعز الى جيوشه بأن ترابط على الحدود بين بلاد الشام والحجاز وحشد عليها اكثر من مائة الف مقاتل ، وكانت المعركة الحاسمة على الحدود في مؤتة فأخذ الراية جعفر وتقدم بمن معه من المسلمين وحمل على تلك الحشود التس ملأت الصحراء بعددها وعتادها فانهزموا بين يديه وظل يطاردهم حتى قطعت يمينه وشماله وخر صريعاً .
  وجاء في بعض المرويات انه لما اشتد القتال ، نزل عن فرسه وعقرها فكان كما قيل اول من عقر فرسه في الإسلام ومضى يقاتل راجلا ويقول :
يـا  حبذا الجنة iiواقترابها        طـيبة وبـارد iiشـرابها
والروم روم قد دنا عذابها        كـافرة بـعيدة iiانـسابها
علي اذ لاقيتها خرابها
  وبعد ان استشهد وجدوا في مقدم جسده اكثر من تسعين ضربة وطعنة وجزع من في المدينة لقتله وبكاه المسلمون وبخاصة اهله وذووه ، فلما رأى ذلك رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) قال : لا تبكوا على اخي بعد اليوم ، ان له جناحين يطير بهما مع الملائكة في الجنة فسمي ذا الجناحين والطيار .

من وحي الثورة الحسينيّة _ 98 _

  وجاء عن عبدالله بن جعفر ان قال : لقد دخل علينا رسول الله بعد موت ابي وقال : لا تبكوا على اخي بعد اليوم ودعا بالحلاق فحلق رؤوسنا وقال : اما محمد فشبيه عمنا ابي طالب ، وأما عبدالله فشبيه خَلقي وخُلقي ، ثم اخذ بيدي وقال : الله احفظ جعفرا في اهله وبارك لعبد الله في صفقة يمينه ، ولما ذكرت امي يتمنا قال لها : لا تخافي عليهم انا وليهم في الدنيا والآخرة (1) .
  وظل أيتام جعفر في رعاية رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وعمهما علي بن ابي طالب وحضانة امهم أسماء بنت عميس ، وكانت امرأة كريمة شريفة ذات رأي حازم ومعرفة وتجربة وحجة ، بيان على حد تعبير عبد العزيز سيد الاهل في كتابه زينب بنت علي لا تصبر على مذلة ولا تبيت على ضيم هاجرت في كتابه زينب بنت علي لا تصبر على مذلة ولا تبيت على ضيم هاجرت في سبيل الله هجرتين اولاهما مع المسلمين الاولين وزوجها إلى الحبشة ، وثانيتهما الى المدينة مع زوجها جعفر الطيار فأكرمها رسول الله وعلمها دعاء تدعو به في الشدائد ، وقال لها : اذا نزل بك كرب فقولي الله الله ربي لا اشرك به ، فلم يصبها كرب بعد ذلك الا أزاحته عنها بدعاء رسول الله كما جاء عنها .
  وحدث بعد ان رجعت مع زوجها الى المدينة ان رآها عمر بن الخطاب فقال لها :
  يا حبشية سبقناكم بالهجرة ، ولعله كان يريد ان يتباهى عليها في هجرته مع الرسول وصحبته له او ممازحا لها كما يدعي بعض الرواة ، وما كاد عمر ينتهي من حديثه حتى انبرت له قائلة : لعمري لقد كنتم مع رسول الله يطعم جائعكم ويعلم جاهلكم وكنا البعداء عنه نتحمل الأهوال والشدائد حرصا على ديننا ، وأضافت الى ذلك : والله لأتين رسول الله وأذكرنّ له مقالتك يا ابن الخطاب .

---------------------------
(1) فقه السيرة للشيخ محمد غزالي ص 281 .

من وحي الثورة الحسينيّة _ 99 _

  ومضت مسرعة الى النبي وقالت : يا رسول الله ان رجالا من اصحابك يتفاخرون علينا ويتباهون ويزعمون اننا لم نكن من المهاجرين الاولين ، فرد عليها الرسول قائلا : بل لكم هجرتان هاجرتم الى الحبشة ونحن في مكة وهاجرتم الى المدينة كما هاجرنا ولا فضل لاحد عليكم .
  لقد تزوجت بعد مصرع زوجها من ابي بكر فأولدها محمد بن بكر وخلال تلك المدة القصيرة التي قضتها معه لم تكن تفارق اولادها ولا بيت فاطمة الزهراء وقد روت الحديث عنها وحينما توفيت الزهراء ( عليها السلام ) تولت غسلها وتكفينها ، وبعد وفاة زوجها ابي بكر تزوج منها وضمها امير المؤمنين الى عياله مع ولدها محمد بن ابي بكر ، وكان طفلا في الرابعة من عمره وبقيت في بيته هي وأولادها ، وأولدها ولداً اسماه يحيى كما جاء في المجلد الاول من حياة الحيوان (1) .
  وبقي عبدالله منذ طفولته الى ان شب وترعرع هو واخوته الى جانب عمه امير المؤمنين مع اولاده يتلقى منه العلم والمعرفة ويغذيه بأخلاق الإسلام وتعاليم الإسلام حتى اصبح من كرام المسلمين وأعلامهم ، وكان كما يصفه المؤرخون أسخى رجل بين المسلمين في عصره . وكان هو وزينب في سن متقاربة فلما بلغاً سن الشباب وراح الطلاب يتوافدون على بيت علي ( عليه السلام ) يطمعون في مصاهرته لم يجد لابنته كفأ غير ابن اخيه عبدالله فزوجه منها ، ولكن هذا الزواج لم يفرق بين زينب وأبيها واخوتها ، وبلغ من تعلم الإمام ( عليه السلام ) بابنته وابنة اخيه ان بقيا معه يراعهما ويتفقدهما كما كانا قبل الزواج وحينما تولى أمور المسلمين وانتقل من المدينة إلى الكوفة انتقلا معه ووقف عبدالله إلى جانب عمه في جميع

---------------------------
(1) انظر زينب بنت علي لعبد العزيز سيد الأهل عن المجلد الأول من حياة الحيوان ص 228 .

من وحي الثورة الحسينيّة _ 100 _

  مواقفه النضالية قبل خلافته وبعدها من الناكثين والقاسطين والمارقين ، وما كادت زينب تنتقل إلى بيتها الجديد المتواضع في اثاثه ومعيشته حتى اصبح المال يتدفق عليه ، ولكنه كان يهب ويعطي عطاء من لا يخشى الفقر ولا يدخر شيئاً من يومه لغده وأصبح الجود والسخاء من اشهر صفاته وألقابه وسماه الناس بحر الجود ، وحدث الرواة ان جماعة كانوا يتحدثون عن كرام المسلمين وأجوادهم ، فادعى جماعة ان أجودهم عبدالله بن جعفر فطلب منهم الباقون دليلاً على ذلك ، فجاءه احدهم وهو على راحلته يريد ضيعة له خارج المدينة فتعلق بركابه وقال له : انا من ابناء السبيل ولا املك شيئاً ، فأخرج عبدالله رجله من الركاب ونزل عن راحلته وقال له : ضع رجلك في الركاب واستوي على الناقة وخذ ما في الحقيبة ، واياك ان تخدع عن السيف فانه من سيوف علي بن ابي طالب ثم ترك الرجل ورجع ماشيا الى بيته في المدينة ، ولما وضع الرجل رجله في الركاب واستوى على الناقة ومد يده الى الحقيبة وجدها مملوءة بمطارف الخز وفيها بالإضافة إلى ذلك اربعة آلاف دينار ، وكان سيف علي ( عليه السلام ) أنفس من المطارف وأجل من الدنانير على حد تعبير الراوي ولما رأى القوم صنيعه قالوا : صدق من سماه بحر الجود (1) .
  وبلغت شهرته في الاوساط الإسلامية حدا ضاقت بها نفوس اعداء الطالبيين وقلوبهم الحاقدة ولم تعد تتسع لمديحه وثناء الجماهير عليه فراحوا يحاولون تزييف سخائه وتسميته سرفاً لا يقره الإسلام .
  فقد حدث الرواة عن الشعبي ان عبدالله بن جعفر الطيار دخل على معاوية وعنده ولده يزيد بن ميسون ، فجعل يزيد يعرض بعبدالله

---------------------------
(1) زينب بنت علي لعبد العزيز عن ص 60 من المستجدات في فعلات الاجواد .