أقول : عدم كونها معروفة لا يدل على عدمها ، مع انها معروفة للامام الذي تنزل عليه الملائكة والروح فيها .
نعم يرد الاشكال على العمل فيها مع عدم الجزم بها ، ولكن سيأتي ما يدل على جواز العمل المعين لوقت من غير جزم بوجوده .
فيجوز مثلاً ان يغتسل بنية ليلة القدر مع عدم جزمه بوجودها ، وهكذا في سائر الاعمال المتعلقة بتلك الليلة ، فلا يشترط الجزم في النية ، ولهذا جاز الترديد فيها ليلة الشك .
واما الثواب الموعود من الشارع لذلك العمل ، فهو يترتب عليه ، لانه وعده عليه ذلك الثواب ، ولم يعين له الوقت على وجه يتمكن من الجزم به .
فاذا عمل ذلك العمل المعين لوقت من غير جزم بوجوده ، يجب عليه ان يثيبه ، والا لكان ظالما ، لانه بذل جهده في تحصيل العلم بذلك الوقت ولم يحصل ، ومع ذلك فهو مخاطب بالعمل فيه ، فاذا عمل وجبت اثابته .
واليه اشار المستشكل بقوله : واجيب عنه بأجوبة ، منها : ان يكون المدار على بلد الامام في نزول الملائكة والروح ، ويكون للآخرين ثواب عبادة ليلة القدر اذا عبدوا الليلة الاخرى .
اقول : فان قلت : لو كانت عبادة الليلة الاخرى وان لم تكن ليلة القدر قائمة مقام عبادة ليلة القدر في بلد الامام ، فأي وجه للامر بعبادة ثلاث ليال متفرقة ؟
قلت : الوجه فيه هو الوجه في عبادة ثلاث ليال في بلد الامام ، وعالم بها بعينها ، كما سيأتي انشاء الله العزيز .
ثم قال : ومنها ان يكون الامام في كل ليلة في اقليم ، فتنزل الملائكة في الليلتين معاً . الثالث : ان يكون الامام في بلدة لكن تنزل عليه الملائكة في كل ليلة بأحوال اصحاب البلدة التي تلك الليلة قدرهم انتهى .
اقول : اختلاف الاقاليم لا مدخل له في اختلاف الاهله ، لانه باعتبار عرضها واختلاف الاهله انما هو باعتبار طولها ، كما اومأنا اليه ، وطول كل اقليم
الدُّرَرُ المُلتَقَطَةُ في تفسير الآيات القرآنية
_ 270_
من المغرب الى المشرق .
فالبلد المغربي جاز ان يرى فيه الهلال ، ولا يرى في البلد المشرقي ؛ لان حدبة الارض مانعة لرؤيته .
ولان غروبه في الاول بعد غروبه في الثاني بساعة مثلاً ، فيخرج بقدرها عن تحت الشعاع ، فيكون ممكن الرؤية في هذا البلد دون ذاك ، فكلما كان البلد اغرب ، كانت رؤية الهلال فيه امكن واقرب .
وبالجملة اختلاف الاهلة انما هو باختلاف البلدان شرقية وغربية ، فكل بلد غربي بعد عن بلد آخر شرقي بالف ميل يتأخر غروبه عن غروب الشرقي بساعة ، فيتحقق بذلك اختلاف المطالع .
كما اشار اليه فخر المحققين في الايضاح بقوله : الاقرب ان الارض كروية ؛ لان الكواكب تطلع في المساكن الشرقية قبل طلوعها في المساكن الغربية ، وكذا في الغروب ، فكل بلد غربي بعد عن الشرقي بألف ميل يتأخر غروبه عن غروب الشرقي بساعة واحدة .
وانما عرفنا ذلك بارصاد الكسوفات القمرية ، حيث ابتدأت في ساعات اقل من ساعات بلدنا في المساكن الغربية ، واكثر من ساعات بلدنا في المساكن الشرقية ، فعرفنا ان غروب الشمس في المساكن الشرقية قبل غروبها في بلدنا ، وغروبها في المساكن الغربية بعد غروبها في بلدنا .
ولو كانت الارض مسطحة ، لكان الطلوع والغروب في جميع المواضع في وقت واحد ، ولان السائر على خط من خطوط نصف النهار على الجانب الشمالي يزداد عليه ارتفاع القطب الشمالي وانخفاض الجنوبي وبالعكس انتهى .
ومما حررناه ظهر ان قوله
( ومنها ان يكون الامام في كل ليلة في اقليم ) ليس في محله ، بل ينبغي ان يقال : انه يكون في كل ليلة من تلك الليالي في بلد من البلدان ، فتنزل عليه الملائكة بأحوال سكان ذلك البلد .
اذ ربما تختلف ليلة القدر على اهل اقليم واحد باختلاف بلدانهم شرقية
الدُّرَرُ المُلتَقَطَةُ في تفسير الآيات القرآنية
_ 271_
وغربية ، فتختلف عليهم الاهلة ، ويتبعه اختلاف ليلة القدر ، فتأمل .
تحديد ليلة القدر
فان قلت : اهل البلد الذي فيه صاحب هذا العصر والزمان ـ عليه السلام ـ مع علمه بليلة القدر بعينها هل يطلبونها في ثلاث ليال ام ليلة واحدة لاعلامه اياهم بها ؟
قلت : يحتمل الامرين ، والظاهر هو الاول ؛ لان ائمتنا السابقين صلوات الله عليهم اجمعين كانوا يعلمونها بعينها ، كما سبق في حديث ابي الهذيل ، ومع ذلك كانوا يأمرون اصحابهم بطلبها في ليلتين او ثلاث ليال .
قال عبد الواحد بن المختار الانصاري : سألت ابا جعفر ـ عليه السلام ـ عن ليلة القدر ، قال : في ليلتين : ليلة ثلاث وعشرين ، واحدى وعشرين ، فقلت : افرد لي احداهما ، فقال : وما عليك ان تعمل في ليلتين هي احداهما
(1) .
ولعل الوجه في اخفائها ما اشار اليه في مجمع البيان بقوله : والفائدة في اخفاء هذه الليلة ان يجتهد الناس في العبادة ، ويحيوا جميع ليالي رمضان طمعاً في ادراكها ، كما ان الله سبحانه اخفى الصلاة الوسطى في الصلوات الخمس ، واسمه الاعظم في الاسماء ، وساعة الاجابة في ساعات الجمعة
(2) .
ثم لا يذهب عليك ان حديث الانصاري صريح في انحصار ليلة القدر في تينك الليلتين : ليلة ثلاث وعشرين ، واحدى وعشرين ، وان من عمل فيهما في اية بقعة من تلك البقاع ، فقد ادركها بحقيقتها الفاضلة ، لا بمجرد ثواب عبادتها ، اذ لا يفهم منه اختصاصها ببلد دون بلد .
فيستفاد منه ضعف الجواب الاول ، وقوة الجوابين الاخيرين ، فيكون الامام
--------------------
(1) وسائل الشيعة : 7 / 263 ح 19 .
(2) مجمع البيان : 5 / 520 .
الدُّرَرُ المُلتَقَطَةُ في تفسير الآيات القرآنية
_ 272_
ـ عليه السلام ـ في كل ليلة من تلك الليالي في بقعة من تلك البقاع ، او يأتيه الملائكة بأحوال اصحاب تلك البقعة في تلك الليلة .
ومثله ما في الكافي عن ابي حمزة الثمالي ، قال : كنت عند ابي عبد الله ـ عليه السلام ـ فقال ابو بصير : جعلت فداك الليلة التي يرجى فيها ما يرجى ، فقال : في احدى وعشرين ، او ثلاث وعشرين .
قال : فان لم اقو على كلتيهما ، فقال : ما ايسر ليلتين فيما تطلب .
قلت : فربما رأينا الهلال عندنا وجاءنا من يخبرنا بخلاف ذلك من ارض اخرى ، فقال : ما ايسر اربع ليال تطلبها فيها .
قلت : جعلت فداك ليلة ثلاث وعشرين ليلة الجهني ، فقال : ان ذلك ليقال .
فقلت : جعلت فداك ان سليمان بن خالد روى في تسع عشرة يكتب وفد الحاج ، فقال لي : يا ابا محمد وفد الحاج يكتب في ليلة القدر والمنايا والبلايا وما يكون الى مثلها في قابل ، فاطلبها في ليلة احدى وثلاث ، وصل في كل واحد منهما مائة ركعة ، واحيهما ان استطعت الى النور ، واغتسل فيهما .
قال قلت : فان لم اقدر على ذلك وانا قائم ، قال : فصل وانت جالس .
قلت : فان لم استطع ، قال : فعلى فراشك ، لا عليك ان تكتحل اول الليل بشيء من النوم ، ان ابواب السماء تفتح في رمضان ، وتصفد الشياطين ، وتقبل اعمال المؤمنين ، نعم الشهر رمضان ، كان يسمى على عهد رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ المرزوق
(1) .
اقول : يستفاد من هذا الحديث ان من طلبها في اي بلد من تلك البلاد الشرقية والغربية في ليلة احدى وثلاث يدركها بحقيقتها ، لا بمجرد ان يكون له ثواب عبادتها ، كما قيل وقد سبق .
--------------------
(1) فروع الكافي : 4 / 156 ـ 157 ح 2 .
الدُّرَرُ المُلتَقَطَةُ في تفسير الآيات القرآنية
_ 273_
والا فأية حاجة له الى طلبها في اربع ليال عند الاشتباه والاختلاف في رؤية الهلال ، لولا انه يطلبها ليدركها بحقيقتها الفاضلة .
فيستفاد منه ان الامام ـ عليه السلام ـ في كل ليلة من تلك الليالي في بلد من تلك البلاد ، فتنزل عليه الملائكة بأحكامها ، او هو في بلدته ولكنها تنزل عليه في كل ليلة بأحوال سكان بلدة تلك الليلة ليلة قدرهم .
وعلى التقديرين فأهل كل بلدة من تلك البلاد يدركونها بحقيقتها الفاضلة اذا طلبوها في ليلة احدى وثلاث ، واذاً فالمعتمد هو احد الجوابين الاخيرين او كلاهما ، فتأمل .
معنى ليلة القدر
اختلف العلماء في معنى هذا الاسم ، فقيل : سميت ليلة القدر لانها الليلة التي يحكم الله فيها ، ويقضي بما يكون في السنة بأجمعها من كل امر ، وهي الليلة المباركة في قوله تعالى
( انا انزلناه في ليلة مباركة ) لان الله تعالى ينزل فيها الخير والبركة والمغفرة .
أقول : ويدل على صحة هذا القول
(1) أخبار كثيرة :
منها : ما في الكافي في حسنة حمران انه سأل ابا جعفر ـ عليه السلام ـ عن قول الله تعالى :
( انا انزلناه في ليلة مباركة ) قال : نعم ليلة القدر ، وهي في كل سنة في شهر رمضان في العشر الاواخر ، فلم ينزل القرآن الا في ليلة القدر ، قال الله تعالى :
( فيها يفرق كل امر حكيم ) (2) .
قال : يقدر في ليلة القدر كل شيء يكون في تلك السنة الى مثلها من قابل خير وشر وطاعة ومعصية ومولود واجل ورزق ، فما قدر في تلك الليلة فهو
--------------------
(1) اشارة الى ترجيح هذا الوجه من جملة وجوه التسمية ( منه ) .
(2) الدخان : 4 .
الدُّرَرُ المُلتَقَطَةُ في تفسير الآيات القرآنية
_ 274_
المحتوم ، ولله تعالى فيه المشيئة الحديث
(1) .
وفي رواية اخرى : وفيه ـ اي في شهر رمضان ـ رأس السنة يقدر فيها ما يكون في السنة من خير او شر ، او مضرة ، او منفعة ، او رزق ، او اجل ، ولذلك سميت ليلة القدر .
وقيل : لان للطاعات فيها قدراً عظيماً وثواباً جزيلاً .
وقيل : سميت ليلة القدر ، لانه انزل فيها كتاب ذو قدر ، الى رسول ذي قدر ، لاجل امة ذات قدر ، على يدي ملك ذي قدر .
وقيل : لان الله قدر فيها القرآن .
وقيل : سميت بذلك لان الارض تضيق فيها الملائكة من قوله
( فقدر عليه رزقه ) (2) وهو منقول عن الخليل بن احمد رحمه الله .
والحمد لله رب العالمين .
--------------------
(1) فروع الكافي : 4 / 157 ـ 158 .
(2) الفجر : 16 .
الدُّرَرُ المُلتَقَطَةُ في تفسير الآيات القرآنية
_275 _
( سورة الاخلاص )
(بسم الله الرحمن الرحيم)
*
(قل هو الله أحد * الله الصمد * لم يلد ولم يولد * ولم يكن له كفواً أحد ).
لفظة
( الله ) تدل على نفي الشريك ، والاحد على نفي التركيب ، وانه واحد في المعبودية بالحق ، لا يشاركه فيها احد .
وهذه السورة دلت على معرفة الله وتوحيده ، وتنزيهه عن مشابهة الخلق ، فانه فرد واحد احدي المعنى ، لا ينقسم في وجود ، ولا عقل ، ولا وهم .
فيفسر الصمد بما لا جوف له ، كما ورد في كثير من الاخبار مما لا قصور فيه ولا نقص ، كما ظنه ثقة الاسلام الكليني في الاصول .
فانه قال فيه بعد ان روى روايتين ضعيفتين دالتين على ان المراد بالصمد السيد المصمود اليه في القليل والكثير : هذا هو المعنى الصحيح في تأويل الصمد ، لا ما ذهب اليه المشبهة ان تأويل الصمد المصمت الذي لا جوف له .
لان ذلك لا يكون الا من صفة الجسم ، والله جل ذكره متعال عن ذلك ، هو اعظم واجل من ان تقع الاوهام على صفته ، او تدرك كنه عظمته ، ولو كان تأويل الصمد في صفة الله المصمت ، لكان مخالفا لقوله
( ليس كمثله شيء ) لان ذلك من صفة الاجسام المصمتة التي لا جوف لها ، تعالى الله عن ذلك ، فأما ما جاء في الاخبار من ذلك ، فالعالم ـ عليه السلام ـ اعلم بما قال
(1) .
--------------------
(1) اصول الكافي : 1 / 124 .
الدُّرَرُ المُلتَقَطَةُ في تفسير الآيات القرآنية
_ 276_
وفيه ان العالم ـ عليه السلام ـ اشار بقوله
( الصمد هو الذي لا جوف له ) الى ما اشرنا اليه ، لا الى ما فهمه منه رحمه الله ، فتأمل .
ثم استنساخ الكتاب وترتيبه وتحقيقه في يوم المولود الاعظم النبوي سنة 1412 هـ ق في بلدة قم المقدسة على يد العبد السيد مهدي الرجائي عفى عنه .