معاملة بقية الافراد لهم ، ولذلك فان الصفات القاسية التي يستخدمها النظام ضدهم كصفات السرقة والرشوة والتجديف انما وضعها في الواقع : النظام الاجتماعي والسياسي وألصقها بهؤلاء الافراد.
  ولكن هذه النظرية بتشديدها على فكرة الالصاق ، تبرر بصورة غير مباشرة ظاهرة الانحراف المستور ، لان الانحراف اذا لم يلصق بفئة من الافراد فانه سيصبح سلوكاً طبيعياً ، ولكن السارق في البيع والشراء يعد سارقاً بغض النظر عن الصاق التهمة به أو عدم الصاقها به ، والمرتشي يعد مرتشياً ان الصقت التهمة به ام لا .
  والقاتل الذي لم تكشف جريمته يعتبر قاتلاً في كل الاحوال ، أالصقت التهمة به ام لم تلصق ، وهذه النظرية تعطي الفرد مبرراً لاستمرار الانحراف ، فالمنحرف يجد عذراً بإلقاء سبب انحرافه على النظام الاجتماعي ، ولا يقيم لدافعه الذاتي نحو ارتكاب الجريمة وزناً .
  وهذا يتنافى مع الاصول العامة للتجريم التي تأخذ الدافع الذاتي والنية المسبقة بنظر الاعتبار.
  ولعل نظرية ( الضبط الاجتماعي ) تعتبر من أقرب النظريات الغربية الى الواقع القرآني ، فتعتقد هذه النظرية بأن الانحراف ظاهرة ناتجة عن فشل السيطرة الاجتماعية على الافراد (1) ، لان الانحراف يتناسب عكسياً مع العلاقة الاجتماعية بين الافراد ، فالمجتمع المتماسك رحمياً يتضاءل فيه الانحراف ، على عكس المجتمع المنحل . ولو درسنا نسب انتحار الافراد في المجتمع الانساني للاحظنا انها اكثر انتشاراً في المجتمعات التي لاتهتم
--------------------
(1) ( اميلي ديركهايم ) ، تقسيم العمل في المجتمع ، جيلنكو ، الينوي : المطبعة الحرة ، 1964 م ، وايضاً : ( ترافيس هيرشي ) ، اسباب الجنوح ، بيركلي ، كاليفورنيا : مطبعة جامعة كاليفورنيا ، 1969 م.

النظرية الاجتماعية في القرآن الكريم _ 77 _

  بعلاقات القربى والعشيرة وصلة الرحم ، وعلى هذا الاساس آمنت هذه النظرية بان افراد المجتمع المتماسك من ناحية العلاقات الرحمية والانسانية أكثر طاعة للقانون وأكثر اتباعاً للقيم التي يؤمن بها من افراد المجتمع المتحلل في علاقات افراده الاجتماعية .
  وبالجملة ، فان الافراد الذين تربطهم الاواصر الاجتماعية المتينة ، وينغمسون في اعمالهم ونشاطاتهم ، ويستثمرون في المجتمع اموالهم واولادهم ، ويطبقون ـ بكل ايمان ـ احكام دينهم ، فهؤلاء تتضاءل عندهم فرص الانحراف الاجتماعي ، وتزداد من خلال سلوكهم فرص الاستقرار والثبات على الخط الاجتماعي السليم.
  وهذه النظرية تعكس ـ بشكل جزئي ـ بعض المفاهيم القرآنية التي تتعامل مع العلاقات الاجتماعية وتأثيراتها الايجابية في ضبط سلوك الافراد ، كصلة الرحم : ( وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الحِسَابِ ) (1) ، ( يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلْ مَا أَنفَقْتُم مِّنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللّهَ بِهِ عَلِيمٌ ) (2) ، واكرام الجار : ( وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالجَنبِ ) (3) ، والنهي عن الظلم : ( وَمَن يَظْلِم مِّنكُمْ نُذِقْهُ عَذَابًا كَبِيرًا ) (4) .
  وحرمة اذى المؤمنين : ( وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُّبِينًا ) (5) ،
--------------------
(1) الرعد : 21.
(2) البقرة : 215.
(3) النساء : 36.
(4) الفرقان : 19.
(5) الاحزاب : 58.

النظرية الاجتماعية في القرآن الكريم _ 78 _
  والنهي عن احتقار الناس : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَومٌ مِّن قَوْمٍ عَسَى أَن يَكُونُوا خَيْرًا مِّنْهُمْ وَلَا نِسَاء مِّن نِّسَاء عَسَى أَن يَكُنَّ خَيْرًا مِّنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الاِسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَن لَّمْ يَتُبْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ) (1) ، واصلاح ذات البين : ( إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ) (2) ، والتعاون على الخير : ( وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ ) (3).
  ومع كل هذه الاقتباسات ـ التي اقتبسها ( اميلي ديركهايم ) لتصميم نظريته الخاصة بالضبط الاجتماعي من المفاهيم القرآنية ـ تبقى تلك النظرية عاجزة عن عرض الصورة الاجتماعية الشاملة للانحراف وطرق معالجته ، فديركهايم لم يتناول معالجة الانحراف بين الافراد الذين تتوفر فيهم جميع عناصر منع الانحراف الاجتماعي ، كالطبقات الرأسمالية في الدول الصناعية ، وبابوية القرون الوسطى في اوروبا ، والتجار الاثرياء في الانظمة الحرة مع انهم يتمتعون بأفضل الصلات العائلية والعشائرية ، ويمارسون أفضل الهوايات الفكرية والبدنية ويستثمرون اموالهم في العقارات والمزارع والمصانع ، ويعتقدون بدياناتهم المختلفة.
  والخلاصة : ان هذه النظريات الاجتماعية الغربية الاربع تفشل في تفسير ظاهرة الانحراف والتجريم بالصورة الدقيقة الشاملة المستوعبة لكل
--------------------
(1) الحجرات : 11.
(2) الحجرات : 10.
(3) المائدة : 2.

النظرية الاجتماعية في القرآن الكريم _ 79_
  مفردات الواقع الاجتماعي ، فهذه النظريات ـ منفصلةً ـ لا تستطيع تفسير جرائم المقامرة ، وانحراف الاحداث ، وتعاطي المخدرات ، والتحايل في دفع حقوق الفقراء وكل نظرية من هذه النظريات تنظر للجرييمة بشكل تجزيئي محدود ولا تنهض بمستوى النظرة الكلية للمشكلة الانحرافية بحيث تستوعب كل مفردات وتشكيلات الاجرام الفردي والجماعي في المجتمع الانساني.

النظرية الاجتماعية في القرآن الكريم _ 80 _
نظام العقوبات : نقاط مقارنة بين النظرية القرآنية والنظرية الغربية
  وفي الوقت الذي لا يحمل فيه السجن عقوبة رادعة في النظرية القرآنية ، الا انه يعتبر محور العقوبات في النظام الغربي ، بل ان النظريات الاجتماعية الغربية الحديثة جعلت ( السجن ) المصدر الرئيسي والساحة الحقيقية لمعالجة الانحراف (1) .
  ولابد ان يعترف دعاة النظام القضائي الرأسمالي اليوم ، بفشلهم بجعل السجون ساحة العقوبات الاساسية لمعالجة الانحراف وتقويم المنحرفين ، لأن ثلاثة أرباع المنحرفين الذين يطلق سراحهم من السجون الرأسمالية بعد اتمام مدد عقوباتهم يرتكبون جرائم جديدة (2) ، مساهمين بذلك في هدر الاموال التي صرفت عليهم لتأديبهم في تلك المؤسسات الردعية.
  ولكن السجن في النظرية الاسلامية ، ماهو الا عقوبة مساندة للعقوبات الاساسية الفورية كالقصاص والحدود والديات والارش على اختلاف انواعها وازمان دفعها ؛ لان الجناية أو الجرم ليس الا عمل مربك للنظام الاجتماعي ، فلابد للنظام الاسلامي من التحرك سريعاً لمعالجة ذلك
--------------------
(1) ( ارفينك كوفمان ) ، اللجوء ، شيكاغو : آلدين ، 1961 م.
(2) ( مارشال كلينارد ) و( روبرت ميير ) ، علم اجتماع السلوك المنحرف ، الطبعة السادسة ، نيويورك : هولت ، راينهارت ، وونستن ، 1985 م.

النظرية الاجتماعية في القرآن الكريم _ 81 _
  الانحراف ، بالقطع في السرقة : ( وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا ) (1) ، والقصاص في القتل والجروح : ( وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَاْ أُولِيْ الأَلْبَابِ ) (2) ، والقتل أو الصلب أو القطع أو النفي في الفساد في الارض : ( إِنَّمَا جَزَاء الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا أَن يُقَتَّلُواْ أَوْ يُصَلَّبُواْ أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْاْ مِنَ الأَرْضِ ) (3) ، والرجم أوالجلد في الزنا : ( الزانية والزاني فاجلدوا كل واحدٍ منهما مائة جلدة ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله ) (4) ، والجلد في القذف : (} وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاء فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ) (5) ، ولاشك ان ثبوت العقاب يتناسب مع درجة تأثير الجريمة والانحراف على النظام الاجتماعي .
  فكل الجرائم الاجتماعية لها ضحايا ، كجرائم العنف ، والجرائم الخاصة بالممتلكات ، والجرائم الاخلاقية ، وحتى الجرائم التي تزعم النظرية الغربية فيها بأنها لا تنتج ضحايا ، كجرائم المقامرة والبغاء والانحراف الخلقي ـ باعتبارها جرائم تضر على الصعيد الشخصي للفرد فحسب ـ فان النظرية القرآنية تنزل بمرتكبيها أقصى العقوبات ، لان الاسلام لا ينظر للفرد الا من زاوية مصلحته الاجتماعية والتكوينية ، فالعقوبة الصارمة هدفها الردع والتأديب وليس الانتقام ، كما يدعي أعداء النظرية الدينية . ولاشك ان
--------------------
(1) المائدة : 38.
(2) البقرة : 179.
(3) المائدة : 33.
(4) النور : 2.
(5) النور : 4.

النظرية الاجتماعية في القرآن الكريم _ 82 _
  فكرة ( السجن ) تعجز عن ردع الآخرين عن الانحراف ، وتفشل في تعويض الضحية أو من يتعلق بها مالياً ، وتتراجع عن التأهيل الاجتماعي للمنحرف بقصد ارجاعه الى المجرى الاجتماعي العام.
  ولما كانت فكرة السجون ـ هدفاً ووسيلةً ـ قد اثبتت فشلها في نظام العقوبات الغربي والامريكي بالخصوص ، فقد مال رأي القضاة واعضاء جهاز المحاكم في العقود الاخيرة الى استحسان فكرة تعليق العقوبة الصادرة بحق الجاني (1) ، بشرط ان يجد له عملاً يرتزق به ، وان لا يرتكب جريمة جديدة خلال فترة تعليق الحكم .
  وقد قوبلت هذه الفكرة بالتأييد من قبل السلطة القضائية الى درجة ان المنحرفين المعاقبين بتعليق الحكم اليوم ، يشكلون خمسة اضعاف عدد المنحرفين المعاقبين بالسجن (2) .
  ولكن عقوبة التعليق فاشلة ايضاً ، لأن الجاني المدان بتعليق العقوبة اذا ارتكب جريمة جديدة ، عوقب مرة اخرى بالسجن ، الذي لا حظنا فشله في تأديب المنحرف وتهذيبه في المرة الاولى.
  وتنفرد الولايات المتحدة من بين الدول الرأسمالية بتطبيق عقوبة الموت ضد المنحرفين الذين أدينوا عن طريق المحاكم الجنائية ، بارتكاب جرائم قتل (3) .
  وفكرة ( عقوبة الموت ) تتناقض مع فكرة الحرية الشخصية التي نادت بها النظرية الرأسمالية لان الجناية مهما عظمت ـ حسب زعمها ـ لا تستحق إلغاء حياة الجاني من الوجود ، وعلى ضوء ذلك فان ( عقوبة
--------------------
(1) ( مارشال كلينارد ) و( روبرت ميير ) ، علم اجتماع السلوك المنحرف ، نيويورك : هولت ، راينهارت ، وونستن ، 1985 م.
(2) ( كوين نتلر ) ، شرح الجريمة ، الطبعة الثالثة ، نيويورك : ماكرو ـ هيل ، 1983 م.
(3) ( ارنيست هاك ) و( جون كونراد ) ( محرران ) ، عقوبة الموت : مناقشة ،نيويورك : بلينم ، 1983 م.

النظرية الاجتماعية في القرآن الكريم _ 83 _
  الموت ) ما هي الا عقوبة انتقامية وليست عملاً ردعياً ، ويدل على ذلك ، ان تلك العقوبة النازلة بالمنحرفين لم تردعهم بالكف عن انحرافهم ! وهذا التناقض في فكرة الحرية الشخصية والمذهب الفردي يقودنا الى السؤال التالي وهو : اذا كانت عقوبة الموت انتقامية ، فلماذا يأخذ بها النظام القضائي الامريكي خلافاً لفكرة الحرية الشخصية والمذهب الفردي ؟ تجيب النظرية الرأسمالية الغربية ، بأن عقوبة الموت ضرورية ، لان فكرة الحرية الشخصية يجب ان ترسم لها الحدود وتوضع لها الضوابط ، اذا تعلق الامر بالانحراف الاجتماعي (1) .
  ولكن يرد على ذلك ، بان تحديد الحرية في جريمة معينة ، يستلزم تحديدها في بقية الجرائم ايضاً ، كالجرائم الاخلاقية مثلاً ، هنا تتوقف النظرية الرأسمالية عن الرد.
  والنتيجة ان اقرار النظام القضائي الرأسمالي بشرعية ( عقوبة الموت ) يناقض ادعاءاته القائلة ، بتخلف عقوبة القصاص في القرآن عن المنهج الحضاري الحديث والمتمثلة بقوله تعالى : ( وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَاْ أُولِيْ الأَلْبَابِ ) (2) .
  فاذا كانت ( عقوبة الموت ) لا تتماشى مع المنهج الحضاري ، فلماذا ينفذها النظام بحق المنحرفين على أرضه ؟ واذا كانت ( عقوبة الموت ) أفضل وأقصر الطرق لبتر الجريمة الاحترافية ، فلماذا لا يقر بأسبقية القرآن الكريم في تشريعها والحث بكل قوة على تنفيذها ؟
--------------------
(1) ( اوستن تورك ) ، الجريمة السياسية : التحدي والدفاع عن السلطة ، بيفرلي ـ هيلز ، كاليفورنيا : سيغ ، 1982 م.
(2) البقرة : 179.

النظرية الاجتماعية في القرآن الكريم _ 84 _
الاضطراب العقلي
  وبطبيعة الحال ، فان فهم معنى الاضطراب العقلي مهم للغاية في ادراك ابعاد الانحراف ، باعبتاره عجزاً في قابلية الفرد على التمييز بين الحقيقة والخيال .
  فالمضطرب عقلياً ينتهك العرف الاجتماعي من خلال تصرفاته التي يختلط فيها الوهم بالحقيقة ، والسراب بالواقع ، والخوف بالامان ، والافكار المجزئة التي لا يجمعها رابط بالافكار الطبيعية المتصل بعضها بالآخر .
  ولذلك فان أكثر الاضطرابات العقلية انتشاراً هي الاضطرابات الناشئة عن انفصام شخصية الفرد مع الحقيقة والواقع الخارجي ، ويربط علماء الطب هذه الاضطرابات باختلال الهرمونات في الجسم الانساني وما يصاحب ذلك من اضطرابات نفسية وتفاعلات عاطفية تنتهي بالانسان الى فهم الواقع فهماً مغايراً لفهم بقية الافراد (1) .
  ومنهم من يعتبر الاضطراب العقلي أو الجنون وسيلة ناقصة لدى الفرد للتعامل مع العالم الخارجي (2) .
  فالمضطربون عقلياً يفشلون في التعامل مع اجواء المجتمع المحيطة بهم ، فيلجأون في النهاية الى التعامل مع انفسهم وندبها على عدم فهم الواقع ، فتراهم يتحدثون معها على مرأى من الملأ ، ويضحكون
--------------------
(1) ( وليام كوكرهام ) ، علم اجتماع الاضطراب العقلي ، انجلوود كليفز ، نيوجرسي : برنتس ـ هول ، 1981 م.
(2) ( وليام ايتون ) ، علم اجتماع الاضطرابات العقلية ، نيويورك : بريكر ، 1980 م.

النظرية الاجتماعية في القرآن الكريم _ 85_
  ويتبسمون لطرائف لم يلتفت اليها الآخرون ، وهم بذلك يحيدون عن العرف الاجتماعي فيوصمون بالجنون.
  ولذلك فان وصم الطبقة الحاكمة ـ على مر التاريخ ـ للانبياء والرسل ( عليه السلام ) بالاضطراب العقلي كان من أهم الاساليب التي استخدمت لربط الجنون بالانحراف ، وبالنتيجة إبعاد الافراد عن الايمان بالعقائد التي حملها الرسل والانبياء ( عليه السلام ) اليهم .
  وقد ورد الى ما يشير الى ذلك في الكتاب المجيد : ( وَقَالُواْ يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ ) (1) ، ( وَيَقُولُونَ أَئِنَّا لَتَارِكُوا آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَّجْنُونٍ ) (2) ، ( ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَقَالُوا مُعَلَّمٌ مَّجْنُونٌ ) (3) ، ( كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم مِّن رَّسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ ) (4)، ولكن الجنون الحقيقي ما هو الا وليد الحاجة الانسانية التي لم يشبعها النظام الاجتماعي .
  فالفقر هو من أهم عوامل نشوء الاضطراب العقل في المجتمعات التي تحكمها انظمة ظالمة ، والفقر ليس حاجة مادية فحسب ، بل حاجة نفسية ايضاً ، لانه يمس كرامة الانسان ، ويحط من قدره ، ويشعره بظلم النظام الاجتماعي ، وهذه العوامل مجتمعة تساهم في رسم شكل الانحراف وتحدد مسيرته.
  ولاشك ان من مصلحة النظام السياسي الظالم وصم الفقراء بالاضطرابات العقلية ، لأن في ذلك عزلاً لهم عن الساحة السياسية ،
--------------------
(1) الحجر : 6.
(2) الصافات : 36.
(3) الدخان : 14.
(4) الذاريات : 52.

النظرية الاجتماعية في القرآن الكريم _ 86 _
  وبالتالي حرمانهم من الخيرات الاقتصادية التي ينبغي ان ينعم بها افراد المجتمع كلياً بغض النظر عن انتماءاتهم الطبقية ، فالمضطرب عقلياً ، لا يستطيع المشاركة في نشاطات المجتمع السياسية والاجتماعية فضلاً عن قيادة الافراد .
  وهذا الإبعاد المقصود للفقراء عن الساحة السياسية ،يعطي الطبقة الرأسمالية الظالمة فرصة عظيمة في السيطرة على شؤون النظام الاجتماعي وتحطيم المعارضة السياسية الحقيقية.

النظرية الاجتماعية في القرآن الكريم _ 87 _
الاسلام والتأثيرات الاجتماعية للانحراف
  ولاريب ان تساؤل رواد القضاء الغربي عن موجب الشدة والفورية في نظام العقوبات الاسلامي له منشأ نابع من احساسهم بفشل نظام العقوبات الذي يطبقه ذلك القضاء .
  فالزعم بأن القصاص في القتل والجرح والقطع والجلد ، عقوبات في غاية القسوة مقارنة بنظام السجون الذي اقره القضاء الغربي كعقوبة عادلة لجرائم القتل والسرقة والاعتداء والاغتصاب ، زعم فيه الكثير من المغالطات ، لأن فشل القضاء الرأسمالي الغربي في تصحيح الانحراف وإبعاد الجريمة عن النظام الاجتماعي ، وضع الكثير من المفكرين والمقننين الغربيين على حافة السقوط في احضان الفكرة القائلة بأن اجتثاث جذور الجريمة من المجتمع الانساني لايتم الا عن طريق استخدام أقسى العقوبات الجسدية بالمنحرفين .
  ولكنهم عادوا وقالوا بأن قسوة العقوبات في الاحكام الجنائية ، تتنافى مع تطلعات العالم المتحضر في النظر للانسان باعتباره كائناً متميزاً يحق له العيش في الحياة الطبيعية ، حتى لو كان مجرماً منحرفاً عن الخط الاجتماعي العام (1) .
و   هذه النظرة الرحيمة تجاه الاجرام تعتبر ظلماً للضحية واجحافاً بحقها في الاقتصاص والمماثلة والتعويض ، ومع ان الاسلام ينظر الى الانحراف باعتباره اعوجاجاً يتوجب
--------------------
(1) ( ادوين شور ) ، سياسة الانحراف ، انجلوود كليفز ، نيوجرسي : برنتس ـ هول ، 1980 م.

النظرية الاجتماعية في القرآن الكريم _ 88 _
  علاجه وتعديله ، ويوجب على الحاكم الشرعي استرداد الحق وارجاعه الى أهله وذويه ، الا ان التشريع الاسلامي أراد بالقصاص والحدود ودفع الديات ، تثبيت النظام الاجتماعي ونشر فكرة العدالة والامان في ربوع الوطن الاسلامي ، لأن تأثيرات الانحراف السلبية على المجتمع وافراده ، تسبب نخراً مستمراً وتهديماً اساسياً لاصول النظام الاجتماعي .
  وحتى نفهم الصورة الحقيقية للانحراف الاجتماعي وتأثيره المستمر على المجتمع الانساني لابد من ادراج هذه السلبيات المتمثلة بالحقائق التالية :
  الحقيقة الاولى : ان من سلبيات الانحراف ارباك النظام الاجتماعي ، فانتشار عمليات القتل والسرقة والغصب والاعتداء على أعراض الناس يجعل الحياة الاجتماعية الرغيدة امراً صعب المنال ، ويحمل الحياة اليومية الكثير من المفاجآت .
  فكما ان العامل المشاغب في مصنع آلي يستطيع ارباك الانتاج ، والطبيب المجنون في مستشفى للاطفال يستطيع خلخلة النظام الطبي ، والمعلم المستهتر بقيم العلم يستطيع ارباك اذهان الطلبة ، كذلك يفعل الانحراف في المجتمع الانساني من خلال ارباكه لتوجه الافراد وتطلعهم نحو حياة مستقرة هادئة.
  الحقيقة الثانية : ومن سلبياته ايضاً ارباك النظام الاخلاقي ، فان انتشار الانحراف وانعدام السيطرة الاجتماعية عليه بنظام أو قانون ، يفتح الباب امام الافراد بتجاوز الخط الذي يفصل بين الحق والباطل ، خصوصاً اذا كان نظام العقوبات متساهلاً مع المنحرفين ، فاذا كان الانحراف يمثل حصيلة شريحة اجتماعية صغيرة العدد اليوم مع قانون متساهل ، فان الغد

النظرية الاجتماعية في القرآن الكريم _ 89_
  سيجلب منحرفين جدد ، الى ان يعم ذلك الانحراف جميع اطراف النظام الاجتماعي.
  الحقيقة الثالثة : ان من سلبيات الانحراف استهلاك مصادر وطاقات بشرية نافعة لو لم تستخدم للسيطرة على الجريمة ، لاستخدمت في مجال آخر لمنفعة الافراد .
  خذ على سبيل المثال النظام الرأسمالي في الولايات المتحدة ، فانه يصرف يومياً مبالغ مالية طائلة على اطعام ورعاية ثلاثة ملايين سجين ارتكبوا جرائم مختلفة لعزلهم عن الاختلاط بالمجتمع الكبير (1) .
  ومع ان هؤلاء السجناء قد اخرجوا عن ساحة العمل الانتاجية ،الا ان الدولة مكلفة باعاشتهم ومراقبتهم وتقديم العلاج الطبي لهم ، وهذا يكلفها كمية هائلة من الطاقات الانتاجية والبشرية.
  الحقيقة الرابعة : ومن سلبيات الانحراف زوال الثقة بين الافراد ، والتعامل التجاري والتعليمي والثقافي عموماً مبني على اساس الثقة ؛ فالفرد يستأجر سيارة للانتقال من مكان الى آخر باعتقاد ان السائق سيوصله الى المكان المعين لقاء اجرة معينة ، فاذا تبين ان السائق مجرم محترف هدفه سرقة المستأجر ، انهدمت الثقة بين المتسأجرين والمؤجرين .
  ومثال آخر ان الافراد يودعون اموالهم في المصارف فاذا تبين ان اصحاب المصارف لا يؤتمنون على أموال الناس انعدمت الثقة بين المودعين والبنوك التجارية ، ويضع الناس كذلك ثقتهم بالنظام السياسي فاذا تبين خيانة افراد النظام لحقوق الناس زالت الثقة بين الحاكم والمحكوم ، وانعدام الثقة هذا يكلف
--------------------
(1) ( جاك جيبز ) ، الجريمة ، العقاب ، والردع ، نيويورك : السفاير ، 1975 م.

النظرية الاجتماعية في القرآن الكريم _ 90 _
  النظام الاجتماعي والاقتصادي اموالاً طائلة ، بل ان انعدام الثقة بين المتعاقدين من أفراد المجتمع يؤدي في النهاية الى تخريب النظام الاقتصادي والسياسي والاجتماعي للمجتمع الانساني.
  وحتى نفهم الصورة المشرقة للعلاج الاسلامي وتأثيره الايجابي في بناء النظام الاجتماعي الخالي من الانحراف ، لابد من ادراج ايجابيات نظام العقوبات الاسلامي بالنقاط التالية :
  اولاً : فعلى صعيد استقرار النظام الاجتماعي فان فورية التعامل مع الانحراف يبعد الحياة الاجتماعية عن المفاجآت المحزنة التي تجلبها جرائم الاعتداء والقتل والسرقة ، فيستطيع الفرد ان يعيش ويحيا في مجتمع تظلله شمس الامان والحرية والسلام.
  ثانياً : وعلى صعيد نظافة النظام الاجتماعي ، فان الاسلام يحاول اجتثاث الامراض الاجتماعية من الجذور ، فيرجم المنحرف خلقياً كالزاني المحصن ، ويجلد الزاني الأعزب ، والقاذف والسكران .
  فيتأدب أفراد المجتمع بآداب الاسلام ، الى حد انه يأمرهم بأن لا يخرجوا من أفواههم كلمة نابية ، أو يتهموا انساناً بريئاً ، أو يجرحوا شعور فرد ما .
  فيكون من نتائج تطبيق هذا النظام على المجتمع الشعور بالطمأنينة والامان ، وازدياد المحبة والتعاون بين الناس ، وازدياد الطاقة الانتاجية للافراد في المجتمع الكبير.
  ثالثاً : وعلى صعيد المصادر والطاقات البشرية فان الاسلام يستثمرها بأكمل الوجوه فلا يحتاج المجتمع الاسلامي إلا لعدد ضئيل من أفراد الشرطة ، وعدد أقل من السجون ، لأن العقوبات رادعة والنتيجة الايجابية

النظرية الاجتماعية في القرآن الكريم _ 91 _
  متوقعة بكل تأكيد ، فلو سرق فرد وقطعت يده علناً امام الناس ، ترى من يتجرأ على ارتكاب نفس الانحراف مرة اخرى ؟ هذا اذا ما علمنا ان من مسؤولية الدولة اشباع حاجات الناس الاساسية ، وان لها الحق في التدخل بما يضمن ذلك ، حتى ان المنحرف المعاقب بأحكام الشريعة الاسلامية يعتبر أكثر انتاجاً من المنحرف المعاقب في السجون الغربية .
  فالسارق المحدود بحد السرقة يستطيع ان يعمل وينتج ويحيا حياته الطبيعية ويتوب الى الله ويرجع الى الحياة الاجتماعية كفرد طاهر من ذنوب الانحراف ، الذي كان لابد من معالجته .
  اما المنحرف المسجون في النظام الغربي الرأسمالي فهو مصدر من مصادر الاجرام والشقاء ، لأن السجن لا يؤدب المنحرف بل يزيده حقداً وغضباً على النظام الاجتماعي.
  رابعاً : وعلى صعيد الثقة بين أفراد المجتمع ، فان النظام الاسلام بتشريعاته الدقيقة جعل الثقة محور كل النشاطات الاجتماعية .
  فالثقة المتبادلة بين أفراد العائلة والجيران والقرابة وابناء الحي وأبناء المدينة وأبناء الدين الواحد والدولة الواحدة ، يرجع فضلها بالاصل الى نظام العقوبات ، واطمئنان الفرد في المجتمع الاسلامي يرجع بالاساس الى اطمئنانه على نفسه وماله وعرضه .
  فالمسلم يعلم ان العقوبة في النفس والمال والعرض صارمة الى حد انها تردع الآخرين عن مجرد التفكير بالقيام بالانحراف ، وهذه الثقة المتبادلة بين الافراد تجعل المجتمع الاسلامي من أكثر المجتمعات البشرية انتاجاً وأكثرها ثراءً ، وان الحرية التي يزعم النظام الرأسمالي منحها لافراده لا تنهض الى مستوى الحرية التي يمنحها الاسلام لافراد الدولة

النظرية الاجتماعية في القرآن الكريم _ 92 _
  الاسلامية ، فأية حرية أعظم من اطمئنان الفرد على نفسه وماله وعرضه ينتقل متى شاء ، ويتحدث بما شاء ضمن حدود الأدب الاسلامي ، ويستثمر ماله انى شاء ، وهو يعلم انه لا يخاف على مال يسرق أو نفس تقتل أو عرض يهتك ، فأية حرية أعظم من هذه ؟ ولاشك اننا لو طبقنا التشريع الاسلامي على البشرية جميعاً بكل الوانها واشكالها ، لما جاع فقير ، وما هدر حق ، وما انتصر باطل ، لأنه دين الاعتدال والمساواة ، ونظام الحق والعدالة الاجتماعية.

النظرية الاجتماعية في القرآن الكريم _ 93 _
الفصل الثالث

النظام التعليمي في النظرية القرآنية

  دور العقل في عملية التحصيل * نظرية التعليم في القرآن * ( المدرسة ) في النظام الاجتماعي * التعليم والعدالة الاجتماعية في القرآن * فلسفة ( التعليم ) في النظريات الغربية ونقدها *

النظرية الاجتماعية في القرآن الكريم _ 94 _
دور العقل في عملية التحصيل   ان الاسلام يمجد العقل لا باعتباره أداةً لاستيعاب المعلومات وخزنها ثم استرجاعها وتحليلها فحسب ، بل يعتبره أهم أداة لمعرفة الخالق عز وجل ، ولولاه لأصبح الانسان حيواناً بهيمياً آخر لا يعي من واقعه الاجتماعي شيئاً ولا يهتم بأمر مثل اهتمامه بغرائزه الحيوانية.
  ولكن العقل البشري بدل المعادلة الحيوانية وقلبها لصالح الانسان ، فأصبح هذا الكائن الكريم بحكم عقله مكلفاً بالمسؤوليات الشرعية ومحاسباً عليها .
  ولعل اشد الآيات القرآنية وقعاً وأوجعها على الجهلاء من الناس ، قوله تعالى : ( إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِندَ اللّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لاَ يَعْقِلُونَ ) (1) .
  فأصبح العقل الحجة التي يحتج بها الله على المكلف يوم القيامة ( فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِيْنَ * عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ) (2).
  ولما كان العقل هو البنية التحتية للتفكير الانساني ، أصبح العلم البناء الفوقي الذي يساهم بشكل فعال في تقوية سلطات العقل وقوته المنطقية والتحليلية ، فالحقيقة العلمية اليقينية ، يعتبرها الفقهاء شيئاً قطعياً ، والتنكر لها تنكر للعقل نفسه ، وأعظم دليل على ذلك ان أكثر الناس خشية للـه
--------------------
(1) الانفال : 22.
(2) الحجر : 92 ـ 93.

النظرية الاجتماعية في القرآن الكريم _ 95_
  سبحانه العلماء العارفون بأسرار الكون والحياة والخلق ، لأن الجاهل بأسرار الكون والخلق جاهل بعظمة الخالق .
  والسر في ذلك ان العلم بطبيعة المخلوقات يستوجب علماً بطبيعة الخالق ، وقد جاء في النص المجيد ما يشير الى ذلك : ( انما يخشى الله من عباده العلماء ) (1).
  ولكي يدرك العقل ويستوعب المعارف والمعلومات التي ينتفع بها ، فلابد للفرد من الاجتهاد في تنمية قوة ادراك ذلك الجهاز العظيم لمفاهيم الخير والشر ، والتمييز بينهما عن طريق علوم الطبيعة والدين والاخلاق وما يتعلق بهما من معارف وغايات .
  فحينما يحاول العقل انشاء العلوم النافعة للانسان في حياته العملية ، فانه يستخدم طاقته الجبارة لانشاء نظرية معاشية تدله على تعلم العلوم التطبيقية كي تدر عليه شتى أنواع المنافع ، وتيسر له سبل العيش الانساني الكريم ، كعلوم الزراعة والصناعة والطب والهندسة والفضاء .
  ولاشك ان ترجمة الافكار التي ينشئها العقل ويحاول تطويرها وتنميتها لابد ان تتم عن طريق خاص يشترك في فهمه وممارسته جميع الافراد في النظام الاجتماعي ، الا وهو النطق، فيتميز تحصيل العقل وترجمة الافكار التي يحملها بالنطق ؛ فالانسان كيان ناطق ، وهذا النطق الذي يمثل رمز التفاهم بين الناس يميز هذا الكائن المفكر عن غيره من العجماوات .
  وبطبيعة الحال ، فان علوم اللغة وما يتفرع عنها من معارف وحقول ، تمثل قابلية العقل على ترجمة الافكار الخافية الى رموز مسموعة تستفيد منها الانسانية في تعاملها الاجتماعي جيلاً بعد جيل .
--------------------
(1) فاطر : 28.

النظرية الاجتماعية في القرآن الكريم _ 96 _
  ولاشك ان استعداد النفس لتحصيل النظريات والفرضيات ، يساهم في تطوير العلوم التي تخدم مصلحة الانسان .
   فلو أراد العالم التجريبي وضع نظرية تتناول حركة الالكترونات في الذرة مثلاً ، فما عليه الا ان يفترض افتراضاً نظرياً يتناول فيه حركة تلك الشحنات ، ويفصلها تفصيلاً نظرياً ، ثم يقوم بعد ذلك بتجارب خاصة لإثبات صحة فرضيته ، فاذا تم له ذلك بالتجربة والخطأ تطورت فرضيته القائمة على مجرد الظن الى نظرية قائمة على اساس ثبوت الحقائق ، وهذا الاستعداد النفسي في انشاء الافتراض وتحصيل النظرية يرفع العلم التجريبي من المستوى النظري الى مستوىً عالٍ من الدقة التجريبية والمهارة والاتقان.
  والمحصل استقراءً ان الانسان العاقل المدرك يحتاج في حياته العملية الى أربعة اصناف من العلوم حتى يستطيع ان يكون عضواً نافعاً فعالاً في النظام الاجتماعي .
  الاول : علوم اللغة وما يتعلق بها من معارف ، لانها تعتبر عنصراً اساسياً من عناصر حفظ الاجتماع الانساني وتنميته ، فعن طريقها يتم التفاهم والاتصال بين الافراد في النظام الاجتماعي .
  الثاني : علوم الدين والاخلاق وما يتعلق بهما من معارف ، وهذا الصنف اساسي في استقرار النظام الاجتماعي ونشر العدالة الاجتماعية بين الافراد .
  الثالث : العلوم النظرية ، وهي النظريات والفرضيات التي يحتاجها الانسان كقاعدة يبني عليها بناءه العلوي في العلوم التجريبية .
  الرابع : العلوم التطبيقية ، وهي ثمرة العلوم الطبيعية التي يعتصر الفرد بواسطتها كل ما يتمكن اعتصاره من خيرات الارض ، وبشكل يمكنه من توفير وتيسير سبل العيش لكل افراد

النظرية الاجتماعية في القرآن الكريم _ 97 _
  المجتمع الانساني، وقد أكدت النصوص الشرعية على حاجة الانسان الى تلك العلوم والى ضرورة تعلمها ، من أجل المصلحة الاجتماعية .
  فعلى مستوى الصنف الاول ، ورد قوله تعالى : ( انا جعلناه قرآناً عربياً لعلكم تعقلون ) (1) .
  وفي رواية عن الامام جعفر بن محمد ( عليه السلام ) انه قال : ( تعلموا العربية فانها كلام الله الذي يكلم به خلقه ) (2) .
  وعلى مستوى الصنف الثاني ، ورد في وصية الامام أمير المؤمنين لابنه الحسن ( عليهما السلام ) : ( وان أبدأك بتعليم كتاب الله عز وجل وتأويله ، وشرائع الاسلام وأحكامه ، وحلاله وحرامه لا اجاوز ذلك بك الى غيره ) (3) ، ولعله اشارة الى قوله تعالى : ( فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدِّينِ ) (4) .
  وعلى مستوى الصنف الثالث ورد قول الامام علي ( عليه السلام ) ايضاً : ( لا علم كالتفكير ... ) (5) ، الذي هو اشارة واضحة لقوله تعالى : ( الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىَ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ ) (6) .
  وعلى مستوى الصنف الرابع ورد عن الامام جعفر الصادق ( عليه السلام ) ما يدعو الى التعليم المهني : ( فكل ما يتعلم العباد أو يعلمون غيرهم مثل صنوف الصناعات مثل الكتابة والحساب والتجارة ...
--------------------
(1) الزخرف : 3.
(2) البحار ج 1 ص 212.
(3) البحار ج 1 ص 19.
(4) التوبة : 122.
(5) البحار ج 1 ص 179.
(6) آل عمران : 191.

النظرية الاجتماعية في القرآن الكريم _ 98 _
  فحلال فعله وتعليمه والعمل به ) (1) .
  ولعل في الآية الشريفة : ( لِيَأْكُلُوا مِن ثَمَرِهِ وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَفَلَا يَشْكُرُونَ ) (2) ، تلميح الى العمل المهني الذي يقره الارتكاز العقلائي .
  والمستفاد من هذه النصوص الشرعية المساندة والمؤيدة ، بأن الاصل في العلوم الاجتماعية والتجريبية والدينية هو بناء النظام الاجتماعي وبناء الفرد بشكل يجعله مرتبطاً بالخالق سبحانه اولاً ، وقادراً على تأدية التكاليف الشرعية ثانياً ، وقادراً على اشباع حاجاته الاساسية ثالثاً.
  وربما يستفاد من مقتضى نص قوله تعالى في خطاب النبي ( صلى الله عليه وآته وسلم ) : ( وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْمًا ) (3) زيادة على ماقيل بأمر الله النبي ( صلى الله عليه وآته وسلم ) بعدم التعجيل بقراءة القرآن وقت نزول الوحي ، ان الاسلام لم يقيد العلم بعلوم الدين بل أطلق عبارة العلم لتشمل كل العلوم التي تنفع الانسان في حياته العملية والدينية ، ومنها علوم الطب والتمريض والهندسة والفيزياء والكيمياء والفلك والتربة والجغرافية والتربية التي تساهم جميعاً في تيسير حياة الانسان لظهور النص القرآني اولاً ، وللنصوص الشرعية الاخرى التي تعضد هذا الرأي ، ثانياً.
--------------------
(1) تحف العقول ص 249.
(2) يس : 35.
(3) طه : 114.

النظرية الاجتماعية في القرآن الكريم _ 99_
نظرية التعليم في القرآن
  وتتلخص هذه النظرية بفكرتين ، وهما : ( القراءة ) ، و( التسخير ) .
  فقد اختصر الاسلام نظريته في التعليم بأول كلمة وحي من الباري عز وجل نزلت على قلب الرسول العظيم محمد ( صلى الله عليه وأله وسلم ) ، وهي كلمة : ( اقرأ ... ) .
  ومع ان هذه الجملة في الآية الكريمة تفيد خصوص القراءة للرسول (ص) الا ان مقتضاها أوسع من ذلك ، فتوجيه صيغة الامر بالقراءة سيساعد المكلفين حتماً على فهم الاحكام الشرعية وتطبيقها ، ويساعدهم أيضاً على قراءة القرآن والتفكر في آياته العظيمة ، وعلى تنشيط عقولهم لتطوير الحياة الانسانية في مختلف مجالاتها الاقتصادية والاجتماعية .
  وفي المشهور : ( اطلبوا العلم من المهد الى اللحد ) ، وقوله ( عليه السلام ) : ( ايها الناس اعلموا ان كمال الدين طلب العلم والعمل به ، وان طلب العلم أوجب عليكم من طلب المال ) (1) ، دلالة على ان طلب العلم والتفقه يشمل المسلمين عموماً ولا يختص بفئة دون اخرى .
  فكمال الدين اذن ـ حسب الرواية ـ والسمو في فهم الاحكام الشرعية وعللها ، لايتم الا عن طريق طلب العلم والاجتهاد في تحصيله . وبذلك ، فان الاسلام وضع العلم على سلم الحاجات البشرية التي ينبغي اشباعها.
--------------------
(1) الكافي ج 1 ص 35.

النظرية الاجتماعية في القرآن الكريم _ 100_
  وليس هناك أدنى شك من ان الاعمال التي يقوم بها الفرد في حياته العملية تحتاج الى كمية من العلوم ، تقدرها المصلحة الاجتماعية .
  فالطب وتخطيط المدن وجمع الحطب مثلاً تحتاج الى علوم تتناول تلك الاختصاصات ، فعلم التشريح والعقاقير والكيمياء يطور علم الطب ، ودراسة القياسات ومعرفة علم المساحة وتربة الأرض ومواد البناء تساعد في علم تخطيط المدن ، ودراسة الاشجار واخشابها وطريقة قطعها واسلوب نقلها يساعد الأفراد المهتمين بعملية جمع الحطب واستخدامه في عملية توليد الطاقة .
  وفي كل تلك الأمثلة يكون العلم الاختصاصي هو المحور والمدار في تطوير المهنة التي يقوم بها العامل المختص ، وبطبيعة الحال ، فان الاختصاص ليس القطب الوحيد الذي عرضه الاسلام ضمن اهتمامه بالعلوم التطبيقية ، بل طرح فكرة التسخير أيضاً ، باعتبارها منهجاً عملياً للتفاعل الاجتماعي : ( وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضًا سُخْرِيًّا ) (1) .
  وهي اشارة ـ كما ذكرنا سابقاً ـ الى ان النظام الاجتماعي لا يحيا الا عن طريق تسخير جهود الافراد الشخصية لخدمة بعضهم البعض في شتى المجالات الحياتية الضرورية للبقاء البشري على الأرض ، حيث تقوم العلوم التخصصية في عملية التسخير بدور العامل المساعد في تطوير تلك العملية وتسهيلها خدمة للنظام الاجتماعي العام وافراده .
  ولم تتوقف فكرة التسخير على الاعمال اليدوية والاعمال القائمة على الجهد الانساني العضلي ، بل تعدت الى الجهد العلمي والفكري الذي يقوم به الانسان ، ومن
--------------------
(1) الزخرف : 32.