الفصل الثالث : حقيقة العبادة ومقوِّماتها
  إنّ مفهوم العبادة من المفاهيم الواضحة كالماء والاَرض لكن مع وضوح مفهومهما ربما يصعب التعبير عن حقيقتهما في قالب الاَلفاظ.
  وهكذا مفهوم العبادة من المفاهيم الواضحة مفهوماً ومصداقاً ، ولكن ربما يصعب تحديدها تحديداً منطقياً يكون جامعاً للاَفراد ومانعاً للاَغيار مع وضوح مصاديقها غالباً.
  فخضوع العاشق الولهان للمعشوق ، أو الجنديّ لرئيسه ، وشدُّ الرحال إلى زيارة كبار الشخصيات كلّها خضوع وخشوع وليست بعبادة.
  والرجوع إلى اللغة لا يسمن ولا يغني من جوع ، لاَنّ أصحاب المعاجم لم يكونوا بصدد تحديد مفهوم العبادة حتى يُتخذ ما ذكروه مقياساً وتعريفاً جامعاً ومانعاً.
  فانّـهم فسروه بالخضوع والتذلّل وما شابههما.
  يقول ابن منظور في لسان العرب : أصل العبودية الخضوع

بحوث قرآنية في التوحيد والشرك ـ 34 ـ
  والتذلّل.
  ويقول الراغب في المفردات : العبوديّة : التذلّل ، والعبادة أبلغ منها لاَنّها غاية التذلّل.
  وفي القاموس المحيط : العبادة : الطاعة.
  إلى غير ذلك من التعاريف المتقاربة .
  ومن المعلوم انّ هذه تعاريف بالمعنى الاَعم ، إذ ليس مجرّد الخضوع والتذلّل ولا غايتهما حداً للعبادة ، فانّ حبّ العاشق للمعشوق لا يعد عبادة له ، كما انّتقبيل المصحف الكريم ليس عبادة للكتاب ، وأوضح من ذلك انّ سجود الملائكة لآدم ، كقوله سبحانه : ( فَسَجَدَ المَلائِكَةُ كُلّهُمْ أَجْمَعُونَ * إِلاّإِبْليسَ أَبى ) (1) وسجود النبي يعقوب (عليه السلام) وزوجه وأولاده ليوسف (عليه السلام) ، كما في قوله سبحانه : ( وَرَفَعَ أَبَوْيهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّداً ) (2) لم يك عبادة للمسجود له ، أعني آدم أبا البشر ولا النبي يوسف ) ( عليه السلام ) .
  وقد بلغ خضوع الصحابة للنبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) بمكان انّهم كانوا يتبركون بفضل وضوئه وشعر رأسه ، والاِناء الذي يشرب منه الماء ، والمنبر الذي كان يجلس عليه ، ومن الواضح انّ هذا النوع من التبرّك غاية الخضوع منهم للنبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ومع ذلك لم يبلغ حدَّ العبادة ولم يصفهم أحد بأنّهم كانوا

--------------------
(1) الحجر | 30 ـ 31.
(2) يوسف | 100.

بحوث قرآنية في التوحيد والشرك ـ 35 ـ
  يألِّهون النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ويعبدونه كلّذلك يجرّنا إلى أن نقوم بتعريفها حتى يعم جميع المصاديق ويمنع عن دخول غيرها.
  والطريق الواضح لحلّ هذه المعضلة هو الوقوف على مقومات العبادة و إمعان النظر في العبادات الصحيحة التي قام بها المسلمون على مرّ العصور ، وفي العبادات والطقوس الباطلة التي كانت تُمارَس من قِبَل الوثنيين في الجاهلية والعصر الحاضر حتى نقف على الخصوصيات المكنونة في عمل الجميع والتي على ضوئها تطلق عليها عبادة ، إذاً فتحليل أعمالهم والوقوف على الميزات الموجودة فيها والخصوصيات الكامنة يوقفنا أوّلاً على حقيقة العبادة ، ويرسم لنا ثانياً تعريفاً جامعاً ومانعاً على نحو يكون مقياساً لتمييز العبادة عن غيرها.
  وإليك تحليلها : لا شكّ انّ الجامع بين جميع أقسام العبادات صحيحها وباطلها هو الخضوع للمعبود سواء أكان مستحقاً له كاللّه سبحانه أو غير مستحق له كالاَصنام والاَوثان أو الاَجرام السماوية من النجم والقمر والشمس والاَرواح والمثل النورية المجردة ، فالعبادة في جميع تلك المراحل تتمتع بالخضوع وهو عمل قائم بالجوارح كالرأس واليد وغيرهما ، فالعابد يخضع بجلّ جوارحه أو بشيء منها أمام المعبود وهذا أمر لاسترة فيه.
  ولكن هناك خصوصية أُخرى موجودة في الجميع وهو أمر

بحوث قرآنية في التوحيد والشرك ـ 36 ـ
  قائم بالضمير و القلب ولعلّه الاَساس لاِضفاء العبادة على العمل الجارحي ، وهي عبارة عن اعتقاد خاص بالمعبود الذي يكون مبدأً للخضوع الظاهري.
  فالواجب علينا بيان تلك الخصوصية الموجودة في جميع الاَقسام وإليك التوضيح : أمّا الموحدون الذين يعبدون اللّه تبارك و تعالى ، فخضوعهم نابع عن اعتقادهم بأنّه خالق للكون والاِنسان ، والمدبر للعالم الذي بيده كلّ شيء في الدنيا والآخرة ، وليس هناك أي خالق ومدبر ومالك لمصالح العباد ومصائرهم في العاجل والآجل سواه.
  أمّا العاجل فيعتقدون أنّ الخلق والتدبير والاحياء والاماتة و انزال المطر والخصب و الجدب وكلّما يعدّظاهرة طبيعية من فعله سبحانه لا من فعل غيره الذي لا يملك أي تأثير في مصير الاِنسان.
  أمّا الآجل فيعتقدون أنّ الشفاعة ومغفرة الذنوب وغيرهما من الاَُمور الاَُخروية بيده تعالى.
  وعلى ضوء ذلك فالعبادة هو الخضوع النابع عن الاعتقاد بخالقيته ومدبريته وكون أزمَّة الاَُمور ومصير الاِنسان في الدنيا والآخرة بيده.
  هذا حال الموحدين وأمّا المشركون في عصر الرسالة وقبله وبعده فخضوعهم لمعبوداتهم كان نابعاً عن اعتقاد خاص يضادُّ

بحوث قرآنية في التوحيد والشرك ـ 37 ـ
  ذلك ، فاللازم هو تحصيل ذلك الاعتقاد.
  يظهر من بعض الآيات انّ العرب في العصر الجاهلي كانوا موحدين في الخالقية ، قال تعالى : ( وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَالسَّماواتِ وَالاََرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ العَلِِيم ) (1) ولكنّهم في الوقت نفسه كانوا مشركين في التدبير الذي نعبِّر عنه بالربوبية ، فكانوا يعتقدون بأرباب ، مكان الرب الواحد ، ولكلّ رب شأن في عالم الكون.
  ويدل على ذلك طائفة من الآيات نذكر بعضها :
  1 ـ انّ الموحد يرى انّالعزة بيد اللّه سبحانه ومنطقه ، قوله سبحانه : (فلِلّه الْعِزَّةُ جَميعاً ) (2) .
  ولكن المشرك في عصر الرسالة كان يرى انّ العزة بيد الاَصنام والاَوثان كما يحكي عن عقيدته قوله سبحانه : ( وَاتَّخَذُوا مِنْدُونِ اللّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزّاً ) (3) .
  2 ـ انّ الموحد يرى انّ النصر بيد اللّه تبارك و تعالى و يردّد على لسانه ، قوله سبحانه : ( وَمَا النَّصْرُ إِلاّمِنْ عِنْدِ اللّهِ الْعَزيزِ الحَكيم ) (4) .
  ولكن المشرك في عصر الرسالة كان يعتقد بأنّالنصر بيد

--------------------
(1) الزخرف | 9.
(2) فاطر | 10.
(3) مريم | 81.
(4) آل عمران | 126.


بحوث قرآنية في التوحيد والشرك ـ 38 ـ
  الآلهة والاَرباب المزيَّفة ، قال سبحانه : ( وَاتَّخذوا مِنْ دُونِ اللّهِ آلِهَةً لَعَلَّهُمْ يُنْصَرُون ) (1) .
  3 ـ انّ الموحد يوَمن بأنّ أمر التدبير بيد اللّه ، قال سبحانه : ( إِنَّ اللّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغيْث ) (2) .
  كما انّ بيده الجدب والخصب قال سبحانه : ( وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخوفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الاََمْوالِ وَالاََنْفُسِ وَالثَّمَراتِ وَبَشِّر الصّابِرينَ ) (3) .
  ولكن المشرك كان يستمطر بالانواء بل يستمطر بالاَصنام.
  يقول ابن هشام في سيرته : كان عمرو بن لُحَيّ أوّل من أدخل الوثنية إلى مكة وضواحيها ، فقد رأى في مآب من أرض البلقاء من بقاع الشام أُناساً يعبدون الاَوثان وعندما سألهم عمّا يفعلون قائلاً : ما هذه الاَصنام التي أراكم تعبدونها ؟
  قالوا : هذه أصنام نعبدها فنستمطرها فتُمطرنا ، ونستنصرها فتنصرنا ، فقال لهم : أفلا تعطونني منها صنماً فأسير به إلى أرض العرب فيعبدوه ؟
  وهكذا استحسن طريقتهم واصطحب معه إلى مكة صنماً كبيراً يقال له ( هبل ) ووضعه على سطح الكعبة المشرّفة ودعا الناس

--------------------
(1) يس | 74.
(2) لقمان | 34.
(3) البقرة | 155.


بحوث قرآنية في التوحيد والشرك ـ 39 ـ
  إلى عبادته (1) .
  4 ـ ثمّ إنّ الموحد يرى انّ غفران الذنوب والشفاعة بيده سبحانه فليس هناك غافر للذنوب إلاّ اللّه سبحانه ولا شفيع إلاّ بإذنه ، يقول سبحانه : ( فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوب إِلاّ اللّه ) (2)
  وقوله سبحانه : ( قُلْ للّهِ الشَفاعةُ جَميعاً لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالاََرْض ) (3) .
  وقال سبحانه : ( وَلا يَمْلِكُ الَّذينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفاعَة ) (4) .
  وأمّا المشرك فكان يعتقد بأنّ الشفاعة بيد الآلهة والاَرباب المزيفة ، والشاهد عليه انّ الآيات الماضية نزلت رداً على عقيدة المشركين حيث كانوا يعتقدون بأنّهم مالكون مقام الشفاعة بتفويض من اللّه سبحانه ولاَجل ذلك يوَكد على نفي تلك العقيدة في آيات أُخرى ، ويقول : ( لا يَمْلِكُونَ الشَّفاعَةَ إِلاّ مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمن عَهْداً ) (5) ضى وقال : ( وَلا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ عِنْدَهُ إِلاّ لِمَنْ أَذِنَ لَهُ ) (6) وقال : ( وَلا يَملِكُ الَّذينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفاعَةَ إِلاّ مَنْ شَهِدَ بِالحَقّ ) (7) .

--------------------
(1) انظر السيرة النبوية : 1|76 ـ 77.
(2) آل عمران | 135.
(3) الزمر | 44.
(4) الزخرف | 86.
(5) مريم | 87.
(6) سبأ | 23.
(7) الزخرف | 86.

بحوث قرآنية في التوحيد والشرك ـ 40 ـ
  كما يرى انّ مغفرة الذنوب بيد الآلهة والشاهد على ذلك (وصفه سبحانه) نفسه بأنّه ( غافر الذنب ) (1) .
  5 ـ انّ الموحد يرى مصيره عاجلاً و آجلاً بيده سبحانه : وهذا هو إبراهيم الخليل رائد التوحيد يعلن عقيدته أمام الملاَ من المشركين ، يقول سبحانه حاكياً عنه : ( الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدين * وَالَّذي هُوَ يُطْعِمُني وَيَسقين * وَإِذا مَرِضْت فَهُوَ يَشْفين * وَالذي يُميتُني ثُمَّ يُحيين ) (2) .
  ولكن المشرك يرى كلّ ذلك أو أكثره بيد آلهته وأربابه ، كما يعرب عنه قوله سبحانه : ( وَمِنَ النّاسِمَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللّهِ أَنْداداً يُحِبُونَهُمْ كَحُبِّ اللّه ) (3) ويقول تعالى حاكياً عن لسان المشركين يوم الحشر عند ندمهم عن عبادة الآلهة ، ( تاللّهِ إِنْ كُنّا لَفي ضَلالٍ مُبين * إِذْ نُسَويكُمْ بِرَبِّ الْعالَمين ) (4) .
  6 ـ انّ الموحد يرى أمر التشريع والتحليل والتحريم بيده سبحانه ، ويقول : ( إِنِ الْحُكْمُ إِلاّ للّهِ ) (5) .
  ولكن المشرك يرى انّ التشريع بيد الاَحبار والرهبان ، قال

--------------------
(1) راجع غافر | 3.
(2) الشعراء | 78 ـ 81.
(3) البقره | 165.
(4) الشعراء | 97 ـ 98.
(5) يوسف | 40.


بحوث قرآنية في التوحيد والشرك ـ 41 ـ
  سبحانه : ( اتَّخَذوا أَحْبارَهُمْ وَرُهبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللّه ) (1) فقد كانوا على اعتقاد انّ الاَحبار والرهبان يملكون مقام التشريع فلهم أن يحلوا الحرام أو يحرموا الحلال بأخذ شيء من حطام الدنيا.
  إلى غير ذلك ممّا يبين عقيدة المشركين في العصر الجاهلي ويكشف عن أنّ خضوع المشركين لم يكن خضوعاً مجرداً نابعاً عن الحب المجرد بل ناجماً عن عقيدة خاصة في الآلهة والاَرباب ، والاعتقاد بأنّ أمر التدبير بعضه أو كلّه بيدهم وانّمصيرهم موكول إليهم.
  نعم لم تكن عقيدتهم في ربوبيتهم على درجة واحدة ، بل كانت تختلف حسب اختلاف الظروف والشرائط.
  فطائفة منهم تعتقد بسعة ربوبية الاَرباب والآلهة كما كان عليه المشركون في عصر إبراهيم حيث كانوا يعتقدون بربوبية النجم والقمر والشمس للموجودات الاَرضية كما حكاه سبحانه عنهم في عدّة من الآيات ، قال سبحانه : ( وَكَذلِكَ نُرِي إِبْراهيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَالاََرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنينَ * فَلَمّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأى كَوكَباً قالَهذا رَبِّي فَلَمّا أَفَلَ قالَلا أُحِبُّ الآفِلين ... ) (2).
  وطائفة أُخرى تعتقد بضيق ربوبية تلك الآلهة وتخصها

--------------------
(1) التوبة | 31.
(2) الاَنعام | 75 ـ 80.

بحوث قرآنية في التوحيد والشرك ـ 42 ـ
  ببعض ما يمتُّ إلى الاِنسان بصلة كاختصاصهم بحقّ الشفاعة والمغفرة والعزّة والنصرة في الحروب إلى غير ذلك ، و من أراد التفصيل فليرجع إلى كتب الملل والنحل (1) .
  والذي كان يجمع المشركين في معسكر واحد هو اعتقادهم بمالكية الآلهة شيئاً من الربوبية وإدارة الكون وحياة الاِنسان.
  ونلفت نظر القارىَ إلى بعض النماذج ممّا أثر عن المشركين في مجال عقيدتهم.
  قال زيد بن عمرو بن نوفل الذي ترك عبادة الاَصنام قبل أن يبعث النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) حيث يحكي عن عقيدته في الجاهلية ويقول :

أرب  واحـد أم ألـف ربّ      أديـن إذا تُـقسِّمت iiالاَُمور
عزلت اللات والعزى جميعاً      كذلك  يفصل الجلد iiالصبور
لـلا عزّى أدين ولا iiابنتيها      ولا  صنم بني عمرو iiأزور
  ويقول أيضاً :
إلى الملك الاَعلى الّذي ليس فوقه      إلـه ولا ربّ يـكون مدايناً (2)ii

--------------------
(1) الشهرستاني : الملل والنحل :2|244.
(2) الآلوسي : بلوغ الارب : 2|249.


بحوث قرآنية في التوحيد والشرك ـ 43 ـ
  هذه الاَشعار وسائر الكلمات المروية قبل مبعث النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) تثبت أمراً واحداً ، و هو انّ آلهتهم كان ت تتمتع حسب عقيدتهم بقوة غيبية مالكة لها موَثرة في الكون ومصير الاِنسان ، وانّ هوَلاء آلهة وأرباب واللّه سبحانه إله الآلهة وربّالاَرباب.
  ويمكن أن نتطرق إلى المواقف التي اتّخذوها أمام أصنامهم وأوثانهم من خلال استعراض الآيات التي تندد بالمشركين وتشجب عملهم.
  1 ـ ( انَّ الَّذينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللّهِ عِبادٌ أَمْثالُكُمْ ) (1) .
  2 ـ ( قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلا تَحويلاً ) (2) .
  3 ـ ( وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللّهِ ما لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ ) (3) .
  4 ـ ( إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعاءَكُمْ ) (4) .
  5 ـ ( أَمَّنْ هذَا الَّذِي هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ يَنْصُرُكُمْ مِنْ دُونِ الرَّحْمن إِنِ الْكافِرُونَ إِلاّ في غُرُور ) (5) .

--------------------
(1) الاَعراف | 194.
(2) الاِسراء | 56.
(3) يونس | 106.
(4) فاطر | 14.
(5) الملك | 20.


بحوث قرآنية في التوحيد والشرك ـ 44 ـ
  6 ـ ( إِمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعهُمْ مِنْ دُونِنا لا يَسْتَطيعونَنَصرَ أَنْفُسهِمْ وَلا هُمْ مِنْها يُصْحَبُونَ ) (1) .
  إلى غير ذلك من الآيات المندّدة بعمل المشركين حيث تجد انّه سبحانه يرشدهم إلى الحقيقة الناصعة ويبطل عقيدتهم المزيفة بالحجج التالية :
  أ ـ انّهم ( عباد أَمْثالكُمْ ) فلا ربوبية لهم كلاً أو بعضاً.
  ب ـ ( فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرّ ) فلا ربوبية لهم حتى يكشفوا الضرّ عنكم.
  ج ـ لا ينْفَعُونَ وَلا يضُرُّونَ ، وَلا يسْمَعُون فكيف تعبدونهم ؟
  كلّ ذلك يكشف عن انّ المخاطبين كانوا على اعتقاد راسخ بأنّ للآلهة قدرة غيبية فوق الاِنسان وانّ زمام كشف الضرّ بأيديهم فينفعون ويضرّون.
  إلى هنا تبين انّ حقيقة العبادة قائمة بأمرين :
  الاَوّل : يرجع إلى جوارح الاِنسان المشعرة بالتعظيم والخضوع.
  الثاني : يرجع إلى عقيدة الخاضع في حقّ المخضوع له بنحو من الاَنحاء من كونه خالقاً أو رباً أو من بيده مصير الاِنسان كلاً أوجزءاً فلا تتحقق مفهوم العبادة إلاّ بتحققهما.
  نعم يبقى هنا سوَال وهو انّ العرب في العصر الجاهلي لو

--------------------
(1) الاَنبياء | 43.

بحوث قرآنية في التوحيد والشرك ـ 45 ـ
  كانوا معتقدين بربوبيّة الآلهة ، فلماذا يحكي عنهم ا لقرآن بأنّ عبادتهم كانت لاَجل التقرب بعبادتهم إلى اللّه فقط لا غير ، قال سبحانه : ( أَلا للّهِ الدِّينُ الْخالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَولياءَ ما نَعْبُدُهُمْ إِلاّ لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللّهِ زُلْفى إِنَّ اللّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ في ما هُمْ فيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كاذِبٌ كَفّارٌ ) (1) .
  حيث يحكي عنهم سبحانه قولهم : ( ما نعبدهم إلاّ ليقربونا إلى اللّه زلفى ) أي يقولون : نحن لا نعدُّهم موَثرين في حياتنا ومصيرنا وإنّما نعبدهم لنتقرب بعبادتهم إلى اللّه.
  والجواب : انّه لا شكّ حسب ما مرّ من الآيات انّهم كانوا يتّخذونهم آلهة وأرباباً وكانوا يستمطرون ويعتَّزون بهم إلى غير ذلك من صفات الآلهة ، ومع ذلك كيف يمكن ان تُحصر عبادتهم في طلب التقرب إلى اللّه ، وهذا يدلنا إلى القول بأنّهم كانوا يقولون في ألسنتهم ما ليس في قلوبهم ولذلك نرى انّه سبحانه يقول في ذيل الآية ( إِنَّ اللّهَ لا يَهْدي مَنْ هُوَ كاذِبٌ كَفّار ) مشيراً إلى أنّهم كاذبين في ذلك المدّعى وإنّما يعبدونهم لغايات دنيوية ، وهو اكتساب العزة والنصرة والخصب والنعمة والشفاء والشفاعة.
  وحيث إنّه طال الكلام في هذا الفصل الّذي تناولنا فيه بيان مقوّّمات العبادة نحيل تعريفها إلى الفصل اللاحق.

--------------------
(1) الزمر | 3.

بحوث قرآنية في التوحيد والشرك ـ 47 ـ
الفصل الرابع : تعريف العبادة
  إذا وقفت على مقوّمات العبادة ، فيكون من السهل تعريف العبادة تعريفاً منطقياً جامعاً للاَفراد ومانعاً للاَغيار بأحد التعاريف التالية :
  التعريف الاَوّل : العبادة هي الخضوع عن اعتقاد بأُلوهية المعبود ، فمالم يكن القول والعمل ناشئين من الاعتقاد بالاَُلوهية ، لا يكون الخضوع والتعظيم والتكريم عبادة.
  والذي يجب أن نلفت نظر القارىَ إليه ، هو انّ المراد من الاَُلوهية ليست المعبودية كما هو الرائج في الاَلسن ، بل المراد منها الاعتقاد بكونه إله العالم وخالقه ومدبره وانّ أزمة الاَُمور كلّها أو بعضها بيده ، فهذا هو المراد من الاِله ، والاَُلوهية ، فلفظ الاِله كلي و (اللّه) لفظ الجلالة علم ، فليس بينهما فرق إلاّ بالكلية والجزئية.

بحوث قرآنية في التوحيد والشرك ـ 48 ـ
  والذي يدل على ذلك ( الخضوع النابع عن الاعتقاد بالاَُلوهيّة ) انّ بعض الآيات تأمر بعبادة اللّه وتنهى عن عبادة غيره مدللاً بأنّه لا إله غيره ، يقول : ( يا قَومِ اعْبُدُوا اللّهَ ما لَكُمْ إِلهٍ غَيْرُهُ ) (1) .
  ومعنى ذلك أنّ الذي يستحق العبادة من كان إلهاً وليس هو إلاّ اللّه ، عندئذٍ كيف تعبدون ما ليس بإله حقيقة و إنّما تدّعون له الاَُلوهية ؟ وكيف تنبذون عبادة اللّه وهو الاِله الذي يجب أن يعبد دون سواه ؟ وقد وردت هذه الآية بنصها أو مضمونها في كثير من الآيات (2) .
  فهذه التعابير تفيد انّ العبادة هي ذلك الخضوع والتذلّل النابعين من الاعتقاد بأُلوهية المعبود ، إذ نلاحظ ـ بجلاء ـ كيف استنكر القرآن على المشركين عبادة غير اللّه بأنّ هذه المعبودات ليست آلهة وانّ العبادة من شوَون الاَُلوهية .
  وحيث إنّ هذا الوصف لا يوجد إلاّ في اللّه سبحانه لذلك تجب عبادته دون سواه.
  التعريف الثاني : العبادة هي الخضوع أمام من يعتقد انّه ربّ يملك شأناً من شوَون وجوده وحياته وشوَونه في آجله وعاجله.
  سواء كان أمراً مادّياً كالعزّة و النصر ، أم معنويّاً كمغفرة الذنوب.

--------------------
(1) الاَعراف | 59.
(2) وللقارىَ الكريم أن يراجع في ذلك الآيات التالية : الاَعراف | 65 ، 73 ، 85 ، هود | 50 ، 61 ، 84 ، الاَنبياء | 25 ، الموَمنون | 23 ، 32 ، طه | 14.


بحوث قرآنية في التوحيد والشرك ـ 49 ـ
  والمقصود من الربّ ، هو المالك لشوَون الشيء ، المتكفّل لتدبيره وتربيته ، ولذلك تكون العبودية في مقابل الربوبية.
  ويدل على ذلك طائفة من الآيات التي تعلل الاَمر بحصر العبادة في اللّه وحده بأنّه الربّ لا غير ، وإليك بعض هذه الآيات : ( وَقالَ الْمَسيحُ يا بَني إِسْرائيلَ اعْبُدُوا اللّهَ رَبّي وَربَّكُمْ ) (1) .
  ( إنَّ هذِهِ أُمَّتكُمْ أُمّةً واحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونَ ) (2) .
  ( إِنَّ اللّهَ رَبِّي وَربّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيم )(3) .
  وقد ورد مضمون هذه الآيات في آيات أُخرى هي : يونس : 3 ، الحجر : 99 ، مريم 36 ، 65 ، الزخرف : 64.
  وعلى كلّحال فانّ أوضح دليل على هذا التفسير للفظ العبادة هو الآيات التي سبق ذكرها.
  التعريف الثالث : العبادة هي الخضوع أمام من نعتقد انّه إله العالم ، أو من فوض إليه أعماله كالخلق والرزق والاِحياء والاِماتة التي تعد من الاَفعال الكونية أو التقنين والتشريع وحقّ الشفاعة والمغفرة التي تعد من

--------------------
(1) المائدة | 72.
(2) الاَنبياء | 92.
(3) آل عمران | 51.


بحوث قرآنية في التوحيد والشرك ـ 50 ـ
  الاَفعال التشريعية.
  إنّ الموحد يعبد اللّه سبحانه بما انّه قائم بهذه الاَفعال ، من دون أن يفوِّض شيئاً منها إلى مخلوقاته ، ولكنّ المشركين مع اعتقادهم بأنّآلهتهم وأربابهم مخلوقون للّه تبارك و تعالى ، لكن كانوا على اعتقاد انّه فُوض إلى الآلهة أُمور التكوين والتشريع كلّها أو بعضها ، فلذلك كانوا يستمطرون بالاَنواء والاَصنام ويطلبون الشفاعة منهم بتصور انّهم مالكون لحقّ الشفاعة ، ويطلبون منهم النصرة والعزة في الحرب بزعم انّ الاَمر بيدهم وانّه فوض إليهم.
  وعلى ضوء هذه التعاريف الثلاثة يظهر الفرق الجوهري بين التوحيد في العبادة والشرك فيها ، فكلّ خضوع نابع عن اعتقاد خاص بإلهية المخضوع له وربوبيته أو تفويض الاَمر إليه فهو عبادة للمخضوع له سواء كان ذلك الاعتقاد الخاص في حقّ المعبود حقاً ـ كما في اللّه سبحانه ـ أو باطلاً كما في حقّ الاَصنام.
  وعلى كلّ تقدير فالخضوع الناجم عن هذا النوع من الاعتقاد ، عبادة للمخضوع له.
  وأمّا لو كان الخضوع مجرداً عن هذه العقيدة فهو تعظيم وتكريم ، وليس بعبادة ، ولا يكون الخاضع مشركاً ، ولا عمله موصوفاً بالشرك ، غاية الاَمر ربما يكون حلالاً كما في الخضوع أمام الاَنبياء والاَولياء ومن وجب له حقّ بالتعليم والتربية ، وربما يكون حراماً كالسجود أمام النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) والولي ( عليه السلام ) وغيرهما لا لاَنّه عبادة للمسجود له ، بل لانّه لا يجوز السجود لغيره سبحانه وانّ السجود خضوع لا يليق بغيره.

بحوث قرآنية في التوحيد والشرك ـ 51 ـ
  وبمثل هذا البيان تتميز العبادة عن التعظيم ، فتقبيل المصحف وضرائح الاَنبياء وما يمتّ إليهم بصلة إذا كان فارغاً عن اعتقاد الاَُلوهية والربوبية والتفويض فهو ليس عبادة للمخضوع له.
  إذا عرفت تلك الضوابط فلنتناول بالبحث الموضوعات الخاصة التي ربما يتصور انّها شرك وعبادة لغير اللّه أو انّها بدعة دخلت في الدين أو حرام كسائر المحرمات ، ويأتي كلّ ذلك في ضمن الفصل الآتي.

بحوث قرآنية في التوحيد والشرك ـ 53 ـ
الفصل الخامس : تطبيقات على ضوء تعريف العبادة
  ينطوي هذا الفصل على مسائل صارت ذريعة للاختلاف والتشتت ، وهي لا تمس العقيدة بصلة ، وإنّما هي مسائل فقهية تستنبط أحكامها من الكتاب والسنّة وهذه المسائل هي كالتالي :
  1 ـ زيارة القبور.
  2 ـ شدّالرحال إلى زيارة قبر النبي (ص).
  3 ـ البناء على القبور.
  4 ـ بناء المساجد على القبور والصلاة فيها.
  5 ـ التوسّل بالاَنبياء والاَولياء والصالحين وأقسامه.
  6 ـ انتفاع الموتى بأعمال الاَحياء والنذر لهم.
  7 ـ التبرّك بآثار الاَنبياء والصالحين.
  8 ـ الاحتفال بميلاد النبي (ص).
  9 ـ البكاء على الميت.
  10 ـ الحلف على اللّه بحقّ الاَولياء.
  11 ـ الحلف بغير اللّه سبحانه.
  12 ـ تسمية المواليد باضافة العبد إلى غير اللّه سبحانه.
  وإليك البحث فيها واحدة تلو الاَُخرى :

بحوث قرآنية في التوحيد والشرك ـ 55 ـ
زيارة القبور (1)
  إنّ زيارة القبور تنطوي على آثار أخلاقية وتربوية هامة ، لاَنّ مشاهدة المقابر التي تضمُّ في طياتها مجموعة كبيرة من رفاة الذين عاشوا في هذه الحياة ، ثمّ انتقلوا إلى الآخرة ، توَدي إلى الحد من الطمع والحرص على الدنيا ، وربما يُغيِّر سلوك الاِنسان فيترك الظلم و المنكر ويتوجه إلى اللّه والآخرة.
  لذا يقول الرسول الاَعظم (ص) : ( زوروا القبور فانّها تذكّركم بالآخرة ) (2) .
  نعم يستفاد من بعض الاَحاديث انّالنبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) نهى يوماً عن زيارة القبور ثمّ رخّصها ، ولعلّ النهي كان لملاك آخر ، وهو أنّ أكثر الاَموات ـ يومذاك ـ كانوا من المشركين ،

--------------------
(1) انّ زيارة القبور من المسائل الفرعية الفقهية ، ولا تمتُّ إلى العقيدة الاِسلامية بصلة ، ولا يتّهم القائل بجوازها بالشرك ، وهذه المسألة شأن سائر المسائل يرجع فيها إلى الكتاب والسنة حتى يعلم جوازها أو عدم جوازها.
(2) شفاء السقام : 107.


بحوث قرآنية في التوحيد والشرك ـ 56 ـ
  فنهى النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) عن زيارتهم ، ولمّا كثر الموَمنون بينهم رخّصها بإذن اللّه عزّ وجلّ ، وقال : ( كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها فانّها تزهد في الدنيا وتذكر في الآخرة ) (1) .
  وقالت عائشة : انّ رسول اللّه رخّص في زيارة القبور ، وقالت : إنّالنبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) قال : أمرني ربّي أن آتي البقيع وأستغفر لهم.
  قلتُ : كيف أقول يا رسول اللّه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ؟
  قال : قولي : السلام على أهل الديار من الموَمنين والموَمنات يرحم اللّه المستقدمين منّا والمستأخرين ، انّا إن شاء اللّه بكم لاحقون (2) .
  وجاء في الصحاح والمسانيد صور الزيارات التي زار بها النبيص البقيع.
  قال موَلف كتاب ( الفقه على المذاهب الاَربعة ) : زيارة القبور مندوبة للاتعاظ وتذكّر الآخرة وتتأكد يوم الجمعة ، وينبغي للزائر الاشتغال بالدعاء والتضرّع ، والاعتبار بالموتى ، وقراءة القرآن للميت فانّ ذلك ينفع الميت على الاَصح ، وبما ورد أن يقول الزائر عند روَية القبور : ( السّلام عليكم دار قوم موَمنين وإنّا إن شاء اللّه بكم لاحقون ) ولا فرق في الزيارة بين كون المقابر قريبة أو بعيدة (3) بل يندب السفر لزيارة الموتى خصوصاً مقابر الصالحين.

--------------------
(1) سنن ابن ماجة : 1|117 ، باب ما جاء في زيارة القبور.
(2) لاحظ صحيح مسلم : 2|64 ، باب ما يقال عند دخول القبور.
(3) إلاّ الحنابلة فقالوا إذا كانت القبور بعيدة فزيارتها مباحة لا مندوبة .

بحوث قرآنية في التوحيد والشرك ـ 57 ـ
  هذه كلمات فقهاء المذاهب الاَربعة حول زيارة القبور (1) .
  زيارة قبر النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) هذا كلّه حول زيارة قبور المسلمين ، وأمّا زيارة قبر النبيوأئمّة الاِسلام والشهداء والصالحين فلا شكّ انّ لزيارتهم نتائج بنّاءة نشير إليها ، كما نشير إلى الاَحاديث الواردة حول زيارة قبورهم ليكون البحث مرفقاً بالتحليل وجامعاً للدليل.
  أمّا التحليل : انّ زيارة مراقد هذه الشخصيات هو نوع من الشكر والتقدير على تضحياتهم وإعلام للجيل الحاضر بأنّ هذا هو جزاء الذين يسلكون طريق الحقّ والهدى ، والفضيلة والدفاع عن المبدأ والعقيدة ، وهذا لا يدفعنا إلى زيارة قبورهم فحسب ، بل إلى إبقاء ذكرياتهم حية ساخنة ، والمحافظة على آثارهم وإقامة المهرجانات ، في ذكرى مواليدهم ، وعقد المجالس وإلقاء الخطب المفيدة في أيّام التحاقهم بالرفيق الاَعلى ، وهذا شيء يدركه كلّذي مسكة.
  ولاَجل ذلك ترى انّالاَُمم الحية يتسابقون في زيارة مدفن روَسائهم وشخصياتهم الذين ضحُّوا بأنفسهم وأموالهم في سبيل نجاة الشعب ، وإنقاذه من مخالب المستعمرين والظالمين ، ويقيمون المجالس لاحياء معالمهم ، دون أن يخطر ببال أحد انّهذه الاَُمور

--------------------
(1) الفقه على المذاهب الاَربعة : 1 | 540.

بحوث قرآنية في التوحيد والشرك ـ 58 ـ
  عبادة لهم ، فأين التعظيم للشخصيات من عبادتهم ، فانّالتعظيم تقدير لجهودهم ، والعبادة تأليههم واتخاذهم أرباباً.
  أفهل هناك من يخلط بين الاَمرين منّا أو من غيرنا ؟ ! كلاّ ،لا ، شريطة الاِمعان في مقوّمات العبادة وتعريفها الماضيتين في الفصلين السابقين.
  إذا وقفت على الآثار البنّاءة لزيارة مطلق القبور وزيارة قبور الاَولياء والصالحين ، نذكر خصوص ما ورد من الروايات التي جاء فيها الحث على زيارة قبر النبي الاَعظم ( صلى الله عليه وآله وسلم ).
  أخرج أئمّة المذاهب الاَربعة وحفاظها في الصحاح والمسانيد أحاديث جمّة في زيارة قبر النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) نذكر شطراً منها :
  1 ـ عن عبد اللّه بن عمر مرفوعاً : من زار قبري وجبت له شفاعتي.
  2 ـ عن عبد اللّه بن عمر مرفوعاً : من جاءني زائراً لا تحمله إلاّ زيارتي كان حقاً عليّ أن أكون له شفيعاً يوم القيامة.
  3 ـ عن عبد اللّه بن عمر مرفوعاً : من حجّ فزار قبري بعد وفاتي كمن زارني في حياتي.
  4 ـ عن عبد اللّه بن عمر مرفوعاً : من حجّ البيت ولم يزرني فقد جفاني.
  5 ـ عن عمر مرفوعاً : من زار قبري أو من زارني كنت له شفيعاً أو شهيداً.

بحوث قرآنية في التوحيد والشرك ـ 59 ـ
  6 ـ عن حاتم بن أبي بلتعه مرفوعاً : من زارني بعد موتي فكأنّما زارني في حياتي.
  7 ـ عن أبي هريرة مرفوعاً : من زارني بعد موتي فكأنّما زارني وأنا حيّ ، ومن زارني كنت له شهيداً أو شفيعاً يوم القيامة.
  8 ـ عن أنس بن مالك مرفوعاً : من زارني في المدينة محتسباً كنت له شفيعاً.
  9 ـ عن أنس بن مالك : من زارني ميتاً فكأنّما زارني حيّاً ، ومن زار قبري وجبت له شفاعتي يوم القيامة ، وما من أحد من أُمّتي له سعة ثمّ لم يزرني فليس له عذر.
  10 ـ عن ابن عباس مرفوعاً : من زارني في مماتي كمن زارني في حياتي ، ومن زارني حتى ينتهي إلى قبري كنت له يوم القيامة شهيداً ، أو قال شفيقاً.
  فهذه أحاديث عشرة أخرجها الحفاظ من المحدّثين ، وقد جمع أسانيدها وطرقها وصححها تقي الدين السبكي ( المتوفّى سنة 756 هـ ) في كتاب شفاء السقام في زيارةخير الاَنام فمن أراد التفصيل فليرجع إليه (1) .

--------------------
(1) شفاء السقام في زيارة خير الاَنام ، الباب الاَوّل في الاَحاديث الواردة في زيارته ، ولاحظ أيضاً وفاء الوفاء بأحوال دار المصطفى : 4|1336.

بحوث قرآنية في التوحيد والشرك ـ 60 ـ
  ونظم الشيخ شعيب الحريفيش في ( الروض الفائق ) هذا المعنى في قصيدة مطلعها :
مـن  زار قـبر iiمحمد      نـال الـشفاعة في iiغد
بالله  كــرِّر iiذكــره      وحـديثه يـا iiمـنشدي
واجـعل  صلاتك iiدائما      ًجـهراً عـليه iiتـهتدي
فهو  الرَّسول المصطفى      ذو  الجود والكفّ iiالنديّ
وهو  المشفَّع في الورى      مـن  هول يوم iiالموعد
والحوض مخصوص به      في الحشر عذب iiالمورد
صـلـى عـليه iiربّـنا      مـالاح نجم الفرقد (1)ii


--------------------
(1) الروض الفائق : 2 | 238.