او على انه يقول ببقائها مدة البرزخ ، كما يظهر منه في بعض كتبه ، ولكنه يقول بفنائها عند النفخة الاولى ، وهو ابعد من سابقيه .
واما ثانيا ، فلانه لما قال ببقائها بعد فناء البدن وتعلقها في عالم البرزخ بأجساد مثالية ، فلابد من القول بتجردها ، ولذا قال الشهيد : دل القرآن العزيز على بقاء النفس بعد الموت ، وتعلقها بأبدان مثالية بناءً على تجردها .
وأما ثالثاً : فلان القول بالزمان الموهوم مخالف للشرع ، على ما يدل عليه ظاهر بعض الاخبار .
ومنها : الخطبة المستدل بها لقوله ـ عليه السلام : وانه يعود سبحانه بعد فناء العالم وحده ، لا شيء معه ، كما كان قبل ابتدائها ، كذلك يكون بعد فنائها بلا وقت ولا مكان ولا حين ولا زمان ، عدمت عند ذلك الآجال والاوقات ، وزالت السنون والساعات ، فلا شيء الا الله
(1) .
فان الزمان الموهوم لو كان شيئا في نفس الامر ، لتكون الاولية والآخرية بحسبه ، لكان قبل ابتداء الدنيا ، وكذلك بعد فنائها زمان ، وقوله ـ عليه السلام :
( كما كان قبل ابتدائها ) الى اخره ينفيه ، وان لم يكن شيئا في نفس الامر .
وبالجملة الظاهر ان ما ذكره الطبرسي من الزمان التقديري هو الاظهر بالنظر الى الشرع الانور .
وأما رابعاً ، فلانه لما فرض ان المراد بالاولية الاسبقية بحسب الزمان ، فحينئذ لا معنى لقوله
( اذ لو قيل بزمان موجود قديم يلزم اثبات قديم سوى الواجب ) فانه صريح في ان الزمان لو كان موجوداً قديماً لتم القول بالاسبقية الزمانية .
لكن يلزم اثبات قديم سوى الواجب ، وليس كذلك ، اذ للزمان وراسمه وما هو موضوع للراسم وغيرها على هذا الفرض معية ازلية مع الواجب ، والا لزم
--------------------
(1) نهج البلاغة : 276 ط 186 .
الدُّرَرُ المُلتَقَطَةُ في تفسير الآيات القرآنية
_240 _
حدوث الزمان ، وهو خلاف الفرض .
نعم لو كان المراد بالاسبقية الاسبقية الذاتية دون الزمانية ، لكان له وجه ، وليس فليس ، فكان الواجب ان يقول : اذ لو قيل بزمان موجود قديم ، لا يتصور الاسبقية بحسب الزمان ، مع انه يلزم اثبات قديم سوى الواجب .
والحاصل يمكن ان يكون المراد انه تعالى يصير بعد فناء العالم الجسماني واحداً ، لا شيء معه في ذلك العالم ، كما كان قبل ابتدائه ، بلا وقت ولا مكان ولا حين ولا زمان .
كذلك يكون بعد فنائه ، لان انعدام ما هو موضوع لما هو راسم للزمان يستلزم انعدامه ، واذا انعدم انعدمت الآجال والاوقات ، وزالت السنون والساعات ، فلا شيء من هذا العالم موجوداً الا الله ، فالحصر اضافي .
ثم قال قدس سره : او المراد البقاء ذاتاً وصفة ، بحيث لا يتطرق اليه تغير وتحول من هيئة الى هيئة ، ومن حال الى حال ، ومن صفة الى صفة ، وكل من سواه في معرض الزوال والفناء والتغير ، ويدل عليه صحيحة ابن ابي يعفور التي رواها ثقة الاسلام والصدوق رحمهما الله ، عن ابي عبد الله ـ عليه السلام ـ وغيرها من الاخبار .
اقول : هذا هو الصحيح ، وبه يجمع بين الآيات والروايات المتعارضة بحسب الظاهر ، وقد مرت صحيحة ابن ابي يعفور في اول البحث .
وهو قدس سره قال في شرحه على الاصول : ان الغرض منها ان دوام الجنة والنار واهلهما وغيرها لا ينافي آخريته تعالى ، واختصاصها به ، فان هذه الشياء دائماً في التغير ، وهو تعالى باق من حيث الذات والصفات ازلاً وابداً
(1) .
ثم قال : الوجه الثاني : ان يكون المراد الاول القديم ، لا الاسبق ، وبالآخر الابدي ، وبه فسرهما اكثر المحققين ، وعلى هذا لا ينافي ابدية الجنة واهلها .
--------------------
(1) مرآة العقول : 2 / 41 .
الدُّرَرُ المُلتَقَطَةُ في تفسير الآيات القرآنية
_ 241_
أقول : لا وجه لهذا التخصيص ، فانه كما لا ينافي ابديتهما ، كذلك لا ينافي ابدية النار واهلها ، وابدية النفوس الناطقة مطلقاً من الجن والانس وغيرهما .
ثم قال : الوجه الثالث : ان يكون المراد بالاولية العلية ، اي : هو علة العلل ومبدأ المبادىء ، وبالاخرية الغائية ، اي : هو غاية الغايات ، كما هو مصطلح الحكماء .
او هو منتهى سلسلة العلل ذهناً ، فانك اذا فتشت عن علة شيء ، ثم عن علة علته وهكذا ، ينتهي بالاخرة اليه تعالى ، فعلى هذا الوجه يكون اوليته تعالى عين اخريته ، وتختلفان بالاعتبار .
الوجه الرابع : انه مبدأ سلوك العارف ومنتهاه ، فان بتوفيقه يبتدىء واليه ينتهي ، اذ انه اول الاشياء معرفة واظهرها ، ومنتهى مراتب الكمال بالنظر الى كل استعداد وقابلية .
وقيل : هو الاول باحسانه ، والاخر بغفرانه
(1) .
--------------------
(1) الفرائد الطريفة : 109 ـ 113 .
الدُّرَرُ المُلتَقَطَةُ في تفسير الآيات القرآنية
_ 242_
( سورة الحشر )
*
(هو الله الذي لا اله الا هو الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبار المتكبر سبحان الله عما يشركون ) [ الآية : 23 ]
الملك لاصناف المملوكات ، كما قال
( ملكوت السموات والارض ) (1) فان الملكوت ملك الله زيدت فيه التاء ، كما زيدت في رهبوت ورحموت ، يقول العرب : رهبوت خير من رحموت ، اي : لين ترهب خير من ان ترحم .
والقدوس : فعول من القدس ، وهو الطهارة ، والقدوس الطاهر من العيوب المنزه عن الانداد والاضداد والاولاد ، والتقديس التطهير والتنزيه .
والسلام : هو الذي سلم من كل عيب ، وبرىء من كل آفة ونقص .
وقيل : معناه المسلم ؛ لان السلامة تنال من قبله ، والسلام والسلامة مثل الرضاع والرضاعة ، وقوله
( لهم دار السلام ) (2) يجوز ان تكون مضافة اليه ، ويجوز ان يكون قد سمي الجنة سلاماً ؛ لان الصائر اليها تسلم من كل آفة الدنيا ، فهي دار السلامة .
والايمان في اللغة : التصديق ، فالمؤمن المصدق ، اي : يصدق وعده ، ويصدق ظنون عباده المؤمنين ، ولا يخيب آمالهم ، او انه آمنهم من الظلم والجور .
وعن سيدنا الصادق ـ عليه السلام : سمي الباري عز وجل مؤمناً ، لانه يؤمن
--------------------
(1) الانعام : 75 .
(2) الانعام : 127 .
الدُّرَرُ المُلتَقَطَةُ في تفسير الآيات القرآنية
_ 244_
عذابه من اطاعه ، وسمي العبد مؤمناً ، لانه يؤمن على الله فيجيز الله امانه
(1) .
والمهيمن : الشهيد ، والله هو الشاهد على خلقه بما يكون منهم من قول او فعل . وقيل : المهيمن الامين . وقيل : الرقيب على الشيء والحافظ له .
والعزيز : هو المنيع الذي لا يغلب ، يقال : من عز بز ، اي : من غلب سلب ، وقد يقال للملك ، كما قال اخوة يوسف
( يا ايها العزيز ) (2) .
والجبار : هو الذي جبر مفاقر الخلق وكثرهم ، وكفاهم اسباب المعاش والرزق ، وقيل : الجبار العالي فوق خلقه ، والقامع لكل جبار ، او القاهر الذي لا ينال ، يقال للنخلة التي لا تنال : جبارة .
والمتكبر : هو المتعالي عن صفات الخلق ، او المتكبر على عتاة خلقه ، إذ نازعوه العظمة .
*
(هو الله الخالق البارىء المصور له الاسماء الحسنى يسبح له ما في السموات والارض وهو العزيز الحكيم ) [ الآية : 24 ]
اسناد التصوير اليه سبحانه على الاطلاق ، يدل على بطلان القول بوجود قوة مصورة في الانسان والحيوان يصدر عنها التصوير ، كما ذهبت اليه الفلاسفة بناءً على اصولهم .
وكيف يصح القول باسناده اليها ؟ وهو قوة عديمة الشعور ، وتلك الافعال
--------------------
(1) التوحيد : 205 .
(2) يوسف : 88 .
الدُّرَرُ المُلتَقَطَةُ في تفسير الآيات القرآنية
_ 245_
في غاية الاتقان والاحكام ، وقد روعي فيها من الحكم والمصالح ما تحيرت فيه الاوهام ، وقصرت عن ادراكها العقول والافهام .
فكل من له عقل سليم وطبع مستقيم ، يحكم بأن امثال هذه الصور العجيبة والاشكال الغريبة ، والنقوش المؤتلفة ، والالوان المختلفة ، مما لا يمكن ان يصدر عن حكيم عليم خبير قدير .
وقد بالغ في ذلك الغزالي حتى نفى مطلق القوى ، وادعى ان الافعال المنسوبة اليها صادرة عن ملائكة موكلة بهذه الافعال ، يفعلها بالشعور والاختيار .
الدُّرَرُ المُلتَقَطَةُ في تفسير الآيات القرآنية
_ 247_
( سورة الجمعة )
*
(يا ايها الذين آمنوا اذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا الى ذكر الله وذروا البيع ذلكم خير لكم ان كنتم تعلمون ) [ الآية : 9 ]
استدل المحقق الكاشاني في رسالته بالآية الشريفة على عينية وجوب الجمعة ، فقال : اتفق المفسرون على ان المراد بالذكر المأمور بالسعي اليه في الآية ، صلاة الجمعة ، او خطبتها ، او هما معاً ، كما نقله غير واحد من العلماء .
فكل من تناوله اسم الايمان مأمور بالسعي اليها ، واستماع خطبتها وفعلها ، بعض الاوقات فعليه الدليل ، قل هاتوا برهانكم ان كنتم صادقين ، وفي الآية مع الامر الدال على الوجوب ضروب التأكيد وانواع الحث ما لا يخفى .
قال زين المحققين الشهيد الثاني في رسالته التي الفها في تحقيق هذه المسألة واثبات الوجوب العيني في زمان الغيبة ، وبسط القول فيه بما ملخصه .
ان تعليق الامر في الآية انما هو على النداء الثابت شرعيته لفريضة الوقت ، اربعا كانت او اثنتين ، وحيث ينادي لها يجب السعي الى ذكر الله ، وهو صلاة الجمعة ركعتين واستماع خطبتها ، وكأنه قال : اذا نودي للصلاة عند الزوال يوم الجمعة فصلوا الجمعة ، او فاسعوا الى صلاة الجمعة وصلوها .
قال : وهذا واضح الدلالة لا اشكال فيه ، ولعله السر في قوله تعالى :
( فاسعوا الى ذكر الله ) ولم يقل فاسعوا اليها ، وانما علقه على الاذان حثاً على فعله لها ، حتى ذهب بعضهم الى وجوبه لها لذلك .
الدُّرَرُ المُلتَقَطَةُ في تفسير الآيات القرآنية
_ 248_
وكذا القول في تعليق الامر بالسعي ، فانه امر بمقدماتها على ابلغ وجه ، واذا وجب السعي اليها وجبت هي ايضا بطريق الاولى ، ولا معنى لايجاب السعي اليها مع عدم ايجابها ، كما هو ظاهر
(1) انتهى كلامه .
اقول : وبالله التوفيق
(2) ( اذا ) الشرطية ليست بناصة في العموم لغة ، لكونها من سور المهملة ، ودعواهم ان المستعملة في الآيات الاحكامية تكون بمعنى
( متى ) و
( كلما ) فتفيد العموم عرفاً ، نحو
( اذا قمتم الى الصلاة فاغسلوا وجوهكم ) (3) ( فاذا قرأت القرآن فاستعذ ) (4) ( واذا حييتم بتحية فحيوا ) (5) غير مسلمة .
وعموم الاوقات في الايات ليس لدلالتها عليه ، بل للاجماع والاخبار .
والمراد بالنداء الاذان ، يعني : اذا اذن في يوم الجمعة للصلاة . واللام فيها للعهد ، والمعهود صلاة الظهر المذكورة في قوله
( واقم الصلاة لدلوك الشمس ) (6) وامثالها .
وهي ـ اي : الظهر ـ اول صلاة صلاها رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ وهي الصلاة الوسطى التي خصها الله من بين الصلوات اليومية بالامر بالمحافظة
--------------------
(1) الشهاب الثاقب : 15 ـ 16 .
(2) الغرض من هذا التفصيل الايماء الى كيفية الاستدلال بالآية ، وطريقة الاستنباط منها ، وفيه تعريض على المستدل ، فان المراد بكون آية مثلاً دليلا على حكم ، انه يستنبط من منطوقها او مفهومها ذلك الحكم ، ويستدل بها عليه بعد العلم بضوابط الاستدلال من غير ان يستعان فيه بقول زيد وعمرو ( منه ) .
(3) المائدة : 6 .
(4) النحل : 98 .
(5) النساء : 86 .
(6) الاسراء : 78 .
الدُّرَرُ المُلتَقَطَةُ في تفسير الآيات القرآنية
_249 _
عليها ، بعد الامر بالمحافظة على الجميع ، كما دلت عليه الاخبار وصرحت به الاخيار .
وذلك لان اللام منها لا يحتمل ان يكون للجنس ولا للاستغراق ، وهو ظاهر ، ولا للعهد الذهني ؛ لانه موضوع للحقيقة المتجددة في الذهن ، وارادة الفرد المنتشر منه محتاجة الى القرينة ، وليست فليست ، مع انه غير مستلزم للمطلوب ، فتعين كونه للعهد الخارجي ، ولا عهد في موضع من القرآن بصلاة الجمعة .
فان قلت : العهد الخارجي على ثلاثة اقسام : الذكري ، وهو الذي تقدم لمصحوبه ذكر ، نحو
( انا ارسلنا الى فرعون رسولاً فعصى فرعون الرسول ) (1) والعلمي ، وهو الذي تقدم لمدخوله علم ، نحو
( بالواد المقدس طوى ) (2) ( اذ يبايعونك تحت الشجرة ) (3) لان ذلك كان معلوما عندهم . والحضوري ، نحو
( اليوم اكملت لكم دينكم ) (4) فيجوز ان يكون المراد هنا الثاني ، اذ لا مانع له دون الاول .
قلت : هذا مع انه خارج عن موضع استدلالهم انما يصح ان لو ثبت بطريق صحيح ان نزول الآية انما كان بعد علمهم بوجوب صلاة الجمعة ، واشتهارها وشيوعها فيما بينهم ، ودون ثبوتها خرط القتاد .
وكيف لا ؟ وهم انما يثبتون اصل وجوبها بالآية ، فكيف يصح هذا الاحتمال والحال هذه ؟ بل صرح بعض مثبتي وجوبها بأنها ما كانت معهودة ولا مشروعة قبل نزولها .
هذا و
( من ) : اما للابتداء ، وعلامته صحة ايراد
( الى ) او ما يفيد معناه في
--------------------
(1) المزمل : 16 .
(2) طه : 12 .
(3) الفتح : 18 .
(4) المائدة : 3 .
الدُّرَرُ المُلتَقَطَةُ في تفسير الآيات القرآنية
_ 250_
مقابلتها ، اي : اذا نودي ناشئاً من مؤذني يوم الجمعة الى الصلاة ، فعليكم السعي الى ذكر الله ، فاللام هنا مفيدة لمعنى الانتهاء ، كالباء في قولنا
( اعوذ بالله من الشيطان الرجيم ) .
واما بمعنى
( في ) كما اومأنا اليه ، فانه في الظروف كثيراً ما يقع بمعناه ،
( من بيننا وبينكم حجاب ) (1) وكنت من قدامكم ، ولعله من اظهر الوجوه ، فان المراد بالنداء هنا ما يقع في وسط الجمعة وعرضه ، لا ما يقع في اوله وابتدائه ، تأمل فيه .
واما للتعليل ، مثله
( ما خطيئاتهم اغرقوا فادخلوا ناراً ) (2) ويحرم من الرضاع ما يحرم من النسب
(3) .
واما للتبيين ، وهو اظهار المقصود من امر مبهم ، فهو هنا بيان لـ
( اذا ) لان قولك وقت نداء الصلاة
( وجب عليكم السعي اليها ) مبهم ، فاذا قلت : الذي هو يوم الجمعة ، ظهر المقصود ورفع الابهام .
واما للتبعيض ، ومعناه : اذا نودي بعض يوم الجمعة .
واما زائدة على القول بجوازها في الآيات .
وفي الآية صنوف التأكيد وضروب الحث والمبالغة في طلب الخير والاستباقة اليه ، حيث عبر عن الذهاب الى ذكر الله بالسعي المفيد للاسراع في المشي والمبالغة فيه ، ثم امر بترك البيع .
ثم قال : السعي والترك انفع لكم عاقبة ان كنتم من اهل العلم ، وهو مشعر بأن من لم يفعلهما فهو ليس من اهله ، بل هو ممن لم يميز بين الخير والشر والصلاح والفساد ، ولم يفرق بين الضار والنافع .
--------------------
(1) فصلت : 5 .
(2) نوح : 25 .
(3) عوالي اللآلي : 1 / 44 ح 55 .