تأليف
السيد عبد الحسين شرف الدين الموسوي ( قدس سره )
تحقيق
فارس الحسّون

سلسلة الكتب المؤلفة في أهل البيت ( عليهم السلام ) ( 41 )
إعداد
مركز الأبحاث العقائدية

بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

مقدمة المركز :
   إن الحسين ( عليه السلام ) ليس حُكراً على الشيعة فحسب، وإن مأتمه ( عليه السلام ) ليس من مختصّات الشيعة ، كما قد يظنّ البعض ذلك ، بل الحسين ( عليه السلام ) حسين جميع المسلمين ، والاحرى أن يكون حسين جميع الانسانية ، وإنّ مأتم الحسين ( عليه السلام ) ومأساته جرح ما زال لم يندمل ومصاب لا زال المسلمون يأنّون من ألمه حتّى يأخذ الله تعالى بثأره ( عليه السلام ) ، من الحسين ( عليه السلام ) ومأتمه استلهم الشيعة درس التضحية لاجل العقيدة والدفاع عنها ، من الحسين ( عليه السلام ) ومأتمه استلهم المسلمون درس التضحية في سبيل البحث عن العقيدة الحقة ; لان المأتم الحسيني يجعل النفوس ملتهبة بالعواطف النقية، فتكون النفوس عندئذ أقرب ما تكون لاستماع الحقيقة والتجرد عن التعصب .
   من الحسين ( عليه السلام ) ومأتمه استلهم جميع بني آدم درس الانسانية والرجوع إلى الفطرة ، بالحسين ( عليه السلام ) ومأتمه يمكن تبديد غيوم العصبية وغبار الجهل والافلات من الوقوع في براثن الفتن وتيارات الضلال ، وبالحسين ( عليه السلام ) ومأتمه يمتلك الانسان القدرة على اجتياز الطريق الشائك لمعرفة الحق ، وتحطيم عقبة ( إنّا وجدنا آباءنا على هذا وإنّا على آثارهم مقتدون ) ، لان الحسين ( عليه السلام ) حسين الله ، ومأتمه مأتم أمر الله عز وجل بإحيائه ، لان الحسين ( عليه السلام ) حسين الحق ، ومأتمه درس للوصول إلى الحق ، لان الحسين ( عليه السلام ) حسين المصطفى ( صلى الله عليه وآله ) ، ومأتمه مأتمه ، لان الحسين ( عليه السلام ) حسين علي وفاطمة وأهل البيت ( عليهم السلام ) ، ومأتمه مأتمهم ، لان الحسين ( عليه السلام ) حسين الانبياء والمرسلين ( عليهم السلام ) ، ومأتمه مأتمهم .

المأتم الحسيني مشروعيته وأسراره _ 2 _

   لان الحسين ( عليه السلام ) حسيننا جميعاً ، ومأتمه مأتمنا ، وقسماً بالله الذي لا إله إلاّ هو ، إن البشرية لو عرفت الحسين ( عليه السلام ) على حقيقته لاسلمت عن بكرة أبيها ، إلاّ مَن كان قد تخلّى منهم عن إنسانيته ، وكذلك لو عرف المسلمون الحسين ( عليه السلام ) على حقيقته ، لاهتدوا بهديه واتبعوا نهجه وركبوا سفينة النجاة وما تركوا أهل البيت ( عليهم السلام ) طرفة عين ، إلاّ من كان منهم وفي قلبه مرض ، وعليه ، فإنّ مسؤولية أتباع الحسين ( عليه السلام ) تتضاعف في إيصال حقيقة الحسين ( عليه السلام ) وأهمية إقامة مأتمه إلى الجميع ، ليؤدّي كلّ منهم هذه المهمّة على قدر وسعه .
   وهذا الكتاب الماثل بين يدي القارئ العزيز ، وإن كان صغيراً في حجمه ، إلاّ أنه عظيم في محتواه ، قد جمع بين دفّتيه على اختصاره زبدة ما يتعلّق بمشروعية المأتم وأسراره ، وهو بقلم علَم الاعلام وسيّد السادات ـ الذي اهتدى أكثر من اهتدى إلى مذهب أهل البيت ( عليهم السلام ) بسبب كتابه المراجعات ـ آية الله السيد عبد الحسين شرف الدين الموسوي رضوان الله عليه ، وهذا الكتاب في الواقع هو مقدّمة كتابه « المجالس الفاخرة في مآتم العترة الطاهرة » الذي أحرقته الايدي الاثيمة ، ومابقي منه سوى المقدمة التي قمنا بتحقيقها والتعليق عليها واخراجها بهذا الكتاب الذي سمّيناه « المأتم الحسيني مشروعيته وأسراره » ، ليكون الكتاب الثاني من « سلسلة الكتب الاهدائية » المخصّصة لروّاد المركز من المشتركين والمساهمين في المسابقات الهادفة ، وذلك لايجاد ثقافة علمية عقائدية لمجتمعاتنا المؤمنة التي نأمل منها كل الخير في نشر مذهب أهل البيت ( عليهم السلام ) ودرء الشبهات عنه .

مركز الابحاث العقائدية
فارس الحسّون   

المأتم الحسيني مشروعيته وأسراره _ 3 _

تمهيد :
   الحمد لله على جميل بلائه وجليل عزائه ، والصلاة والسلام على أُسوة أنبيائه ، وعلى الائمّة المظلومين من أوصيائه ، ورحمة الله وبركاته ، أما بعد ، فهذا كتاب ( المجالس الفاخرة في مآتم العترة الطاهرة ) (1) ، وضعته تقرّباً إليهم في الدنيا ، وتوسّلاً بهم في الاخرة ، سائلاً من الله سبحانه أن يكون خالصاً لوجهه الكريم ، إنه الرؤوف الرحيم .

---------------------------
(1) ألّفه في أربع مجلدات ضخمة ، تضمّنت سيرة النبي ( صلى الله عليه وآله ) وعترته ( عليهم السلام ) وحياتهم وبعض خطبهم .
وقال عنه المؤلّف ( قدس سره ) : « كتاباً اجتماعياً سياسياً عمرانياً ، من أحسن ما كتب في الامامة والسياسة » ، وكان ( قدس سره ) قد كتب له مقدمة حول مشروعية أصل المأتم وأسراره ، طبعت قبل طبع الكتاب ، وهذه المقدمة هي كتابنا الحاضر الذي سمّيناه « المأتم الحسيني مشروعيته وأسراره » ، وأمّا أصل الكتاب ، فقد أعدّه المؤلّف للنشر ، ولكن شعلة الحرب العالمية الاولى حالت المؤلّف عن طبعه ، حتّى أصبح هذا الكتاب ومؤلّفاته الاخرى ـ ما يقرب من ثلاثين مجلداً مخطوطاً كلها بقلمه الشريف ـ طعمة حريق سلطة الاحتلال الفرنسي ، حيث سلّطت النار على داره في شحور ، وبعده احتلّت داره الكبرى في صور وأبيحت للايدي الاثيمة سلباً ونهباً .

المأتم الحسيني مشروعيته وأسراره _ 4 _

مقدمة :
   الاصل العملي يقتضي إباحة :
( 1 ) البكاء على مطلق الموتى .
( 2 ) ورثائهم بالقريض .
( 3 ) وتلاوة مناقبهم ومصائبهم .
( 4 ) والجلوس حزناً عليهم .
( 5 ) والانفاق عنهم في وجوه البرّ .

   ولا دليل على خلاف هذا الاصل ، بل السيرة القطعية والادلة اللفظية حاكمان بمقتضاه ، بل يستفاد من بعضها استحباب هذه الامور إذا كان الميت من أهل المزايا الفاضلة والاثار النافعة ، وفقاً لقواعد المدنية وعملاً بأُصول العمران ; لانّ تمييز المصلحين يكون سبباً في تنشيط أمثالهم ، وأداء حقوقهم يكون داعياً إلى كثرة الناسجين على منوالهم ، وتلاوة أخبارهم ترشد العاملين إلى اقتفاء آثارهم ، وهنا مطالب :

المأتم الحسيني مشروعيته وأسراره _ 5 _


   ولنا على ما اخترناه فيه ـ مضافاً إلى السيرة القطعية ـ فعل النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وقوله وتقريره : أما الاول ، فانه متواتر عنه في موارد عديدة : منها : يوم أحد، إذ علم الناس كافة بكاءه يومئذ على عمه أسد الله وأسد رسوله ، حتى قال ابن عبد البر في ترجمة حمزة من استيعابه : لمّا رأى النبي ( صلى الله عليه وآله ) حمزة قتيلاً بكى فلمّا رأى ما مثّل به شهق .
   وذكر الواقدي ـ كما في أوائل الجزء الخامس عشر من شرح نهج البلاغة (1) للعلاّمة المعتزلي ـ : أنّ النبي ( صلى الله عليه وآله ) كان يومئذ إذا بكت صفية يبكي وإذا نشجت ينشج (2) ، قال : وجعلت فاطمة تبكي لمّا بكى رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) (3) ، ومنها : يوم نعى زيداً وذا الجناحين وابن رواحة ، فيما أخرجه البخاري في الصفحة الثالثة من أبواب الجنائز من صحيحه ، وذكر ابن عبد البرّ في ترجمة زيد من استيعابه : أنّ النبي ( صلى الله عليه وآله ) بكى على جعفر وزيد وقال : « أخواي ومؤنساي ومحدثاي » (4) .
   ومنها : يوم مات ولده إبراهيم ، إذ بكى عليه ، فقال له عبد الرحمن بن عوف ـ كما في صفحة 148 من الجزء الاول من صحيح البخاري ـ : وأنت يا رسول الله ! قال : « يا ابن عوف ، إنها رحمة » (5) ، ثم اتبعها ـ يعني عبرته ـ بأخرى ، فقال : « إنّ العين تدمع والقلب يحزن ولا نقول (6) إلاّ ما يرضي ربنا، وإنا بفراقك يا إبراهيم لمحزونون » (7) .

---------------------------
(1) في أواخر صفحة 387 من المجلّد الثالث طبع مصر « المؤلّف » .
(2) قد اشتمل هذا الحديث على فعل النبي ( صلى الله عليه وآله ) وتقريره ، فهو حجّة من جهتين ، على أنّ بكاء سيدة النساء ( عليها السلام ) كاف كما لا يخفى ( المؤلّف ) .
(3) وراجع أيضاً في بكاء النبي ( صلى الله عليه وآله ) على عمّه حمزة وتحريض النساء على البكاء : مسند أحمد 2 / 40 ، الفصول المهمّة : 92 ، شفاء الغرام 2 / 347 ، ذخائر العقبى : 180 ، السيرة الحلبية 2 / 247 ، الروض الانف 6 / 24 .
(4) وراجع أيضاً : ذخائر العقبى : 218 ، أنساب الاشراف : 43 ، تاريخ اليعقوبي 2 / 66 ، تذكرة الخواص : 172 ، المعجم الكبير 2 / 105 .
(5) لا يخفى مافي تسميتها رحمة من الدلالة على حسن البكاء في مثل المقام « المؤلّف » .
(6) أراد بهذا: أنّ الملامة والاثم في المقام إنما يكونان بالقول الذي يسخط الرب عز وعلا ، كالاعتراض عليه والسخط لقضائه ، لا بمجرد دمع العين وحزن القلب « المؤلف » .
(7) وراجع أيضاً : ذخائر العقبى : 155 ، سيرة ابن إسحاق : 270 ، العقد الفريد 3 / 190 .

المأتم الحسيني مشروعيته وأسراره _ 6 _

   ومنها : يوم ماتت إحدى بناته ( صلى الله عليه وآله ) ، إذ جلس على قبرها ـ كما في صفحة 146 من الجزء الاول من صحيح البخاري ـ وعيناه تدمعان (1) ، ومنها : يوم مات صبي لاحدى بناته ، إذ فاضت عيناه يومئذ ـ كما في الصحيحين (2) وغيرهما ـ فقال له سعد : ما هذا يا رسول الله ؟ قال : « هذه رحمة جعلها الله في قلوب عباده ، وإنما يرحم الله من عباده الرحماء » (3) ، ومنها : ما أخرجه البخاري ومسلم في الصحيحين عن ابن عمر قال : اشتكى سعد ، فعاده رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) مع جماعة من أصحابه ، فوجده في غشية فبكى ، قال : فلمّا رأى القوم بكاءه بكوا ، الحديث (4) ، والاخبار في ذلك لا تحصى ولا تستقصى (5) .

---------------------------
(1) وراجع أيضاً : ذخائر العقبى : 166 ، المحلّى 5 / 145 .
(2) راجع : صفحة 146 من الجزء الاول من صحيح البخاري ، وباب البكاء على الميت من صحيح مسلم « المؤلف » .
(3) دلالة قوله : « وإنما يرحم الله من عباده الرحماء » على استحباب البكاء في غاية الوضوح كما لا يخفى « المؤلّف » .
(4) فراجعه في : باب البكاء عند المريض من صحيح البخاري ، وفي باب البكاء على الميت من صحيح مسلم ، ولا يخفى اشتماله على كل من فعل النبي ( صلى الله عليه وآله ) وتقريره ، فهو حجة من جهتين ( المؤلّف ) .
(5) كبكائه ( صلى الله عليه وآله ) على عترته من بعده [ المصنف 8 / 697 ، الفصول المهمّة : 155 ] ، وبكائه على عليّ بن أبي طالب ( عليه السلام ) لما سيلقاه من بعده [ مناقب الخوارزمي : 24 و 26 ، تذكرة الخواص : 45 ] ، وبكائه على الحسين ( عليه السلام ) لمّا أخبره جبرئيل بما سيجري عليه ، كما سيأتي عن قريب ، وبكائه على شهداء فخ لمّا أخبره جبرئيل بالواقعة [ مقاتل الطالبيين : 436 ] ، وبكائه على جدّه عبد المطلب [ تذكرة الخواص : 7 ] ، وبكائه على أبي طالب [ الطبقات 1 / 105 ، تذكرة الخواص : 8 ، تاريخ اليعقوبي 2 / 35 ] ، وبكائه على فاطمة بنت أسد [ ذخائر العقبى : 56 ، الفصول المهمّة : 13 ، مناقب ابن المغازلي : 77 ، تاريخ اليعقوبي 2 / 14 ] ، وبكائه على أمّه عند قبرها [ المستدرك على الصحيحين 1 / 375 ، تاريخ المدينة المنورة 1 / 118 ، ذخائر العقبى : 258 ، المصنف لابن أبي شيبة 3 / 224 ] ، وبكائه على عثمان بن مظعون [ المستدرك على الصحيحين 1 / 361 ، سنن البيهقي 3 / 407 ] ، وبكائه على سعد بن ربيع [ المغازي 1 / 329 ].

المأتم الحسيني مشروعيته وأسراره _ 7 _

   فمنها : ماذكره ابن عبد البر في ترجمة جعفر من استيعابه ، قال : لمّا جاء النبي ( صلى الله عليه وآله ) نعي جعفر (1) ، أتى امرأته أسماء بنت عميس فعزاها ، قال : ودخلت فاطمة وهي تبكي وتقول : « وا عماه » ، فقال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : « على مثل جعفر فلتبك (2) البواكي » (3) ، ومنها : ماذكره ابن جرير وابن الاثير وصاحب العقد الفريد وجميع أهل السير ، وأخرجه الامام أحمد بن حنبل من حديث ابن عمر في صفحة 40 من الجزء الثاني من مسنده ، قال : رجع رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) من أحد ، فجعلت نساء الانصار يبكين على من قتل من أزواجهن ، فقال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : « ولكن حمزة لا بواكي له » ، قال : ثم نام فاستنبه وهنّ يبكين حمزة ، قال : فهنّ اليوم إذا بكين يبدأن بحمزة .
   وفي ترجمة حمزة من الاستيعاب نقلاً عن الواقدي ، قال : لم تبك امرأة من الانصار على ميت بعد قول رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : « لكن حمزة لا بواكي له » إلى اليوم إلاّ بدأت بالبكاء على حمزة (4) ، وحسبك تلك السيرة في رجحان البكاء على من هو كحمزة وإن بعد العهد بموته ، ولا تنس مافي قوله ( صلى الله عليه وآله ) : « لكن حمزة لا بواكي له » من البعث على البكاء والملامة لهن على تركه ، وحسبك به وبقوله : « على مثل جعفر فلتبك البواكي » ، دليلاً على الاستحباب .
   وأخرج الامام أحمد من حديث ابن عباس ـ في صفحة 335 من الجزء الاول ـ من مسنده من جملة حديث ذكر فيه موت رقية بنت رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وبكاء النساء عليها ، قال : فجعل عمر يضربهن بسوطه ، فقال النبي ( صلى الله عليه وآله ) : « دعهن يبكين » ، ثم قال : « مهما يكن من القلب والعين فمن الله والرحمة » ، وقعد على شفير القبر وفاطمة الى جنبه تبكي ، قال : فجعل النبي ( صلى الله عليه وآله ) يمسح عين فاطمة بثوبه رحمة لها .

---------------------------
(1) هذا الحديث مشتمل على تقريره ( صلى الله عليه وآله ) على البكاء وأمره به ، على أنّ مجرد صدوره من سيدة النساء ( عليها السلام ) حجة كما لا يخفى « المؤلف » .
(2) هذا أمر منه ( صلى الله عليه وآله ) بالبكاء ندباً على أمثال جعفر من رجال الامة ، وحسبك به حجة على الاستحباب « المؤلف » .
(3) وراجع أيضاً : أنساب الاشراف : 43 ، تاريخ اليعقوبي 2 / 66 .
(4) وراجع أيضاً : شفاء الغرام 2 / 347 ، السيرة النبوية 3 / 105 ، الروض الانف 6 / 24 ، ذخائر العقبى : 183 ، الفصول المهمة : 92 .

المأتم الحسيني مشروعيته وأسراره _ 8 _

   وأخرج أحمد أيضاً من حديث أبي هريرة ـ ص 333 ج 2 من مسنده ـ حديثاً جاء فيه : أنه مرّ على رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) جنازة معها بواكي ، فنهرهن عمر ، فقال له رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : « دعهن ، فانّ النفس مصابة والعين دامعة » ، إلى غير ذلك مما لا يسعنا استيفاؤه ، وقد بكى يعقوب إذ غيب الله ولده ( وَقَالَ يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزَنِ فَهُوَ كَظِيمٌ ) (1) ، حتّى قيل : ـ كما في تفسير هذه الاية من الكشاف ـ : ما جفّت عيناه من وقت فراق يوسف إلى حين لقائه ثمانين عاماً ، وما على وجه الارض أكرم على الله منه .
   وعن رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ـ كما في تفسير هذه الاية من الكشاف أيضاً ـ : أنه سئل جبرئيل ( عليه السلام ) : ما بلغ وجد يعقوب على يوسف ؟ قال : وجْد سبعين ثكلى ، قال : فما كان له من الاجر ؟ قال : أجر مائة شهيد (2) ، وما ساء ظنه بالله قط ، قلت : أيّ عاقل يرغب عن مذهبنا في البكاء بعد ثبوته عن الانبياء ( وَمَنْ يَرْغَب عَنْ مِلَّةِ إبْرَاهِيمُ إلاَّ مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ ) (3) ، وأمّا ما جاء في الصحيحين : من أنّ الميت يعذب لبكاء أهله عليه ، وفي رواية : ببعض بكاء أهله عليه ، وفي رواية : ببكاء الحي ، وفي رواية : يعذب في قبره بما نيح عليه ، وفي رواية : من يبك عليه يعذب ، فانّه خطأ من الراوي بحكم العقل والنقل ، قال الفاضل النووي (4) : هذه الروايات كلّها من رواية عمر بن الخطاب وابنه عبد الله.

---------------------------
(1) يوسف : 84 .
(2) هذا كالصريح في استحباب البكاء ، إذ ليس المستحب إلاّ ما يترتب الثواب على فعله كما هو واضح « المؤلف » .
(3) البقرة : 130 .
(4) عند ذكر هذه الروايات في باب الميت يعذب ببكاء أهله عليه من شرح صحيح مسلم « المؤلّف » .

المأتم الحسيني مشروعيته وأسراره _ 9 _

   قال : وأنكرت عائشة عليهما ، ونسبتهما إلى النسيان والاشتباه ، واحتجّت بقوله تعالى : ( وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ) (1) ، قلت : وأنكر هذه الروايات أيضاً عبد الله بن عباس ، واحتج على خطأ راويها ، والتفصيل في الصحيحين وشروحهما ، وما زالت عائشة وعمر في هذه المسألة على طرفي نقيض ، حتى أخرج الطبري (2) في حوادث سنة 13 من تاريخه ، بالاسناد إلى سعيد بن المسيب قال : لما توفي أبو بكر أقامت عليه عائشة النوح ، فأقبل عمر بن الخطاب حتى قام ببابها فنهاهنّ عن البكاء على أبي بكر ، فأبين أن ينتهين ، فقال عمر لهشام بن الوليد : أدخل فأخرج إلي ابنة أبي قحافة ، فقالت عائشة لهشام حين سمعت ذلك من عمر : إنّي أحرج عليك بيتي ، فقال عمر لهشام : أدخل فقد أذنت لك ، فدخل هشام وأخرج ام فروة أخت أبي بكر إلى عمر ، فعلاها بالدرة فضربها ضربات ، فتفرق النوح حين سمعوا ذلك .
   قلت : كأنه لم يعلم تقرير النبي نساء الانصار على البكاء على موتاهن ، ولم يبلغه قوله ( صلى الله عليه وآله ) : « لكن حمزة لا بواكي له » ، وقوله : « على مثل جعفر فلتبك البواكي » ، وقوله : « وإنما يرحم الله من عباده الرحماء » ، ولعله نسي نهي النبي ( صلى الله عليه وآله ) إياه عن ضرب البواكي يوم ماتت رقية بنت رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ، ونسي نهيه إياه عن انتهارهنّ في مقام آخر مرّ عليك آنفاً ، ثم إذا كان البكاء على الميت حراماً ، فلماذا أباح لنساء بني مخزوم أن يبكين على خالد بن الوليد (3) ، حتى ذكر محمد بن سلام ـ كما في ترجمة خالد من الاستيعاب ـ أنه لم تبق امرأة من بني المغيرة إلاّ وضعت لمتها ـ أي حلقت رأسها ـ على قبر خالد ، وهذا حرام بلا ارتياب ، والله أعلم .

---------------------------
(1) الانعام : 164 .
(2) عند ذكر وفاة أبي بكر في الجزء الرابع من تاريخه « المؤلّف » .
(3) وبكى هو على النعمان بن مقرن واضعاً يده على رأسه ، كما نصّ عليه ابن عبد البر في ترجمة النعمان من استيعابه ، وفي أوائل الجزء الثاني من العقد الفريد قال : ولما نعي النعمان بن مقرن إلى عمر بن الخطاب وضع يده على رأسه وصاح يا أسفاً على النعمان . . . وبكائه على أخيه زيد معلوم بالتواتر « المؤلّف » .

المأتم الحسيني مشروعيته وأسراره _ 10 _


   ويظهر من القسطلاني في شرح البخاري (1) أنّ الجماعة يفصلون القول فيه : فيحرمون ما اشتمل منه على مدح الميت وذكر محاسنه الباعث على تحريك الحزن وتهييج اللوعة ، ويبيحون ما عدا ذلك ، والحق إباحته مطلقاً ، إذ لا دليل هنا يعدل بنا عن مقتضى الاصل ، والنواهي التي يزعمونها إنما يستفاد منها الكراهة في موارد مخصوصة، على أنّها غير صحيحة بلا ارتياب ، وقد رثى آدم ( عليه السلام ) ولده هابيل ، واستمرت على ذلك ذريته إلى يومنا هذا بلا نكير ، وأبقى رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) أصحابه عليه ، مع إكثارهم من تهييج الحزن به ، وتفننهم بمدائح الموتى فيه ، وتلك مراثيهم منتشرة في كتب الاخبار .
  فراجع من الاستيعاب إن أردت بعضها أحوال : سيد الشهداء حمزة ، وعثمان بن مظعون ، وسعد بن معاذ ، وشماس بن عثمان بن الشريد ، والوليد بن الوليد بن المغيرة ، وأبي خراش الهذلي ، وأياس بن البكير الليثي ، وعاتكة بنت زيد بن عمرو بن نفيل ، وغيرهم ، ولاحظ من الاصابة أحوال : ذي الجناحين جعفر بن أبي طالب ، وأبي زيد الطائي ، وأبي سنان بن حريث المخزومي ، والاشهب بن رميلة الدارمي ، وزينب بنت العوام ، وعبد الله بن عبد المدان الحارثي ، وجماعة آخرين لا تحضرني أسماؤهم ، ودونك كتاب الدرة في التعازي والمراثي ، وهو في أول الجزء الثاني من العقد الفريد ، تجد فيه من مراثي الصحابة ومن بعدهم شيئاً كثيراً ، وليس شيء مما أشرنا إليه إلاّ وقد اشتمل على ما يهيج الحزن ويجدد اللوعة بمدح الميت وذكر محاسنة .

---------------------------
(1) راجع باب رثي النبي ( صلى الله عليه وآله ) سعد بن خولي ، ص 298 ج 3 ، من إرشاد الساري للقسطلاني « المؤلّف » .

المأتم الحسيني مشروعيته وأسراره _ 11 _

   ولمّا توفي رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) تنافست فضلاء الصحابة في رثائه ، فرثته سيدة نساء العالمين ( عليها السلام ) بأبيات تهيج الاحزان ، ذكر القسطلاني (1) في إرشاد الساري بيتين منها ، وهما قولها ( عليها السلام ) :

مـاذا على مَن شمّ تربة أحمد      أن لا يشمّ مدى الزمان iiغواليا
صـبّت عليّ مصائب لو أنّها      صبّت على الايام صرن لياليا
مـاذا على مَن شمّ تربة أحمد      أن لا يشمّ مدى الزمان iiغواليا
صـبّت عليّ مصائب لو أنّها      صبّت على الايام صرن لياليا
   ورثته أيضاً بأبيات تثير لواعج الاشجان ، ذكر ابن عبد ربه المالكي بيتين منها في أوائل الجزء الثاني من العقد الفريد ، وهما :
إنّـا فـقدناك فـقْد الارض iiوابلها      وغاب مذ غبتَ عنّا الوحي والكتب
فـليت  قـبلك كان الموت iiصادفنا      لـما  نـعيت وحالت دونك iiالكثب
   ورثته عمته صفية بقصيدة يائية، ذكر ابن عبد البر في أحوال النبي ( صلى الله عليه وآله ) من استيعابه جملة منها ، ورثاه أبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب بقصيدة لامية ، ذكر بعضها صاحبا الاستيعاب والاصابة في ترجمة أبي سفيان المذكور ، ورثاه أبو ذويب الهذلي ـ كما يعلم من ترجمته في الاستيعاب والاصابة ـ بقصيدة حائية ، ورثاه أبو الهيثم بن التيهان بقصيدة دالية ، أشار إليها ابن حجر في ترجمة أبي الهيثم من إصابته ، ورثته أم رعلة القشيرية بقصيدة رائية ، أشار إليها العسقلاني في ترجمة أم رعلة من إصابته ، ورثاه عامر بن الطفيل بن الحارث الازدي بقصيدة جيمية ، أشار إليها بن حجر في ترجمة عامر من الاصابة ، ومَن استوعب الاستيعاب ، وتصفّح الاصابة ، وأسد الغابة ، ومارس كتب الاخبار ، يجد من مراثيهم المشتملة على تهييج الحزن بذكر محاسن الموتى شيئاً يتجاوز حدّ الاحصاء ، وقد أكثرت الخنساء ـ وهي صحابية ـ من رثاء أخويها صخر ومعاوية وهما كافران ، وأبدعت في مدائح صخر وأهاجت عليه لواعج الحزن ، فما أنكر عليها منكر .

---------------------------
(1) ص 218 ج 3 في باب رثي النبي سعد بن خولي « المؤلّف » .

المأتم الحسيني مشروعيته وأسراره _ 12 _

   وأكثر أيضاً متمّم بن نويرة من تهييج الحزن على أخيه مالك في مراثيه السائرة، حتى وقف مرة في المسجد وهو غاص بالصحابة أمام أبي بكر بعد صلاة الصبح واتكأ على سية قوسه فأنشد : نعم القتيل إذا الرياح تناوحت خلف البيوت قتلت يا ابن الازور ثم أومأ إلى أبي بكر ـ كما في ترجمة وثيمة بن موسى ابن الفرات من وفيات ابن خلكان ـ فقال مخاطباً له : أدعوته بالله ثم غدرته لو هو دعاك بذمة لم يغدر ، فقال أبو بكر : والله ما دعوته ولا غدرته ، ثم قال :
ولنعم حشو الدرع كان وحاسراً      ولـنعم مأوى الطارق iiالمتنور
لا يـمسك الفحشاء تحت iiثيابه      حـلو  شـمائله عفيف iiالمأزر
   وبكى حتّى انحط عن سية قوسه ، قالوا : فما زال يبكي حتى دمعت عينه العوراء ، فما أنكر عليه في بكائه ولا في رثائه منكر ، بل قال له عمر ـ كما في ترجمة وثيمة من الوفيات ـ لوددتُ أنّك رثيت زيداً أخي بمثل ما رثيت به مالكاً أخاك ، فرثى متمم بعدها زيد بن الخطاب فما أجاد ، فقال له عمر : لِمَ لمْ ترثي زيداً كما رثيت مالكاً ؟ فقال : إنه والله ليحركني لمالك مالا يحركني لزيد ، واستحسن الصحابة ومن تأخر عنهم مراثيه في مالك ، وكانوا يتمثلون بها ، كما اتفق ذلك من عائشة إذ وقفت على قبر أخيها عبد الرحمن ـ كما في ترجمته من الاستيعاب ـ فبكت عليه وتمثلت :
وكـنّا كـندماني جـذيمة حقبة      من الدهر حتى قيل لن يتصدّعا
فـلما تـفرقنا كـأني iiومـالكا      لطول  اجتماع لم نبت ليلة iiمعا
   وما زال الرثاء فاشياً بين المسلمين وغيرهم في كلّ عصر ومصر لا يتناكرونه مطلقاً .

المأتم الحسيني مشروعيته وأسراره _ 13 _


   كما كانت عليه سيرة السلف ، وفعلته عائشة إذ وقفت على قبر أبيها باكية ، فقالت : كنتَ للدنيا مذلاً بادبارك عنها ، وكنتَ للاخرة معزاً باقبالك عليها ، وكان أجل الحوادث بعد رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) رزؤك، وأعظم المصائب بعده فقدك ، وفعله محمد بن الحنفية إذ وقف على قبر أخيه المجتبى ( عليه السلام ) ، فخنقته العبرة ـ كما في أوائل الجزء الثاني من العقد الفريد ـ ثم نطف فقال : يرحمك الله أبا محمد ، فإن عزّت حياتك فقد هدّت وفاتك ، ولنعم الروح روح ضمّه بدنك ، ولنعم البدن بدن ضمه كفنك ، وكيف لا تكون كذلك وأنت بقيّة ولد الانبياء ، وسليل الهدى ، وخامس أصحاب الكساء ، غذتك أكف الحق ، وربيت في حجر الاسلام ، فطبت حياً وطبت ميتاً ، وإن كانت أنفسنا غير طيبة بفراقك ، ولا شاكة في الخيار لك .
   ثم بكى بكاءاً شديداً ، وبكى الحاضرون حتى سمع نشيجهم (1) ، ووقف أمير المؤمنين على قبر خباب بن الارت في ظهر الكوفة ـ وهو أول من دفن هناك كما نصّ عليه ابن الاثير في آخر تتمة صفين ـ فقال : « رحم الله خباباً ، لقد أسلم راغباً ، وجاهد طائعاً ، وعاش مجاهداً ، وابتلى في جسمه أحوالاً ، ولن يضيع الله أجر من أحسن عملاً » ، ولما توفي أمير المؤمنين ، قام الخلف من بعده أبو محمد الحسن الزكي ( عليهما السلام ) خطيباً ، فقال ـ كما في حوادث سنة 40 من تاريخ ابن جرير وابن الاثير وغيرهما ـ : « لقد قتلتم الليلة رجلاً ، والله ما سبقه أحد كان قبله ، ولا يدركه أحد يكون بعده ، إن كان رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ليبعثه في السرية وجبرئيل عن يمينه وميكائيل عن يساره ، ما ترك صفراء ولا بيضاء . . . » .

---------------------------
(1) العقد الفريد 2 / 8 و 3 / 197 ، تذكرة الخواص : 213 .

المأتم الحسيني مشروعيته وأسراره _ 14 _

   ووقف الامام زين العابدين على قبر جدّه أمير المؤمنين ( عليهما السلام ) ، فقال : « أشهد أنّك جاهدت في الله حق جهاده ، وعملت بكتابه ، واتبعت سنن نبيه ( صلى الله عليه وآله ) ، حتى دعاك الله إلى جواره فقبضك إليه باختياره ، لك كريم ثوابه ، وألزم أعداءك الحجة مع مالك من الحجج البالغة على جميع خلقه » ، وعن أنس بن مالك ـ كما في العقد الفريد وغيره ـ قال : لمّا فرغنا من دفن رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) بكت فاطمة ونادت : « يا أبتاه أجاب رباً دعاه ، يا أبتاه من ربّه ما أدناه ، يا أبتاه إلى جبرئيل ننعاه ، يا أبتاه جنة الفردوس مأواه » .
   ولو أردنا أن نستوفي ما كان من هذا القبيل ، لخرجنا عن الغرض المقصود ، وحاصله : أنّ تأبين الموتى من أهل الاثار النافعة بنشر مناقبهم وذكر مصائبهم ممّا حكم بحسنه العقل والنقل ، واستمرت عليه سيرة السلف والخلف ، وأوجبته قواعد المدنية ، واقتضته أصول الترقي في المعارف ، إذ به تحفظ الاثار النافعة ، وبالتنافس فيه تعرج الخطباء إلى أوج البلاغة ، والقول بتحريمه يستلزم تحريم قراءة التاريخ وعلم الرجال ، بل يستوجب المنع من تلاوة الكتاب والسنة ، لاشتمالهما على جملة من مناقب الانبياء ومصائبهم ، ومن يرضى لنفسه هذا الحمق أو يختار لها هذا العمى ، نعوذ بالله من سفه الجاهلين .

المأتم الحسيني مشروعيته وأسراره _ 15 _


   وحسبك في رجحان ذلك: ما تواتر عن رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) من الحزن الشديد على عمّه أبي طالب وزوجته الصديقة الكبرى أم المؤمنين ( عليهما السلام ) ، وقد ماتا في عام واحد ، فسمّي عام الحزن ، وهذا معلوم بالضرورة من أخبار الماضين ، وأخرج البخاري ـ في باب من جلس عند المصيبة يعرف فيه الحزن من الجزء الاول من صحيحه ـ بالاسناد إلى عائشة ، قالت : لمّا جاء النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) قتل ابن حارثة وجعفر وابن رواحة ، جلس ـ أي في المسجد كما في رواية أبي داود ـ يعرف فيه الحزن .
   وأخرج البخاري ـ في الباب المذكور أيضاً ـ عن أنس ، قال : قنت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم ) شهراً حين قتل القرآء ، فما رأيته حزن حزناً قط أشدّ منه . . .(1) ، والاخبار في ذلك أكثر من أن تحصى أو تستقصى ، والقول : بأنه إنما يحسن ترتيب آثار الحزن إذا لم يتقادم العهد بالمصيبة ، مدفوع : بأنّ من الفجائع ما لا تخبو زفرتها ولا تخمد لوعتها ، فقرب العهد بها وبعده عنها سواء ، نعم يتمّ قول هؤلاء اللائمين إذا تلاشى الحزن بمرور الازمنة ، ولم يكن دليل ولا مصلحة يوجبان التعبد بترتيب آثاره ، وما أحسن قول القائل في هذا المقام :
خلي أميمة عن ملا مك      مـا الـمعزى كالثكول
ما  الراقد الوسنان iiمثـ     ـل معذب القلب iiالعليل
سـهران  مـن الم iiوهـ   ـذا نـائم الليل الطويل
ذوقـي أمـيمة ما iiأذو      ق  وبعده ماشئت iiقولي


---------------------------
(1) وأخرجه مسلم أيضاً في باب التشديد في النياحة من صحيحه « المؤلّف » .

المأتم الحسيني مشروعيته وأسراره _ 16 _

   على أنّ في ترتيب آثار الحزن بما أصاب رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) من تلك الفجائع ، وحلّ بساحته من هاتيك القوارع ، حكماً توجب التعبد بترتيب آثار الحزن بسببها على كلّ حال ، والادلة على ترتيب تلك الاثار في جميع الاعصار متوفرة ، وستسمع اليسير منها إن شاء الله تعالى ، وقد علمت سيرة أهل المدينة الطيبة واستمرارها على ندب حمزة وبكائه مع بعد العهد بمصيبته ، فلم ينكر عليهم في ذلك أحد ، حتّى بلغني أنهم لا يزالوا إلى الان إذا ناحوا على ميت بدوا بالنياحة عليه ، وما ذاك إلاّ مواساة لرسول الله ( صلى الله عليه وآله ) بمصيبته في عمه ، وأداءً لحق تلك الكلمة التي قالها في البعث على البكاء عليه ، وهي قوله : « لكن حمزة لا بواكي له » .
   وكان الاولى لهم ولسائر المسلمين مواساته في الحزن على أهل بيته ، والاقتداء به في البكاء عليهم ، وقد لام بعض أهل البيت ( عليهم السلام ) مَن لم يواسهم في ذلك فقال : « يا لله لقلب لا ينصدع لتذكار تلك الاُمور ، ويا عجباً من غفلة أهل الدهور ، وما عذر أهل الاسلام والايمان في إضاعة أقسام الاحزان ، ألم يعلموا أن محمداً ( صلى الله عليه وآله وسلم ) موتور وجيع وحبيبه مقهور صريع » ؟ ، قال : « وقد أصبح لحمه ( صلى الله عليه وآله ) مجرداً على الرمال ، ودمه الشريف مسفوكاً بسيوف أهل الضلال ، فيا ليت لفاطمة وأبيها ، عيناً تنظر إلى بناتها وبنيها ، وهم ما بين مسلوب وجريح ، ومسحوب وذبيح . . . » إلى آخر كلامه ، ومن وقف على كلام أئمّة أهل البيت في هذا الشأن ، لا يتوقف في ترتيب آثار الحزن عليهم مدى الدوران ، لكنّا منينا بقوم لا ينصفون ، فانّا لله وإنا إليه راجعون .

المأتم الحسيني مشروعيته وأسراره _ 17 _

   ويكفي في استحبابه : عموم ما دلّ على استحباب مطلق المبرات والخيرات ، على أنّ فعل النبي ( صلى الله عليه وآله ) وقوله دالان على الاستحباب في خصوص المقام ، وحسبك من فعله : ما أخرجه البخاري ومسلم في صحيحيهما (1) بطرق متعددة عن عائشة : ما غرت على أحد من نساء النبي ( صلى الله عليه وآله ) ما غرت على خديجة ، وما رأيتها ، ولكن كان النبي ( صلى الله عليه وآله ) يكثر ذكرها ، وربما ذبح الشاة ثم يقطعها أعضاء ثم يبعثها في صدائق خديجة ، فربما قلت له : كأن لم يكن في الدنيا إلاّ خديجة ، فيقول : « إنما كانت وكان لي منها ولد » .
   قلت : وهذا يدلّ على استحباب صلة أصدقاء الميت وأوليائه في الله عز وجل بالخصوص ، ويكفيك من قوله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ما أخرجه مسلم ـ في باب وصول ثواب الصدقة عن الميت إليه ، من كتاب الزكاة ، في الجزء الاول من صحيحه ـ بطرق متعددة ، عن عائشة : أنّ رجلاً أتى النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) فقال : يا رسول الله إنّ أمّي افتلتت نفسها ، ولم توص ، أفلها أجر أن تصدقت عنها ؟ قال ( صلى الله عليه وآله ) : « نعم » ، ومثله : ما أخرجه أحمد من حديث عبد الله بن عباس ـ في ص 333 من الجزء الاول ـ من مسنده : من أنّ سعد بن عبادة قال : إنّ ابن بكر أخا بني ساعدة توفيت أمّه وهو غائب عنها ، فقال : يا رسول الله، إنّ أمي توفيت وأنا غائب عنها ، فهل ينفعها إن تصدقتُ بشيء عنها ؟ قال : « نعم » ، قال : فاني أشهدك أنّ حائط المخرف صدقة عليها ، والاخبار في ذلك متضافرة ، ولا سيما من طريق العترة الطاهرة (2) .

---------------------------
(1) فراجع من صحيح البخاري : باب تزويج النبي خديجة وفضلها ، ومن صحيح مسلم : باب فضائل خديجة أم المؤمنين ( عليها السلام ) « المؤلف » .
(2) وربما كان المنكر علينا فيما نفعله من المبرات عن الحسين ( عليه السلام ) ، لا يقنع بأقوال النبي ( صلى الله عليه وآله ) ولا بأفعاله ، وإنما تقنعه اقوال سلفه وأفعالهم ، وحينئذ نحتج عليه بما فعله الوليد بن عقبة بن أبي معيط الاموي ، إذ مات لبيد بن ربيعة العامري الشاعر ، فبعث الوليد إلى منزله عشرين جزوراً ، فنحرت عنه ، كما نصّ عليه ابن عبد البر في ترجمة لبيد من الاستيعاب « المؤلف » .

المأتم الحسيني مشروعيته وأسراره _ 18 _

مآتمنا المختصّة بسيّد الشهداء :
   كلّ من وقف على ما سلف من هذه المقدمة ، يعلم أنه لا وجه للانكار علينا في مآتمنا المختصة بسيد الشهداء ( عليه السلام ) ، ضرورة أنه لا تشتمل إلاّ على تلك المطالب الخمسة ، وقد عرفت إباحتها بالنسبة إلى مطلق الموتى من كافة المؤمنين ، وما أدري كيف يستنكرون مآتم انعقدت لمواساة النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، وأُسست على الحزن لحزنه ؟ أيبكي ـ بأبي هو وأمي ـ قبل الفاجعة ، ونحن لا نبكي بعدها ؟ ! ما هذا شأن المتأسّي بنبيه والمقتصّ لاثره ، إن هذا إلاّ خروج عن قواعد المتأسين ، بل عدول عن سنن النبيين .

بكاء النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) على الحسين ( عليه السلام ) في مصادر العامة :
   ألم يرو الامام أحمد بن حنبل من حديث علي ( عليه السلام ) ـ في ص 85 من الجزء الاول ـ من مسنده ، بالاسناد إلى عبد الله بن نجا عن أبيه : أنه سار مع عليّ ( عليه السلام ) ، فلما حاذى نينوى وهو منطلق إلى صفين ، نادى : « صبراً أبا عبد الله ، صبراً أبا عبد الله بشط الفرات » ، قال : قلت : وما ذاك ؟ قال : « دخلت على رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ذات يوم وعيناه تفيضان ، قلت : يا نبي الله ، ما شأن عينيك تفيضان ؟ قال : قام من عندي جبرئيل قبل ، فحدثني أن ولدي الحسين يقتل بشط الفرات ، قال : فقال : هل لك إلى أن أشمّك من تربته ؟ قال : قلت : نعم ، فمدّ يده فقبض قبضة من تراب فأعطانيها ، فلم أملك عيني إن فاضتا » (1) .

---------------------------
(1) الصواعق المحرقة 2 / 566 ، وراجع أيضاً : مسند أبي يعلى ( 363 ) ، مسند البزار ( 884 ) ، والذخائر للمحب الطبري : 148 ، المعجم الكبير : ( 2811 ) ، مجمع الزوائد 9 / 187 وقال : رجاله ثقات ، سير أعلام النبلاء 3 / 288 .

المأتم الحسيني مشروعيته وأسراره _ 19 _

   وأخرج ابن سعد ـ كما في الفصل الثالث من الباب الحادي عشر من الصواعق المحرقة لابن حجر (1) ـ عن الشعبي ، قال : مرّ علي ( رضي الله عنه ) بكربلاء عند مسيره إلى صفين ، وحاذى نينوى ، فوقف وسأل عن اسم الارض ؟ فقيل : كربلاء ، فبكى حتى بلّ الارض من دموعه ، ثم قال : « دخلت على رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وهو يبكي ، فقلت : ما يبكيك ـ بأبي أنت وأمي ـ ؟ قال : كان عندي جبرائيل آنفاً ، وأخبرني أن ولدي الحسين يقتل بشاطئ الفرات ، بموضع يقال له كربلاء . . . » (2) .
   وأخرج الملاّ ـ كما في الصواعق (3) أيضاً ـ : أنّ علياً مرّ بموضع قبر الحسين ( عليهما السلام ) ، فقال : « هاهنا مناخ ركابهم ، وهاهنا موضع رحالهم ، وهاهنا مهراق دمائهم ، فتية من آل محمد يقتلون بهذه العرصة ، تبكي عليهم السماء والارض » (4) ، ومن حديث أم سلمة ـ كما نصّ عليه ابن عبد ربه المالكي (5) ، حيث ذكر مقتل الحسين في الجزء الثاني من العقد الفريد ـ قالت : كان عندي النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، ومعي الحسين ، فدنا من النبي ( صلى الله عليه وآله ) ، فأخذته ، فبكى ، فتركته ، فدنا منه ، فأخذته ، فبكى ، فتركته ، فقال له جبرئيل : أتحبه يا محمد ؟ قال : « نعم » ، قال : أما إنّ أمتك ستقتله ، وإن شئت أريتك الارض التي يقتل بها ، فبكى النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) (6) .

---------------------------
(1) كلّ ما ننقله في هذا المقام عن الصواعق ، من هذا الحديث وغيره ، موجود في أثناء كلامه في الحديث الثلاثين ، من الاحاديث التي أوردها في ذلك الفصل ، فراجع « المؤلف » .
(2) الصواعق المحرقة 2 / 566 ، وراجع أيضاً : المعجم الكبير للطبراني ( 2811 ) ، مجمع الزوائد 9 / 187 وقال : رجاله ثقات .
(3) الصواعق المحرقة 2 / 566 .
(4) وهذا الحديث رواه أصحابنا بكيفية مشجية ، عن الباقر عليه الصلاة والسلام ، ورووه عن هرثمة وعن ابن عباس ، وإن أردت الوقوف عليه فدونك ص 108 ومابعدها إلى ص 112 من الخصائص الحسينية « المؤلّف » .
(5) في سطر 15 من ص 243 من جزئه الثاني المطبوع سنة 1305 ، وفي هامشه زهر الاداب « المؤلّف » .
(6) وأخرج البغوي في معجمه وأبو حاتم في صحيحه من حديث أنس ـ كما في الصواعق ـ نحوه « المؤلّف » ، راجع : الصواعق المحرقة 2 / 564 و 565 .


المأتم الحسيني مشروعيته وأسراره _ 20 _

   وروى الماوردي الشافعي ـ في باب إنذار النبي ( صلى الله عليه وآله ) بما سيحدث بعده (1) ، من كتابه أعلام النبوة ـ عن عروة ، عن عائشة ، قالت : دخل الحسين بن علي على رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وهو يوحى إليه ، فقال جبرائيل : إن أُمّتك ستفتتن بعدك وتقتل ابنك هذا من بعدك ، ومدّ يده فأتاه بتربة بيضاء ، وقال : في هذه يقتل ابنك ، اسمها الطف ، قال : فلما ذهب جبرائيل ، خرج رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) إلى أصحابه والتربة بيده ـ وفيهم : أبو بكر ، وعمر ، وعلي ، وحذيفة ، وعثمان ، وأبو ذر ـ وهو يبكي ، فقالوا : ما يبكيك يا رسول الله ؟ فقال : « أخبرني جبرائيل : أن ابني الحسين يقتل بعدي بأرض الطف ، وجاءني بهذه التربة ، فأخبرني أنّ فيها مضجعه » .
   وأخرج الترمذي ـ كما في الصواعق وغيرها ـ : أنّ أم سلمة رأت النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ـ فيما يراه النائم ـ باكياً ، وبرأسه ولحيته التراب ، فسألته ؟ فقال : « قتل الحسين آنفاً » (2) ، قال في الصواعق : وكذلك رآه ابن عباس نصف النهار ، أشعث أغبر ، بيده قارورة فيها دم يلتقطه ، فسأله ؟ فقال : « دم الحسين وأصحابه ، لم أزل أتتبعه منذ اليوم » (3) ، قال : فنظروا فوجدوه قد قتل في ذلك اليوم (4) (5) .

---------------------------
(1) وهو الباب الثاني عشر في ص 23 من ذلك الكتاب « المؤلّف » .
(2) سنن الترمذي ( 3774 ) ، الصواعق المحرقة 2 / 567 ، ذخائر العقبى : 148 .
(3) وأخرجه من حديث ابن عباس أحمد بن حنبل في ص 283 من الجزء الاول من مسنده ، وابن عبد البر والعسقلاني في ترجمة الحسين ( عليه السلام ) من الاستيعاب والاصابة ، وخلق كثير « المؤلف » .
(4) وراجع أيضاً : الصواعق المحرقة 2 / 567 ، المعجم الكبير : ( 2822 ) ، مختصر تاريخ ابن عساكر 7 / 152 ، سير أعلام النبلاء 3 / 315 ، البداية والنهاية 8 / 200 ، ذخائر العقبى : 148 .
(5) وللمزيد حول بكاء النبي ( صلى الله عليه وآله ) على الحسين ( عليه السلام ) في مصادر أهل السنة راجع : مستدرك الحاكم 3 / 176 و 4 / 398 ، تاريخ الخميس 1 / 300 و 418 ، الامالي للشجري : 165 ، كنز العمال 13 / 111 و 6 / 223 ، مقتل الحسين 1 / 158 و 159 و 163 ، وسيلة المآل : 183 ، الفصول المهمّة : 154 ، ينابيع المودة: 318 و 320 ، الفتح الكبير 1 / 55 ، روض الازهر : 104 ، الكواكب الدرية 1 / 56 ، الخصائص الكبرى 2 / 126 ، تاريخ الخلفاء : 10 ، التاج الجامع 3 / 318 ، الكامل في التاريخ 3 / 303 ، ذخائر المواريث 4 / 300 ، تاريخ الاسلام 2 / 350 ، كفاية الطالب : 286 ، مصابيح السنة: 207 ، تاريخ الرقة : 75 ، نظم درر السمطين : 215 ، الغنية لطالبي طريق الحق 2 / 56 ، لسان العرب 11 / 349 ، النهاية 2 / 212 ، وراجع أيضاً : كتاب سيرتنا وسنتنا للعلامة الاميني ، وكتاب أنباء السماء برزية كربلاء للمحقق الطباطبائي ، وكتاب إحقاق الحق : المجلد 11 .

المأتم الحسيني مشروعيته وأسراره _ 21 _

   بكاء النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) على الحسين ( عليه السلام ) في مصادر الشيعة وأما صحاحنا ، فانها متواترة في بكائه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) على الحسين ( عليه السلام ) في مقامات عديدة : يوم ولادته ، وقبلها ، ويوم السابع من مولده ، وبعده في بيت فاطمة ، وفي حجرته ، وعلى منبره ، وفي بعض أسفاره ، تارة يبكيه وحده ، يقبله في نحره ويبكي ، ويقبله في شفتيه ويبكي ، وإذا رآه فرحاً يبكي ، وإذا رآه حزناً يبكي ، بل صحّ أنه قد بكاه : آدم ، ونوح ، وإبراهيم ، وإسماعيل ، وموسى ، وعيسى ، وزكريا ، ويحيى ، والخضر ، وسليمان ( عليهم السلام ) ، وتفصيل ذلك كلّه موكول إلى مظانّه من كتب الحديث (1) .

إقامة الائمة ( عليهم السلام ) المأتم على الحسين ( عليه السلام ) وحث أولياؤهم على ذلك :
   وأما أئمّة العترة الطاهرة : الذين هم كسفينة نوح ، وباب حطة ، وأمان أهل الارض ، وأحد الثقلين اللذين لا يضلّ من تمسك بهما ولا يهتدي إلى الله من صدّ عنهما ، فقد استمرت سيرتهم على الندب والعويل ، وأمروا أولياءهم باقامة مآتم الحزن ، جيلاً بعد جيل ، فعن الصادق ( عليه السلام ) ـ فيما رواه ابن قولويه في الكامل وابن شهر آشوب في المناقب وغيرهما ـ : أنّ علي بن الحسين ( عليهما السلام ) بكى على أبيه مدّة حياته ، وما وضع بين يديه طعام إلاّ بكى ، ولا أتي بشراب إلاّ بكى ، حتى قال له أحد مواليه : جعلت فداك يا ابن رسول الله إنّي أخاف أن تكون من الهالكين ! قال ( عليه السلام ) : « إنّما أشكو بثّي وحزني إلى الله ، وأعلم من الله ما لا تعلمون » .

---------------------------
(1) فراجع : ص 105 وما بعدها إلى ص 232 من الخصائص الحسينية ، وإن شئت فراجع : جلاء العيون ، أو البحار ، أو غيرهما « المؤلّف » ، وراجع : أمالي الصدوق : المجلس 92 ، كامل الزيارات : 67 و 68 و 83 و 84 و 92 و 115 و 192 ، علل الشرائع 1 / 154 ، الكافي 1 / 283 و 534 ، مناقب آل أبي طالب 4 / 55 ، المحتضر : 146 و 147 ، بحار الانوار 45 / 220 ـ 229 الباب 41 .

المأتم الحسيني مشروعيته وأسراره _ 22 _

   وروى ابن قولويه وابن شهر آشوب أيضاً وغيرهما : أنه لما كثر بكاؤه ، قال له مولاه : أما آن لحزنك أن ينقضي ؟ فقال : « ويحك ، إن يعقوب ( عليه السلام ) كان له اثنا عشر ولداً ، فغيّب الله واحداً منهم ، فابيضت عيناه من كثرة بكائه عليه واحدودب ظهره من الغم ، وابنه حيّ في الدنيا ، وأنا نظرت إلى أبي وأخي وعمومتي وسبعة عشر من أهل بيتي مقتولين حولي ، فكيف ينقضي حزني » .
   وعن الباقر ( عليه السلام ) (1) قال : « كان أبي ـ علي بن الحسين صلوات الله عليه ـ يقول : أيما مؤمن دمعت عيناه لقتل الحسين بن علي ( عليه السلام ) دمعة حتى تسيل على خده بوّأه الله تعالى في الجنة غرفاً يسكنها أحقاباً ، وأيّما مؤمن دمعت عيناه حتى تسيل على خده فينا لاذى مسّنا من عدوّنا في الدنيا بوّأه الله في الجنة مبوّأ صدق ، وأيّما مؤمن مسّه أذى فينا فدمعت عيناه حتى تسيل على خده صرف الله عن وجهه الاذى وآمنه يوم القيامة من سخطه والنار » (2) .
   وقال الرضا (3) ـ وهو الثامن من أئمة الهدى صلوات الله وسلامه عليهم ـ « إنّ المحرّم شهر كان أهل الجاهلية يحرّمون فيه القتال ، فاستُحلّت فيه دماؤنا ، وهتكت فيه حرمتنا ، وسبيت فيه ذرارينا ونساؤنا ، وأضرمت فيه النار في مضاربنا ، وانتهب مافيها من ثقلنا (4) ، ولم ترع لرسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) حرمة في أمرنا ، إنّ يوم الحسين أقرح جفوننا ، وأسبل دموعنا ، وأذلّ عزيزنا . . . فعلى مثل الحسين فليبك الباكون ، فانّ البكاء عليه يحط الذنوب العظام » ، ثم قال ( عليه السلام ) : « كان أبي إذا دخل شهر المحرم ، لا يرى ضاحكاً ، وكانت الكآبة تغلب عليه حتّى يمضي منه عشرة أيام ، فاذا كان يوم العاشر كان ذلك اليوم يوم مصيبته وحزنه وبكائه » (5) .
   وقال ( عليه السلام ) (6) : « من تذكر مصابنا وبكى لما ارتكب منا كان معنا في درجتنا يوم القيامة ، ومن ذكر مصابنا فبكى وأبكى لم تبك عينه يوم تبكي العيون ، ومن جلس مجلساً يحيي فيه أمرنا لم يمت قلبه يوم تموت القلوب » (7) .

---------------------------
(1) فيما أخرجه جماعة ، منهم ابن قولويه في كامله « المؤلف » .
(2) كامل الزيارات : 100 ، وراجع : تفسير القمي : 616 ، ثواب الاعمال : 47 ، بحار الانوار 44 / 281 .
(3) فيما أخرجه الصدوق في أماليه وغير واحد من أصحابنا « المؤلّف » .
(4) الثقل : وزان سبب متاع المسافر ، وكلّ شيء نفيس مصون « المؤلّف » .
(5) أمالي الصدوق : المجلس 27 الرقم 2 ، وراجع : بحار الانوار 44 / 283 .
(6) فيما أخرجه الصدوق في أماليه « المؤلّف » .
(7) أمالي الصدوق : المجلس 17 الرقم 4 ، وراجع : عيون أخبار الرضا 1 / 294 ، بحار الانوار 44 / 278 .

المأتم الحسيني مشروعيته وأسراره _ 23 _

   وعن الريان بن شبيب ـ فيما أخرجه الشيخ الصدوق في العيون ـ قال : دخلت على الرضا ( عليه السلام ) في أول يوم من المحرم ، فقال لي : « يا ابن شبيب ، إن المحرم هو الشهر الذي كان أهل الجاهلية فيما مضى يحرّمون فيه الظلم والقتال لحرمته ، فما عرفت هذه الامة حرمة شهرها ولا حرمة نبيها ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ; إذ قتلوا في هذا الشهر ذريته وسبوا نساءه وانتهبوا ثقله . . . يا ابن شبيب ، إن كنت باكياً لشيء فابك للحسين ( عليه السلام ) ، فانه ذبح كما يذبح الكبش (1) ، وقتل معه من أهل بيته ثمانية عشر رجلاً مالهم في الارض من شبيه ، ولقد بكت السموات السبع لقتله . . . » ، إلى أن قال : « يا ابن شبيب ، إن سرّك أن تكون معنا في الدرجات العلى من الجنان ، فاحزن لحزننا وافرح لفرحنا ، وعليك بولايتنا . . . » (2) ، وقال ( عليه السلام ) ـ فيما أخرجه الصدوق في أماليه ـ : « من ترك السعي في حوائجه يوم عاشوراء قضى الله له حوائج الدنيا والاخرة ، ومن كان يوم عاشوراء يوم مصيبته وحزنه وبكائه جعل الله عزّ وجلّ يوم القيامة يوم فرحه وسروره وقرّت بنا في الجنان عينه. . . » (3) ، وبكى صلوات الله عليه إذ أنشده دعبل بن علي الخزاعي قصيدته التائية السائرة التي أغمي عليه في أثنائها مرتين ، كما نصّ عليه الفاضل العباسي في ترجمة دعبل من معاهد التنصيص وغيره من أهل الاخبار .

---------------------------
(1) إنّ التعبير ـ كهذا ـ مما يدلك على غاية همجية القوم وشقائهم وبُعدهم عن العطف الانساني ، بالاضافة على قتلهم ريحانة الرسول الاعظم ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وهتكهم حرمته في سبطه روحي فداه ، وقد أجمل الامام عليه أفضل الصلاة والسلام لمّا أدى عن الفاجعة واهميتها بهذا الكلام القصير ، وأشار به إلى معنى جسيم يدركه الباحث المتعمق بعد التحليل والاختبار ، ويندهش المجموع البشري لمثل هذه الرزية عندما علم أنه لم يوجد بين تلك الجموع المحتشدة في كربلاء من يردعهم عن موقفهم البغيض ، ولا أقل من تسائل بعضهم : لماذا نقاتل الحسين ؟ وبأي عمل استحق ذلك منا ؟ أو هل كان دم الحسين ( عليه السلام ) مباحاً إلى حدّ إباحة دم الكبش ؟ ويذبح ـ بأبي هو وأمي ـ بلا ملامة لاثم ومن دون خشية محاسب ! ! « المؤلّف » .
(2) عيون أخبار الرضا 1 / 299 ، وراجع : أمالي الصدوق : المجلس 27 ، بحار الانوار 44 / 285 .
(3) أمالي الصدوق : المجلس 27 الرقم 4 ، وراجع : بحار الانوار 44 / 284 .

المأتم الحسيني مشروعيته وأسراره _ 24 _

   وفي البحار وغيره : أنه ( عليه السلام ) أمر قبل إنشادها بستر فضرب دون عقائله ، فجلسن خلفه يسمعن الرثاء ويبكين على جدّهن سيد الشهداء ، وأنه قال يومئذ : « يا دعبل ، من بكى أو أبكى على مصابنا ولو واحداً كان أجره على الله ، يا دعبل ، من ذرفت عيناه على مصابنا حشره الله معنا » ، وحدّث محمد بن سهل ـ كما في ترجمة الكميت من معاهد التنصيص ـ قال : دخلت مع الكميت على أبي عبد الله جعفر بن محمد الصادق ( عليه السلام ) في أيام التشريق ، فقال له : جعلت فداك ألا أنشدك ؟ قال : « إنها أيام عظام » ، قال : إنها فيكم ، قال : « هات » ، وبعث أبو عبد الله إلى بعض أهله فقرب، فأنشده ـ في رثاء الحسين ( عليه السلام ) ـ فكثر البكاء ، حتى أتى على هذا البيت :
يصيب به الرامون عن قوس غيرهم      فـيا آخـراً أسـدى لـه الغي iiأول
   قال : فرفع أبو عبد الله رحمه الله تعالى يديه فقال : « اللهم اغفر للكميت ماقدّم وما أخر وما أسرّ وما أعلن حتى يرضى » (1) ، وفي كامل الزيارات بالاسناد إلى عبد الله بن غالب ، قال : دخلت على أبي عبد الله ( عليه السلام ) فأنشدته مرثية الحسين ( عليه السلام ) ، فلما انتهيت إلى قولي :
لبلية تسقو حسيناً بمسقاة الثرى غير التراب
   صاحت باكية من وراء الستر يا أبتاه (2) .

---------------------------
(1) بخ بخ ، هنيئاً لمن نال من أئمّة الهدى بعض ذلك ، وأنت تعلم أنه ( عليه السلام ) لم يبتهل بالدعاء للكميت هذا الابتهال إلاّ لما دلّ عليه بيته هذا من معرفته بحقيقة الحال ، وقد أكثر الشعراء من نظم هذا المعنى ، فنظمه المهيار في قصيدته اللامية ، وقبل ذلك نظمه الشريف الرضي فقال : بنى لهم الماضون أساس هذه فعلوا على أساس تلك القواعد إلى آخر ما قال .
وكأن سيدة نساء عصرها زينب ( عليها السلام ) أشارت إلى هذا المعنى بقولها مخاطبة ليزيد : وسيعلم من سوّل لك ، ومكّنك من رقاب المسلمين ، بل أشار إليه معاوية إذ كتب إليه محمد بن أبي بكر يلومه في تمرده على أمير المؤمنين ( عليه السلام ) ، ويذكر له فضله وسابقته ، فكتب له معاوية في الجواب ما يتضمن الاشارة إلى المعنى الذي نظمه الكميت ، فراجع ذلك الجواب : في كتاب صفين لنصر بن مزاحم ، أو شرح النهج الحديدي ، أو مروج الذهب للمسعودي ، وقد اعترف بذلك المعنى يزيد بن معاوية : إذ كتب إليه ابن عمر يلومه على قتل الحسين ، فأجابه : أما بعد ، فانا أقبلنا على فرش ممهّدة ونمارق منضدة . . . إلى آخر الكتاب ، وقد نقله البلاذري وغيره من أهل السير والاخبار ، وفي كتابنا سبيل المؤمنين من هذا شيء كثير ، فحقيق بالباحثين أن يقفوا عليه « المؤلّف » .
(2) كامل الزيارات : 105 ، وراجع : بحار الانوار 44 / 286 .


المأتم الحسيني مشروعيته وأسراره _ 25 _

   وروى الصدوق في الامالي وثواب الاعمال ، وابن قولويه ، بأسانيد معتبرة عن أبي عمارة قال : قال لي أبو عبد الله ( عليه السلام ) : « يا أبا عمارة ، أنشدني في الحسين » ، فأنشدته فبكى ، ثم أنشدته فبكى ، قال : فو الله ما زلت أنشده وهو يبكي ، حتى سمعت البكاء من الدار ، قال : فقال لي : « يا أبا عمارة من أنشد في الحسين بن علي ( عليهما السلام ) فأبكى خمسين فله الجنة ، ومن أنشد في الحسين فأبكى ثلاثين فله الجنة ، ومن أنشد في الحسين فأبكى عشرين فله الجنة ، ومن أنشد في الحسين فأبكى عشرة فله الجنة ، ومن أنشد في الحسين فأبكى واحداً فله الجنة ، ومن أنشد في الحسين فبكى فله الجنة ، ومن أنشد في الحسين فتباكى فله الجنة » (1) .
   وروى الصدوق في ثواب الاعمال بالاسناد إلى هارون المكفوف قال : دخلت على أبي عبد الله الصادق ( عليه السلام ) فقال لي : « يا أبا هارون ، أنشدني في الحسين ( عليه السلام ) » ، فأنشدته ، فقال لي : « أنشدني كما تنشدون » يعني : بالرقة ، قال : فأنشدته :
امرر على جدث الحسين فقل لاعظمه الزكية
   قال : فبكى ، ثم قال : « زدني » ، فأنشدته القصيدة الاخرى ، قال : فبكى ، وسمعت البكاء من خلف الستر ، قال : فلما فرغت ، قال : « يا أبا هارون ، من أنشد في الحسين فبكى وأبكى عشرة كتبت لهم الجنة . . . » ، إلى أن قال : « ومن ذكر الحسين عنده فخرج من عينيه من الدمع مقدار جناح ذبابة ، كان ثوابه على الله عز وجل ، ولم يرض له بدون الجنة » (2) .

---------------------------
(1) أمالي الصدوق : المجلس 29 الرقم 6 ، ثواب الاعمال : 47 ، كامل الزيارات : 105 ، وراجع : بحار الانوار 44 / 282 .
(2) ثواب الاعمال : 47 ، وراجع : كامل الزيارات : 100 و 104 ، بحار الانوار 44 / 288 .