الضلالة في الآية مأخوذة من (ضل الشيء إذا خفى وغاب عن الاَعين) قال سبحانه: ( أَءِذَا ضَلَلْنَا فِي الاَرْضِ أَءِنَّا لَفِى خَلْقٍ جَدِيدٍ ) (1)، فالاِنسان الضال هو الاِنسان المخفي ذكره ، المنسي اسمه، لا يعرفه إلاّ القليل من الناس، ولا يهتدي كثير منهم إليه، ولو كان هذا هو المقصود، يكون معناه أنّه سبحانه رفع ذكره وعرفه بين الناس عندما كان خاملاً ذكره منسياً اسمه، ويوَيد هذا الاحتمال قوله سبحانه في سورة الانشراح التي نزلت لتحليل ما ورد في سورة الضحى قائلاً : ( أَلَمْ نَشْـرَحْ لَكَ صَدْرَكَ * وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ * الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ * وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ ) (2)فرفع ذكره في العالم، عبارة عن هداية الناس إليه ورفع الحواجز بينه وبين الناس، وعلى هذا فالمقصود من (الهداية) هو هداية الناس إليه لا هدايته، فكأنّه قال : فوجدك ضالاً ، خاملاً ذكرك ، باهتاً اسمك، فهدى الناس إليك، وسيّـر ذكرك في البلاد.
  وإلى ذلك يشير الاِمام الرضا ( عليه السلام ) على ما في خبر ابن الجهم ـ بقوله : (قال الله عزّ وجلّ لنبيّه محمد ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : ( أَلم يجدك يتيماً فآوى )يقول : ( ألم يجدك ) وحيداً ( فآوى )إليك الناس ( ووجدك ضالاً )يعني عند قومك ( فهدى )أي هداهم إلى معرفتك) (3).
  هذه هي المحتملات المعقولة في الآية ولا يدل واحد منها على ما تتبنّاه المخطّئة وإن كان الاَظهر هو الاَوّل.
  ويعجبني في المقام ما ذكره الشيخ محمد عبده في (رسالة التوحيد) فقال :

--------------------
(1) السجدة: 10.
(2) الانشراح: 1 ـ 4.
(3) البحار: 16|142.

عصمة الاَنبياء (ع) في القرآن الكريم _ 277 _
  وفي السنة السادسة من عمره فقد والدته أيضاً فاحتضنه جده عبد المطلب، وبعد سنتين من كفالته ، توفّـي جدّه ، فكفله من بعده عمه أبو طالب وكان شهماً كريماً غير أنّه كان من الفقر بحيث لا يملك كفاف أهله.
  وكان ( صلى الله عليه وآله وسلم ) من بني عمه وصبية قومه ، كأحدهم على ما به من يتم ، فقد فيه الاَبوين معاً ، وفقر لم يسلم منه الكافل والمكفول ، ولم يقم على تربيته مهذب ، ولم يعن بتثقيفه موَدب بين أتراب من نبت الجاهلية، وعشراء من خلفاء الوثنية، وأولياء من عبدة الاَوهام، وأقرباء من حفدة الاَصنام، غير أنّه مع ذلك كان ينمو ويتكامل بدناً وعقلاً وفضيلة وأدباً ، حتى عرف بين أهل مكة وهو في ريعان شبابه بالاَمين ، أدب إلهي لم تجر العادة بأن تزين به نفوس الاَيتام من الفقراء خصوصاً مع فقر القوّام، فاكتهل ( صلى الله عليه وآله وسلم ) كاملاً والقوم ناقصون ، رفيعاً والقوم منحطون ، موحداً وهم وثنيون ، سلماً وهم شاغبون ، صحيح الاعتقاد وهم واهمون ، مطبوعاً على الخير وهم به جاهلون ، وعن سبيله عادلون.
  من السنن المعروفة أنّ يتيماً فقيراً أُميّاً مثله تنطبع نفسه بما تراه من أوّل نشأته إلى زمن كهولته ، ويتأثر عقله بما يسمعه ممّن يخالطه ، ولا سيما إن كان من ذوي قرابته ، وأهل عصبته ، ولا كتاب يرشده ولا أُستاذ ينبهه ، ولا عضد إذا عزم يوَيده ، فلو جرى الاَمر فيه على مجاري السنن لنشأ على عقائدهم ، وأخذ بمذاهبهم ، إلى أن يبلغ مبلغ الرجال ، ويكون للفكر والنظر مجال ، فيرجع إلى مخالفتهم ، إذا قام له الدليل على خلاف ضلالاتهم كما فعل القليل ممّن كانوا على عهده ، ولكن الاَمر لم يجر على سنته ، بل بغضت إليه الوثنية من مبدأ عمره ، فعاجلته طهارة العقيدة، كما بادره حسن الخليقة، وما جاء في الكتاب من قوله : ( ووجدك ضالاً فهدى ) لا يفهم منه أنّه كان على وثنية قبل الاهتداء إلى التوحيد،

عصمة الاَنبياء (ع) في القرآن الكريم _ 278_
  أو على غير السبيل القويم قبل الخلق العظيم ، حاش لله ، إنّ ذلك لهو الافك المبين، وإنّما هي الحيرة تلم بقلوب أهل الاِخلاص، فيما يرجون للناس من الخلاص، وطلب السبيل إلى ما هدوا إليه من إنقاذ الهالكين وإرشاد الضالين (1).
  الآية الثانية: الاَمر بهجر الرجز
  يقول سبحانه: ( يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنْذِرْ * وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ * وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ * وَ الْرُّجْزَ فَاهْجُرْ * وَلاَ تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ * وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ ) (2)
  استدلت المخطّئة بأنّ الرجز بمعنى الصنم والوثن ، ففي الاَمر بهجره إيعاز لوجود أرضية صالحة لعبادتهما في شخصية النبي الاَكرم ( صلى الله عليه وآله وسلم ) .
  أقول: إنّ الرجز في القرآن الكريم استعمل في المعانى الثلاثة التالية:
  1 ـ العذاب.
  2 ـ القذارة.
  3 ـ الصنم.
  ولك أن تقول: إنّ المفاهيم الثلاثة أشكال لمعنى واحد جوهراً، وليست بمعان متعددة، ولكن تعيين أحد الاَمرين لا يوَثر فيما نرتئيه ، توضيح ذلك:
  إنّ (الرجز ): بكسر الراء قد استعمل في القرآن تسع مرّات ، وقد أُريد منه في جميعها العذاب إلاّ في مورد واحد ، وإليك مظانها : البقرة|59، الاَعراف|134 وجاءت اللفظة فيها مرتين ، والاَعراف|145 و 162، الاَنفال|11 ، سبأ|5 ، الجاثية|11، والعنكبوت|29 .

--------------------
(1) رسالة التوحيد: 135 ـ 136.
(2) المدثر : 1 ـ 7.

عصمة الاَنبياء (ع) في القرآن الكريم _ 279 _
  وأمّا (الرجز) : بضم الراء ، فقد جاء في القرآن الكريم مرّة واحدة ، وهي الآية التي نحن بصدد تفسيرها ، فسواء أُريد منها العذاب أم غيره من المعنيين ، فلا يدل على ما ذهبت إليه المخطّئة، وإليك بيان ذلك:
  أ ـ (الرجز) العذاب: فلو كان المقصود منه العذاب فيدل على الاَمر بهجر ما يسلتزم العذاب، وبما أنّ الآيات القرآنية نزلت بعنوان التعليم فلا تدلّ على أنّ النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) كان مشرفاً على ما يجرّ العذاب ، لاَنّ هذه الخطابات من باب (إياك أعني واسمعي يا جارة) ، وهذا النوع من الخطاب بمكان من البلاغة، لاَنّه سبحانه إذا خاطب أعز الناس إليه بهذا الخطاب فغيره أولى به ، ومن هنا يقدر القارىَ الكريم على حل كثير من الآيات التي تخاطب النبي الاَكرم ( صلى الله عليه وآله وسلم ) بلحن حاد وشديد ، فتقول : ( لَئِنْ أَشْـرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ ) (1)، وليست الآية دليلاً على وجود أَرضية الشرك في شخصية النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) فنهاه عنه سبحانه ، بل الآيات آيات عامّة نزلت للتعليم ، والخطاب موجه إليه والمقصود منها عامة الناس، نرى أنّه سبحانه يخاطب نبيَّه الاَكرم في سورة القصص بالخطابات الناهية الاَربعة المتوالية، الخطاب للنبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) والمقصود منه هو الاَُمّة ويقول: ( وَمَا كُنْتَ تَرْجُوا أَنْ يُلْقَى إِلَيْكَ الْكِتَابُ إِلاَّ رَحْمَةً مِن رَبِّكَ فَلاَ تَكُونَنَّ ظَهِيراً للْكَافِرينَ * وَلاَ يَصُدُّنَّكَ عَنْ آيَاتِ اللهِ بَعْدَ إِذْ أُنزِلَتْ إِلَيْكَ وَ ادْعُ إِلَى رَبِّكَ وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ * وَلاَ تَدْعُ مَعَ اللهِ إِلَهاً آخَرَ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ كُلُّ شَىْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ) (2)
  وهذا هو المقياس في أكثر الخطابات الناهية الواردة في القرآن الكريم.
  ب ـ الرجز بمعنى القذارة: ثم إنّ القذارة على قسمين : القذارة المادية،

--------------------
(1) الزمر: 65 .
(2) القصص: 86 ـ 88 .

عصمة الاَنبياء (ع) في القرآن الكريم _ 280 _
  والقذارة المعنوية، فيحتمل أن يكون المراد هو الاَوّل، وقد ورد في الروايات أنّ أبا جهل جاء بشيء قذر ونادى أصحابه، وقال : هل فيكم رجل يأخذه مني ويلقيه على محمد ؟ فأخذه بعض أصحابه فألقاه عليه ، فحينئذ تكون الآية ناظرة إلى تطهير الثوب عن الدنس، وإن أُريد القذارة المعنوية فالمراد هو الاجتناب عن الاَفعال والصفات الذميمة، فإنّ الآية نزلت للتعليم فلاتدل على اتصاف النبي الاَكرم بها.
  ج ـ الرجز بمعنى الصنم: نفترض أنّ المقصود منه في الآية هو الصنم لكن لا بمعنى أنّه وضع لذاك المعنى، وإنّما وضع اللفظ لمعنى جامع يعم الصنم والخمر والاَزلام، لاشتراك الجميع في كونها رجزاً، ولاَجل ذلك وصف الجميع في مورد آخر بالرجس فقال : ( إِنَّما الْخَمْرُ وَ الْمَيْسِرُ وَ الاَنْصَابُ وَ الاَزْلاَمُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ ) (1)
  ولكن الجواب عن هذه الصورة هو الجواب عن الصورتين الاَُوليين، والشاهد على ذلك أنّ النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) يوم نزلت الآية لم يكن عابداً للوثن ، بل كان مشمّراً لتحطيم الاَصنام ومكافحة عبدتها، فلا يصح أن يخاطب من هذا شأنه ، بهجر الاَصنام إلاّ على الوجه الذي أوعزنا إليه.
  الآية الثالثة: عدم علمه بالكتاب والاِيمان
  قوله سبحانه : ( وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلاَ الاِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيم ) (2)

--------------------
(1) المائدة: 90.
(2) الشورى: 52.

عصمة الاَنبياء (ع) في القرآن الكريم _ 281_
  استدلت المخطّئة لعصمة النبي الاَكرم بهذه الآية وزعمت ـ والعياذ بالله ـ دلالة الآية على أنّه كان فاقداً للاِيمان قبل الاِيحاء إليه، وقد انقلب وصار موَمناً موحداً بالوحي وبعد نزوله إليه.
  لكن حياته المشرقة ـ بالاِيمان والتوحيد ـ تفند تلك المزعمة، بشهادة التاريخ على أنّه من بداية عمره إلى أن لاقى ربَّه ، كان موَمناً موحداً، وليس ذلك أمراً قابلاً للشك والترديد ، وقد أصفق على ذلك أهل السير والتاريخ وحتى كان الاَحبار والرهبان معترفين بأنّه نبىُّ هذه الاَُمّة وخاتم الرسالات الاِلهية، وكان ( صلى الله عليه وآله وسلم ) يسمع تلك الشهادات منهم في فترات خاصة في (مكة) و (يثرب) و (بصرى) و (الشام) وغيرها ، وعلى ذلك فكيف يمكن أن يكون غافلاً عن الكتاب الذي ينزل إليه، أو يكون مجانباً عن الاِيمان بوجوده سبحانه وتوحيده ، والتاريخ المسلّم الصحيح يوَكد على عدم صدق ذلك الاستظهار، وعلى ضوء هذا، لا بد من إمعان النظر في مفاد الآية كما لا بد في تفسيرها من الاستعانة بالآيات الواردة في ذلك المساق فنقول :
  بعث النبي الاَكرم ( صلى الله عليه وآله وسلم ) لهداية قومه أوّلاً، وهداية جميع الناس ثانياً ـ بالآيات والبيّنات، وأخص بالذكر منها : كتابه وقرآنه (معجزته الكبرى الخالدة) الذي بفصاحته أخرس فرسان الفصاحة، وقادة الخطابة، وببلاغته قهر أرباب البلاغة وملوك البيان، وخلب عقولهم وقد دعاهم إلى التحدي والمقابلة، فلم يكن الجواب منهم إلاّ إثارة التهم حوله ، فتارة قالوا : بأنّه ( يُعْلّمُهُ بشر )، وأُخرى بأنّه ( إفْكٌ افتراهُ وأعانَهُ عَلَيهِ قَوْمٌ آخَرَون )، وثالثة: بأنّه ( أساطِيرُ الاَوّلِينَ اكْتَتَبها فَهِىَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرةً وأصِيلا )، قال سبحانه ردّاً على هذه التهم التي أوعزنا إليها: ( قُلْ نَزّلَهُ رُوحُ القُدُسِ مِن رَبِّكَ بِالحَقِّ لِيُثَبِّتَ الّذِينَ آمَنُوا وهُدًى

عصمة الاَنبياء (ع) في القرآن الكريم _ 282 _
  وبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ * ولَقَدْ نَعْلَمُ أنّهُمْ يَقُولُونَ إنّما يُعَلِّمُهُ بَشرٌ لِسانُ الذي يُلْحِدُونَ إليهِ أعْجَمىّ وهذا لِسانٌ عَرَبِىّ مُبِين ) (1)، وقال سبحانه: ( وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلاَّ إفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جَاءوا ظُلْماً وَزُوراً * وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الاَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِىَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً * قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَـوَاتِ وَ الاَرْضِ إِنَّهُ كانَ غَفُوراً رَحِيماً ) (2)
  والآية التي تمسّكت بها المخطّئة بصدد بيان هذا الاَمر وأنّه وحي سماوي لا إفك افتراه، ولاَجل ذلك بدأ كلامه بلفظة ( وكذلك أوحينا إليك )، أي كما أنّه سبحانه أوحى إلى سائر الاَنبياء بإحدى الطرق الثلاثة التي بيّنها في الآية المتقدمة، أوحى إليك أيضاً روحاً من أمرنا، وليس هذا كلامك وصنيعك ، بل كلام ربك وصنيعه.
  هذا مجمل الكلام في الآية، ولاَجل رفع النقاب عن مرامها نقدم أُموراً تسلّط ضوءاً عليه:
  الاَوّل: المراد من الروح في الآية هو القرآن، وسمّى روحاً لاَنّه قوام الحياة الاَُخروية، كما أنّ الروح في الاِنسان قوام الحياة الدنيوية، ويوَيد ذلك أُمور :
  أ ـ انّ محور البحث الاَصلي في سورة الشورى، هو : الوحى والآيات الواردة فيها البالغ عددها 53 آية، تبحث عن ذلك المعنى بالمباشرة أو بغيرها.
  ب ـ الآية التي تقدمت على تلك ، تبحث عن الطرق التي يكلّم بها سبحانه أنبياءه ويقول: ( وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللهُ إِلاَّ وَحْياً أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِىَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلَىّ حَكِيمٌ ) (3)

--------------------
(1) النحل: 102 ـ 103.
(2) الفرقان: 4 ـ 6.
(3) الشورى: 51.

عصمة الاَنبياء (ع) في القرآن الكريم _ 283 _
  ج ـ ما تقدم من أنّه سبحانه بدأ كلامه في هذه الآية بلفظة ( وكذلك )، أي كما أوحينا إلى من تقدّم من الاَنبياء كذلك أوحينا إليك بإحدى هذه الطرق ( روحاً من أمرنا ) ووجه الاشتراك بينه وبين النبيين، هو الوحي المتجلّـي في نبينا بالقرآن وفي غيره بوجه آخر .
  كل ذلك يوَيد أنّ المراد منه هو القرآن الملقى إليه، نعم وردت في بعض الروايات أنّ المراد منه هو (روح القدس) ولكنه لا ينطبق على ظاهر الآية، لاَنّ (الروح) بحكم كونه مفعولاً لـ ( أوحينا ) يجب أن يكون شيئاً قابلاً للوحي حتى يكون (موحاً) وروح القدس ليس موحاً ، بل هو الموحي بالكسر ، فكيف يمكن أن يكون مفعولاً لـ ( أوحينا ) ؟ ولاَجله يجب تأويل الروايات إن صح اسنادها.
  الثاني: انّ هيئة ( ما كنت ) أو ( ما كان ) تستعمل في نفى الاِمكان والشأن قال سبحانه: ( وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللهِ ) (1)، وقال عزّ اسمه: ( وَمَا كَانَ الْمُوَْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّة )(2) ، وقال تعالى حاكياً عن بلقيس: ( مَا كُنْتُ قَاطِعَةً أَمْراً حَتَّى تَشْهَدُون ) (3)
  وعلى ضوء هذا الاَصل يكون مفاد قوله : ( ما كنت تدري ما الكتاب ولا الاِيمان ) انّه لولا الوحي ما كان من شأنك أن تدري الكتاب ولا الاِيمان ، فإن وقفت عليهما فإنّما هو بفضل الوحي وكرامته.
  الثالث: انّ ظاهر الآية أن النبي الاَكرم ( صلى الله عليه وآله وسلم ) كان فاقداً للعلم بالكتاب والدراية للاِيمان ، وإنّما حصلت الدراية بهما في ظل الوحى وفضله ، فيجب

--------------------
(1) آل عمران: 145.
(2) التوبة: 122.
(3) النمل: 32.

عصمة الاَنبياء (ع) في القرآن الكريم _ 284_
  إمعان النظر في الدراية التي كان النبي فاقداً لها قبل الوحى وصار واجداً لها بعده ، فما تلك الدراية وذاك العلم ؟
  فهل المراد هو العلم بنزول الكتاب إليه اجمالاً، والاِيمان بوجوده وتوحيده سبحانه؟ أو المراد العلم بتفاصيل ما في الكتاب والاِذعان بها كذلك ؟
  لا سبيل إلى الاَوّل، لاَنّ علمه إجمالاً بأنّه ينزل إليه الكتاب، أو إيمانه بوجوده سبحانه كانا حاصلين قبل نزول الوحي إليه، ولم يكن العلم بهما مما يتوقف على الوحي، فإنّ الاَحبار والرهبان كانوا واقفين على نبوته ورسالته ونزول الكتاب إليه في المستقبل إجمالاً ، وقد سمع منهم النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) في فترات مختلفة ـ أنّه النبي الموعود في الكتب السماوية، وأنّه خاتم الرسالات والشرائع ، فهل يصح أن يقال : إنّ علمه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) بنزول كتاب عليه إجمالاً كان بعد بعثته وبعد نزول الوحي ؟ أو أنّه كان متقدّماً عليه وعلى بعثته ؟ ومثله الاِيمان بالله سبحانه وتوحيده إذ لم يكن الاِيمان بالله أمراً مشكلاً متوقفاً على الوحي، وقد كان الاَحناف في الجزيرة العربية ومن جملتهم رجال البيت الهاشمى، موحدين موَمنين مع عدم نزول الوحي إليهم.
  وبالجملة : العلم الاِجمالي بنزول كتاب إليه والاِيمان بوجوده وتوحيده ، لم يكن أمراً متوقفاً على نزول الوحي حتى يحمل عليه قوله : ( وكذلك أوحينا إليك روحاً من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الاِيمان ) ، وعندئذ يتعين الاحتمال الثاني، وهو أنّ العلم التفصيلى بمضامين الكتاب وما فيه من الاَُصول والتعاليم والقصص ـ ثم الاِيمان والاِذعان بتلك التفاصيل ـ كانا متوقفين على نزول الوحي، ولولاه لما كان هناك علم بها ولا إيمان.
  وإن شئت قلت : العلم والاِيمان بالاَُمور السمعية التي لا سبيل للعقل عليها ـ كالمعارف والاَحكام والقصص ومحاجة الاَنبياء مع المشركين والكفّار وما

عصمة الاَنبياء (ع) في القرآن الكريم _ 285_
  نزل بساحة أعدائهم من إهلاك وتدمير ـ لا يحصلان إلاّ من طريق الوحي، حتى قصص الاَُمم السالفة وحكاياتهم لتسرب الوضع والدس إلى كتب القصاصين، والصحف السماوية النازلة قبل القرآن.
تفسير الآية بآية أُخرى
  إنّ الرجوع إلى ما ورد في هذا المضمار من الآيات، يوضح المراد من عدم درايته بالكتاب أوّلاً، والاِيمان ثانياً :
  أمّا الاَوّل: فيقول سبحانه : ( تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلاَ قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ ) (1) فالآية صريحة في أنّ النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) لم يكن عالماً بتفاصيل الاَنباء ، وقد وقف عليها من جانب الوحي ، فعبّر عن عدم وقوفه عليها في هذه الآية بقوله : ( ما كنت تعلمها أنت ولا قومك ) وفي تلك الآية: بقوله : ( ما كنت تدري ما الكتاب ) والفرق هو أنّ ( الكتاب ) أعم من ( أنباء الغيب ) والاَوّل يشتمل على الاَنباء وغيرها (وأمّا الاَنباء) فإنّها مختصة بالقصص ، والكل مشترك في عدم العلم بهما قبل الوحى والعلم بهما بعده.
  وأمّا الثاني:
  فقوله سبحانه: ( آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَ الْمُوَْمِنُونَ كُلّ آمَنَ بِاللهِ وَمَلاَئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ ) (2)فقوله: ( آمن الرسول بما أنزل إليه ) صريح

--------------------
(1) هود: 49.
(2) البقرة: 285.

عصمة الاَنبياء (ع) في القرآن الكريم _ 286 _
  في أنّ متعلّق الاِيمان الحاصل بعد الوحى، هو الاِيمان ( بما أُنزل إليه )، أعنى: تفاصيل الكتاب في المجالات المختلفة، لا الاِيمان بالله وتوحيده ، وعندئذ يرتفع الاِبهام في الآية التي تمسّكت بها المخطّئة، ويتبيّـن أنّ متعلّق الاِيمان المنفي في قوله : ( ولا الاِيمان ) هو (ما أنزل إليه) لا الاِيمان بالمبدأ وتوحيده .
  والحاصل : أنّ هنا شيئاً واحداً ، أعني: الاِيمان بما أُنزل من المعارف والاَحكام والاَنباء ، فقد نفى عنه في الآية المبحوث عنها لكونها ناظرة إلى ما قبل البعثة، وأثبت له في الآية الاَُخرى لكونها ناظرة إلى ما بعد البعثة.
  ومن هنا تتضح أهمية عرض الآيات بعضها على بعض وتفسير الآية باختها ، فهاتان الآيتان كما عرفت كافلتان لرفع إبهام الآية وإجمالها.
  وقد تفطن المفسرون لما ذكرناه على وجه الاِجمال فقال الزمخشري في الكشاف: الاِيمان اسم يتناول أشياء: بعضها الطريق إليه العقل، وبعضها الطريق إليه السمع ، فعنى به ما الطريق إليه السمع دون العقل، وذاك ما كان له فيه علم حتى كسبه بالوحي . (1)
  وقال الطبرسي: ( ما كنت تدري ما الكتاب ) ما القرآن ولا الشرائع ومعالم الاِيمان. (2)
  وقال الرازي: المراد من الاِيمان هو الاِقرار بجميع ما كلّف الله تعالى به، وأنّه قبل النبوّة ما كان عارفاً بجميع تكاليف الله تعالى بل أنّه كان عارفاً بالله ... ثم قال : صفات الله تعالى على قسمين : منها ما تمكن معرفته بمحض دلائل العقل، ومنها ما لا تمكن معرفته إلاّ بالدلائل السمعية، فهذا القسم الثاني لم تكن معرفته

--------------------
(1) الكشاف: 3|88 ـ 89.
(2) مجمع البيان: 5|37.

عصمة الاَنبياء (ع) في القرآن الكريم _ 287 _
  حاصلة قبل النبوة. (1)
  وقال العلاّمة الطباطبائي في (الميزان) : إنّ الآية مسوقة لبيان أنّ ما عنده ( صلى الله عليه وآله وسلم ) الذي يدعو إليه إنّما هو من عند الله سبحانه لا من قبل نفسه وإنّما أُوتي ما أُوتي من ذلك، بالوحي بعد النبوة، فالمراد بعدم درايته بالكتاب عدم علمه بما فيه من تفاصيل المعارف الاعتقادية والشرائع العملية، فإنّ ذلك هو الذي أُوتي العلم به بعد النبوّة والوحي، والمراد من عدم درايته الاِيمان، عدم تلبسه بالالتزام التفصيلي بالعقائد الحقة والاَعمال الصالحة، وقد سمى العمل إيماناً في قوله تعالى : ( وَمَا كَانَ اللهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ ) (2)، والمراد الصلوات التي أتى بها الموَمنون إلى بيت المقدس قبل النسخ، والمعنى ما كان عندك قبل وحي الروح، علم الكتاب بما فيه من المعارف والشرائع ولا كنت متلبساً به بما أنت متلبس به بعد الوحي من الالتزام التفصيلي والاعتقادي ، وهذا لا ينافي كونه موَمناً بالله موحداً قبل البعثة صالحاً في عمله ، فإنّ الذي تنفيه الآية هو العلم بتفاصيل ما في الكتاب والالتزام بها اعتقاداً وعملاً ، لا نفى العلم والالتزام الاِجماليين بالاِيمان بالله والخضوع للحق . (3)
  الآية الرابعة: عدم رجائه إلقاء الكتاب إليه
  قال تعالى : ( وَمَا كُنْتَ تَرْجُواْ أَنْ يُلْقَى إِلَيْكَ الْكِتَابُ إِلاَّ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ ظَهِيراً لِلْكَافِرينَ ) (4)

--------------------
(1) مفاتيح الغيب: 7|410 ، ولاحظ روح البيان: 8|347 ، روح المعاني: 15|25.
(2) البقرة: 143.
(3) الميزان: 18|80.
(4) القصص: 86.

عصمة الاَنبياء (ع) في القرآن الكريم _ 288-_
  استدل الخصم بأنّ ظاهر الآية نفي علمه بإلقاء الكتاب إليه، فلم يكن النبي راجياً لذلك واقفاً عليه.
  أقول: توضيح مفاد الآية يتوقف على إمعان النظر في الجملة الاستثنائية، أعني قوله: ( إلاّ رحمة من ربّك ) حتى يتضح المقصود، وقد ذكر المفسرون في توضيحها وجوهاً ثلاثة نأتي بها:
  1 ـ انّ (إلاّ) استدراكية وليست استثنائية، فهي بمعنى (لكن) لاستدراك ما بقي من المقصود.
  وحاصل معنى الآية: ما كنت يا محمد ترجو فيما مضى أن يوحي الله إليك ويشرّفك بإنزال القرآن عليك ، إلاّ أنّ ربك رحمك وأنعم به عليك وأراد بك الخير، نظير قوله سبحانه: ( وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا وَلَكِن رَحْمَةً مِن رَبِّكَ ) (1)يپ ، أي ولكن رحمة من ربك خصّك بها ، وهذا هو المنقول عن الفراء (2) ، وعلى هذا لم يكن للنبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) أىُّ رجاء لاِلقاء الكتاب إليه وإنّما فاجأه الاِلقاء لاَجل رحمة ربّه ، ولكن لا يصار إلى هذا الوجه إلاّ إذا امتنع كون الاستثناء متصلاً لكون الانقطاع على خلاف الظاهر.
  2 ـ أن يكون ( إلاّ ) للاستثناء لا للاستدراك ، وهو متصل لا منقطع ، ولكن المستثنى منه جملة محذوفة معلومة من سياق الكلام، وهو كما في الكشاف: (وما ألقى إليك الكتاب إلاّ رحمة من ربك) (3) ، أي لم يكن لاِلقائه عليك وجه إلاّ رحمة من ربك ، وعلى هذا الوجه أيضاً لا يعلم أنّه كان للنبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) رجاء

--------------------
(1) القصص: 46.
(2) مجمع البيان: 4|269 ، مفاتيح الغيب: 6|408.
(3) الكشاف: 2|487 ـ 488.

عصمة الاَنبياء (ع) في القرآن الكريم _ 289_
  لاِلقاء الكتاب عليه وإن كان الاستثناء متصلاً ، وهذا الوجه بعيد أيضاً لكون المستثنى منه محذوفاً مفهوماً من الجملة على خلاف الظاهر ، وإنّما يصار إليه إذا لم يصح إرجاعه إلى نفس الجملة الواردة في نفس الآية كما سيبيّـن في الوجه الثالث.
  3 ـ أن يكون (إلاّ) استثناء من الجملة السابقة عليه ، أعني قوله : (وما كنت ترجوا) ويكون معناه : ما كنت ترجوا إلقاء الكتاب عليك إلاّ أن يرحمك الله برحمة فينعم عليك بذلك ، فتكون النتيجة: ما كنت ترجو إلاّ على هذا (1) فيكون هنا رجاءٌ منفي ورجاءٌ مثبت أمّا الاَوّل: فهو رجاوَه بحادثة نزول الكتاب على نسج رجائه بالحوادث العادية، فلم يكن ذاك الرجاء موجوداً ، وأمّا رجاوَه به عن طريق الرحمة الاِلهية فكان موجوداً ، فنفي أحد الرجاءين لا يستلزم نفي الآخر، بل المنفي هو الاَوّل، والثابت هو الثاني، وهذا الوجه هو الظاهر المتبادر من الآية، وقد سبق منّا أنّ جملة (ما كنت) وما أشبهه تستعمل في نفى الاِمكان والشأن ، وعلى ذلك يكون معنى الجملة: لم تكن راجياً لاَن يلقى إليك الكتاب وتكون طرفاً للوحي والخطاب إلاّ من جهة خاصة ، وهي أن تقع في مظلة رحمته وموضع عنايته فيختارك طرفاً لوحيه ، ومخاطباً لكلامه وخطابه ، فالنبي بما هو إنسان عادي لم يكن راجياً لاَن ينزل إليه الوحي ويلقى إليه الكتاب، وبما أنّه صار مشمولاً لرحمته وعنايته وصار إنساناً مثالياً قابلاً لتحمل المسوَولية وتربية الاَُمّة، كان راجياً به ، وعلى ذلك فالنفي والاِثبات غير واردين على موضع واحد.
  فقد خرجنا بفضل هذا البحث الضافي أنّه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) كان إنساناً موَمناً موحداً عابداً لله ساجداً له قائماً بالفرائض العقلية والشرعية، مجتنباً عن المحرمات، عالماً بالكتاب ، وموَمناً به إجمالاً ، وراجياً لنزوله إليه إلى أن بُعثَ لاِنقاذ البشرية

--------------------
(1) مفاتيح الغيب: 6|498.

عصمة الاَنبياء (ع) في القرآن الكريم _ 290 _
  عن الجهل، وسوقها إلى الكمال، فسلام الله عليه يوم ولد ويوم مات ويوم يبعث حياً ، وبقيت هنا آية أُخرى نأتي بتفسيرها إكمالاً للبحث وإن لم تكن لها صلة تامّة لما تتبنّاه المخطّئة.
  الآية الخامسة: لو لم يشأ الله ما تلوته
  قال سبحانه: ( قُلْ لَوْ شَاءَ اللهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلاَ أَدْرَاكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِن قَبْلِهِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ ) (1)
  والآية توَكد أنّ النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) كان لابثاً في قومه، ولم يكن تالياً لسورة من سور القرآن أو تالياً لآىٍ من آياته، وليس هذا الشيء ينكره القائلون بالعصمة ، فقد اتفقت كلمتهم على أنّ النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وقف على ما وقف من آي الذكر الحكيم من جانب الوحي ولم يكن قبله عالماً به ، وأين هو من قول المخطّئة من نفي الاِيمان منه قبلها ؟ !
  وإن أردت الاِسهاب في تفسيرها فلاحظ الآية المتقدمة عليها فترى فيها اقتراحين للمشركين ، وقد أجاب القرآن عن أحدهما في الآية المتقدّمة وعن الآخر في نفس هذه الآية، وإليك نصها: ( قَالَ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنَّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ ) (2)
  اقترح المشركون على النبي أحد أمرين:
  1 ـ الاِتيان بقرآن غير هذا ، مع المحافظة على فصاحته وبلاغته.

--------------------
(1) يونس: 16.
(2) يونس: 15.

عصمة الاَنبياء (ع) في القرآن الكريم _ 291_
  2 ـ تبديل بعض آياته ممّا فيه سبّ لآلهتهم وتنديد بعبادتهم الاَوثان والاَصنام .
  فأجاب عن الثاني في نفس الآية بأنّ التبديل عصيان لله ، وانّه يخاف من مخالفة ربّه ، ولا محيص له إلاّ اتّباع الوحي من دون أن يزيد فيه أو ينقص عنه.
  وأجاب عن الاَوّل في الآية المبحوث عنها بأنّه أمر غير ممكن ، لاَنّ القرآن ليس من صنعي وكلامي حتى أذهب به وآتي بآخر ، بل هو كلامه سبحانه ، وقد تعلقت مشيئته على تلاوتي ، ولو لم يشأ لما تلوته عليكم ولا أدراكم به ، والدليل على ذلك إنّي كنت لابثاً فيكم عمراً من قبل فما تكلّمت بسورة أو بآية من آياته، ولو كان القرآن كلامي لبادرت إلى التكلّم به طيلة معاشرتي معكم في المدّة الطويلة.
  قال العلاّمة الطباطبائي في تفسير الآية: إنّ الاَمر فيه إلى مشيئة الله لا إلى مشيئتي فإنّما أنا رسول ، ولو شاء الله أن ينزل قرآناً غير هذا لاَنزل ، أو لم يشأ تلاوة هذا القرآن ما تلوته عليكم ولا أدراكم به ، فإنّي مكثت فيكم عمراً من قبل نزوله ولو كان ذلك إليّ وبيدي لبادرت إليه قبل ذلك وبدت من ذلك آثار ولاحت لوائحه (1).
  هذا آخر الكلام في عصمته عن العصيان، وصيانته عن الخلاف، بقى الكلام في عصمته عن الخطأ والنسيان ، فنطرحها على بساط البحث إجمالاً .

عصمة النبي الاَعظم عن الخطأ (2)
  إنّ صيانة النبي عن الخطأ والاشتباه سواء أ كان في مجال تطبيق الشريعة،

--------------------
(1) الميزان: 10|26 ، ولاحظ تفسير المنار: 11|320.
(2) البحث كما يعرب عنه عنوان البحث، مركز على صيانة خصوص نبينا الاَعظم عن الخطأ استدلالاً وإشكالاً وجواباً ، وأمّا البحث عن عصمة غيره من الاَنبياء فموكول إلى مجال آخر .

عصمة الاَنبياء (ع) في القرآن الكريم _ 292 _
  أم في مجال الاَُمور العادية الفردية المرتبطة بحياته ، ممّا طرح في علم الكلام وطال البحث فيه بين متكلمي الاِسلام.
  غير انّ تحقق الغاية من البعثة رهن صيانته عن الخطأ في كلا المجالين ، وإلاّ فلا تتحقق الغاية المتوخاة من بعثته ، وهذا هو الدليل العقلي الذي اعتمدت عليه العدلية ، بعدما اتفق الكل على لزوم صيانته عن الخطأ والاشتباه في مجال تلقي الوحي وحفظه ، وأدائه إلى الناس، ولم يختلف في ذلك اثنان.
  وإليك توضيح هذا الدليل العقلي: إنّ الخطأ في غير أمر الدين وتلقّي الوحي يتصوّر على وجهين:
  أ ـ الخطأ في تطبيق الشريعة كالسهو في الصلاة أو في إجراء الحدود.
  ب ـ الاشتباه في الاَُمور العادية المعدة للحياة كما إذا استقرض ألف دينار ، وظن أنّه استقرض مائة دينار .
  وهو مصون من الاشتباه والسهو في كلا الموردين ، وذلك لاَنّ الغاية المتوخاة من بعث الاَنبياء هي هدايتهم إلى طريق السعادة، ولا تحصل تلك الغاية إلاّ بكسب اعتماد الناس على صحة ما يقوله النبي وما يحكيه عن جانب الوحي ، وهذا هو الاَساس لحصول الغاية ، ومن المعلوم أنّه لو سها النبي واشتبه عليه الاَمر في المجالين الاَوّلين ربّما تسرب الشك إلى أذهان الناس ، وانّه هل يسهو في ما يحكيه من الاَمر والنهى الاِلهى أم لا ؟
  فبأي دليل أنّه لا يخطأ في هذا الجانب مع أنّه يسهو في المجالين الآخرين ؟! وهذا الشعور إذا تغلغل في أذهان الناس سوف يسلب اعتماد الناس على النبي، وبالتالى تنتفى النتيجة المطلوبة من بعثه .

عصمة الاَنبياء (ع) في القرآن الكريم _ 293 _
  نعم، التفكيك بين صيانته في مجال الوحى وصيانته في سائر الاَُمور وإن كان أمراً ممكناً عقلاً ، ولكنه ممكن بالنسبة إلى عقول الناضجين في الاَبحاث الكلامية ونحوها ، وأمّا العامّة ورعايا الناس الذين يشكلون أغلبية المجتمع، فهم غير قادرين على التفكيك بين تينك المرحلتين، بل يجعلون السهو في إحداهما دليلاً على إمكان تسرّب السهو إلى المرحلة الاَُخرى.
  ولاَجل سدّ هذا الباب المنافي للغاية المطلوبة من إرسال الرسل، ينبغى أن يكون النبي مصوناً في عامّة المراحل، سواء أكانت في حقل الوحى أو في تطبيق الشريعة أو في الاَُمور العامة، ولهذا يقول الاِمام الصادق ( عليه السلام ): (جعل مع النبي روح القدس وهي لا تنام ولا تغفل ولا تلهو ولا تسهو) ، (1) وعلى ذلك فبما أنّه ينبغي أن يكون النبي اسوة في الحياة في عامة المجالات يجب أن يكون نزيهاً عن العصيان والخلاف والسهو والخطأ .

القرآن وعصمة النبي عن الخطأ والسهو
  قد عرفت منطق العقل في لزوم عصمة النبي من الخطأ في مجال تطبيق الشريعة، ومجال الاَُمور العادية المعدّة للحياة ، وهذا الحكم لا يختص بمنطقه ، بل الذكر الحكيم يدعمه بأحسن وجه ، وإليك ما يدل على ذلك:
  1 ـ قال سبحانه: ( إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللهُ وَلاَ تَكُن لِلْخَائِنِينَ خَصِيماً ) (2) ، وقال أيضاً: ( وَلَوْلاَ فَضْلُ اللهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طَّائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَمَا يُضِلُّونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَضُرُّونَكَ

--------------------
(1) بصائر الدرجات: 454.
(2) النساء: 105.

عصمة الاَنبياء (ع) في القرآن الكريم _ 294 _
  مِنْ شَىْءٍ وَأَنْزَلَ اللهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَ الْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللهِ عَلَيْكَ عَظِيماً ) (1)
  وقد نقل المفسرون حول نزول الآيات وما بينهما من الآيات روايات رووها بطرق مختلفة نذكر ما ذكره ابن جرير الطبري عن ابن زيد قال: كان رجل سرق درعاً من حديد في زمان النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وطرحه على يهودي ، فقال اليهودي: والله ما سرقتها يا أبا القاسم، ولكن طرحت علىّ وكان للرجل الذي سرق جيران يبروَونه ويطرحونه على اليهودي، ويقولون : يا رسولَ الله إنّ هذا اليهودي الخبيث يكفر بالله وبما جئت به ، قال : حتى مال عليه النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ببعض القول فعاتبه الله عزّ وجلّ في ذلك فقال : ( إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللهُ وَلاَ تَكُن لِّلْخَائِنِينَ خَصِيماً ) (2)
  أقول: سواء أصحت هذه الرواية أم لا ، فمجموع ما ورد حول الآيات من أسباب النزول متفق على أنّ الآيات نزلت حول شكوى رفعت إلى النبي، وكان كل من المتخاصمين يسعى ليبرىَ نفسه ويتهم الآخر، وكان في جانب واحد منهما رجل طليق اللسان يريد أن يخدع النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ببعض تسويلاته ويثير عواطفه على المتهم البريء حتى يقضي على خلاف الحق، وعند ذلك نزلت الآية ورفعت النقاب عن وجه الحقيقة فعرف المحق من المبطل.
  والدقة في فقرات الآية الثانية يوقفنا على سعة عصمة النبي من الخطأ وصيانته من السهو، لاَنّها موَلفة من فقرات أربع، كل يشير إلى أمر خاص :
  1 ـ ( وَلَوْلاَ فَضْلُ اللهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طَّائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَمَا

--------------------
(1) النساء: 113.
(2) تفسير الطبري: 4|172.

عصمة الاَنبياء (ع) في القرآن الكريم _ 295 _
  ُضِلُّونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِنْ شَىْءٍ ).
  2 ـ ( وَأَنْزَلَ اللهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَ الْحِكْمَةَ ).
  3 ـ ( وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ ).
  4 ـ ( وَكَانَ فَضْلُ اللهِ عَلَيْكَ عَظِيماً ).
  فالاَُولى منها: تدل على أنّ نفس النبىّ بمجردها لا تصونه من الضلال ( أي من القضاء على خلاف الحق ) وإنّما يصونه سبحانه عنه ، ولولا فضل الله ورحمته لهمّت طائفة أن يرضوه بالدفاع عن الخائن والجدال عنه ، غير أنّ فضله العظيم على النبي هو الذي صدّه عن مثل هذا الضلال وأبطل أمرهم الموَدى إلى إضلاله ، وبما أنّ رعاية الله سبحانه وفضله الجسيم على النبي ليست مقصورة على حال دون حال ، أو بوقت دون وقت آخر ، بل هو واقع تحت رعايته وصيانته منذ أن بعث إلى أن يلاقي ربَّه ، فلا يتعدى إضلال هوَلاء أنفسهم ولا يتجاوز إلى النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) فهم الضالون بما هموا به كما قال : ( وَمَا يُضِلُّونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِنْ شَىْءٍ ) .
  والفقرة الثانية: تشير إلى مصادر حكمه ومنابع قضائه ، وأنّه لا يصدر في ذلك المجال إلاّ عن الوحي والتعليم الاِلهي، كما قال سبحانه: ( وأنزل عليك الكتاب والحكمة ) والمراد المعارف الكلية العامة من الكتاب والسنة.
  ولما كان هذا النوع من العلم الكلي أحد ركني القضاء وهو بوحده لا يفي بتشخيص الموضوعات وتمييز الصغريات، فلابد من الركن الآخر وهو تشخيص المحق من المبطل، والخائن من الاَمين، والزاني من العفيف، أتى بالفقرة الثالثة وقال: ( وعلّمك ما لم تكن تعلم ) ومقتضى العطف، مغائرة المعطوف، مع المعطوف عليه، فلو كان المعطوف عليه ناظراً إلى تعرّفه على الركن الاَوّل وهو العلم بالاَُصول والقواعد الكلية الواردة في الكتاب والسنّة،

عصمة الاَنبياء (ع) في القرآن الكريم _ 296 _
  يكون المعطوف ناظراً إلى تعرّفه على الموضوعات والجزئيات التي تعد ركناً ثانياً للقضاء الصحيح، فالعلم بالحكم الكلي الشرعي وتشخيص الصغريات وتمييز الموضوعات جناحان للقاضي يحلّق بهما في سماء القضاء بالحق من دون أن يجنح إلى جانب الباطل، أو يسقط في هوّة الضلال.
  قال العلاّمة الطباطبائي: إنّ المراد من قوله سبحانه: ( وعلّمك ما لم تكن تعلم ) ليس علمه بالكتاب والحكمة ، فإنّ مورد الآية، قضاء النبي في الحوادث الواقعة، والدعاوى المرفوعة إليه ، برأيه الخاص ، وليس ذلك من الكتاب والحكمة بشيء ، وإن كان متوقفاً عليهما ، بل المراد رأيه ونظره الخاص ، (1)ولما كان هنا موضع توهم وهو أنّ رعاية الله لنبيّه تختص بمورد دون مورد ، دفع ذلك التوهم بالفقرة الرابعة فقال سبحانه : ( وكان فضل الله عليك عظيماً ) حتى لا يتوهم اختصاص فضله عليه بواقعة دون أُخرى، بل مقتضى عظمة الفضل، سعة شموله لكل الوقائع والحوادث ، سواء أكانت من باب المرافعات والمخاصمات ، أم الاَُمور العادية، فتدل الفقرة الاَخيرة على تعرّفه على الموضوعات ومصونيته عن السهو والخطاء في مورد تطبيق الشريعة، أو غيره ، ولا كلام أعلى وأغزر من قوله سبحانه في حق حبيبه : ( وكان فضل الله عليك عظيماً ).
  2 ـ قال سبحانه : ( وَكَذلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً ) (2) إنّ الشهادة المذكورة في الآية حقيقة من الحقائق القرآنية تكرر ذكرها في كلامه سبحانه ، قال تعالى : ( فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَوَُلاَءِ شَهِيداً ) (3) ، وقال تعالى : ( وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِنْ

--------------------
(1) الميزان: 5|81.
(2) البقرة: 143.
(3) النساء: 41.

عصمة الاَنبياء (ع) في القرآن الكريم _ 297 _
  كُلِّ أُمّةٍ شَهِيداً ثُمَّ لا يُوَْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَلاَ هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ ) (1) وقال تعالى: ( وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بالنَّبِيِّينَ وَ الشُّهَدَاءِ ) (2) والشهادة فيها مطلقة ، وظاهر الجميع هو الشهادة على أعمال الاَُمم وعلى تبليغ الرسل كما يومي إليه قوله تعالى : ( فَلَنَسْئَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْئَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ ) (3) وهذه الشهادة وإن كانت في الآخرة ويوم القيامة لكن يتحملها الشهود في الدنيا على ما يدل عليه قوله سبحانه حكاية عن عيسى: ( وكُنْتُ عَلَيِهِمْ شَهِيداً ما دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّـا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأنْتَ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ شَهِيدٌ ) (4)، وقال سبحانه : ( وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً ) (5) ومن الواضح أنّ الشهادة فرع العلم، وعدم الخطأ في تشخيص المشهود به ، فلو كان النبي من الشهداء يجب ألاّ يكون خاطئاً في شهادته ، فالآية تدلّ على صيانته وعصمته من الخطأ في مجال الشهادة كما تدلّ على سعة علمه ، لاَنّ الحواس لا ترشدنا إلاّ إلى صور الاَعمال والاَفعال ، والشهادة عليها غير كافية عند القضاء ، وإنّما تكون مفيدة إذا شهد على حقائقها من الكفر والاِيمان ، والرياء والاِخلاص ، وبالجملة على كل خفي عن الحس ومستبطن عند الاِنسان ، أعني ما تكسبه القلوب وعليه يدور حساب رب العالمين، قال تعالى: ( وَلَكِن يُوََاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ ) (6)، ولا شك أنّ الشهادة على حقائق أعمال الاَُمّة خارج عن وسع الاِنسان العادي إلاّ

--------------------
(1) النحل: 84.
(2) الزمر: 69.
(3) الاَعراف: 6.
(4) المائدة: 117.
(5) النساء: 159.
(6) البقرة: 225.

عصمة الاَنبياء (ع) في القرآن الكريم _ 298 _
  إذا تمسّك بحبل العصمة وولي أمر الله بإذنه، ولنا في الاَجزاء الآتية من هذه الموسوعة بحث حول الشهداء في القرآن، فنكتفى بهذا القدر في المقام.
  ثم إنّ العلاّمة الحجّة السيد عبد الله شبر أقام دلائل عقلية ونقلية على صيانة النبي عن الخطأ ولكن أكثرها كما صرّح به نفسه ـ قدس الله سره ـ مدخولة غير واضحة ، ومن أراد الوقوف عليها فليرجع إلى كتابه. (1)

أدلّة المخطّئة
  إنّ بعض المخطّئة استدلّ على تطرّق الخطأ والنسيان إلى النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ببعض الآيات غافلة عن أهدافها، وإليك تحليلها :
  1 ـ قال سبحانه: ( وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلاَ تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمينَ ) (2) زعمت المخطّئة أنّ الخطاب للنبي وهو المقصود منه، غير انّها غفلت عن أنّ وزان الآية وزان سائر الآيات التي تقدّمت في الاَبحاث السابقة وقلنا بأنّ الخطاب للنبي ولكن المقصود منه هو الاَُمّة، ويدل على ذلك ، الآية التالية لها قال : ( وَمَا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِن شَىْءٍ وَلَكِنْ ذِكْرَى لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ ) (3) ، فإنّ المراد انّه ليس على الموَمنين الذي من حساب الكفرة شيء بحضورهم مجلس الخوض، وهذا يدل على أنّ النهي

--------------------
(1) مصابيح الاَنوار في حل مشكلات الاَخبار : 2|128 ـ 140.
(2) الاَنعام: 68.
(3) الاَنعام: 69.

عصمة الاَنبياء (ع) في القرآن الكريم _ 299_
  عن الخوض تكليف عام يشترك فيه النبي وغيره ، وإنّ الخطاب للنبي لا ينافي كون المقصود هو الاَُمّة.
  والاَوضح منها دلالة على أنّ المقصود هو الاَُمّة قوله سبحانه: ( وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلاَ تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ إِنَّ اللهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَ الكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعاً ) (1)
  والآية الاَخيرة مدنية ، والآية المتقدمة مكية ، وهي تدل على أنّ الحكم النازل سابقاً متوجه إلى الموَمنين وإنّ الخطاب وإن كان للنبي لكن المقصود منه غيره.
  2 ـ ( وَلاَ تَقُولَنَّ لِشَيءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَداً * إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللهُ وَ اذْكُر رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُلْ عَسَى أَنْ يَهْدِيَنِى رَبِّى لاََِقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَداً ) (2) والمراد من النسيان نسيان الاستثناء ( إلاّ أن يشاء الله ) ووزان هذه الآية، وزان الآية السابقة في أنّ الخطاب للنبي والمقصود هو الاَُمّة.
  3 ـ ( سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسَى * إِلاَّ مَا شَاءَ اللهُ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَمَا يَخْفَى ) (3)، ومعنى الآية سنجعلك قارئاً بإلهام القراءة فلا تنسى ما تقرأه ، لكن المخطّئة استدلّت بالاستثناء الوارد بعده ، على إمكان النسيان، لكنّها غفلت عن نكتة الاستثناء، فإنّ الاستثناء في الآية نظير الاستثناء في قوله سبحانه ( وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمواتُ وَ الاَرْضُ إِلاَّ مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ ) (4) ، ومن المعلوم أنّ الوارد إلى الجنّة لا يخرج منها ، ولكن

--------------------
(1) النساء: 140.
(2) الكهف: 23 ـ 24.
(3) الاَعلى: 6 ـ 7.
(4) هود: 108.

عصمة الاَنبياء (ع) في القرآن الكريم _ 300_
  الاستثناء لاَجل بيان انّ قدرة الله سبحانه بعد باقية ، فهو قادر على الاِخراج مع كونهم موَبدين في الجنّة ، وأمّا الآية فالاستثناء فيها يفيد بقاء القدرة الاِلهية على إطلاقها، وإنّ عطية الله أعني (الاِقراء بحيث لا تنسى) لا ينقطع عنه سبحانه بالاِعطاء ، بحيث لا يقدر بعد على إنسائك ، بل هو باق على إطلاق قدرته ، فلو شاء أنساك متى شاء ، وإن كان لا يشاء ذلك .
  وبما أنّ البحث مركّز على عصمة النبي الاَعظم ( صلى الله عليه وآله وسلم ) من الخطأ والنسيان دون سائر الاَنبياء ذكرنا الآيات التي استدلّت بها المخطّئة على ما تتبنّاه في حق النبي الاَكرم ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، وأمّا بيان الآيات التي يمكن أن يستدل بها على إمكان صدور السهو والنسيان عن سائر الاَنبياء وتفسيرها فمتروك إلى مجال آخر ، ونقول على وجه الاِجمال انّه يستظهر من بعض الآيات صحة نسبة النسيان إلى غير النبي الاَعظم (صلى الله عليه وآله وسلم) ، أعني قوله سبحانه: ( وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِىَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً ) (1) وقوله سبحانه في حق موسى: ( فَلَمَّا بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا نَسِيا حُوتَهُمَا) (2) وقوله سبحانه أيضاً عنه: ( فَإِنّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلاَّ الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ ) (3) وقوله سبحانه في حقّه أيضاً: ( لا تُوَاخِذْنِى بِمَا نَسِيتُ ) (4) لكن البحث عن مفاد هذه الآيات موكول إلى مجال آخر .

--------------------
(1) طه: 115.
(2) الكهف: 61.
(3) الكهف: 63.
(4) الكهف: 73.

عصمة الاَنبياء (ع) في القرآن الكريم _ 301_
بقي هنا أمران:
  الاَوّل: ما هي النظرية السائدة بين الاِمامية في مسألة سهو النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ؟
  الثاني: كيفية معالجة المأثورات الظاهرة في صدور السهو عن النبي الاَعظم ( صلى الله عليه وآله وسلم ) .
  وإليك بيان الاَمرين على نحو الاِجمال:
  1 ـ الرأي السائد بين الاِمامية حول سهو النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يظهر من الشيخ الصدوق أنّ إنكار سهو النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) كان شعار الغلاة والمفوّضة ، قال في كتابه (من لا يحضره الفقيه): إنّ الغلاة والمفوّضة ينكرون سهو النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، ويقولون: لو جاز أن يسهو في الصلاة لجاز أن يسهو في التبليغ ، لاَنّ الصلاة عليه فريضة كما أنّ التبليغ عليه فريضة .
  ثم أجاب عنه بقوله: وهذا لا يلزمنا ، وذلك لاَنّ جميع الاَحوال المشتركة يقع على النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) فيها ما يقع على غيره ... فالحالة التي اختص بها هي النبوة ، والتبليغ من شرائطها ، ولا يجوز أن يقع عليه في التبليغ ما يقع عليه في الصلاة ، لاَنّها عبادة مخصوصة ، والصلاة عبادة مشتركة ، وبها تثبت له العبودية، وبإثبات النوم له عن خدمة ربّه عزّ وجلّ من غير إرادة له وقصد منه إليه ، نفي الربوبية عنه ، لاَنّ الذي لا تأخذه سنة ولا نوم هو الله الحي القيّوم، وليس سهو النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) كسهونا ، لاَنّ سهوه من الله عزّ وجلّ ، وإنّما أسهاه ليعلم أنّه بشر مخلوق فلا يتخذ ربّاً معبوداً دونه ، وليعلم الناس بسهوه حكم السهو متى سهوا ، وسهونا عن الشيطان، وليس للشيطان على النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) والاَئمّة ـ صلوات الله عليهم ـ سلطان ( إنّما سُلطانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَولَّوْنَهُ و الَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشركون ) (1) وعلى من تبعه من الغاوين.

--------------------
(1) النحل: 100.

عصمة الاَنبياء (ع) في القرآن الكريم _ 302_
  ثم نقل عن شيخه محمد بن الحسن بن أحمد بن الوليد ( المتوفّـى 343 هـ ) انّه كان يقول: أوّل درجة في الغلو نفى السهو عن النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) (1).
  وحاصل كلامه : انّ السهو الصادر عن النبي إسهاء من الله إليه لمصلحة، كنفي وهم الربوبية عنه ، وإثبات انّه بشر مخلوق ، وإعلام الناس حكم سهوهم في العبادات وأمثالها وأمّا السهو الذي يعترينا من الشيطان فإنّه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) منه برىء ، وهو منزّه عنه ، وليس للشيطان عليه سلطان ولا سبيل .
  ومع ذلك كلّه ، فهذه النظرية مختصة به ، وبشيخه ابن الوليد، ومن تبعهما كالطبرسي في "مجمعه" على ما سيأتى ، والمحقّقون من الاِمامية متفقون على نفي السهو عنه في أُمور الدين حتى مثل الصلاة.
  قال المفيد: أقول إنّ الاَئمّة القائمين مقام الاَنبياء :في تنفيذ الاَحكام وإقامة الحدود وحفظ الشرائع وتأديب الاَنام معصومون كعصمة الاَنبياء، وانّه لا يجوز منهم سهو في شىء في الدين، ولا ينسون شيئاً من الاَحكام، وعلى هذا مذهب سائر الاِمامية إلاّ من شذّ منهم وتعلّق بظاهر روايات لها تأويلات على خلاف ظنّه الفاسد من هذا الباب، والمعتزلة بأسرها تخالف في ذلك ويجوّزون من الاَئمة وقوع الكبائر والردّة عن الاِسلام. (2)
  وقال في شرحه على عقائد الصدوق: فأمّا نص أبى جعفر ـ رحمه الله ـ بالغلو على من نسب مشايخ القمّيين وعلمائهم ( الذين جوّزوا السهو على النبي ) إلى التقصير، فليس نسبة هوَلاء القوم إلى التقصير علامة على غلو الناس، إذ في جملة المشار إليهم بالشيخوخة والعلم من كان مقصّراً ، وانّما يجب الحكم بالغلو

--------------------
(1) من لا يحضره الفقيه: 1|232.
(2) أوائل المقالات: 35.

عصمة الاَنبياء (ع) في القرآن الكريم _ 303_
  على من نسب المحقّقين إلى التقصير سواء أكانوا من أهل قم أم من غيرها من البلاد ومن سائر الناس، وقد سمعنا حكاية ظاهرة عن أبي جعفر محمد بن الحسن بن الوليد ـ رحمه الله ـ لم نجد لها دافعاً وهي ما حُكى عنه انّه قال : أوّل درجة في الغلو نفى السهو عن النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) والاِمام ( عليه السلام ).
  ثم إنّ الشيخ المفيد لم يكتف بهذا القدر من الرد بل ألّف رسالة مفردة في ردّه، وقد أدرجها العلاّمة المجلسي في "بحاره" .(1)
وعلى هذا الرأي استقر رأي الاِمامية، فقال المحقّق الطوسي: وتجب في النبي العصمة ليحصل الوثوق ... وعدم السهو .
  وقال العلاّمة الحلّي في شرحه : وان لا يصح عليه السهو لئلاّ يسهو عن بعض ما أُمر بتبليغه ، (2) وقال المحقّق الحلّي في (النافع): والحق رفع منصب الاِمامة عن السهو في العبادة (3).
  وقال العلاّمة في (المنتهى) في مسألة التكبير في سجدتى السهو: احتج المخالف بما رواه أبو هريرة عن النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : قال: ثم كبّر وسجد .
  والجواب: هذا الحديث عندنا باطل ، لاستحالة السهو على النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) .
  وقال في مسألة أُخرى: قال الشيخ : وقول مالك باطل ، لاستحالة السهو على النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) (4).

--------------------
(1) راجع البحار: 17|122 ـ 129.
(2) كشف المراد: 195.
(3) النافع: 45.
(4) منتهى المطلب: 418 ـ 419.

عصمة الاَنبياء (ع) في القرآن الكريم _ 304_
  وقال الشهيد في (الذكرى) : وخبر ذي اليدين متروك بين الاِمامية، لقيام الدليل العقلي على عصمة النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) عن السهو ، لم يصر إلى ذلك غير ابن بابويه . (1)
  هذا هو الرأي السائد بين الاِمامية، ولم يشذّ عنهم أحد من المتأخّرين سوى أمين الاِسلام الطبرسي في (تفسيره) حيث قال : وأمّا النسيان والسهو فلم يُجْوّزوهما عليهم فيما يوَدّونه عن الله تعالى ، وأمّا ما سواه فقد جوّزوا عليهم أن ينسوه أو يسهوا عنه ما لم يوَدّ ذلك إلى إخلال بالعقل . (2)
  وأمّا غيره، فلم نجد من يوافقه، ومن أراد التفصيل فليرجع إلى المصادر المذكورة في الهامش (3).
  وقد قام العلاّمة المجلسي بإيفاء حق المقام في "بحاره" .(4)
  2 ـ كيفية معالجة المأثورات حول سهو النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم )
  روى الفريقان أحاديث حول سهو النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ).
  روى البخاري في كتاب الصلاة، باب (من يكبر في سجدتى السهو) عن أبي هريرة قال : صلّـى النبي إحدى صلاتي العشية ... ركعتين ، فقالوا : أقصرت الصلاة ؟ ورجل يدعوه النبي ذو اليدين، فقال : أنسيت الصلاة أم قصرت ؟ فقال :

--------------------
(1) الذكرى: 215.
(2) مجمع البيان: 2|317.
(3) حق اليقين في معرفة أُصول الدين: للسيد عبد الله شبر : 1|124 ، مصابيح الاَنوار في حل مشكلات الاَخبار، له أيضاً: 2|134 ـ 142، تنزيه الاَنبياء للسيد المرتضى، منهج الصادقين: 3|393 ، و 5|346.
(4) لاحظ البحار: 17|97 ـ 129.

عصمة الاَنبياء (ع) في القرآن الكريم _ 305_
  لم أنس ولم تقصر ، قال : بلى قد نسيت ، فصلى ركعتين ثم سلم ، ثم كبّـر فسجد مثل سجوده أو أطول، ثم رفع رأسه فكبّـر ، ثم وضع رأسه فكبّـر فسجد مثل سجوده أو أطول، ثم رفع رأسه وكبّـر ، (1)هذا ما رواه أهل السنّة كما رووا غيره أيضاً.
  أمّا الشيعة فقد رووا أحاديث حول الموضوع نقلها العلاّمة المجلسي في (بحاره) ، (2) ولا يتجاوز مجموع ما ورد في هذا الموضوع عن اثنى عشر حديثاً ، كما أنّ أخبار نوم النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) عن صلاة الصبح لا تتجاوز عن ستة أحاديث . (3)
  لكن الجواب عن هذه الروايات بأحد أمرين:
  الاَوّل: ما ذكره المفيد في الرسالة المومأ إليها من أنّها أخبار آحاد لا تثمر علماً ، ولا توجب عملاً، ومن عمل على شيء منها فعلى الظن يعتمد في عمله بها دون اليقين. (4)
  الثاني: ما ذكره الصدوق من التفريق بين سهو النبي وسهو الآخرين بما عرفت، والله العالم بالحقائق .
  ثم الظاهر من السيد المرتضى، تجويز النسيان على الاَنبياء حيث قال في تفسير قوله سبحانه : ( لاَ تُوََاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ ) (5): إنّ النبي إنّما لا يجوز عليه النسيان فيما يوَدّيه عن الله تعالى أو في شرعه أو في أمر يقتضى التنفير عنه، فأمّا فيما هو خارج عمّـا ذكرناه ، فلا مانع من النسيان. (6)

--------------------
(1) صحيح البخاري: 2|68.
(2) راجع البحار: 17|97 ـ 129.
(3) راجع البحار: 17|100 ـ 106.
(4) البحار: 17|123.
(5) الكهف: 73.
(6) تنزيه الاَنبياء: 87.

عصمة الاَنبياء (ع) في القرآن الكريم _ 306_
  وممّن وافق الصدوق من المتأخّرين، شيخنا المجيز: الشيخ محمد تقي التستري، فقد ألّف رسالة في الموضوع نصر فيها الشيخ الصدوق وأُستاذه ابن الوليد، وطبعها في ملحقات الجزء الحادي عشر من رجاله (قاموس الرجال) والرسالة تقع في 24 صفحة.
  وأمّا العلاّمة المجلسي، فالظاهر منه التوقّف في المسألة قال: إعلم أنّ هذه المسألة في غاية الاِشكال، لدلالة كثير من الآيات ( الآيات التي يُستظهر منها نسبة النسيان إلى بعض الاَنبياء غير النبي الاَكرم ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وقد قدّمناها ) والاَخبار على صدور السهو عنهم ، وإطباق الاَصحاب إلاّ ما شذّ على عدم جواز السهو عليهم مع دلالة بعض الآيات والاَخبار عليه في الجملة وشهادة بعض الدلائل الكلامية والاَُصول المبرهنة عليه، مع ما عرفت في أخبار السهو من الخلل والاضطراب وقبول الآيات للتأويل ، والله يهدي إلى سواء السبيل. (1)
  ثم إنّ الشيخ المفيد وصف القائل بصدور السهو منه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) من الشيعة بالمقلّدة ، وأراد : الصدوق وشيخه ابن الوليد ، ولكن التعبير عنهما بالمقلّدة غير مرضي عندنا ، كيف ؟! ويصف الاَوّل الرجالي النقّاد النجاشي بقوله: أبو جعفر ، شيخنا وفقيهنا ، ووجه الطائفة بخراسان ، وكان ورد بغداد سنة 355 هـ ، وسمع منه شيوخ الطائفة ، وهو حدث السن. (2)
  ويقول في حق شيخه : أبو جعفر ، شيخ القمّيين، وفقيههم ، ومتقدّمهم ، ووجههم ، ويقال : إنّه نزيل قم ، وما كان أصله منها ، ثقة ، ثقة ، عين مسكون إليه (3) .

--------------------
(1) البحار: 17|118 ـ 119.
(2) رجال النجاشي: 2|311 برقم 1050.
(3) رجال النجاشي: 2|301 برقم 1043.

عصمة الاَنبياء (ع) في القرآن الكريم _ 307_
  والمحمل الصحيح لهذه التعابير ما أشار إليه شاعر الاَهرام بقوله:

يشتد في سبب الخصومة لهجة      لـكن  يـرق خـليقة وطباعا
وكـذلك الـعلماء في iiأخلاقهم      يـتباعدون  ويـلتقون iiسراعاً
فـي الـحق يختلفون إلاّ iiأنّهم      لا يبتغون إلى الحقوق iiضياعاً

  اللّهم اغفر للماضين من علمائنا واحفظ الباقين منهم