ولكن يردّه تصريح جماعة من كبار العلماء المحقّقين ـ وفيهم الأخباريون الفطاحل ـ بأنّ أحاديث التحريف أخبار آحاد ، لا يمكن الركون إليها والإعتماد عليها في هذه المسألة الإعتقادية .
  فقد قال شيخ الطائفة : ( غير أنّه رويت كثيرة من جهة الخاصّة والعامّة بنقصان كثير من آي القرآن ، ونقل شيء منه من موضع إلى موضع ، طريقها الآحاد التي لا توجب علماً ولا عملاً ، والأولى الإعراض عنها وترك التشاغل بها ) .
  وقال الشيخ المجلسي عن الشيخ المفيد : ( إنّ الأخبار التي جاءت بذلك أخبار آحاد يقطع على الله تعالى بصحتها ) .
  وكذا قال غيرهما من أعلام الطائفة .
  على أنّ كلام هذا المحدّث نفسه يدل على أنّ دعواه تلك بعيدة كلّ البعد عما نحن بصدده ، لأنّه يدّعي التواتر في أحاديث التحريف بمختلف معانيه كلاماً ومادة وإعراباً .
  ومن المعلوم : إنّ طائفة من الأحاديث جاءت ظاهرة في أنّ المسلمين حرّفوا القرآن من جهة المعنى دون اللفظ ، وحملوا آياته على خلاف مراد الله تعالى ، وإن طائفة اخرى من الأحاديث جاءت ظاهرة في وقوع التحريف في القرآن نتيجة اختلاف القراءات ، إلى غير ذلك من طوائف الأحاديث الراجعة إلى تحريف القرآن ، وتبقى الطائفة الدالّة منها على التحريف بمعنى ( نقصان القرآن ) وهو موضوع بحثنا ، وقد ذكرنا نحن طائفة من تلك الأحاديث ونبّهنا على ما فيها .
  2 ـ الشيخ المجلسي في كتابه ( مرآة العقول ) فإنّه قال بعد حديث قال إنّه

التحقيق في نفي التّحريف عن القرآن الشريف _ 87 _

  موثق :
  ( ولا يخفى أنّ هذا الخبر وكثير من الأخبار الصحيحة صريحة في نقص القرآن وتغييره ، وعندى أنّ الأخبار في هذا الباب متواترة معنىً ، وطرح جميعها يوجب رفع الإعتماد على الأخبار رأساً ، بل ظنّي أنّ الأخبار في هذا الباب لا تقصر عن أخبار الإمامة ، فكيف يثبتونها بالخبر ) .
  ويردّه ما ذكره هو في ( بحار الأنوار ) وقد تقدّم نصّة .
  على أنّ قوله : ( وكثير من الأخبار الصحيحة صريحة في نقص القرآن ) غريب ، فإنّ السيد المرتضى قال : ( نقلوا أخباراً ضعيفة ظنّوا صحتها لا يرجع بمثلها عن المعلوم المقطوع على صحته ) .
  كما أنكر صحتها الطوسي شيخ الطائفة والمحدّث الكاشاني ، بل جاء في العبارة التي نقلناها عن بحاره ( إنّ الأخبار التي جاءت بذلك أخبار آحاد لا يقطع على الله تعالى بصحّتها ) .
  ومن قبلهم قال شيخ المحدّثين ما نصّه : ( إعتقادنا أنّ القرآن الذين أنزله الله على نبيّه صلّى الله عليه وآله وسلّم هو ما بين الدفّتين وما في أيدي الناس ، ليس بأكثر من ذاك ... ومن نسب إلينا أنّا نقول إنّه أكثر من ذلك فهو كاذب ) .
  ولو كانت أحاديث النقيصة صحيحة ومقبولة لما قال الصدوق ذلك كما لا يخفى .
  وأما قوله : ( وطرح جميعها يوجب رفع الإعتماد على الأخبار رأساً ) ففيه : إنّ قبول جميعها أيضاً يوجب رفع الإعتماد على الأحاديث رأساً ، على أنّه رحمة الله قد حكم في أكثر الأحاديث المخرّجة في ( الكافي ) والمفيدة نقص القرآن إمّا بالضعف وإمّا بالإرسال ، كما تقدّم ذلك كلّه .
  ومن العجيب قوله : ( بل ظنّي ... ) إذ إثبات الإمامية ليس دليلة منحصراً

التحقيق في نفي التّحريف عن القرآن الشريف _ 88 _
  بالأحاديث حتى يقال ذلك ، وكيف أنّ تلك الأحاديث لا تقصر عن أحاديث الإمامة ؟ وهل يقصد الكثرة في الورود ؟ أو القوة في الدلالة ؟ أو الصحة في الأسانيد ؟
  3 ـ المحدّث الحر العاملي ، فإنّه قال بعد أن روى حديثين عن تفسير العياشي :
  ( أقول : هذه الأحاديث وأمثالها دالّة على النصّ على الأئمة عليهم السّلام وكذا التصريح بأسمائهم ، وقد تواترت الأخبار بأنّ القرآن نقص منه كثير وسقط منه آيات لمّا تكتب ) .
  ويكفي لدفع دعوى التواتر هذه نصوص العلماء ، وما تقدّم نقله عنه في الفصل الأول .
  ولعلّ قوله رحمة الله بعد ذلك : ( وبعضهم يحمل تلك الأخبار عن أنّ ما نقص وسقط كان تأويلاً نزل مع التنزيل ، وبعضهم على أنّه وحي لا قرآن ) يدلّ على أنّه لا يعتقد بوقوع التحريف في القرآن الشريف .
  وكأنّه إنّما يدّعي التواتر في هذه الأحاديث للإحتجاج بها على وجود النصوص العامة على إمامة الأئمة عليهم السّلام ، ولذا فإنّه قال : ( وعلى كلّ حال ، فهو حجّة في النصّ ، وتلك الأخبار متواترة من طريق العامة والخاصة ) (1) .
  والخلاصة : إنّه لا مجال لدعوى التواتر في أحاديث تحريف القرآن بهذا المعنى المتنازع فيه .

--------------------
(1) إثبات الهداة بالنصوص والمعجزات 3 : 43 .

التحقيق في نفي التّحريف عن القرآن الشريف _ 89_
الشبهة الثانية اختلاف مصحف علي عليه السّلام مع المصحف الموجود
  وتفيد طائفة من أحاديث الشيعة (1) أنّ علياً أمير المؤمنين عليه السّلام اعتزل الناس بعد وفاة رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم ليجمع القرآن العظيم ، وفي حديث رواه الشيخ بن إبراهيم القمي ـ رحمة الله تعالى ـ في تفسيره : إنّ عمله ذاك كان بأمر من النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم ، وقال : لا أرتدي حتى أجمعه ، حتى روي أنّه عليه السّلام لم يرتد رداءه إلاّ للصلاة إلى أن فرغ من هذه المهمّة .
  وأضافت تلك الأحاديث ـ ومنها الحديث الثالث من الأحاديث المتقدّمة وحديثان رواهما الشيخ أبو منصور الطبرسي في ( الإحتجاج ) ـ إنّه عليه السلام حمل ذاك المصحف الذي جمعه إلى الناس ، وأخبرهم بأنّه الذي نزل من عندالله سبحانه على النبي الكريم صلّى الله عليه وآله وسلّم ، ولكنّ الناس ردوّه وأعرضوا عنه زاعمين أنّهم في غنىً عنه ، فعند ذلك قال الإمام عليه السّلام : إنّكم لن تروه بعد اليوم .
  والذي يستنتجه الناظر في هذه الأحاديث مخالفة ما جمعه الإمام عليه السّلام مع القرآن الموجود ، ولو لم يكن بعض ما فيه مخالفاً لبعض ذلك المصحف لما حمله إليهم ، ولما دعاهم إلى تلاوته والأخذ وجعله القرآن المتّبع لدى جميع المسلمين .

--------------------
(1) وكذا روايات أهل السنّة ، لاحظ : أنساب الأشراف 1 : 587 ، طبقات ابن سعد 2 : 338 ، الإتقان في علوم القرآن 1 : 204 ، كنز العمال 2 : 588 وغيرها .

التحقيق في نفي التّحريف عن القرآن الشريف _ 90 _
   ومن هنا تأتي الشبهة في هذا المصحف الذي بين أيدينا ، إذ لا يشك مسلم في أعلميّة الإمام عليه السّلام بالكتاب ودرايته بحقائقه وأسراره ودقائقه .
  ولكنّ هذه الشبهة تندفع ـ بعد التسليم بصحّة هذه الأخبار ـ بما ذكره جماعة من أنّ القرآن الكريم كان مجموعاً على عهد النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم ، ولم يكن في عهده مبثوثاً متفرقاً هنا وهناك حتى يحتاج إلى جمع ، ويؤيد ذلك أنّ غاية ما تدلّ عليه هذه الأحاديث هو الخالفة بين المصحفين إجمالاً ، وهي كما يحتمل أن تكون بالزيادة والنقصان في أصل الآيات والسور المنزلة ، كذلك يحتمل أن تكون :
  أولاّ : بالإختلاف في الترتيب والتأليف ، كما يدلّ عليه الحديث في ( الإرشاد ) و ( روضة الواعظين ) وذهب إليه جماعة ، فقد قال السيد الطباطبائي : ( إنّ جمعه عليه السلام القرآن وحمله إليهم وعرضه عليهم لا يدلّ على مخالفة ما جمعه لما جمعوه في شيء من الحقائق الدينيّة الأصليّة أو الفرعية ، إلاّ أن يكون في شيء من ترتيب السور أو الآيات من السور التي نزل نجوماً ، بحيث لا يرجع إلى مخالفة في بعض الحقائق الدينيّة .
  ولو كان كذلك لعارضهم بالإحتجاج ودافع فيه ولم يقنع بمجرد إعراضهم عمّا جمعه واستغنائهم عنه ، كما روي عنه عليه السلام في موارد شتى ، ولم ينقل عنه عليه السلام فيما روي من احتجاجاته أنّه قرأ في أمر ولايته ولا غيرها آية أو سورة تدلّ على ذلك ، وجبّهم على إسقاطها أو تحريفها ) (1) .
  وثانياً : بالإختلاف بالزيادة والنقصان من جهة الأحاديث القدسيّة ، بأن يكون مصحف الإمام عليه السّلام مشتملاً عليها ، ومصحفهم خالياً عنها ، كما

--------------------
(1) الميزان 12 : 119 .

التحقيق في نفي التّحريف عن القرآن الشريف _ 91 _
  ذهب إليه شيخ المحدّثين الصدوق حيث قال : ( وقد نزل من الوحي الذي ليس بقرآن ما لو جمع إلى القرآن لكان مبلغة مقدار سبع عشرة ألف آية ، وذلك قول جبرئيل عليه السّلام للنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم : إنّ الله تعالى يقول لك : يا محمّد دار خلقي : ومثل قوله : عش ما شئت فإنّك ميت ، وأحبب ما شئت فإنّك مفارقه ، واعمل ما شئت فإنّك ملاقيه ، وشرف المؤمن صلاته بالليل وعزّه كفّ الأذى عن الناس ) .
  قال : ( ومثل هذا كثير ، كلّه وحي وليس بقرآن ولو كان قرآناً لكان مقروناً به وموصولاً إليه غير مفصول عنه ، كما كان أمير المؤمنين عليه السّلام جمعه ، فلما جاء به قال : هذا كتاب ربّكم كما أنزل على نبيّكم ، لم يزد فيه حرف ولا ينقص منه حرف ، قالوا : لا حاجة لنا فيه ، عندنا مثل الذي عندك ، فانصرف وهو يقول : فنبذوه وراء ظهورهم واشتروا به ثمناً قليلاً ، فبئس ما يشترون ) (1) .
  وثالثاً : بالإختلاف بالزيادة والنقصان من جهة التأويل والتفسير ، بأن يكون مصحفه عليه السلام مشتملاً على تأويل الآيات وتفسيرها ، والمصحف الموجود خال عن ذلك ، كما ذهب إلى ذلك جماعة .
  قال الشيخ المفيد : ( ولكنّ حذف ما كان مثبتاً في مصحف أمير المؤمنين عليه السّلام من تأويله وتفسير معانيه على حقيقة تنزيله ، وذلك كان ثابتاً منزلاً ، وإن لم يكن من جملة كلام الله تعالى الذي هو القرآن المعجز ، وقد يسمّى تأويل القرآن قرآناً ، قال الله تعالى : ( ولا تعجل بالقرآن من قبل أن يقضى إليك وحيه وقل ربّ زدني علماً ) فسمّى تأويل القرآن قرآناً ، وهذا ما ليس فيه بين

--------------------
(1) الاعتقادات : 93 .

التحقيق في نفي التّحريف عن القرآن الشريف _ 92 _
  أهل التفسير اختلاف ، وعندي أنّ هذا القول أشبه ) (1) .
  وقال المحدّث الكاشاني : ( ولا يبعد أيضاً أن يقال : إن بعض المحذوفات كان من قبيل التفسير والبيان ، ولم يكن من أجزاء القرآن ، فيكون التبديل من حيث المعنى ، أي : حرّفوه وغيّروه في تفسيره وتأويله ، أعني : حملوه على خلاف ما هو به ، فمعنى قولهم عليهم السّلام : ( كذا أنزلت ) أنّ المراد به ذلك ، لا أنّها نزلت مع هذه الزيادة في لفظها ، فحذف منها ذلك اللفظ .
  وممّا يدلّ على هذا ما رواه في ( الكافي ) بإسناده عن أبي جعفر عليه السّلام أنّه كتب في رسالته إلى سعد الخير : وكان من نبذهم الكتاب أن أقاموا حروفه وحرّفوا حدوده ، فهم يروونه ولا يرعونه ، والجهال يعجبهم حفظهم للرواية والعلماء يحزنهم تركهم للرعاية ... الحديث .
  وما رواه العامّة : إنّ علياً عليه السلام كتب في مصحفه الناسخ والمنسوخ . ومعلوم أنّ الحكم بالنسخ لا يكون إلاّ من قبيل التفسير والبيان ، ولا يكون جزءاً من القرآن ، فيحتمل أن يكون بعض المحذوفات أيضاً كذلك ) (2) .
  وإلى ذلك ذهب السيد الخوئي (3) .
  وقال الزنجاني : ( ويظهر من بعض الروايات إنّ علياً أمير المؤمنين عليه السّلام كتب القرآن وقدّم المنسوخ والناسخ ، خرّج إبن أشته في المصاحف عن ابن سيرين : إنّ علياً عليه السّلام كتب في مصحفه الناسخ والمنسوخ ، وإن ابن سيرين قال : تطلبت ذلك وكتبت فيه إلى المدينة فلم أقدر عليه ، وقال ابن حجر : قد ورد

--------------------
(1) أوائل المقالات في المذاهب المختارات ، وكذا قال في غيره كما سيأتي عن تاريخ القرآن .
(2) الصافي 1 : 46 ، علم اليقين : 130 .
(3) البيان : 197 .

التحقيق في نفي التّحريف عن القرآن الشريف _ 93 _
  عن علي عليه السّلام أنّه جمع القرآن على ترتيب النزول عقب موت النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم وخرّجه ابن أبي داود .
  وفي شرح الكافي عن كتاب سليم بن قيس الهلالي : إنّ علياً عليه السّلام بعد وفاة النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم لزم بيته وأقبل على القرآن يجمعه ويؤلّفه فلم يخرج من بيته حتى جمعه كلّه ، وكتب على تنزيله الناسخ والمنسوخ والمحكم والمتشابه .
  ذكر الشيخ الإمام محمد بن محمد بن النعمان المفيد في كتاب الإرشاد والرسالة السروية : إنّ علياً قدّم في مصحفه المنسوخ على الناسخ ، وكتب في تأويل بعض الآيات وتفسيرها بالتفصيل .
  يقول الشهرستاني في مقدّمة تفسيره : كان الصحابة ـ رضي الله تعالى عنهم ـ متفقين على إنّ علم القرآن مخصوص لأهل البيت عليهم السّلام إذا كانوا يسألون علي بن أبي طالب هل خصصتم أهل البيت دوننا بشيء سوى القرآن ؟ فاستثناء القرآن بالتخصيص دليل على إجماعهم بأنّ القرآن وعلمه وتنزيله وتأويله مخصوص بهم ) (1) .
  وقال بعض الأعلام من أهل السنّة : إنّ قرآن على كان يشتمل على علم كثير (2) .
  بل عن الإمام عليه السّلام نفسه أنّه قال للزنديق : انّه أحضر الكتاب كملاً مشتملاً على التنزيل والتأويل ، والمحكم والمتشابه ، والناسخ والمنسوخ ، لم يسقط

--------------------
(1) تاريخ القرآن : 25 ـ 26 .
(2) التسهيل لعلوم التنزيل 1 : 3 .

التحقيق في نفي التّحريف عن القرآن الشريف _ 94 _
  منه حرف ) (1) .
  ويؤيّده : ما اشتهر من أن الذي جاءهم به كان مشتملاً على جميع ما يحتاج إليه الناس حتى أرش الخدش (2) .

الشبهة الثالثة القرآن في عهد الإمام المهدي عليه السّلام
  ومن الأحاديث المتقدّمة وغيرها ما يفيد : أنّ القرآن الكريم على عهد الإمام الحجّة المهديّ المنتظر السّلام يختلف عما هو عليه الآن ، وهذا يفضي ـ بلا ريب ـ إلى الشك في هذا القرآن الموجود .
  ولكنّ هذه الشبهة أيضاً مندفعة ، لعلمنا بضعف تلك الأحاديث ، ومخالفتها للكتاب والسنّة والإجماع .
  على أنّ المستفاد من هذه الأحاديث إختلاف قراءة أهل البيت عليهم السّلام مع القراءات المشهورة ، إلاّ إنّهم كانوا يمنعون عن تلك القراءة ، ويأمرون شيعتهم بقراءة القرآن كما يقرأ الناس حتى يظهر المهدي عليه السّلام (3) .
  وبعد ، فليس لأصحاب الشبهة إلاّ أن يزعموا أنّ القرآن على عهده عليه السلام هو نفس ما جمعه الإمام أمير المؤمنين ـ كما هو ظاهر بعض الأحاديث ـ إذ القول بأنّه غيره قطعاً ، فالشبهة هذه إذاً مبتنية على الشبهة السابقة ، وهي

--------------------
(1) الصافي 1 : 42 .
(2) بحر الفوائد 99 عن شرح الوافية .
(3) نصّ على ذلك فقهاؤنا ـ رضي الله تعالى عنهم ـ في موسوعاتهم الفقيهة في مبحث القراءة من كتاب الصلاة ، ولهم هناك بحوث طويلة .

التحقيق في نفي التّحريف عن القرآن الشريف _ 95_
  مندفعة باندفاعها .
  فالصحيح أنّ القرآن في عهده لا يختلف عن هذا القرآن الموجود من حيث الألفاظ ، وعلى ذلك علماؤنا ـ رضي الله عنهم ـ بل قد صرّح شارح ( الكافي ) بأنّه : ( يظهر القرآن بهذا الترتيب عند ظهور الإمام الثاني عشر ويشهر به ) (1) .

الشبهة الرابعة كائن في هذه الامّة ما كان في الامم السالفة
  إنّ التحريف قد وقع في التوراة والإنجيل ، وقد ورد في الأحاديث عن النبي الكريم صلّى الله عليه وآله وسلّم أنّه : ( كائن في امته ما كان في الامم السالفة ) بل قال المحدّث العاملي ـ بعد أن روى طرفاً من تلك الأحاديث عن أكابر المحدّثين كالصدوق والكليني ـ ( والأحاديث في ذلك كثيرة متواترة بين الشيعة والسنّة ) (2) .
  وقال السيد الطباطبائي : ( هي متضافرة أو متواترة ) (3) .
  ومقتضى المماثلة المذكورة ينبئ عن وقوع التحريف في القرآن الكريم كما وقع في العهدين ، وهذا يوجب الشك في هذا القرآن الموجود بين المسلمين .
  وقد أجاب السيد الخوئي (4) عن هذه الشبهة بوجوه نلخصها ونتكلم عليها فيما يلي :

--------------------
(1) الفصول المهمّة للسيد شرف الدين : 166 .
(2) الإيقاظ من الهجعة بالبرهان على الرجعة : 111 .
(3) الميزان 12 : 120 .
(4) البيان : 220 ـ 221 .

التحقيق في نفي التّحريف عن القرآن الشريف _ 96 _
  الأول : ( إنّ هذه الأحاديث أخبار آحاد لا تفيد علماً ولا عملاً ، ودعوى التواتر فيها جزافية لا دليل عليها ، ولم يذكر من هذه الروايات شيء في الكتب الأربعة ) .
  أقول : ولكنّ إنكار تواتر هذه الأحاديث لا يفيد في الشبهة .
  وقوله : ( لم يذكر ... ) :
  فيه : إنّ منها ما أخرجه الصدوق في ( من لا يحضره الفقيه ) ، فقد جاء فيه في باب فرض الصلاة : ( وقال النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم : يكون في هذه الامة كل ما كان في بني إسرائيل حذو النعل بالنعل ، والقذة بالقذة ) (1) .
  الثاني : لو سلّم تواتر هذه الأحاديث في السّند وصحّتها في الدلالة لما ثبت بها أنّ التحريف قد وقع فيما مضى من الزمن ، فلعلّه يقع في المستقبل زيادة ونقيصة .
  أقول : ولكن تجويز وقوع ذلك سواء في الماضي أو المستقبل ، ينافي ما تقدّم من الأدلّة القويمة والشواهد الرصينة على امتناعه ، لا سيّما وإن الله سبحانه قد وعد وضمن حفظ القرآن إلى يوم القيامة .
  الثالث : إنّ المراد بالمماثلة والمشابهة ليس من جميع الوجوه ، وإنّما المراد بها المماثلة من بعض الوجوه .
  أقول : وبهذا الجواب اكتفى السيد الطباطبائي (2) وهو الصحيح ، فإنّ كثيراً من القضايا التي وقعت في الامم السالفة لم تقع في هذه الامة ، وبعضها لن يقع أصلاً ، ومنها ما سيقع في المستقبل قطعاً .

--------------------
(1) من لا يحضره الفقيه 1 : 203 .
(2) الميزان 12 : 120 .

التحقيق في نفي التّحريف عن القرآن الشريف _ 97 _
الفصل الخامس
الرواة لأحاديث التحريف من الشيعة

التحقيق في نفي التّحريف عن القرآن الشريف _ 99 _
  مقدّمات
  لقد كان بحثنا حتى الآن يدور حول الأحاديث التي وردت في كتب الشيعة الإمامية ، وهي تفيد ـ بظاهرها ـ تحريف القرآن ، بمعنى نقصانه وضياع شيء ممّا نزل على النبي .
  والآن يجدر بنا أن ننظر في الكتب التي أخرجت تلك الأحاديث فيها ، والعلماء الذين رووها ، لنرى مدى صحّة التمسّك بهذه الأحاديث من هذه الجهة .
  وقبل الخوض في البحث يجب أن ننبّه على امور :

1 ـ الرواية أعم من الإعتقاد
  الأول : إنّ رواية الخبر مطلقاً أعمّ من قبوله والإعتقاد بمضمونه ، فقد عني محدّثو الشيعة منذ القرون الاولى بجمع الروايات الواصلة إليهم عن الأئمة ، وتبويبها وتنظيمها ، صوناً لها من الضياع والنسيان وما شابه ذلك ، من غير نظر في متونها وأسانيدها ، ولذا تجد في روايات الواحد منهم ما يعارض ما رواه الآخر ، بل تجد ذلك في أخبار الكتابين بل الكتاب الواحد للمؤلّف الواحد ، وترى المحدّث يروي في كتابه الحديثي خبراً ينصّ على عدم قبول مضمونه في كتابه الفقهي أو الإعتقادي ، لذلك فالرواية أعمّ من القبول والتصديق بالمضمون .
  فلا يجوز نسبة مطلب إلى راوٍ أو محدّث بمجرد روايته أو نقله لخبر يدلّ على ذاك المطلب ، إلاّ إذا نصّ على الإعتقاد به أو أورده في كتاب التزم بصحّة أخباره ،

التحقيق في نفي التّحريف عن القرآن الشريف _ 100 _
  أو ذكره في كتاب صنّفه في بيان اعتقاداته أو فتاواه .
  وهل يوجد عند الشيعة كتاب التزم فيه مؤلّفه بالصحّة من أوّله إلى آخره ؟ الجواب : لا ، وهذا هو الأمر :
  2 ـ لا كتاب عند الشيعة صحيح كلّه
  الثاني : إنّه لا يوجد كتاب واحد من بين كتب الشيعة وصفت أحاديثه جميعها بالصحّة ، وقوبلت بالتسليم والقبول لدى الفقهاء والمحدّثين ، ولذا نجد أنّ أحاديث الشيعة ـ وحتى الواردة في الكتب الأربعة (1) التي عليها المدار في استنباط الأحكام الشرعية ـ قد تعرّضت لنقد علماء الرجال وأئمّة الجرح والتعديل ، فكل خبر أجتمعت فيه شرائط الصحّة ، وتوفّرت فيه مقتضيات القبول اخذ به ، وكلّ خبر لم يكن بتلك المثابة ، ردّ ، أياً كان مخرجه وراويه والكتاب الذي أخرج فيه (2) .
  ولنأخذ مثالاً على ذلك كتاب ( الكافي ) (3) ، الذي هو أهمّ الكتب الأربعة وأوثقها لدى هذه الطائفة ، وهو الذي أثنى عليه العلماء والمحدّثون والفقهاء وتلقّوه بيد الإحترام والتعظيم ، فإنّ العلماء وزّعوا أحاديثه وهي ( 16199) حديثاً على أساس تصنيف الأحاديث إلى الأقسام الخمسة (4) .

--------------------
(1) هي : الكافي للكليني ، من لا يحضره الفقيه للصدوق ، التهذيب والاستبصار للطوسي .
(2) مقباس الهداية في علم الرواية للمامقاني ط مع تنقيح المقال ، ثم نشره بتحقيقه حفيده العلامة الشيخ محمد رضا .
(3) يقع في ثمانية أجزاء : إثنان منها في الاصول ، وخمسة منها في الفروع والثامن الروضة .
(4) وهي على أقسام ، ويراجع للوقوف على تعريف كل قسم واقسامه كتب الدراية لدى الشيعة ككتاب الدراية للشيخ الشهيد الثاني ، والوجيزة للشيخ البهائي وشروح الوجيزة ، ومقباس الهداية لشيخنا الجدّ المامقاني وغيرها .

التحقيق في نفي التّحريف عن القرآن الشريف _ 101 _
  وقد لوحظ أنّ أكثرها عدداً الأحاديث الضعيفة (1) ، ويمكن الإطّلاع على ذلك بمراجعة كتاب ( مرآة العقول في شرح الكافي ) (2) للشيخ المجلسي ، فإنّه شرح الكتاب المذكور على أساس النظر في أسانيده ، فعيّن الصحيح منها والضعيف والموثّق والمرسل ، على ضوء القواعد المقرّرة لتمييز الأحاديث الصحيحة من غيرها .
  وهذا كلّه دليل على أنّ أحاديث ( الكتب الأربعة ) غير قطعيّة الصدور عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم والأئمة عليهم السّلام عند الإمامية ، إلاّ أنّه يبدو أنّ هناك جماعة قليلة ذهبوا إلى القول بذلك ، ولكنه قول مردود :
  قال المحقّق الأكبر الشيخ الأنصاري : ( ذهب شرذمة من متأخري الأخباريين ـ فيما نسب إليها ـ إلى كونها قطعيّة الصدور ) .
  قال : ( وهذا قول لا فائدة في بيانه والجواب عنه إلاّ التحرّز عن حصول هذا الوهم لغيرهم كما حصل لهم ، وإلاّ فمدّعي القطع لا يلزم بذكر ضعف مبنى قطعه ، وقد كتبنا في سالف الزمان في ردّ هذا القول رسالة تعرّضنا فيها لجميع ما ذكروه وبيان ضعفها بحسب ما أدّى إليه فهمي القاصر ) (3) .
  وقال شيخنا الجدّ المامقاني : ( وما زعمه بعضهم من كون أخبارها ـ أي

--------------------
(1) المستدرك للمحدّث النوري 3 : 541 الطبعة القديمة ، ونشرته مؤسّسة آل البيت لإحياء التراث في طبعة محقّقة .
(2) وكذا فعل المحدّث الجزائري في شرح التهذيب ، قال المحدّث النوري : ( والعجب من العلامة المجلسي وتلميذه المحدث الجزائري مع عدم اعتمادهما بهذا النمط الجديد خصوصاً الثاني ، وشدّة إنكاره على من أخذه بنيا في شرحيهما على التهذيب والأول في شرحه على الكافي أيضاً على ذلك فصنعا بهما ما أشار إليه في الرواشح ، ولم أجد محملاً صحيحاً لما فعلا ) المستدرك 3 : 771 .
(3) الرسائل : 67 .

التحقيق في نفي التّحريف عن القرآن الشريف _ 102 _
  الكتب الأربعة ـ كلّها مقطوعة الصدور ، إستناداً إلى شهادات (1) سطّرها في مقدمة الحدائق ، لا وجه له كما اوضحناه في محلّه ) (2) .
  وتبعهما السيد الخوئي حيث قال : ( ذهب جماعة من المحدّثين إلى أنّ روايات الكتب الأربعة قطعيّة الصدور ، وهذا القول باطل من أصله ، إذ كيف يمكن دعوى القطع لصدور رواية رواها واحد عن واحد ، لا سيمّا وأنّ في رواة الكتب الأربعة من هو معروف بالكذب والوضع على ما ستقف عليه قريباً وفي موارده إن شاء الله تعالى ) (3) .
  ومن قبلهم قال السيد المجاهد الطباطبائي بعد كلام طويل : ( وبالجملة : دعوى قطعيّة ما في الأربعة ممّا لا ريب في فسادها ) (4) .
  فهذه الكلمات وغيرها صريحة في عدم قطعيّة صدور أحاديث الكتب الأربعة .
  وأمّا بالنسبة إلى تاريخ تصنيف الأحاديث ، فقد حكى المحدّث البحراني عن جماعة : إنّ أوّل من نوّع الأخبار هو ( العلاّمة ) أو شيخه ( ابن طاووس ) ـ رحمهما الله ـ وأمّا المتقدّمون فكانوا يأخذون بجميع الأخبار المدوّنة في ( الكتب الأربعة ) وغيرها من ( الاصول ) معتقدين بصحتها أجمع ، وهذا ممّا دعا إلى الخلاف بين الأخباريين والمجتهدين (5) .
  وتقدم عن المحدّث النوري تعبيره عن هذا التنويع بـ ( النّمط الجديد ) .

--------------------
(1) أجاب عنها السيد حسن الصدر في شرح الوجيزة في علم الدراية .
(2) مقباس الهداية المطبوع في آخر تنقيح المقال في علم الرجال .
(3) معجم رجال الحديث 1 : 36 .
(4) مفاتيح الاصول للسيد محمد الطباطبائي الحائري : 9 .
(5) الحدائق الناضرة 1 : 14 .

التحقيق في نفي التّحريف عن القرآن الشريف _ 103 _
  فهذان المحدّثان وغيرهما يزعمان أنّ التنويع يختص بالمتأخرين المجتهدين ، وأنّ قدماء الأصحاب كانوا يعتقدون بصحّة أحاديث ( الاصول الأربعمائة ) التي منها الّفت ( الكتب الأربعة ) .
  ولكنّ الظاهر أنّ هذه الدعوى لا أساس لها من الصحّة ، فقد أجاب عنها شيخنا الجدّ ـ رحمة الله تعالى ـ بقوله : ( وقد زعم القاصرين من الأخباريين اختصاص هذا الإصطلاح بالمتأخرين الذين أوّلهم ( العلاّمة ) رحمة الله على ما حكاه جمع منهم الشيخ البهائي رحمة الله في ( مشرق الشمسين ) أو ( ابن طاووس ) كما حكاه بعضهم ، فأطالوا التشنيع عليهم بأنّه اجتهاد منهم وبدعة .
  ولكنّ الخبير المتدبّر يرى أنّ ذلك جهل منهم وعناد ، لوجود أصل الإصلاح عند القدماء ، ألا ترى إلى قولهم : لفلان كتاب صحيح ، وقولهم : أجمعت العصابة على تصحيح ما يصح عن فلان ، وقول الصدوق رحمة الله : كلّ ما صحّحه شيخي فهو عندي صحيح ، وقولهم : فلان ضعيف الحديث ، ونحو ذلك .
  فالصادر من المتأخرين تغيير الإصطلاح إلى ما هو أضبط وأنفع ، تسهيلاً للضبط وتمييزاً لما المعتبر منها عن غيره ) (1) .
  وأمّا قول المحدّث البحراني : ( فأمّا المتقدّمون ... ) ففيه : أنّ الأمر ليس كذلك ، بل ربّما طعن الشيخ المفيد والشيخ الصدوق في بعض أحاديث الشيخ الكيني ، وطعن الشيخ الطوسي في بعض أحاديث الصدوق والكليني (2) .

--------------------
(1) مقباس الهداية في علم الدراية : 32 .
(2) راجع : مفاتيح الاصول ، وأوثق الوسائل ، وقد بحث صاحب هذا الكتاب الموضوع من جميع جوانبه من ص 122 فراجعه فإنّه جدير بالملاحظة .
هذا ، وذهب السيد الخوئي في ( رجاله ) إلى أنّ أخبار الكتب الأربعة ليست قطعية

التحقيق في نفي التّحريف عن القرآن الشريف _ 104 _
   فإذا كان الأمر كذلك فيما بينهم ـ وهم أصحاب الكتب الأربعة ـ فكيف بالمتأخرين منهم المجدّدين لفكرة تنويع الأحاديث ، والنظر في الأسانيد الواردة في كافة الكتب .
  وهذا بحث واسع متشعّب الأطراف نكتفي بهذا المقدار بمناسبة المقام ، فمن أراد التوسّع فيه فليراجع مظانّه من كتب الدراية والرجال .
  والخلاصة : إنّ المحقّقين من الإمامية يبنون على أنّ وجود أيّ حديث في أيّ كتاب من كتب الشيعة لا يبرر بمجرّده الأخذ به والإعتقاد بصحّة مدلوله ، إذ ليس عندهم كتاب التزم فيه مؤلّفه بالصحّة أبداً ، بحيث يستغني بذلك الباحث عن النظر في أسانيد أحاديثه والفحص عن رجاله وما قيل فيهم من الجرح والتعديل .
  وهذا بخلاف أهل السنّة ، فإنّ لهم كتباً سمّوها بـ ( الصحاح ) وأهمها عند أكثرهم ( صحيح البخاري ) اعتقد جمهورهم بصحّة ما اخرج فيها ، وقالوا في كتبهم الرجالية : من خرّج في الصحيح فقد جاز القنطرة ، كما التزم أصحابها وبعض أصحاب ( المسانيد ) في كتبهم بالصحّة .

3 ـ لا تجوز نسبة معتقد صاحب الكتاب إلى الطائفة
  الثالث : إنّه على فرض وجود هكذا وجود لدى الشيعة ، فإنّه لا يجوز أن ينسب معتقد مؤلّفة إلى الطائفة كلّها ، لأنّه قد يكون قوله بصحّة تلك الأخبار أو

--------------------
= الصدور ، بل ليس صحيحاً ، وأثبت أنّ المتقدّمين من المحدّثين أيضاً كانوا يعتقدون نفس هذا الإعتقاد بالنسبة إلى ( الاصول ) و ( الكتب الأربعة ) ، واستنتج من جميع ذلك : أنّ أخبار هذه الكتب لابدّ من النظر في سند كل منها ، فإن توفّرت فيه شروط الحجّية اخذ به وإلاّ فلا ، كما الشيخ المجلسي المحدّث الجزائري بالنسبة إلى ( الكافي ) و ( التهذيب ) .

التحقيق في نفي التّحريف عن القرآن الشريف _ 105 _
  ذهابه إلى أحقّية ذاك المعتقد مبنيّاً على اسس غير صحيحة لدى غيره ، كالقول بقطعيّة صدور أخبار الكتب الأربعة المذكورة سابقاً والمنسوب إلى مجموعة من متأخري الأخباريين ، وهو باطل كما عرفت وستعرف ، فإنّه يستلزم القول بالتحريف ـ لوجود ما يدلّ عليه فيها ، بعد عدم قبول حملها على بعض الوجوه ـ إذن ، لا يجوز إضافة معتقد لأحد العلماء وإن كان في غاية الشهرة والجلالة إلى الطائفة إلاّ في حال موافقة جمهور علماء الطائفة معه فيه ، أو قولهم بصحّة كل ما ورد في ذلك الكتاب ، كما هو الحال عند أهل السنّة بالنسبة إلى الصحاح الستّة والصحيحين بصورة خاصّة .

4 ـ وجود الأخبار الباطلة في الكتب المعروفة
  الرابع : إنّ ممّا لا ريب فيه وجود أحاديث مزوّرة باطلة تسرّبت إلى الآثار الإسلامية بصورة عامّة ، فقد تهاون الصحابة ـ إلاّ القليل منهم ـ في صدر الإسلام في تدوين الأحاديث النبوية ، بل قد امتنع بعضهم من ذلك وكرهه ومنع الآخرين بالأساليب المختلفة ، لأغراض مذكورة ليس هذا موضع إيرادها .
  ثمّ لما أخذوا بالتدوين خبطوا خبط عشواء ، وخلطوا الغثّ بالسمين ، والصحيح بالسقيم ، وأخذوا من أفواه اناس مشبوهين ، وكتبوا عن أفراد كذّابين ، حتى كثرت الأحاديث المدسوسة والموضوعة على لسان النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم ، الأمر الذي علماء الحديث من أهل السنّة إلى وضع كتب تمكنّوا فيها من جمع مقدار كبير من تلك الموضوعات ، ومن ناحية اخرى ألّفوا كتباً أوردوا فيها الأحاديث الصحيحة فحسب ، وذلك بحسب اجتهاداتهم وآرائهم في الرجال وغير ذلك .

التحقيق في نفي التّحريف عن القرآن الشريف _ 106 _
   ولكنّ الواقع أنّ اولئك وهؤلاء لم يكونوا موفّقين كلّ التوفيق في عملهم ذاك ، ولم يكونوا معصومين من الخطأ ، بل لم يكن بعضهم مخلصاً في قيامة بتلك المهمّة ، إذ لم تخل الكتب التي وضعوها لجمع ( الموضوعات ) من الأحاديث الصحيحة ، كما لم تسلم الكتب التي سمّوها بـ ( الصحاح ) من الأحاديث الموضوعة ، هذا حال الأحاديث لدى أهل السنّة باختصار .
  وكذا الحال في أحاديث الإماميّة ، فما أكثر الأحاديث المدسوسة في كتبهم من قبل المخالفين وأصحاب المذاهب والآراء الفاسدة ، ولقد كان قد زمن كل إمام من الأئمة عليهم الصلاة والسلام من يضع الأحاديث عن لسانه وينسبها إليه ، وينشرها بي الشيعة ، ويضعها في متناول أيدي رواتهم ، حتى تسرّبت إلى مجاميعهم الحديثيّة .
  فقد روي عن الإمام الصادق عليه السّلام أنه قال : ( إنّ لكلّ رجل منّا رجل يكذب عليه ) (1) .
  وقال : ( إنا أهل البيت صادقون ، لا تحلو من كذّابٍ يكذب علينا ) (2) .
  وقال : ( لا تقبلوا علينا حديثاً إلا ما وافق القرآن ولسنة أو تجدون معه شاهداً من أحاديثنا المتقدّمة ، فإن المغيرة بن سعيد دسّ في كتب أصحاب أبي أحاديث ... ) (3) .
  ولذا ، فإنّهم عليه السلام جعلوا الكتاب والسنة ميزاناً لأحدايثهم بعرض عليهما ما روي عنهم فما وافقهما اخذ به ، وما خالفهما ردّ على صاحبه .

--------------------
(1) المعتبر في شرح المختصر للمحقّق الحلّي : 2 .
(2) رجال الكشي : 593 .
(3) رجال الكشي : ترجمة المغيرة بن سعيد .

التحقيق في نفي التّحريف عن القرآن الشريف _ 107 _
   فالذي نريد أن نقوله هنا هو : إنّ إحتمال الدسّ والتزوير يدفع حجّيه كلّ خبر ، ويمنع من الإعتماد عليه ، ويفسد إعتباره ( حتى ما كان منها صحيح الإسناد ، فإنّ صحّة السند وعدالة رجال الطريق انّما يدفع تعمّدهم الكذب دون دسّ غيرهم في أصولهم وجوامعهم ما لم يرووه ) (1) .
  وإذ انتهينا ممّا مهّدناه تقول : إنّ الذي أنتجه بحثنا الطويل وفحصنا الدقيق في كتب الشيعة الإمامية هو : أنّ المعروف والمشهور بينهم هو القول بعدم تحريف الكتاب ، فإنّه رأي أعلام هذه الطائفة ، منذ أكثر من ألف سنة حتى يومنا الحاضر ، بين مصرّخ بذلك ومؤلّف فيه ومؤوّل لما ينافيه بظاهره ، بل هو رأي من كتب في الإمامة ولم يتعرّض للتحريف .

نكات في كلام الشيخ الصّدوق
  وإنّ من أهمّ الكلمات في هذا الباب قولاً وقائلاً كلمة الشيخ محمد بن علي ابن بايوية الملقّب بالصدوق المتوفّى سنة ( 381 ) المتقدّمة في ( الفصل الأول ) وذلك :
  أولاً : لقرب عهده بزمن الأئمة عليهم السّلام وأصحابهم ، فلو كان الأئمة وتلامذتهم قائلين بالتحريف لما قال ذلك .
  وثانياً : لكونه من علماء الحديث بل رئيس المحدّثين ، فلو كانت الأحاديث الظاهرة في التحريف مقبولة لدى الطائفة لما قال ذلك .
  وثالثاً : لأنّها كلمة صريحة وقاطعة جاءت في رسالة اعتقادية كتبها على ضوء الأدلّة المتينة من الكتاب والسنّة ، في حال أنّه بنفسه يروي بعض أخبار

--------------------
(1) الميزان في تفسير القرآن 12 : 115 .


التحقيق في نفي التّحريف عن القرآن الشريف _ 108 _
  التحريف في كتبه الحديثيّة مثل ( ثواب الأعمال ) و ( عقاب الأعمال ) .
  ورابعاً : لموافقة الأعلام المتأخرين عنه إيّاه في هذا الإعتقاد ، لا سيمّا الشيخ المفيد الذي كتب شرحاً على عقائد الصدوق وخالفة في كثير من المسائل .
  كر من وافقه من الأعلام
  وكيف ينسب إلى الشيعة قول يتّفق على خلافة :
  أبو جعفر الصدوق (381) .
  والشريف الرضي (406) .
  والمفيد البغدادي (413) .
  والشريف المرتضى (436) .
  وأبو جعفر الطوسي (460) .
  وأبو علي الطبرسي (548) .
  وابن شهر آشوب (588) .
  وابن إدريس الحلّي (598) .
  والعلاّمة الحلّي (726) .
  والزين البياضي (877) .
  والمحقّق الكركي (940) .
  والشيخ فتح الله الكاشاني (988) .
  والشيخ بهاء الدين العاملي (1030) .
  والعلاّمة التوني (1071) .
  والفاضل الجواد . ( من أعلام القرن الحادي عشر ) .

التحقيق في نفي التّحريف عن القرآن الشريف _ 109 _
  والسيد نور الله التستري (1019) .
  والفيض الكاشاني (1094) .
  والشيخ الحر العاملي (1104) .
  والشيخ محمد باقر المجلسي (1111) .
  والسيد علي خان المدني (1118) .
  والسيد الموسوي الخونساري (1157) .
  والسيد بحر العلوم (1212) .
  والشيخ كاشف الغطاء (1228) .
  والسيد الأعرجي الكاظمي ، شارح الوافية (1228) .
  والسيد محمد الطباطبائي (1242) .
  والكرباسي ، صاحب الإشارات (1262) .
  والسيد حسين التبريزي (1299) .
  والسيد مهدي صاحب منهاج الشريعة في الرد على ابن تيميّة (1300) ؟
  وإليه ذهب المتأخرين أمثال :
  المحقّق التبريزي صاحب ( أوثق الوسائل في شرح الرسائل ) .
  والسيد محمد حسين الشهرستاني صاحب ( رسالة في حفظ الكتاب الشريف عن شبهة القول بالتحريف ) .
  والشيخ محمد النهاوندي الخراساني صاحب التفسير .
  والشيخ محمد حسن الآشتياني صاحب حاشية الرسائل .
  والشيخ محمود بن أبي القاسم صاحب ( كشف الإرتياب في عدم تحريف الكتاب ) .

التحقيق في نفي التّحريف عن القرآن الشريف _ 110 _
   والسيد محمد الشهشهاني صاحب ( العروة الوثقى ) .
  والشيخ محمد حسن المامقاني صاحب ( بشرى الوصول ) .
  والشيخ عبدالله المالقاني صاحب ( تنتيح المقال ) .
  والشيخ أبي الحسن الخنيزي صاحب ( الدعوة الإسلامية إلى وحدة أهل السنة والإمامية ) .
  والشيخ محمد جواد البلاغي صاحب (آلاء الرحمن في تفسير القرآن ) .
  والشيخ محمد حسين كاشف الغطاء صاحب ( أصل الشيعة واصولها ) .
  والشيخ عبد الحسين الرشتي النجفي صاحب ( كشف الإشتباه في الرد على موسى جارالله ) .
  والسيد محسن الأمين العاملي صاحب ( نقض الوشيعة في الرد على موسى جار الله ) .
  والسيد عبد الحسين شرف الدين صاحب (أجوبة مسائل جار الله ) .
  والشيخ عبد الحسين الأميني صاحب ( الغدير ) .
  والشيخ آقا بزرك الطهراني صاحب ( تفنيد قول العوام ) .
  والسيد هبة الدين الشهرستاني صاحب ( تنزيه التنزيل ) .
  والسيد محمد هادي الميلاني جدّنا الراحل في فتوى له .
  والشيخ محمد علي الاوردبادي الغروي صاحب ( بحوث في علوم القرآن ) .
  والشيخ أبي الحسن الشعراني صاحب ( الحاشية على الوافي ) .
  والشيخ محمد رضا المظفر صاحب ( عقائد الإمامية ) .
  والسيد محمد حسين الطباطبائي صاحب ( الميزان في تفسير القرآن ) .

التحقيق في نفي التّحريف عن القرآن الشريف _ 111 _
  والسيد روح الله الخميني كما في ( تهذيب الاصول ) .
  والسيد أبي القاسم الخوئي صاحب ( البيان في تفسير القرآن ) .

المحدّثون وأخبار التحريف
  نعم ، هناك في بعض الكلمات نسبته إلى ( المحدّثين ) من علماء الشيعة ، وقد بذلنا الجهد في التحقيق حول مدى صحة هذه النسبة ، وراجعنا ما توفّر لدينا من الكتب والكلمات بإمعان وإنصاف ، فلم نجد دليلاً على ذلك ولا وجهاً مبرّراً له ، بل هو حدس وتخمين أو ذهول عن الواقع إن لم يكن تعصّب .
  والتحقيق : إنّ ( المحدّثين ) من الشيعة الإمامية الرواة لأخبار التحريف على ثلاث طوائف :
  فطائفة يروون من الأخبار الظاهرة في التحريف في كتبهم الحديثية ولا يعتقدون بمضامينها ، بل يؤولونها أو يجمعون بينها وبين ما يدلّ على النفي ببعض الوجوه ، ومنهم من ينصّ على اعتقاده ، بخلافها أو بما يستلزم هذا الاعتقاد ، وعلى رأسهم الشيخ الصدوق .
  وطائفة يروونها ولا وجه لنسبة القول بالتحريف إليهم إلاّ أنّهم يروونها ، وعلى رأسهم الشيخ الكليني ، إن لم نقل بأنّه من الطائفة الاولى .
  وطائفة يروونها وينصّون على اعتقادهم بمداليها وإيمانهم بمضامينها ، وعلى رأسهم الشيخ علي بن إبراهيم القمي ، إن تمت النسبة إليه .
  وبهذا يتبيّن أنّه لا يجوز نسبة القول بالتحريف إلاّ إلى هذه الطائفة الثالثة من ( المحدّثين ) من الإمامية ، وقد وافقهم من شذّ من ( الاصوليين ) على تفصيل ، وهو الشيخ النواقي .