فهكذا أصبحنا ، إن لم يُعلم : كيف أصبحنا ? .
  قال المنهال : فظننت أنَه أراد أن يُسمِعَ مَن في البيت(1)ويصرّح في موقف مماثل يُسأل فيه عن الركب الذي هو فيه ، فيقول : إنا من أهل البيت ، الذين افترض الله مودّتهم على كل مسلمٍ ، فقال تبارك وتعالى لنبيه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : ( قُل لَّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى وَمَن يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَّزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْنًا ) ( فإقتراف الحسنة مودّتنا أهل البيت ) (2) .
  إلى غير ذلك من المواقف التي كان لها أثر حاسم في تغيير سياسة يزيد تجاه هذا الركب المأسور ، حتّى أرجعه إلى المدينة .
  إنّ هذه المواقف لم تكن تصدر من قلب مُلىء رُعباً ، أو شخصٍ يفضّل السلامة ، أو يميل إلى الهدوء والراحة ، بَلْه المسالمة مع العدو أو الركون إلى الظالمين إنّما صاحب هذه المواقف ذو روحٍ متطلّعة وثّابة هادفة ، إذا لم يُتَحْ له بعد كربلاء أن يأخذ بقائمة السيف ، فسنان المنطق لا يزال في قدرته ، يهتك به ظلام التعتيم الإعلامي المضلّل .
  وقد اتّبع الإمام السجاد ( عليه السلام ) هذه الخطّة بحكمة وتدبير عن علم بالأمر ، وعمد له ، وكشف عن أنه انتهجه سياسة مدبرةً مدروسة .
  فلمّا سُئل عن : الكلام ، والسكوت أيهما أفضل ? لم يُدْل بما يعتبره الحكماء من : أن الكلام إذا كان من فضة فالسكوت من ذهب ، وإنّما قال : لكل واحدٍ منهما آفات ، وإذا سلما من الآفات فالكلام أفضل من السكوت .
  ولمّا سئل عن سبب ذلك مع مخالفته لإعتبار الحكماء المستقر في أذهان الناس من فضل السكوت ? قال : لأن الله ( عز وجل ) ما بعث الأنبياء والأوصياء بالسكوت ، وإنّما بعثهم بالكلام .
  ولا استُحقت الجنة بالسكوت .
  ولا استوجبت ولاية الله بالسكوت .
  ولا توقيت النار بالسكوت .
  ولا يُجنّب سخط الله بالسكوت .
  إنما كلَه بالكلام وما كنت لأعدل القمر بالشمس .
  إنك تصف فضل السكوت بالكلام ، ولست تصف فضل الكلام بالسكوت (3)وهكذا طبق الإمام ( عليه السلام ) هذه الحكمة البالغة ، وأدّى رسالته الإلهية من خلال خطبه وكلماته ومواعظه وأحاديثه ، في جميع المواقف العظيمة التي وقفها ، وهو في الأسر .

---------------------------
(1) تاريخ دمشق ( الحديث 120 ) مختصر ابن منظور ( 17 : 245 ) ورواه الحافظ محمد بن سليمان في مناقب أمير المؤمنين ( ج 2 ص 108 ) رقم ( 598 ) ولاحظ طبقات ابن سعد ( 5 :219 ) .
ورواه السيد الموفق بالله في الاعتبار و سلوة العارفين ( ص 186 ) .
(2) المستدرك على الصحيحين ، للحاكم ( 3 : 172 ) .
(3) الاحتجاج للطبرسي ( ص 315 ) .

جهاد الامام السجاد ( عليه السلام ) _ 32 _

  وإذا كان الظالمون يعتدون على المصلحين والأحرار بالقتل والسجن ، فإنّما ذلك ليخنقوا كل صوت في الحناجر ، ولئلا يسمع الناس حديثهم وكلامهم (1) .
  وإذا ذبح الحسين ( عليه السلام ) وقُتِلَ في كربلاء ، فإنّ نداءاته ظلّت تدوي من حنجرة الإمام السجاد ( عليه السلام ) في مسيرة الأسرى ، وفي قلب مجالس الحكّام .
  وليس من الإنصاف ، في القاموس السياسي ، أن يوصف مَنْ يؤدّي هذا الدور ، بالانعزال عن السياسة ، أو الابتعاد عن الحركة والنضال .
  بل ، إذا كانت حركة الإمام الحسين ( عليه السلام ) سياسيةً ، كما هي كذلك بلا ريب فكما قال القرشي : إنّ الإمام زين العابدين ( عليه السلام ) من أقوى العوامل في تخليد الثورة الحسينية ، وتفاعلها مع عواطف المجتمع أحاسيسه ، وذلك بمواقفه الرائعة التي لم يعرف لها التاريخ مثيلاً في دنيا الشجاعة والبطولات أمّا خطابه في بلاط يزيد فإنه من أروع الوثائق السياسية في الإسلام (2) .
  وبرز الإمام زين العابدين ( عليه السلام ) على مسرح الحياة الإسلامية كألمع سياسي إسلامي عرفه التاريخ ، فقد استطاع بمهارةٍ فائقةٍ وهو في قيد المرض والأسر أن ينشر أهداف الثورة العظمى التي فجّرها أبوه الإمام الحسين القائد الملهم للمسيرة الإسلامية الظافرة ، فأبرز قيمها الأصلية بأسلوب مشرق كان في منتهى التقنين ، والأصالة ، والإبداع (3) .

ثالثاً : في المدينة
رجع الإمام السجاد إلى المدينة :
  ليرى المدينة واجمةً ، موحشةً من أهله وذويه ، رجالات أهل البيت ( عليهم السلام ) ، والناس كذلك واجمون ، بعد أن رأوا ركْبَ أهل البيت يرجع ليس فيهم إلا عليَ بن الحسين ( عليه السلام ) ، وليس معه إلا أطفال ونساء ! ! أما الرجال فقد ذُبحوا على يد العصبة الأموية ! ؟ .
  وإذا لم يتورّع آل اُمية من إراقة دم الحسين سبط رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، هكذا ، وفي وَضَح النهار ، وهو مَن هو فمن سوف يأمن بغيهم وسطوتهم ?
  إنّ الإمام السجاد ( عليه السلام ) ، وهو الوارث الشرعي لدماء كلّ المقتولين ، الشهداء الذين ذُبحوا في كربلاء ، وهو الشاهد الوحيد على كلّ ما جرى في تلك الواقعة الرهيبة ، لابدّ أنّ عين الرقابة تلاحقه ، وتتربّص به ، وتنظر إلى تصرفاته بريبةٍ واتّهامٍ .
  والناس على عادتهم في الابتعاد والتخوّف من مواضع التهمة ، ومواقع الخطر قد تركوا علي بن الحسين ، وابتعدوا عنه ، حتّى مَنْ كان يعلن الحبَ لأهل البيت ( عليهم السلام) قبل كربلاء ، لم يكد يفصح عن ودّه بعد كربلاء .

---------------------------
(1) لاحظ أن الحجاج ختم على مجموعة من الصحابة كي لا يسمعهم الناس ، في أسد الغابة ( 2 : 471 ) ترجمة سهل الساعدي .
(2) حياة الإمام زين العابدين ، للقرشي ( 1 : 8 ) .
(3) حياة الإمام زين العابدين ، للقرشي ( 1 : 7 ) .

جهاد الامام السجاد ( عليه السلام ) _ 33 _

  وقد عبّر الإمام السجاد ( عليه السلام ) عن ذلك بقوله : ما بمكة والمدينة عشرون رجلاً يحبّنا (1) وإذا كان عدد الملتزمين بالولاء الصادق لأهل البيت ، في عاصمة الإسلام قليلاً إلى هذا الحدّ ، فكيف بالبلدان القاصية عن مركز وجود أهل البيت ( عليهم السلام ) ? وقد رجع الإمام السجاد ( عليه السلام ) حاملاً معه أعباءً ثقالاً : فأعباء كربلاء ، بمآسيها ، وذكرياتها ، وأتعابها ، وجروحها ، والأثقل من كلّ ذلك ( أهدافها ) ونتائجها ، فقد هبط المدينة وهو الوحيد الباقي من رجال تلك المعركة ، فعليه أداء رسالتها العظيمة .
  وأعباء العائلة المهضومة ، المكثورة ، ما بين ثكالى وأرامل وأيتام ، ودموع لابدّ أن يكفكفها ، وعواطف مخدوشة ، وقلوب صغيرة مروَعة ، وعيون موحشة ، وجروح وأمراض وآلام، تحتاج إلى مداراة ومداواة والتيام .
  ولابدّ أن يسترجع القوى ، وأعباء الإمامة ، تلك المسؤولية الإهيّة ، والتاريخية الملقاة على عاتقه ، والتي لابدّ أن ينهض بها ، فيلملم كوادرها ويردم الصدمات العنيفة التي هزّ كيانها ، ويرأب الصدع الذي أصاب بناء نظام الإمامة الشامخ ، الذي يُمَثل الخط الصحيح للإسلام .
  ولقد حمل الإمام السجاد ( عليه السلام ) ، في وحدته ، كلّ هذه الأعباء ، وبفضل حكمته وتدبيره خرج من عهدتها بأفضل الأشكال .
  ففي السنين الأولى : وقبل كل هذه المهمّات الهائلة الثقال ، وبعدها : كانت ملاحقة الدولة ، أهمّ ما كان على الإمام السجاد ( عليه السلام ) أن يوقفها عند حد ، حتّى يتمكّن من أداء واجب تلك الأعباء الصعبة بشكل صحيح ومطلوب .
  ولابدّ أن أصابع الاتّهام كانت موجهةً إليه ما دام موجوداً في المدينة ، أو أي بلدٍ إسلامي آخر ، تلاحق حركاته وسكناته ، وتحصي أنفاسه وكلماته .

الإجراء الفريد :
  فلذلك إتّخذ إجراءً فريداً في حياة الأئمة ، وبإسلوب غريب جدّاً ، لمواجهة الموقف ، ولإبعاد نفسه عن وجهة تلك الاتّهامات والملاحقات التي لا يمكن صرفها هي ولا تغيير وجهتها .
  فأبعد بذلك الإجراء الأخطار الموجهة إليه من الملاحقات ، وبدأ بعيداً عنها بالاستعداد لما يتوجّبه حمل تلك الأعباء ، ويتأهب للقيام بدوره ، كوارث لكربلاء ، وكمعيل كفيل لعوائل الشهداء ، وكإمام يقود الأمة ويحافظ على تعاليم السماء .

---------------------------
(1) شرح نهج البلاغة ، لابن أبي الحديد ( 4 : 140 ) ، ولاحظ الغارات للثقفي ( ص 573 ) وبحار الأنوار ( 46 :143 ) .

جهاد الامام السجاد ( عليه السلام ) _ 34 _

  كان ذلك الإجراء الفريد أنه إتخذ بيتاً من شَعْر في البادية ، خارج المدينة .
  قال ابن أبي قرّة في ( مزاره ) بسنده عن أبي جعفر الباقر محمد بن علي بن الحسين ( عليه السلام ) ، قال : كان أبي علي بن الحسين ( عليه السلام ) ، قد إتّخذ منزله من بعد مقتل أبيه الحسين بن علي ( عليه السلام ) بيتاً من شَعْرٍ ، وأقام بالبادية ، فلبث بها عدّة سنين ، كراهيةً لمخالطة الناس(1) وملاقاتهم .
  وكان يصير من البادية بمقامه إلى العراق زائراً لأبيه وجدّه ( عليهما السلام ) ، ولا يُشْعَرُ بذلك من فعله (2) .
  إنه تصرّف غريب في طول تاريخ الإمامة ، لم نجد له مثيلا ، لكنه كما تكشف عنه الأحداث المتتالية عمل عظيم يَنُمّ عن حنكة سياسية ، وتدبير دقيق للإمام ( عليه السلام ) .
  فإذا كان الإمام ( عليه السلام ) يعيش خارج المدينة ، وكان ينزل البادية : فإن الدولة لا تتمكّن من إتهامه بشيءٍ يحدث في المدينة ، ويكون من العبث ملاحقته وملاحظته ، في محل مكشوف مثل البادية وأمّا هو ( عليه السلام ) : فخير له أن يتخذ منتجعاً مؤقتاً بعيداً عن الناس ، حتّى تهدأ الأوضاع وتستقرّ ، وتعود المياه إلى مجاريها .
  وبعيداً عن الناس ، للاستجمام ، ولإستجماع قواه ، كي ينتعش مما أبلاه في سفره ذلك من النصب والتعب ، ليتمكّن من مداومة مسيره بعد ذلك بقوة وجدّ .
  وهو ( عليه السلام ) بحاجة بعد ذلك العناء والضنى إلى راحة جسدية ، وهدوء بال وخاطر ، حتّى يبلَ من مرضه أو يداوي جراحاته .
  ثم ، إن المدينة التي دخلها الإمام السجاد ( عليه السلام ) وهو غلام ابن (23) سنة أو نحو ذلك لم تكن لتعرف للإمام مكانته كإمام ، وهو بعد لم يعاشرهم ، ولم يداخلهم ، وما تداولوا حديثه ، ولم تظهر لهم خصائصه ، كي ينطلقوا معه كقائم بالإمامة .
  ولعدم وجود العدد اللازم من الأعوان والأنصار ، بالقدر الكافي لإعداد حركة مستقلة يعلنها الإمام ، وحفاظاً على العدد الضئيل الباقي على ولائه للإمام .
  فقد بنى الإمام زين العابدين ( عليه السلام ) سياسته ، في إبتداء إمامته على أساس الابتعاد عن الناس ، ودعوتهم إلى الابتعاد عنه ( عليه السلام ) .

---------------------------
(1) يلاحظ أن كلمة ( الناس ) في حديث أهل البيت : خاصة يطلق على غير المعتقدين بالإمامة ، في أغلب الأحيان .
(2) فرحة الغري ، لإبن طاوس ( ص 43 ) الإمام زين العابدين ، للمقرّم ( ص 42 ) ولاحظ الكافي للكليني ، قسم الروضة ( ص 255 ) حيث جاء فيها حديث زيارة الإمام السجاد لقبر أمير المؤمنين ( عليه السلام ) ولقاء أبي حمزة الثمالي له ، فليلاحظ .

جهاد الامام السجاد ( عليه السلام ) _ 35 _

  وقد أعلن الإمام عن هذه السياسة ، في أول لقاء له مع مجموعة من شيعته ومواليه في الكوفة ، عندما عرضوا عليه ولاهم ، وقالوا له بأجمعهم : نحن كلنا يابن رسول الله ، سامعون ، مطيعون ، حافظون لذمامك ، غير زاهدين فيك ولا راغبين عنك ، فمرنا بأمرك ، رحمك الله ، فإنّا حرب لحربك ، وسلم لسلمك ، لنأخذنّ تِرَتك وتِرَتنا ممن ظلمك وظلمنا .
  فقال ( عليه السلام ) : هيهات . . . ومسألتي أن لا تكونوا لنا ولا علينا (1) .
  إن الإمام ( عليه السلام ) أخذ عليهم ، سائلاً ، أن يأخذوا في تلك الفترة جانب الحياد تجاه أهل البيت ( عليهم السلام ) ، لا لهم ، ولا عليهم .
  إذ ، لو رأت السلطة أدنى تجمّع حول الإمام ( عليه السلام ) ، لاتّخذَت ذلك مبرراً لها أن تستأصل وجوده ومن معه ، فإنّ من الهيّن عليها قتل علي بن الحسين وهو ضعيف ، بعد أن قتلت الحسين ( عليه السلام ) وهو أقوى موقعاً في الأمة .
  كان مغزى هذا التدبير السياسي المؤقّت : أن لا يبقى الإمام ( عليه السلام ) داخل المدينة ، حتّى لا تلاحقه أوهام الدولة وتخمينات رجالها وحتّى يبتعد عن ظنونهم السيئة ، بل خرج إلى فضاء البادية المفتوح ، وخارج البلد ، يسكن في بيت من ( شَعْرٍ ) ليرفع عن نفسه سهام الريب ، ويدفع عن ساحته اهتمام رجال الدولة ، كوارث للشهداء .
  ولقد طالت هذه الحالة عدّة سنين حسب النصّ ، ولعلّها بدأت من سنة (61) عندما رجع أهل البيت إلى المدينة ، وحتّى نهاية سنة (63) عندما انتهت مجزرة الحرّة الرهيبة .
  وأما بعد هذه الفترة ، فلم يُعْرَف عن هذا البيت من الشَعْر خبر في تاريخ الإمام ( عليه السلام ) ، ولا أثر ! .
  وأبرز ما أثمرته هذه الظاهرة الغريبة ، أنّ القائد الأموي السفّاك مسلم بن عقبة ، في هجومه الوحشي الكاسح على المدينة وأهلها ، لم يمسّ الإمام بسوء ، وعدّه خيراً لا شرّ فيه .
  وواضح ، أن المراد من الخير والشر في منطق هذا الأموي السفاح ، ما هو ? مع أنّ الإمام كان مستهدفاً بالذات في ذلك الهجوم ، كما سنوضحه في ما بعد ولقد إستنفد الإمام السجاد ( عليه السلام ) جلّ أغراضه وأهدافه من هذا الإجراء الفريد ، فرجع إلى المدينة ، وقد انقلبت ظنون رجال الحكم السيئة ، إلى حالة مألوفة ، وأصبح الإمام في نظرهم مواطناً ، يمكنه أن يسكن المدينة ، من دون أن تُنصب له الدوائر ، ولا أن تُجعل عليه العيون .
  بل ، انقلب البغض الدفين ، الذي كان يكنّه الأمويون تجاه بني هاشم ، وركّزه معاوية في أهل بيت الرسول ، وصبّه على أمير المؤمنين علي وأولاده ، وجسّده يزيدُ في الفاجعة المروّعة بقتل شيخ العترة وسيّدها الحسين بن علي ( عليه السلام ) ، وقتل خيرة رجالات أهل بيته ، وأصحابه ، في مجزرة كربلاء .

---------------------------
(1) الاحتجاج للطبرسي ( ص 306 ) وانظر اللهوف لابن طاوس ( ص 6 67 ) ويبدو أن هذا الاجتماع كان بعد عودة الإمام ( عليه السلام ) من الشام إلى الكوفة أو في بعض أسفاره السرية إلى العراق .
وانظر فضل الكوفة من مزار ابن المشهدي ( ص 78 ) .

جهاد الامام السجاد ( عليه السلام ) _ 36 _

  إنقلب كل ذلك في نهاية المطاف بفضل سياسة الإمام زين العابدين ( عليه السلام ) ، إلى أن يكون علي بن الحسين أحبّ الناس إلى حكّام بني أمية (1) .
  وبهذا يمكن أن نفسّر النصّ الوارد في إعلام إمامة علي بن الحسين ( عليه السلام ) المعروف بحديث اللوح الذي رواه جابر بن عبد الله الأنصاري حيث جاء فيه :
  أطْرِق ، واصمت ، والزم منزلك ، واعبد ربّك حتّى يأتيك اليقين (2) .
  فلابد أن تحدّد فترة ذلك بأول عهد إمامة الإمام السجاد ( عليه السلام ) حين كان يواجه .
  تلك الأخطار والتهديدات والإطراق والصمت معبّران عن التزام السكون ، والهدوء ، والتخطيط للمستقبل ، والابتعاد عن لقاء الناس .
  وهذا هو الذي عبّر عنه إسماعيل بن علي أبو سهل النوبختي بقوله : وقُتِل الحسين ( عليه السلام ) وخلّف علي بن الحسين ( عليه السلام ) متقارب السنّ كانت سنّه أقل من عشرين سنة ثم انقبض عن الناس ، فلم يلق أحداً ، ولا كان يلقاه إلا خواصّ أصحابه ، وكان في نهاية العبادة ، ولم يخرج عنه من العلم إلا يسير ، لصعوبة الزمان وجور بني أمية(3) فهو شرح عيني لحالة هذه الفترة بالذات .
  وإلا ، فإنّ الفترة التالية من حياة الإمام السجاد ( عليه السلام ) نراها مليئة بكلّ أغراض الكلام والخطب والأدعية والمواعظ .
  فأين الصمت ? .
  ونجد في حياته الأسفار المكرّرة إلى الحجّ ، والنشاط العملي الجادّ في الإنفاق ، والإعتاق ، والحضور في المسجد النبوي ، والخطبة كلّ جمعة ، والمراسلات والمساجلات والاحتجاجات .   فأين الإطراق ? ولا يُمكن لأحدٍ أنْ يعبّر عن العلم الذي خرج عن الإمام ( عليه السلام ) بأنّه يسير وهو يجد أمامه : الصحيفة السجادية ، ورسالة الحقوق ، ومناسك الحج ، مضافاً إلى الخطب والكلمات الرسائل التي احتوتها بلاغة علي بن الحسين ( عليه السلام ) وجمعتها كتب تراثيّة عديدة (4) .

---------------------------
(1) كان علي بن الحسين أحبّ الناس إلى مروان وابنه عبد الملك ، طبقات ابن سعد ( 5 : 159 ) تاريخ دمشق ( الأحاديث 38 ـ 40 ) وابن كثير في البداية والنهاية ( 9 : 106 ) وتذكرة الحفاظ ( 1 : 75 ) .
(2) الإمامة والتبصرة من الحيرة ، لإبن بابويه ( ص 167 ) الحديث ( 20 ) ، وانظر مصادر تخريجه ، ولاحظ أمالي الطوسي ( 1 297 ) .
(3) نقله الصدوق في إكمال الدين ( ص 91 ) عن كتاب ( التنبيه ) للنوبختي .
(4) لاحظ تدوين السنة الشريفة ( ص 150 ـ 152 ) وراجع معجم ما كُتب . . . للرفاعي بالأرقام : 20397 باسم ( التذكرة ) و 20415 باسم التعقيبات ، و 20482 باسم الديوان ، و 20688 بإسم المخمسّات ، و 20733-20736 بإسم ( الندبة ) و 20737 و 20738 بإسم نسخة .

جهاد الامام السجاد ( عليه السلام ) _ 37 _

  وجمع أسماء مَنْ روى عنه في كتب اُخرى (1) ومجموع من ذكرهم الشيخ الطوسي فقط من الرواة عن الإمام ( عليه السلام ) بلغوا 170 راوياً (2) .
  ولا ريب أنّ مجموع هذا العلم ليس يسيراً ، فلابدّ أنْ يكون ذلك قد حصل بعد تلك الفترة القصيرة فقط .
  إنّ كلّ تلك الفعاليات الكلامية والعملية لممّا يتيقّن معها بأن الإمام السجاد ( عليه السلام ) بعد تلك الفترة لم يسكن مطرقاً ، ولم يسكت صامتاً ، ولم ينعزل عن الناس ، بل زاول نشاطاً واسعاً في الحياة العامة ، بل كما ذكره النسّابة قد روى الحديثَ ، ورُوي عنه ، وأفاد علما جمّاً (3) .
  وستتكفل الفصول القادمة في هذا الكتاب ذكر الشواهد على كل هذا النشاط بعون الله .

ومع وقعة الحرة :
  ورجع الإمام السجاد ( عليه السلام ) إلى المدينة : ليستقبله أهلها ، بالبكاء والتعزية ، ويستفيد الإمام من هذه العواطف لينشر أنباء حوادث كربلاء ، ويركّزها في الأذهان من طريق القلوب ، كي لا يطالها التشويش والإنكار ، بمرور الأعصار ، كما طال كثيراً من الوقائع والحوادث ، فأصبحت مغمورة أو مبتورة .
  فأرسل بشر بن حذْيم (4) إلى المدينة وأهلها ناعياً الحسين ( عليه السلام ) ومعرفاً إيّاهم بمكان الإمام السجاد ( عليه السلام ) .
  قال بشر : فما بقيتْ في المدينة مخدّرة ولا محجّبة إلا برزن من خدورهن ، . . . ، فلم أر باكياً أكثر من ذلك اليوم ، ولا يوماً أمرَ على المسلمين منه .
  قال : فخرج علي بن الحسين ، ومعه خرقة يمسح بها دموعه ، وخلفه خادم معه كرسيّ ، فوضعه له وجلس عليه ، وهو لا يتمالك عن العَبْرة ، وارتفعت أصوات الناس بالبكاء ، وحنين النسوان والجواري ، والناس يعزّونه من كل ناحية ، فضجّت تلك البقعة ضجّة واحدة ، فأومأ بيده : أن اسكنوا ، فسكنت فورتهم ، فقال :
  الْحَمْدُ للّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ، الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ، مَلِكِ يَوْمِ الدِّينِ ، بارىء الخلق أجمعين ، الذي بَعُدَ فإرتفع في السماوات العلا ، وقرب فشهد النجوى ، نحمده على عظائم الأمور ، وفجائع الدهور ، وألم الفجائع ، ومضاضة اللواذع ، وجليل الرز ، وعظيم المصائب الفاظعة ، الكاظّة ، الفادحة الجائحة .

---------------------------
(1) لاحظ معجم ما كُتِبَ بالأرقام : 20483 بإسم ذكر مَنْ روى عن الإمام ( عليه السلام ) للصدوق ، و 20714 كتاب مَنْ روى عنه ( عليه السلام ) لإبن عقدة .
(2) رجال الطوسي ( ص 107 ، 120 ) الأرقام ( 1058 ـ 1228 ) وهم مائة وسبعون راوياً ، لعلم الإمام ( عليه السلام ) .
(3) المجدي في أنساب الطالبيّين ( ص 92 ) .
(4) كذا في بعض نسخ المصدر ، ويظهر من هذه الرواية أن أباه كان شاعراً وقد ترحّم عليه الإمام ( عليه السلام ) ، وفي أصحابه : حذيم بن شريك الأسدي ، وجاء في نسخ اُخرى : بشير بن حذلم .

جهاد الامام السجاد ( عليه السلام ) _ 38 _

  أيّها القوم إن الله تعالى إبتلانا بمصائب جليلة ، وثلمة في الإسلام عظيمة ، قُتِلَ أبو عبد الله ، الحسين ، وعترته ، وسبيت نساؤه وصبيته ، وداروا برأسه في البلدان من فوق عالي السنان ، وهذه الرزية التي لا مثلها رزية .
  أيّها الناس فأيّ رجالات منكم يسرّون بعد قتله ? أم أيّ فؤاد لا يحزن من أجله ? أم أية عين منكم تحبس دمعها ، وتضنّ عن انهمالها ? فلقد بكت السبع الشداد لقتله وبكت البحار بأمواجها والسماوات بأركانها والأرض بأرجائها والأشجار بأغصانها والحيتان في لجج البحار والملائكة المقرّبون وأهل السماوات أجمعون .
  أيّها الناس أصبحنا مشرّدين ، مطرودين ، مذودين ، شاسعين عن الأمصار ، كأنّنا أولاد ترك وكابل ، من غير جرم إجترمناه ، ولا مكروه إرتكبناه ، ولا ثلمة في الإسلام ثلمناها ، ما سمعنا بهذا في آبائنا الأولين ، إنْ هذا إلا إختلاق .
  والله لو أنّ النبيّ تقدّم إليهم في قتالنا ، كما تقدّم إليهم في الوصية بنا ، لما زادوا على ما فعلوا بنا .
  فإنّا لله وإنّا إليه راجعون ، من مصيبة ما أعظمها ، وأفجعها ، و أكظّها ، وأفظعها ، وأمرّها ، وأفدحها فعنده نحتسب ما أصابنا ، فإنّه عزيز ذو انتقام (1) .
  ولم تذكر المصادر شيئاً عن رجالات المدينة المعروفين ، إلا أن صوحان بن صعصعة بن صوحان قام فإعتذر إليه ، فترحّم الإمام على أبيه .
  والظاهر أنّ رجال المدينة إكتفوا في مواجهة الإمام السجاد ( عليه السلام ) بالعواطف الحارّة فقط ، وأنهم لم يتجاوزوا ذلك ، إذ لم يجدوا مبرّراً في التورّط مع الحكومة ، ولو بعد قتل الحسين ( عليه السلام ) بهذه الصورة التي شرحها لهم الإمام السجاد ( عليه السلام ) .
  ويظهر من البيان الذي أصدره أهل المدينة عند تحرّكهم ضدّ يزيد وحكومته أنهم قبل ذلك لم يعرفوا من يزيد ما يُنكر من فعل أو ترك ، حتّى وفدوا عليه ، وحضروا بلاطه ، ورأوا بأمّ أعينهم ما رأوا ، فرجعوا ، وثاروا عليه .
  وقد جاء في إعلانهم الأوّل ما نصّه :
إنّا قدمنا من عند رجل ليس له دين، يشرب الخمر، ويدع الصلاة،   ويعزف بالطنابير ، وتضرب عنده القيان ، ويلعب بالكلاب ، ويسامر الخرّاب ، والفتيان ، وإنّا نُشهدكم أنا قد خلعناه .
  وأتوا عبد الله بن الغسيل ، فبايعوه وولّوه عليهم (2) .
  فليس في بيانهم ذكر الحسين ( عليه السلام ) ، ولا الظلم الذي جرى على أهل البيت ( عليهم السلام ) وأما الذي ذكروه من يزيد وإلحاده وفسقه وفجوره ، فقد أعلنه الإمام الحسين ( عليه السلام ) قبل سنين في كتابه إلى معاوية (3) .

---------------------------
(1) اللهوف لابن طاوس ( ص 4 ـ 85 ) وانظر كامل الزيارات ( ص 100 ) .
(2) أيام العرب في الإسلام ( ص 420 ) وانظر تاريخ الطبري ( 4 : 368 ) ولاحظ طبقات ابن سعد ( 5 : 47 ) .
(3) الاحتجاج للطبرسي ( 7 ـ 298 ) .

جهاد الامام السجاد ( عليه السلام ) _ 39 _

  فأين كان أهل المدينة يومذاك ? ولماذا لم يتحرّكوا من أجله حينذاك ? ثم إن مَنْ يحرّكه شرب الخمر ، والفسق ، والفجور ، لماذا لا يتحرّك من أجل قتل الحسين ( عليه السلام ) والفجائع التي صُبّت على أهل البيت ( عليهم السلام ) ، والتي أدّى علي بن الحسين ( عليهم السلام ) حقّ بلاغها في خطبته تلك ? بل ، إن المسعودي يذكر : أن حركة اهل المدينة وإخراجهم بني أمية وعامل يزيد ، من المدينة ، كان عن إذن إبن الزبير(1) .
  فلم يكن لأهل البيت ، ولا للإمام السجاد ( عليه السلام ) ، دور ولا موقع في أهداف أهل المدينة ، وأصحاب الحرّة ، لمّا تحرّكوا ضدّ حكم يزيد .
  بينما كان دخول الإمام ( عليه السلام ) معهم في التحرك توقيعاً على شرعيّة حركتهم .
  والحقّ أن أهل المدينة جفوا الإمام السجاد ( عليه السلام ) بعد كربلاء ، وهذه الحقيقة كانت واضحة ، حتّى أعلنها الإمام في قوله : ما بمكّة والمدينة عشرون رجلاً يحبّنا (2) ولعلّ علم الإمام ( عليه السلام ) بما كان عليه أهل المدينة من ضعف وقلّة ، في مواجهة ما كان عليه أهل الشام من كثرة وبطش وقسوة ، من دواعي حياده ( عليه السلام ) .
  مضافاً إلى أن اتّخاذه القرار السابق ، بالإبتعاد عن المدينة ، للأسباب والمبرّرات التي ذكرناها سابقاً ، كان كافياً لعدم تورّطه في هذه الحركة .
  ويظهر أن الدولة التي واجهت هذه المرّة حركة أهل المدينة ، كانت على علم بجفأ أهل المدينة لأهل البيت ( عليه السلام ) ، وبما أنها قد أسرفت من قبل في إراقة دماء أهل البيت ( عليهم السلام ) ، أرادت أن تستفيد من الوضع ، بالتزلّف إلى علي بن الحسين والتودّد إليه ، لامتصاص النقمة ، فلم تتحرّش به ، بل حاولت أن يتمثّل الناس به ، حسب نظر رجال الدولة !   ثم إن إختيار أهل الحرّة للمدينة بالذات مركزاً للتحرّك ، كان من أخطر الأخطاء التي ارتكبوها ، كما أخطأ ابن الزبير في اتخاذه مكّة ، والمسجد الحرام بالخصوص ، مركزاً لتحركه ، حتّى عرّضوا هذين المكانين الحرمين المقدّسين لهجمات أهل الشام اللئام وانتهاك الامويين الحاقدين على الإسلام ومقدّساته .
  بينما أهل البيت عامة ، بداً بالإمام علي أمير المؤمنين ( عليه السلام ) ، ومروراً بالإمام الحسين ( عليه السلام ) ، وكذلك كل العلويين الذين ثاروا على الحكّام ، إنما خرجوا في حركاتهم عن الحرمين ، حفاظاً على كرامتهما من أن يهدر فيهما دم ، وتهتك لهما حرمة ، وإبعاداً لأهالي الحرمين من ويلات الحروب ومآسيها ، ونقمة الجيوش وبطشها (3) .

---------------------------
(1) مروج الذهب ( 3 : 78 ) .
(2) شرح نهج البلاغة ( 104 : 4 ) .
(3) علّق سماحة السيد بدرالدين الحوثي دام علاه هنا : ( ولعلّ ما صدر من الامام النفس الزكية كان اضطرارياً ، لانّ قيامه أيضاً كان اضطرارياً ) تمت .

جهاد الامام السجاد ( عليه السلام ) _ 40 _

  وهذه مأثرة لأهل البيت ( عليهم السلام ) لابد أن يذكرها لهم التاريخ لكنّ أهل الحرّة ، لم يصلوا الى المستوى اللائق كي يدركوا هذه الحقائق ، لبعدهم عن الإمام السجاد ( عليه السلام ) الذي كان في عمر (26) سنة .
  ولقد هيّأ هذا البعد بين أهل المدينة والإمام السجاد ( عليه السلام ) أمرين كانا في صالح الإمام ( عليه السلام ) ، ولهما الأثر في مجاري عمله وتخطيطه للمستقبل :
أحدهما : النجاة من اتّهام السلطات له بالتورّط في الحركة ، ولذلك لم تضعه في القائمة السوداء ، فإن الحكومة وحسب بعض المصادر كانت تعرف ابتعاده عنها .
الثاني : تمكّن الإمام ( عليه السلام ) من تخليص كثير من الرؤوس أن تقطع ، وكثير من الحرمات أن تهتك .
  ومَنْ يدري ? فلعلّ إشتراك الإمام السجاد ( عليه السلام ) في تلك الحركة كان يؤدّي إلى إبادة أهل البيت النبوي والعلوي ، إبادة شاملة ، تلك التي كانت من أماني آل أمية ? فتمكّن الإمام السجاد ( عليه السلام ) بحياده ذلك من الوقوف في وجه هذا العمل .
  ولقد كان الإمام ( عليه السلام ) ملجأ للكثير من العوائل الأخرى ، حتّى من عوائل بني أمية نفسها .
  ففي الخبر أنه ( عليه السلام ) ضمّ إلى نفسه أربعمأة مُنافيّة يعولهن إلى أن تفرّق الجيش (1) .
  وكان في مَنْ آواهنّ عائلة مروان بن الحكم ، وزوجته هي عائشة بنت عثمان بن عفّان الأموي ، فكان مروان شاكراً لعلي بن الحسين ذلك (2) .
  ويحاول بعض الكتّاب أن يجعل من حياد الإمام ( عليه السلام ) ، وتصرّفاته مع مروان ، وعدم تعرّضه من قبل الجيش بسوء ، دليلاً على عدم تحرّكه ( عليه السلام ) ضدّ الحكم الأموي ? لكنّها محاولة مخالفة للحقيقة :

---------------------------
(1) كشف الغمة للاربلي ( 2 : 7 ) وانظر ربيع الأبرار للزمخشري ( 1 : 427 ) .
(2) أيام العرب في الإسلام ( ص 424 ) هامش (1) .

جهاد الامام السجاد ( عليه السلام ) _ 41 _

  فإن الإمام ( عليه السلام ) إنّما ينطلق في تصرّفاته ، من منطلق الحكمة والتدبير ، وما ذكرناه من الشواهد كافٍ لأن نبرّر موقفه الحيادي من حركة الحرّة ، فكل من يدرك تلك الحقائق ويقف عليها يتبيّن له أن التحرّز من عمل تكون عواقبه مرئيّة وواضحة ومكشوفة ، هو الواجب والمتعيّن ، فلو دخل في الحركة ، فإما أن ينسحق تحت وطأة الجيش الظالم ، أو تنجح الحركة التي لم تبتنِ على الحقّ في دعواها ، وإنما تبنّاها مَنْ لا يعرف لأهل البيت حرمة ولا كرامة ولا حقّاً في الإمامة مع أن من النصوص ما يدلّ على أن الإمام كان مستهدفاً :
  قال الشيخ المفيد : قدم مسرف (1) بن عقبة المدينة ، وكان يقال : ( إنه لايريد غير علي بن الحسين ( عليه السلام ) )(2) .
  ولا ريب أن الحكم الأموي الذي إستأصل أهل البيت ( عليهم السلام ) في كربلاء ، لم يكن يخاف الإمام السجاد ( عليه السلام ) ، لما هو معلوم من وحدته وغربته ، ومع ذلك فقد كانت الدولة تراقبه ، لأنّه الوارث الوحيد لأهل البيت بما لهم من ثارات ودماء ، وبما لهم من مكانة مرموقة في أعين مُحبّيهم ، الذين يترقّبون فيهم من الإمامة فلا ريب أن الإمام السجاد ( عليه السلام ) كان مستهدفاً وهذا النصّ قبل كل شي يدلّ على أن الإمام السجاد ( عليه السلام ) كان في نظر الناس عنصراً معارضاً للحكم والدولة ، ولم يكن مستسلماً قط ، حتّى كان الناس يرون أن الجيش الجرّار إنما توجّه بقصده إلى ( علي بن الحسين ) لا ليحترمه طبعا .
  فعلي بن الحسين ، في نظر الناس ، لا يزال عدوّاً للدولة ، رغم انعزاله ، وإبتعاده ، وعدم تورّطه في الحركة   كما يدلّ قول البلاذري أن علي بن الحسين ( عليه السلام ) إستجار بمروان وابنه عبد الملك ، فأتيا به ليطلبا له الأمان (3) على أن الإمام ( عليه السلام ) كان يخشى من فتك مسرف بن عقبة .

---------------------------
(1) هو المتسمّي بإسم ( مسلم ) معدود من الصحابة ، وهذا واحد من المحسوبين على الصحابة من الفسقة والمجرمين ، سُمّي لعنه الله بمجرم ومسرف ، لما كان من إجرامه بأهل المدينة وإسرافه في قتلهم وإباحتها ثلاثة أيام بأمر يزيد لعنهما الله وقد انفضّ فيها ألف عذراء وقد سمّى المدينة ( نتنة ) خلافاً لرسول الله ( صلى الله عليه وآله ) الذي سماها طيّبة ، مروج الذهب ( 3 : 78 ) دلائل البيهقي ( 6 : 475 ) .
(2) الإرشاد للمفيد ( ص 292 ) .
(3) أنساب الأشراف ( 4 : 323 ) وانظر الأخبار الطوال للدينوري ( ص 266 ) .

جهاد الامام السجاد ( عليه السلام ) _ 42 _

  لكن الدولة ، التي لم تغفل عن الإمام السجاد ( عليه السلام ) كانت على علمٍ بتصرفاته ، ولم يقع لها ما يبرّر إتهامه وصبّ جام الغضب عليه والفتك به .
  ومن أجل إمتصاص النقمة ، وخاصة بعد تحرّك أهل المدينة ، صار رجال الدولة الى النفاق ، لتغطية جرائمهم تجاه أهل البيت وتجاه المدينة وأهلها ، فأخذوا يعلنون التزلّف الى الإمام ( عليه السلام ) بإظهار التودّد إليه ، ويكرمونه ، ويقرّبونه ، ويعبّرون عنه بالخير الذي لا شرّ فيه ، مع موضعه من رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ومكانه منه (1) .
  وقال المسعودي : ونظر الناس إلى علي بن الحسين السجاد ، وقد لاذ بالقبر وهو يدعو ، فأتي به إلى مسرف ، وهو مغتاظ عليه ، فتبرّأ منه ومن آبائه ، فلمّا رآه وقد أشرف عليه إرتعد ، وقام له ، وأقعده إلى جانبه ، وقال له : سلني حوائجك ، فلم يسأله في أحد ممن قدّم الى السيف إلاّ شفّعه فيه ، ثم إنصرف عنه .
  فقيل لعلي : رأيناك تحرّك شفتيك ، فما الذي قلت ؟   قال : قلت : اللهم رب السماوات السبع وما أظللن ، والأرضين وما أقللن ، رب العرش العظيم ، رب محمد وآله الطاهرين ، أعوذ بك من شرّه ، وأدرأ بك في نحره ، أسألك أن تؤتيني خيره ، وتكفيني شرّه .
  وقيل لمسلم : رأيناك تسبّ هذا الغلام وسلفه ، فلمّا اُتي به إليك رفعت منزلته ?
  فقال : ما كان ذلك لرأي منّي ، لقد مُلىء قلبي منه رعباً (2) .
  وهكذا يفرض عنصر ( الغيب ) نفسه في البحث ، ولا يمكن إبعاده لكونه وارداً في المصادر المعتمدة .
  ونحن وإن كنّا أبعدنا هذا العنصر عن ما نستشهد به ، إلاّ أن الذين يريدون أن يُضفوا على حياة الإمام السجاد ( عليه السلام ) أشكال العبادة والزهد والحياة الروحية ، عليهم أن لا يستبعدوا هذا العنصر .

---------------------------
(1) الإرشاد للمفيد ( ص 260 ) .
(2) مروج الذهب ( 3 : 8 ) .

جهاد الامام السجاد ( عليه السلام ) _ 43 _

  مع أن خوف الإمام ( عليه السلام ) وفزعه ، من الجيش السفّاك ، ولجوءه وعوذه بالحرم الشريف ، وسبّ القائد الأموي له وتبرؤه منه ، أدلة كافية في إثبات أن الإمام ( عليه السلام ) كان مستهدفاً ، إلاّ أن سياسته الحكيمة التي اتخذها منذ دخوله المدينة كانت من أسباب نجاته وخلاصه من المصير الذي سحق كبار أهل المدينة وأشرافها ! .
  ومع أعباء القيادة : ورجع الإمام ( عليه السلام) الى المدينة :
  ليواجه الخطر المحدق بالإسلام ، والذي إنتشر في نفوس الامة وهو اليأس والقنوط من الدين وأهدافه ، بعدما تعرّض الحسين ابن بنت رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) لمثل هذا القتل ، وما تعرّض له أهله من التشريد والسبي ، في بلاد المسلمين .
  فهذا الوزير عبيد الله بن سليمان كان يرى : أن قتل الحسين أشدّ ما كان في الإسلام على المسلمين ، لأن المسلمين يئسوا بعد قتله من كل فرج يرتجونه ، وعدل ينتظرونه (1) .
  هذا بالنسبة إلى أصل الإسلام .
  وأما بالنسبة إلى الإمامة ، وإلى أهل البيت ، وإلى الإمام ( عليه السلام ) ، فقد تفرّق الناس عنهم ، وأعرضوا ، بحيث عبّر الإمام الصادق ( عليه السلام ) عن ذلك بالارتداد .
  قال ( عليه السلام ) : إرتدّ الناس بعد قتل الحسين ( عليه السلام ) إلاّ . . . (2) .
  وكان منشأ اليأس والردّة : أنهم وجدوا الاَمال قد تبدّدت بقتل القائد ، وسبي أهله ، وظهور ضعف الحقّ وقلة أنصاره ، هذا من جهة .

---------------------------
(1) نقله الثعالبي في آخر كتاب ( ثمار القلوب ) بواسطة : علي جلال في ( الحسين ) ( 2 : 195 ) .
(2) اختيار معرفة الرجال ( رجال الكشي ) ( ص 123 ) رقم (194) .

جهاد الامام السجاد ( عليه السلام ) _ 44 _

  ومن جهة أخرى ملأ الرعب قلوبهم لمّا وجدوا الدولة على هذه القوّة والجرأة والقسوة ، فكيف يمكن التصدي لها ، والإمام في مثل هذا الموقع من الضعف ، فليس التقرّب منه إلاّ مؤدّياً إلى الاتهام والمحاسبة ، فلذلك إبتعد الناس عن الإمام ( عليه السلام ) .
  لكن الإمام زين العابدين ( عليه السلام ) بخطته الحكيمة استفاد من هذا الابتعاد ، وقلبه إلى عنصر مطلوب ، ومفيد لنفسه ، وللجماعة الباقية من حوله على ولائه .
  حتّى أصبح ، بما ذكرنا من التصرفات ، في نظر رجال الحكم ( خيراً لا شرّ فيه ) .
  وبذلك التخطيط الموفّق حافظ الإمام ( عليه السلام ) ، لا على نفسه وأهل بيته من الإبادة الشاملة ، فقط ، بل تمكّن من إستعادة قواه ، وإسترجاع موقعه الاجتماعي بين الناس ، لكونه مواطناً صالحاً لا يُخاف من الاتصال به والارتباط به .
  لانه أصبح ( عليّ الخير )(1) .
  وطبيعي أن يعود الناس ، وتعتدل سيرتهم مع الإمام حينئذ ، ولذلك قال الإمام الصادق ( عليه السلام ) في ذيل كلامه السابق : ( . . . ثم إن الناس لحقوا وكثروا )(2) .
  إن إنفراط أمر الشيعة بعد مقتل الحسين ( عليه السلام ) وتشتت قواهم ، كان من أعظم الأخطار التي واجهها الإمام السجاد ( عليه السلام ) بعد رجوعه الى المدينة ، وكان عليه لأنه الإمام ، وقائد المسيرة أن يخطط لاستجماع القوى ، وتكميل الإعداد من جديد ، وهذا كان بحاجة إلى إعداد نفسي وعقيدي وإحيأ الأمل في القلوب ، وبثّ العزم في النفوس .
  وقد تمكّن الإمام السجاد ( عليه السلام ) بعمله الهادى الوادع من الإشراف على تكميل هذه الاستعادة ، وعلى هذا الإعداد ، والتمهيد ، بكل قوة ، وبحكمة وبسلامة وجدّ .
  وكما قد يكون تأسيس بنأ جديد ، أسهل وأمتن من ترميم بنأ متهرّى ، فكذلك ، إن بنأ فكرة في الأذهان الخالية من الشبهات ، والمليئة بالأمل بهذه الفكرة ، والجادّة في الالتفاف حولها ، والعزم على إحيائها ، هو أسهل ، وأوفر جهداً من محاولة ترميم فكرة أصاب الناس يأس منها ،

---------------------------
(1) شرح نهج البلاغة ، لابن ابيالحديد ( 15 : 273 ) .
(2) اختيار معرفة الرجال ( الكشي ) ( ص 123 ) رقم (194) .

جهاد الامام السجاد ( عليه السلام ) _ 45 _

وتصوّروا إخفاق تجربتها ، وهم يُشاهدون إبادة كبار حامليها ، وضعف أنصارها ، وإستيلاء المعارضين عليها ، فحرّفوا معالمها ، وشوّهوا سمعتها ، وزيّفوا أهدافها .
  فإن عامة الناس يقفون موضع الحيرة والشكّ من كل ما قيل وطرح وعرض ، ويحاولون الانسحاب والارتداد ، والوقوف على الحواشي ، ليروا ما يؤول إليه أمر القيادات المتنازعة .
  فقد مُنِيَ المسلمون بإخفاق ويأس ممّا في الإسلام من خطط تحرّرية ، ومخلّصة من العبودية والفساد ، وذلك لمّا رأوا الأمويين أعداء هذا الدين قديماً ، ومناوئيه حديثاً قد إستولوا على الخلافة ، وبدأوا يقتلون أصحاب هذا الدين من أهل بيت النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، والأنصار القدمأ له ، ويعيثون فساداً في أرض الإسلام بالقتل والفجور ، وكل منكر ، حرّمه الإسلام .
  وإذا كان صاحب الحقّ ، منحصراً في الإمام علي بن الحسين السجاد ( عليه السلام ) ، الذي قام النصّ على إمامته ، وهو وارث العترة ، وزعيم أهل البيت في عصره ، فهو الإمام الحامل لثقل الرسالة على عاتقه ، فلا بدّ أن يدبّر الخطّة الإصلاحية ، ليجمع القوى ، ويلملم الكوادر المتفرّقة ، ويعيد الأمل إلى النفوس اليائسة ، والرجاء إلى العيون الخائبة ، والحياة إلى القلوب الميّتة .
  إلى جانب مقاومته للأعداء ، وتفنيد مزاعمهم وإتّهاماتهم ، والكشف عن مؤامراتهم ودسائسهم ، وتبديد خططهم وأحابيلهم .
  إنّ أئمة أهل البيت ( عليهم السلام ) مع مالهم من مآثر العلم والمجد والإمامة ، التي أقرّ بها لهم جميع الاُمّة هم يهتمّون بغرز معاني النضال والجهاد في نفوس أبنائهم منذ نعومة أظفارهم ، ليرسَخوا في نفوسهم أمجاد الإسلام .
  والإمام ( عليه السلام ) قد استلهم الإسلام بكلّ ما له من معارف ومآثر علمية وعملية ، فأخذها من مصادرها الأمينة الموثوقة .
  وهم آباؤه الطاهرون .
  وكان في طليعة ما أخذ من المعارف هو مغازي رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وسراياه ، كما في الحديث عن عبدالله بن محمّد بن عليّ ، عن أبيه ، قال : سمعتُ عليّ بن الحسين يقول :
  كنّا نُعلَم مغازي النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وسراياه كما نعلّم السورةَ من القرآن (1) .
  فتلقّن الإمام السجَاد ( عليه السلام ) أمثل صور الجهاد والنضال في سبيل الله ومن أجل الإسلام ، فرسمها في قرارة نفسه منذ الطفولة .

---------------------------
(1) الجامع لأخلاق الراوي والسامع للخطيب البغدادي ( 2 288 ) رقم (1649) .

جهاد الامام السجاد ( عليه السلام ) _ 46 _

  وبعد أن رأى باُمّ عينيه في كربلاء بطولات أبيه الإمام الحسين ( عليه السلام ) وجهاد أصحابه الأوفيأ ، في سبيل إعلاء كلمة الله ، لم يكن ليرفع اليدَ عن محاولة تطبيق تلك الصور الفريدة ، والتخطيط للوصول إلى نتائجها الغالية .
  ولقد بدأ الإمامُ السجّاد ( عليه السلام ) في الفصول التالية ، من جهاده وجهوده ، لتحقيق هذه الأهداف السامية .
  وحاولنا نحن بقدر وسعنا ، لجمع ما انتشر من أنبأ ذلك الجهاد ، وتلك الجهود ، في المجالات العملية والعلمية ، بعون الله وتوفيقه .

الفصل الثاني

النضال الفكري والعلمي
أوّلاً : في مجال القرآن والحديث .
ثانياً : في مجال الفكر والعقيدة .
ثالثاً : في مجال الشريعة والأحكام .
وأخيراً : في إعمار الكعبة المعظّمة .
  يكاد المؤرّخون لحياة الإمام السجاد ( عليه السلام ) ، لاسيما الدارسون الاجتماعيّون ، الذين يريدون إبعاد الإمام عن الحياة السياسية ، يتّفقون على أن الإمام ( عليه السلام ) : ( إنكبّ على الشؤون الدينية ، ورواية الحديث ، والتعليم ) (1) وأنّ مهمّته كانت : ( الانصراف إلى بثّ العلوم ، وتعليم الناس ، وتربية المخلصين ، وتخريج العلمأ والفقهأ ، والإشراف على بناء الكتلة الشيعية )(2) .
  ولا ريب في أن الإمام السجاد ( عليه السلام ) قام بدور بليغ في هذه المجالات كلّها ، ولكن لم تكن قطّ هذه الأمور خارجة عن العمل السياسي ، أو بديلاً عن العمل السياسي بل ، إن هذه الواجبات هي من أهم وظائف الأنبيأ والأئمة بل المصلحين السياسيين من البشر ، بأن يقوموا بها ، ويبلُغوا بالامم والشعوب إلى مستويات راقية فيها ، خاصة التعاليم الإلهية التي من أجلها بُعثوا ، ولها عُيّنوا ، وبتبليغها وبثّها كلّفوا ، وهم طريق معرفة الناس بها ، والأمنأ الوحيدون عليها .

---------------------------
(1) معتزلة اليمن ( ص 17 ـ 18 ) .
(2) الإمام السجاد ( عليه السلام ) لحسين باقر ( ص 13 ـ 14 ) .

جهاد الامام السجاد ( عليه السلام ) _ 47 _

  والتعليم الصحيح هو واحد من طرق النضال ، فكل مناضل يعلم بوضوح أن من مقوّمات كل حركة سياسية ، هو تثقيف الجماهير ، وتوعيتها ، بالتعليم والتلقين ، لتكون على علم بما يجري حولها وما يجب لها من حقوق وما عليها من واجبات .
  وقد سعى الحكّام الفاسدون على طول التاريخ إلى إبعاد الناس عن الحقّ ، والتعاليم الأصيلة ، بطرق شتى : منها : التصدّي للذين يبلّغون رسالات الله ، بالضغط ، والأسر ، والتشريد ، والحبس ، وحتّى القتل .
  ومنها : تزييف الأديان وتحريفها بالبدع والخرافات ، وبثّ التعاليم الباطلة ، والعمل من أجل ترويجها .
  ومنها : منع تثقيف الناس ، حذراً من تنبّههم إلى ما هم عليه من خلل ونقص في الحياة المادّية ، وما هم فيه من ذلّ ومهانة في الحياة المعنوية .
  ومنها : محاولة استيعاب أجهزة التعليم ، بوضع المناهج التعليمية المشبوهة والمحرّفة .
  وهكذا تضييع جهود القائمين على التعاليم ، بشراء الضمائر ، وغسل الأدمغة والعقول ، وتفريغها من الرؤى الصائبة ، وملئها بالأفكار الفاسدة والمنحرفة .
  وقد إستعمل معاوية هذا الأسلوب بكل جرأة لما استولى على أريكة الخلافة ، فعمّم كتاباً على أقطار نفوذه ، يأمر فيه الولاة بوضع الأحاديث والروايات وإختلاقها ، وبثّها بين الناس في المدارس والمساجد والكتاتيب والبيوت ، ليربّي جيلاً ناشئاً مشبّعاً بتلك التعاليم المزوّرة في صالح الأمويين ، والتي تعارض التعاليم الإسلامية الأصيلة (1) .
  فوجود المعلّمين المناهضين لتلك الخطط الهدّامة ، وتلك المناهج التعليمية الفاسدة ، يكون صدّاً سياسياً للأنظمة الحاكمة ، ويكون عملهم جهاداً ونضالاً سياسياً ، بلا ريب .
  وإنّ الحكومات الفاسدة ، من أجل تنفيذ خططها في تحريف الدين وإغواء الناس وإبعادهم عن العلماء المصلحين ، إصطنعت من علماء السوء رجالاً مقنّعين بالعلم ، ملجمين بلباس الدين ، من العملاء بائعي الضمائر ، ليكونوا وسائل لإقناع العامة بما تمليه الدولة عليهم من أحكام باطلة ، وقضايا منافية للحقّ ، وليصحّحوا للدول الظالمة تصرّفاتها الجائرة .

---------------------------
(1) لاحظ شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ( 11 : 44 ـ 46 ) والاحتجاج للطبرسي ( ص 295 ) ، ولاحظ كتابنا ( تدوين السنة الشريفة ) ( ص 475 ) .

جهاد الامام السجاد ( عليه السلام ) _ 48 _

  فكان التصدّي لهؤلاء ، وفضح دسائسهم ، وإبطال استدلالاتهم ، والكشف عن سوء نيّاتهم ، من واجب الأئمة والمصلحين الإلهيين .
  وقد قام الإمام السجاد ( عليه السلام ) في عصره بأداء دور مهمّ في هذا الميدان الشائك بعد أن إستلهم العلوم من مصادرها الأمينة الموثوقة وصار الدور إليه في قيادة الأمة ودلالتها إلى الحق والخير .
  فكان معلّماً للحقّ ، يبثّ الفضيلة ، ويدعو إلى الإسلام المحمّديّ الأصيل ، الذي توارثه عن آبائه ، والموصول بالرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) بأوثق السبل ، وأقرب الطرق .
  وأصبح لكونه حاملاً أميناً للتعاليم الإسلامية الرصينة ، وقائماً مخلصاً بالشؤون الدينية الحقّة سدّاً منيعاً في مواجهة كلّ انحراف وتزوير كان يبديه علماء السوء من وعّاظ السلاطين .
  ولا ريب في أنّ مواجهة الإمام السجاد ( عليه السلام ) للدولة في هذا النضال ، لابدّ أنّ تعدّ في قمّة أعماله السياسية ، ومن أخطر أوجه النضال السياسي في حياته الكريمة .
  وقد إخترنا مجالات ثلاثة عمل فيها الإمام ( عليه السلام ) ، لنقف على أوجه نشاطه فيها ، وهي :

أوّلاً : مجال القرآن والحديث :
  عاش الإمام السجاد ( عليه السلام ) ، فترة نشاطه إماماً للشيعة ، من سنة ( 61 ـ 95 ) مدّة الثلث الأخير من القرن الأول .
  والقرن الأول بالذات هو فترة المنع الحكومي من رواية الحديث ونقله وكتابته وتدوينه ، قبل أن يُرفع هذا المنع بقرار من قبل الخليفة الأموي عمر بن عبدالعزيز .   وكانت عملية منع الحديث تدويناً ورواية بدأت بعد وفاة الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) مباشرة ، واستمرّ عليها الحكّام الذين تسنّموا أرائك الخلافة بدءاً بأبي بكر ، ثم عمر الذي كان أكثر تشديداً ونكيراً على مَنْ كتب شيئاً من الحديث أو نقله ورواه ، بحيث إستعمل كل أساليب القمع من أجل الوقوف دون تسرّب شي منه ، فحبس جمعاً من الصحابة من أجل روايتهم الحديث ، وهدّد آخرين بالضرب والنفي ، وأحرق مجموعة من الكتب التي جمعت حديث رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) .

جهاد الامام السجاد ( عليه السلام ) _ 49 _

  والتزم الحكّام من بعد عمر ، سنّة عمر وسياسته في منع تدوين الحديث وروايته، وقد أعلن عثمان ومعاوية عن إتّباعهما لعمر في منع الحديث النبوي ( إلاّ حديثاً كان على عهد عمر )(1) .
  وقد ظلّت سياسة عمر بمنع الحديث سارية المفعول ، حتّى بلغ الأمر إلى أن الحجّاج الثقفي سفّاك العراق قام بالاعتداء على كبار صحابة الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، فختم على أيديهم وأعناقهم ، حذراً من أن يحدّثوا الناسَ ، أو يسمع الناسُ حديثهم (2) .
  فلم يكن القيام بأمر رواية الحديث في مثل هذه الفترة بالذات ، وفي مثل هذه الأجواء أمراً سهلاً ، ولا هيّناً .
  ولقد قاوم أئمة أهل البيت ( عليهم السلام ) وأتباعهم هذه السياسة المخرّبة ضدّ أهمّ مصادر الفكر الإسلامي ، فكانوا إلى جانب كتابتهم للحديث ، وإيداعه المؤلّفات يبادرون بحزم إلى رواية الحديث ونشره وبثّه ، على طول تلك الفترة .
  وقد عرفنا أنّ الإمام السجّاد كما قال إبن سعد : كان ( ثقة مأموناً كثير الحديث عالياً رفيعاً ورعاً ) (3) وقد أكثر من نقل الحديث وروايته حتّى أفاد علماً جمّاً ، كما قال النَسّابه العمري (4) ولاريب في أن تصدي الإمام السجاد ( عليه السلام ) للوقوف في وجه المنع السلطوي ، وقيامه بأمر رواية الحديث ونقله ، ليس إلاّ تحدياً صارخاً لأوامر الدولة وسياستها ! .
  ثم إنه ( عليه السلام ) كان يطبّق السنة ويدعوا إلى تطبيقها والعمل بها فقد روي عنه أنه قال : إن أفضل الأعمال ما عمل بالسنّة وإن قلّ(5) .

---------------------------
(1) لقد تحدثنا عن منع الخلفاء من كتابة الحديث وتدوينه ، ومن نقله وروايته ، بتفصيل في كتابنا ( تدوين السنة الشريفة ) المطبوع في قم سنة 1413 هـ .
(2) اُسد الغاية ، لابن الأثير ( 2 : 472 ) ترجمة سهل الساعدي .
(3) تهذيب التهذيب ( 7 : 305 ) .
(4) المجدي في الأنساب ( ص 92 ) وتدوين السنة الشريفة ( ص 149 ـ 152 ) .
(5) المحاسن ، للبرقي ( ص 221 ) ح (133) .

جهاد الامام السجاد ( عليه السلام ) _ 50 _

  وكان يندّد بمن يستهزي بحديث رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، ويدعو عليه ويقول : ما ندري ، كيف نصنع بالناس ? إن حدّثناهم بما سمعنا من رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ضحكوا ، وإن سكتنا لم يسعنا .
  ثم ندّد بمن هزأ من حديث رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) (1) .
  وقد رُوِيتْ عن الإمام السجَاد ( عليه السلام ) مجموعة كبيرة من الأحاديث المسندة المرفوعة ، واُخرى موقوفة على آبائه ( عليهم السلام ) .
  وأمّا ما صدر منه من الحديث الذي يعتبر من عيون الحديث الذي يعتزّ به التراث الشيعي فكثير جداً ، ولذلك عدّ الحافظ الذهبي ، الإمام السجاد ( عليه السلام ) من الحفاظ الكبار وترجم له في طبقات الحفّاظ الكبار(2) .
  ومع كل هذا ، فأين موقع كلمةٍ قالها بعض النواصب أن الإمام ( عليه السلام ) كان ( قليل الحديث ) ? (3) ثم إن محتوى الأحاديث المرويَة عن طريق الإمام السجاد ( عليه السلام ) ، وتلك المنقولة عنه تشكّل مجموعة من النصوص الموثوقة ، التي يطمئنّ بها المسلم ، فقد تمّ نقلها من مصدر أمين ، متصل بينابيع الوحي والرسالة ، وفيها ما يسترشد به المسلم ، ويعرف من خلاله مصالحه ، ويحدّد واجباته ، ويدفع عنه اليأس (4) ، مثل روايته المرفوعة عن رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : ( إنتظار الفرج عبادة ) (5) .

---------------------------
(1) الكافي ( 3 : 234 ) الحديث 4 ، وبحار الأنوار ( 46 : 142 ) وعوالم العلوم ( ص 85 وص 290 ) .
(2) تذكرة الحفاظ ( 1 74 ـ 75 ) .
(3) قال ذلك الزُهْريّ ، كما في تهذيب التهذيب ( 7 : 305 ) وقد كذّبَ الزهريَ قومُه ، كما أنّه متّهم في ما يقوله في أهل البيت ، لما سيأتي من عمالته للاُمويين ، لكنّ أمثال هذا المخذول قد حرموا أنفسهم من الاستمتاع بعلم أهل البيت : حيث تركوهم وصاروا إلى أصحاب الرأي والاجتهاد في مقابل النصّ ، فخسروا خسراناً مبيناً .
(4) إنّ كتابنا هذا يحتوي على مجموعة كبيرة من الأحاديث التي رُويت عن الإمام السجّاد والتي استشهدنا بها ، تجدها مجموعة في فهرس الأحاديث في آخر الكتاب .
(5) كشف الغمة ( 2 : 101 ) ولاحظ الجامع الصغير ( 1 : 108 ) .

جهاد الامام السجاد ( عليه السلام ) _ 51 _

  فقد يكون الإنسان في مثل تلك الظروف الحرجة المأساوية معرضاً للقنوط ولكن بإنتظار الفرج وتوقّع كشف الغمّ ، المستتبع للعمل من أجل ذلك والكون على استعدادٍ له ، والإعداد لحصوله ، هو أفضل وسيلة للنجاة من مأزق الياس ، وموت الخمول .

ومع القرآن :
  إن القرآن الكريم ، بإعتباره الوحي الإلهي المباشر ، والمصدر الأساسي المقدّس بنصّه وفصّه ، والذي إتفقت كلمة المسلمين على حجيته وتعظيمه وتقديسه ، فهو الحجّة عند الجميع ، والفيصل الذي لا يردّ حكمه أحد ممن يلتزم بالإسلام ديناً وبمحمّد ( صلى الله عليه وآله وسلم ) نبيّاً .
  لذلك كانت دعوة أهل البيت ( عليهم السلام ) إلى الإلتزام به ، والاسترشاد به وقرأته والحفاظ عليه ، دعوة صريحة مؤكدة .
  وفي الظروف التي عاشها الإمام زين العابدين ( عليه السلام ) ، كان الحكّام بصدد إجتثاث الحقّ من جذوره واُصوله ومنها القرآن ، بقتل أعمدته وحفظته ومفسّريه (1) .
  فكانت الدعوة إلى القرآن من أوجب الواجبات على الأئمة ( عليهم السلام ) مضافاً إلى ما ذكرنا من قدسيّة القرآن عند الجميع ، فلم يتمكّن الحكّام من منع تعظيمه وقرائته والدعوة إليه .
  فقام الإمام زين العابدين ( عليه السلام ) بجهد وافر في هذا المجال : ففي الحديث أنه قال : عليك بالقرآن ، فإن الله خلق الجنة بيده ، لبنة من ذهب ولبنة من فضّة ، وجعل ملاطها المسك ، وترابها الزعفران ، وحصاها اللُؤلؤ ، وجعل درجاتها على قدر آيات القرآن ، فمن قرأ منها قال له : ( إقرأ وارق ) ومن دخل الجنة لم يكن في الجنة أعلى درجة منه ، ما خلا النبيين والصديقين (2) .
  واُسْنِدَ عن الزهري قال : سمعت علي بن الحسين ( عليه السلام ) يقول : آيات القرآن خزائن العلم ، فكلّما فتحت خزانة ينبغي لك أن تنظر ما فيها(3) .

---------------------------
(1) مثل سعيد بن جبير، ويحيى بن ام الطويل، وميثم التمار، وغيرهم من شهداء الفضيلة، فلاحظ كتب التاريخ لتلك الفترة .
(2) تفسير البرهان ( 3 : 156 ) .
(3) اصول الكافي ( 2 : 609 ) المحجة البيضاء ( 2 : 215 ) .

جهاد الامام السجاد ( عليه السلام ) _ 52 _

  وقال ( عليه السلام ) : من ختم القرآن بمكّة لم يمت حتّى يرى رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ويرى منزله في الجنة (1) .
  وكان يعبّر عن كفاية القرآن ، بتعاليمه الروحانية القيّمة ، بكونه مؤنساً للانسان المسلم ، يعني : أنّ الوحشة إنّما هي بالابتعاد عن هذه التعاليم حتّى لو عاش الإنسان بين الناس ، فكان يقول : لو مات مَنْ ما بين المشرق والمغرب ما استوحشتُ بعد أن يكون القرآن معي (2) .
  وهكذا يجدّ الإمام ( عليه السلام ) في تعظيم القرآن ، وتخليده في أعماق نفوس الأمة ، كما يسعى في التمجيد له عملياً وبأشكال من التصرفات :
  فممّا يؤثر عنه ( عليه السلام ) : أنه كان أحسن الناس صوتاً بالقرآن ، حتّى : أن السقّائين كانوا يمرّون ببابه ، فيقفون لإستماع صوته ، يقرأ . . . (3) .
  وقال سعيد بن المسيب : إن قرّأ القرآن لم يذهبوا إلى الحج إذا ذهب علي بن الحسين ( عليه السلام ) ، ولم يخرج الناس من مكّة حتّى يخرج علي بن الحسين ( عليه السلام ) (4) .
  وفي بعض الأسفار بلغ عدد القراء حسب بعض المصادر : ألف راكبٍ (5) .
  وقد كان الإمام السجّاد ( عليه السلام ) مرجعاً في علوم القرآن ومعارفه ، يسأله كبار العلمأ عن القرآن : قال الزهري : سألت علي بن الحسين : عن القرآن ? فقال : كتاب الله ، وكلامه (6) .

---------------------------
(1) المحجة البيضاء ( 2 : 215 ) .
(2) الكافي الاصول ( 2 : 602 ) وانظر المحجة البيضاء ( 2 : 215 ) وبحار الأنوار ( 46 : 107 ) .
(3) الكافي ( 2 : 616 ) بحار الأنوار ( 46 : 70 ) ب 5 ح 45 ، ولاحظ عوالم العلوم ( ص 135 ) .
(4) رجال الكشي ( ص 117 ) رقم 187 .
(5) عوالم العلوم ( ص 303 ) .
(6) تاريخ دمشق ، ومختصره لابن منظور ( 17 : 240 ) وسير أعلام النبلاء ( 4 : 396 ) .

جهاد الامام السجاد ( عليه السلام ) _ 53 _

  وقد كان الإمام زين العابدين ( عليه السلام ) يستفيد من تفسير القرآن في إرشاد الاُمة إلى ما يُحييهم ، ويطبّق مفاهيمه على حياتهم ، ويحاول تنبيههم الى ما يدور حولهم من قضايا ، وإليك بعض النصوص : روي أنه ( عليه السلام ) قال في تفسير قوله تعالى : ( وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ ) : ( وَلَكُمْ ) يا أمة محمّد ( فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ ) لأن مَنْ هَمَ بالقتل ، فعرف أنه يقتصّ منه ، فكفّ لذلك من القتل ، كان حياة للذي همّ بقتله ، وحياة لهذا الجافي الذي أراد أن يقتل ، وحياة لغيرهما من الناس : إذا علموا أن القصاص واجب ، ولا يجسرون على القتل مخافة القصاص ( يَاْ أُولِيْ الأَلْبَابِ ) اولي العقول ( لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ) .
  ثم قال ( عليه السلام ) : عباد الله ، هذا قصاص قتلكم لمن تقتلونه في الدنيا ، وتفنون روحه ! أفلا اُنبئكم بأعظم من هذا القتل ? وما يوجبه الله على قاتله ممّا هو أعظم من هذا القصاص ? قالوا : بلى ، يابن رسول الله .
  قال : أعظم من هذا القتل أن يقتله قتلاً لا يُجبر ، ولا يحيى بعده أبداً قالوا : ماهو ? قال : أن يضلّه عن نبوّة محمّد ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وعن ولاية علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) ، ويسلك به غير سبيل الله ، ويغيّر به بإتباع طريق أعداء عليّ والقول بإمامتهم ، ودفع عليّ عن حقّه ، وجحد فضله : ، وأن لا يبالي بإعطائه واجب تعظيمه ، فهذا هو القتل الذي هو تخليد المقتول في نار جهنم ، مخلداً أبداً ، فجزاء هذا القتل مثل ذلك : الخلود في نار جهنم (1) .
  وكان الإمام زين العابدين ( عليه السلام ) كثيراً ما يستشهد بآيات من القرآن ويستدلّ بها ، وعندما يجد مناسبة يعرّج على تطبيق ذلك على الحالة الاجتماعية المتردّية التي كان يعيشها المسلمون .
  ففي الخبر : إنه ( عليه السلام ) كان يذكر حال مَنْ مسخهم الله قردة من بني إسرائيل ، ويحكي قصتهم ( المذكورة في القرآن ) فلما بلغ آخرها ، قال : إن الله تعالى مسخ اُولئك القوم ، لاصطيادهم السمك .
  فكيف ترى عند الله ( عز وجل ) يكون حال من قتل أولاد رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وهتك حريمه ?

---------------------------
(1) الاحتجاج ( ص 319 ) .

جهاد الامام السجاد ( عليه السلام ) _ 54 _

  إن الله تعالى ، وإن لم يمسخهم في الدنيا ، فإن المعدّ لهم من عذاب الاَخرة أضعاف أضعاف عذاب المسخ (1) .
  إن تصدّي الإمام زين العابدين ( عليه السلام ) لهذه القضايا ، لاشك أنه أكثر من مجرد تعليم وتفسير للقرآن ، بل هو تطبيق له على الحياة المعاصرة ، وتحريك للأفكار ضدّ الوضع الفاسد الذي تعيشه الأمة ، ولا ريب أن ذلك يعتبره الحكام تحدياً سياسياً يحاسبون عليه .
  ومن فلتات التاريخ أنه خلّد لنا من التراث صفحة من القرآن الكريم ، منسوبة كتابتها إلى خط الإمام زين العابدين ( عليه السلام ) .
  والعجيب أنّ هذه الصفحة تبدأ بقوله تعالى :
( الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ ) ، وتنتهي بآيات الجهاد : قوله تعالى ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُواْ )،( سورة الأنفال (8) الاَيات 41 ـ 45 )(2).

ثانياً : في مجال الفكر والعقيدة
  جاء الإسلام ليرسّخ الحقّ بين الناس ، ومن أهمّ ما هدف إلى تثبيت قواعده وتشييد أركانه هو ( التوحيد الإلهي ) فإلى جانب الاستدلال على ذلك بما يوافق الفطرة والعقل السليمين ، سعى لمحو آثار الوثنية ، وكسر أصنام الجاهلية لما استتبعت من تحميق الناس ، وتعميق الجهل والذلّ في نفوسهم على حساب تضخم الثروة عند الطغاة ، وتوغّل الفساد في المجتمع الإنساني .
  ولمّا كانت الوثنية والصنمية فكرة ناشئة من عقيدة تجسيم الإله وتشبيهه بالخلق ، سعى الإسلام لنفي التجسيم والتشبيه ، ودعا إلى التوحيد في الذات والصفات ، والتنزيه عن كل ما يمتّ إلى المخلوقات ، كل ذلك بالدلائل والبراهين والاَيات البينات .
  لكن الاتجاه الرجعي تسلّط على المسلمين في فترة مظلمة من تاريخ الإسلام ، بدأت بتسنّم الحزب الأموي أريكة الخلافة ، وسيطرته من خلالها على ربوع البلاد ورقاب العباد ، أولئك الذين كانوا آخر الناس إسلاماً ، وهم مسلمة الفتح ، ولم تنمح من أذهانهم صور الأصنام ، ولم يَزُل من قلوبهم حبّ الجاهلية وعباداتها ، فكما كانوا في الجاهلية من أشدّ الناس تمسّكاً بالصنمية ورسوم الجاهلية الجهلاء ودعاة الشرك والفجور ، ورعاة الدعارة والعهارة والخمور ، فكذلك وبتلك الشدّة أمسوا في الإسلام أعدأ التوحيد والتنزيه ومحاربي العفاف والإنصاف .

---------------------------
(1) الاحتجاج ( ص 312 ) .
(2) دائرة المعارف الشيعية ( ج 2 ص 66 ) .

جهاد الامام السجاد ( عليه السلام ) _ 55 _

  وعندما بُليَ المسلمون بولاة من هؤلاء ، بدأوا تشويه الصِبْغة الإسلامية بإنتهاك الأعراض والحرمات ، وإمتهان الشخصيات والكرامات ، وتشويش الأفكار والمعتقدات ، وتزييف الوجدان وإثارة الأضغان ، وتعميق العداء والبغضاء ، وتعميم الجور والعدوان .
عقيدة الجبر :   وكان من أخطر ما روّجوه بين الاُمة وأكّدوا على إشاعته هو فكرة ( الجبر الإلهي ) بهدف التمكّن من السلطة التامة على مصير الناس ، والهيمنة على الأفكار بعد الأجسام .
  فإن الأمة إذا اعتقدت بالجبر ، فذلك يعني : أن كل ما يجري عليها فهو من الله وبإذنه ، فما يقوم به الخليفة من فساد وظلم وجور وقتل ونهب وغصب ، فهو من الله تعالى عن ذلك إستكانت الأمة للظالم ولتعدياته ، ولم تحاول أن تتخلص من سيطرته ، ولا دفع عدوانه ، بل لم تفكّر في الخلاص منه ، لأن ذلك يكون مخالفة لإرادة الله ومشيئته ، فالخليفة والأمير والحاكم والوالي إنّما ينفذون إرادة الله ، وهم يد الله على عباده .
  فكيف يرجى من أمة كهذه أن تقوم بوجه سلطة الظالم واعتداءاته وتجاوزاته(1) .
  لقد أظهر الأمويون عنادهم للإسلام حتّى في مسائل الدين ، ومن عندهم ظهرت الفتاوي في الشام بخلاف ما في العراق ، كما ظهر القول بالجبر في أصول الدين .
  وأول ما إنتحله معاوية من التفرقة بين المسلمين هو القول بالجبر ، فقد كان هو أوّل مَنْ أظهره .
  قال القاضي عبد الجبار في ( المغني في أبواب العدل والتوحيد ) : أظهر معاوية أن ما يأتيه بقضاء الله ومن خلقه ، ليجعله عذراً في ما يأتيه ويوهم أنه مصيب فيه ، وأن الله جعله إماماً وولاّه الأمر ، وفشا ذلك في ملوك (2) .
  وكان الاُمويّون يقولون بالجبر (3) .
  ولقد قاوم أئمة أهل البيت ( عليهم السلام ) فكرة الجبر بكل قوّة ووضوح منذ زمان أمير المؤمنين ( عليه السلام ) (4) .
  ولكن لمّا إستفحل أمر بني أمية ، وملكوا أنفاس الناس ، وتمكّنوا من عقولهم وأفكارهم ، إنفرد معاوية في الساحة ، وغسل الأدمغة بفعل علماء الزور ووعّاظ السلاطين .

---------------------------
(1) لاحظ رسائل العدل والتوحيد ( ص 85 ـ 86 ) .
(2) لاحظ رسائل العدل والتوحيد ( 2 : 46 ) .
(3) تاريخ الفكر الفلسفي في الاسلام ، لابي ريّان ( ص 148 ـ 150 ) .
(4) لاحظ الاحتجاج ( ص 208 ) في احتجاج امير المؤمنين ( عليه السلام ) .

جهاد الامام السجاد ( عليه السلام ) _ 56 _

  فكان معاوية يقول في خطبه : ( لو لم يرني الله أهلاً لهذا الأمر ما تركني وإيّاه ولو كره الله تعالى ما نحن فيه لغيّره ) .
  وقال معاوية في بعض خطبه : ( أنا عامل من عمّال الله اُعطي مَنْ أعطاه الله وأمنع مَنْ منعه الله ولو كره الله أمراً لغيّره ) .
  فأنكر عليه عُبادة بن الصامت وغيره من الصحابة .
  نقله ابن المرتضى وقال : هذا صريح الجبر (1) .
  وهذا هو الذي شدّد قبضة الامويين على البلاد والعباد ، ومكّنهم من قتل أبي عبد الله الحسين سبط رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) بكل جرأة ، ومن دون نكير .
  وقد أظهر يزيد ، أن الحسين ( عليه السلام ) إنما قتله الله فأعلن ذلك في مجلسه وأمام الناس .
  لكن الإمام السجاد ( عليه السلام ) لم يترك ذلك يمرّ بلا ردّ ، فانبرى له وقال ليزيد : قتل أبي الناسُ (2) .
  وقبل ذلك في الكوفة قال عبيد الله : أليس قد قتل الله علي بن الحسين ? فقال الإمام ( عليه السلام ) ( اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا ) ( سورة الزمر (39) الاَية (42) ) .
  فغضب عبيد الله وقال : وبك جرأة لجوابي ، وفيك بقية للردّ علي ، إذهبوا به فإضربوا عنقه .
  ثم صعد المنبر ، وقال : الحمد لله الذي أظهر الحق وأهله ونصر أميرالمؤمنين وحِزبه (3) .
  إن الموقف كان خطراً جداً ، فالطاغية في عتوّه ، ونشوة الانتصار تغمره ، فالردّ عليه في مثل هذه الحالة يعني منازعته سلطانه .
  ولكن الإمام السجاد ( عليه السلام ) وهو أسير ، يُعاني آلام الجرح والمرض ، لم يتركه يُلحد في دين الله ، ويمرّر فكرة الجبر أمامه ، على الناس البسطاء ، الفارغين من المعارف ، التي نصّ عليها القرآن بوضوح .
  وليس غرضنا من سرد هذه الأخبار إلاّ نقل ردّ الإمام ( عليه السلام ) على مزاعم الحكّام بنسبة القتل الى الله ، بينما هو من فعل الناس ، والتذكير بالفرق بين الوفاة للأنفس واسترجاعها الذي نسب في القرآن الى الله حين حلول الأجل والموت حتف الأنف ، وبين القتل الذي هو إزهاق الروح من قِبَل القاتل قبل حلول الموت المذكور .

---------------------------
(1) المنية والأمل ( ص 86 ) .
(2) الاحتجاج (311) .
(3) الإرشاد للمفيد ( ص 244 ) ولاحظ صدره في تاريخ دمشق ( الحديث 25 ) .

جهاد الامام السجاد ( عليه السلام ) _ 57 _

  إن تحدّي الحكام وفي مجالسهم ، وبهذه الصراحة ينبى عن شجاعة وبطولة ، وهو تحد للسلطة أكثر من أن يكون رداً على انحراف في العقيدة فقط .   في حديث رواه الزهري من كبار علماء البلاط الاموي أجاب الإمام زين العابدين ( عليه السلام ) عن هذا السؤال : أبِقَدَرٍ يصيب الناس ما أصابهم ، أم بعمل ?
  أجاب ( عليه السلام ) بقوله : إنّ القَدَرَ والعمل بمنزلة الروح والجسد . . . ولله فيه العون لعباده الصالحين .
  ثم قال ( عليه السلام ) : ألا ، من أجور الناس مَنْ رأى جوره عدلاً ، وعدل المهتدي جوراً (1) .

وعقيدة التشبيه والتجسيم :
  وقد تجرأ أعداء الإسلام بعد سيطرتهم على الحكم على المساس بأساس العقيدة الإسلامية ، وهو التوحيد الإلهي ، وذلك بإدخال شُبه التجسيم والتشبيه في أذهان العامة ، لإبعادهم عن الحق ، وجرّهم إلى صنمية الجاهلية .
  ولقد إستغلّ الأعداء جهل الناس ، وبعدهم عن المعارف ، حتّى اللغة العربية فموّهوا عليهم النصوص المحتوية على ألفاظ الأعضاء ، كاليد والعين ، مضافة في ظاهرها الى الله تعالى ، وتفسيرها بمعانيها المعروفة عند البشر ، بينما هي مجازات مألوفة عند فصحاء العرب في شعرهم ونثرهم ، يعبّرون باليد عن القوة والقدرة ، وبالعين عن البصيرة والتدبير ، وهكذا . . . وقد قاوم الإسلام منذ البداية هذه الأفكار المنافية للتوحيد والتنزيه ، وقام الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) والأئمة الأطهار بمقاومتها وإبطال شُبهها ، وفضح أغراض ناشريها ودعاتها .
  وفي عهد الإمام السجاد ( عليه السلام ) ، وبعد أن إستشرى الوباء الاموي بالسيطرة التامة .
  كان أمر هؤلا الملحدين قد إستفحل ، وتجاسروا على الإعلان عن هذه الأفكار بكلّ وقاحةٍ ، في المجالس العامّة ، حتّى في مسجد رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، فكانت مهمة الإمام السجاد ( عليه السلام ) حسّاسة جداً ، لكونه ممثّلاً لأهل البيت ( عليهم السلام ) ، بل الرجل الوحيد ذا الارتباط الوثيق بمصادر المعرفة الإسلامية بأقرب الطرق وأوثقها ، وبأصحّ الأسانيد ، مصحوباً بالإخلاص لهذا الدين وأهله ، وعمق التفكير وقوته ، وبالشكل الذي ليس لأحد إنكار ذلك أو معارضته .

---------------------------
(1) التوحيد للصدوق ( ص 366 ) .

جهاد الامام السجاد ( عليه السلام ) _ 58 _

  ومع ما كان عليه الإمام السجاد ( عليه السلام ) من قلة الناصر ، فقد وقف أمام هذا التيار الإلحادي الهدّام ، وأقام بأدلته وبياناته سداً منيعاً في وجه إحياء الوثنية من جديد فقام الإمام بعرض النصوص الواضحة التعبير عنّ الحق ، والناصعة الدلالة على التوحيد والتنزيه ، مدعومة بقوة الإستدلال العقلي ، وكشف عن التصوّر الإسلامي الصحيح ، وشهر سيف الحق والعلم والعقل على تلك الشبه الباطلة : ولنقرأ أمثلة من تلك النصوص :
  جاء في الحديث أن الإمام زين العابدين ( عليه السلام ) كان في مسجد الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ذات يوم ، إذ سمع قوماً يشبّهون الله بخلقه ، ففزع لذلك ، إرتاع له ، ونهض حتّى أتى قبر رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، فوقف عنده ، ورفع صوته يدعو ربّه ، فقال في دعائه :
( إلهي بدت قدرتك ، ولم تبد هيبة جلالك ، فجهلوك ، وقدّروك بالتقدير على غير ما أنت به مشبّهوك .
  وأنا بريء يا إلهي من الذين بالتشبيه طلبوك ، ليس كمثلك شيء يا إلهي ولن يدركوك .
  فظاهر ما بهم من نعمة دليلهم عليك ، لو عرفوك ، وفي خلقك يا إلهي مندوحة عن أن يتأوّلوك ، بل ساووك بخلقك ، فمن ثَمَ لم يعرفوك .
  وإتخذوا بعض آياتك ربّاً ، فبذلك وصفوك ، فتعاليت يا إلهي عمّا به المشبّهون نعتوك ) (1) .
  فوجود الإمام ( عليه السلام ) في المسجد النبوي ، وإظهاره الفزع من ذلك التشبيه ، وإرتياعه لذلك الكفر المعلن ، ونهوضه ، وإلتجاؤه الى القبر الشريف ، ورفعه صوته بالدعاء . . . كل ذلك ، الذي جلب إنتباه الراوي ـ ولابدّ أنه كان واضحاً للجميع ـ إعلان منه ( عليه السلام ) للإستنكار على ذلك القول ، وأولئك القوم الذين تعمّدوا الحضور في المسجد والتجرؤ على إعلان ذلك الإلحاد والكفر .
  وهو تحدّ صارخ من الإمام ( عليه السلام ) للسياسة التي إنتهجتها الدولة وكانت وراءها بلا ريب ، وإلاّ ، فمن يجرؤ على إعلان هذه الفكرة المنافية للتوحيد لولا دعم الحكومة ، ولو بالسكوت .

---------------------------
(1) كشف الغمة ( 2 : 89 ) وانظر بلاغة الإمام علي بن الحسين ( عليه السلام ) ( ص 17 ) وقد رواه الصدوق في أماليه ( ص 487 ) المجلس (89) موقوفاً على الرضا ( عليه السلام ) ، فلاحظ .

جهاد الامام السجاد ( عليه السلام ) _ 59 _

  إن قيام الإمام السجاد ( عليه السلام ) بهذه المعارضة الصريحة وبهذا الوضوح يعطي للمواجهة بعداً آخر ، أكثر من مجرد البحث العلمي ، والنقاش العقيدي والفكري .
  إنّه بُعد التحدّي للدولة التي كانت تروّج لفكرة التجسيم والتشبيه ، وتفسح المجال للإعلان بها في مكان مقدّس مثل الحرم النبوي الشريف ، في قاعدة الإسلام ، وعاصمته العلمية ، المدينة المنورة ! ! .

ومهزلة الإرجاء :
  الإرجاء ، بمعنى عدم الحكم باسم ( الكفر ) على مَنْ آمن بالله ، في ما لو أذنب ما يوجب ذلك ، وأن حكماً مثل هذا موكول الى الله تعالى ، ومُرْجَأ إلى يوم القيامة ، وأن الذنوب مهما كانت والمبادي السياسية مهما كانت ، لا تُخرِج المسلم عن اسم الإيمان ، ولا تمنع من دخوله الجنة .
  وكان الملتزمون بالإرجاء ، يتغاضون عمّا يقوم به الحكّام والسلاطين مهما كانت أفعالهم مخالفة لأحكام الإسلام في آيات قرآنه ونصوص كتابه وسنّة رسوله .
  بل كان منهم من يقول : إن الإيمان هو مجرد القول باللسان ، وإن عُلِمَ من القائل الاعتقاد بقلبه بالكفر ، فلا يُسمّى كافراً .
  ومنهم مَنْ يقول : إن الإيمان هو عقد القلب ، وإن أعلن الكفر بلسانه فلا يُسمّى كافراً (1) .
  وهذه المبادىء مهما كان منشؤها كانت ولا زالت تخدم الحكّام الجائرين المبتعدين عن الإسلام في كل أعمالهم وتصرّفاتهم ، لأن أصحاب هذه المبادي كانوا ولا يزالون يرون أن مهادنة هؤلاء الحكّام صحيحة وغير منافية للشرع وللتديّن بالإسلام .
  فكانت كما يقول أحمد أمين : هذه المبادىء تخدم بني امية ولو بطريق غير مباشر وأصحابها كانوا يرون أن مهادنة بني اُمية صحيحة ، وأن خلفاءهم مؤمنون ، لا يصحّ الخروج عليهم .
  فكان أن الامويين لم يتعرّضوا لهم بسوء ، كما تعرّضوا للمعتزلة والخوارج والشيعة (2) .
  بل أصبح الإرجاء كما نقل الجاحظ عن المأمون : دين الملوك (3) .

---------------------------
(1) لاحظ الفصل لابن حزم ( 4 : 204 ) .
(2) ضحى الإسلام ( 3 : 324 ) .
(3) الإعتبار و سلوة العارفين ( ص 141 ) .

جهاد الامام السجاد ( عليه السلام ) _ 60 _

  وهذه المزعومة ـ الإرجاء ـ باطلة أساساً ، لدلالة النصوص الواضحة على أنّ العمل فعلا وتركاً له أثر مباشر في صدق أسماء الإيمان والكفر .
 ولذلك أعلن أئمة المسلمين بصراحة : أن الإيمان قول باللسان ، وإعتقاد بالجنان ، وعمل بالأركان .
  فمن خالف ما ثبت أنه من الدين ضرورة فهو محكوم باسم الكفر ، وتجري عليه أحكام هذا الاسم ، سواء أنكره بلسانه ، أو بقلبه ، أو بعمله ، كقاتل النفس المحترمة وتارك الصلاة ، مثلاً .
  وفي قبال مخالفات الحكّام الظالمين ، المعلنة والمخفية ، قاوم المسلمون بكل شدّة ، وحاسبوهم بكل صرامة ، حتّى قُتِلَ عثمان وهو خليفة من أجل بعض مخالفاته الواضحة .
  لكن ، لمّا تربّع بنو اُمية على الحكم ، بدأوا يحرّفون عقيدة الناس بترويج كفرهم ، وقتل المؤمنين العارفين بالحقائق ، وإجراء سياسة التطميع والتجويع ، وغسل الأدمغة والتحميق ، مُسْتَمِدّين بوعّاظ السلاطين من أمثال الزهري :   فقد ورد في الأثر أن هشام بن عبد الملك سأل الزُهْريَ قال : حَدّثْنا بحديث النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) أنه قال : مَنْ مات لا يشرك بالله شيئاً دخل الجنّة ، وإن زنا وإن سَرَق (1) .
  فهشام حافظ لهذا الحديث ، لكنه يريد من الزهري تقريراً عليه وتصديقاً به ، وكأنّه يقول له : إنّ مثل هذا الحديث يُعجبنا ويفيدنا فاروه لنا .
  ولم يكذّب الزهري هذا الحديث المجعول من قبل المرجئة ، وإنما قال لهشام : أينَ يُذْهَب بك ، يا أمير المؤمنين كان هذا قبل الأمر والنهي .
  لكن إذا كان قبل الأمر والنهي فلماذا يذكر الزنا والسرقة ، أو هما كانتا محرّمتين ? فعاد أمر الأمة إلى أن لم ير المضحّون والمخلصون ، وفي طليعتهم أهل البيت ( عليهم السلام ) إلا أن ينهضوا في طلب الإصلاح .
  وقام الإمام الحسين ( عليه السلام ) بالتضحية الكبرى في كربلاء ، لإنقاذ الإسلام مما إبتلي به من تدابير خطرة ، ومؤامرات لئيمة دبّرها بنو امية .

---------------------------
(1) الاعتبار و سلوة العارفين ( ص 141 ) .