الكتاب المكنون إلا ّالمطهرون ، وربما يوَيد هذا الوجه بأنّ الآية سيقت تنزيهاً للقرآن من أن ينزل به الشياطين ، وانّ محله لا يصل إليه ، فلا يمسه إلاّالمطهرون ، فيستحيل على أخابث خلق اللّه وأنجسهم أن يصلوا إليه أو يمسّوه ، قال تعالى :
( وَما تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّياطين * وَما يَنْبَغي لَهُمْ وَما يَسْتَطيعُون ) (1) .
د :
( تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمين ) وهذا هو الذي يركز عليه القرآن في مواقف مختلفة ، وانّه كتاب اللّه وليس من صنع البشر.
وأمّا الصلة بين القسم والمقسم به : فهو واضح ، فلاَنّ النجوم بمواقعها أي طلوعها وغروبها يهتدي بها البشر في ظلمات البر والبحر ، والقرآن الكريم كذلك يهتدي به الاِنسان في ظلمات الجهل والغي ، فالنجوم مصابيح حسّية في عالم المادة كما أنّ آيات القرآن مصابيح معنوية في عالم المجردات.
إكمال إنّه سبحانه قال :
( فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُوم ) فالمراد منه القسم بلا شك ، بشهادة انّه قال بعده :
( وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظيم ) فلو كان معنى الآية هو نفي القسم فلا يناسب مابعده حيث يصفه بأنّه حلف عظيم ، وقد اختلف المفسرون في هذه الآيات ونظائرها ، إلى أقوال :
1 ـ (لا) زائدة ، مثلها قوله سبحانه :
( لئلاّ يَعْلَم ) .
2 ـ أصلها لاَقسم بلام التأكيد ، فلمّا أشبعت فتحتها صارت (لا ) كما في الوقف.
3 ـ لا نافية بمعنى نفي المعنى الموجود في ذهن المخاطب ، ثمّ الابتداء
--------------------
(1) الشعراء : 210 ـ 211.
الأقسام في القرآن
_ 82 _
بالقسم ، كما نقول : لا واللّه لا صحة لقول الكفار ، أقسم عليه.
ثمّ إنّه سبحانه يصف هذا القسم بكونه عظيماً ، كما في قوله (و انّه لقسم لو تعلمون عظيم) ، فقوله : (عظيم) وصف (ا لقسم) أُخر لحفظ فواصل الآيات.
وهذا القسم هو القسم الوحيد الذي وصفه سبحانه بأنّه عظيم ، فالحديث هنا هو حديث على الاَبعاد ، أبعاد النجوم عنّا ، وعن بعضها البعض ، في مجرّتنا ، وفي كل المجرّات ، ولاَنّها كلّها تتحرك ، فانّ الحديث عن مواقعها يصير أيضاً حديثاً على مداراتها ، وحركاتها الاَُخرى العديدة ، وسرعاتها ، وعلى علاقاتها بالنجوم الاَُخرى ، وعلى القوى العظيمة والحسابات المعقدة ، التي وضعت كلّ نجم في موقعه الخاص به وحفظته ، في علاقات متوازنة ، دقيقة ، محكمة ، فهي لا يعتريها الاضطراب ، ولا تتغير سننها وقوانينها ، وهي لا تسير خبط عشواء أو في مسارات متقاطعة أو متعارضة بل هي تسير كلّها بتساوق وتناغم وانسجام وانتظام تامّين دائمين ، آيات على قدرة القادر سبحانه
(1).
يقول الفلكيون : إنّ من هذه النجوم والكواكب التي تزيد على عدة بلايين نجم ، ما يمكن روَيته بالعين المجردة ، وما لا يرى إلاّ بالمجاهر والاَجهزة ، وما يمكن أن تحس به الاَجهزة دون أن تراه ، هذه كلّها تسبح في الفلك الغامض ، ولا يوجد أيّاحتمال أن يقترب مجال مغناطيسي لنجم من مجال نجم آخر ، أو يصطدم كوكب بآخر إلاّ كما يحتمل تصادم مركب في البحر الاَبيض المتوسط بآخر في المحيط الهادي يسيران في اتجاه واحد وبسرعة واحدة ، وهو احتمال بعيد وبعيداً جداً ، إن لم يكن مستحيلاً
(2).
--------------------
(1) أسرار الكون في القرآن : 192.
(2) اللّه والعلم الحديث : 24.
الأقسام في القرآن
_ 83 _
الفصل الثامن : القسم بالسماء ذات الحبك
حلف سبحانه في سورة الذاريات بأُمور خمسة ، وجعل للاَربعة الاَُوَل جواباً خاصّاً ، كما جعل للخامس من الاَقسام جواباً آخر ، وبما انّالمقسم عليه متعدّد فصّلنا القسم الخامس عن الاَقسام الاَربعة ، وعقدنا له فصلاً في ضمن فصول القسم المفرد ، قال سبحانه : ( وَالذّارياتِ ذَرْواً * فَالحامِلاتِ وِقْراً * فَالجارِياتِ يُسْراً * فالمُقَسِّماتِ أَمراً * إِنّما تُوعَدُونَ لَصادِق * وإنّ الدِّينَ لَواقِع ) (1) .
ترى أنّه ذكر للاَقسام الاَربعة جواباً خاصاً ، أعني قوله : ( إِنّما تُوعدون لَصادق * وانّ الدين لواقع ) .
ثمّ شرع بحلف آخر ، وقال : ( وَالسَّماءِ ذات الحُبُكِ *إِنَّكُم لَفِي قَولٍ مُختَلِف ) (2).
فهناك قسم خامس وهو ( وَالسَّماءِ ذات الحُبُكِ ) وله جواب خاص لا يمت بجواب الاَقسام الاَربعة وهو قوله : ( إِنَّكُم لَفِي قَولٍ مُختَلِف ) .
--------------------
(1) الذاريات : 1 ـ 6.
(2) الذاريات : 7 ـ 8.
الأقسام في القرآن
_ 84 _
تفسير الآيات
الحبك جمع الحباك ، كالكتب جمع كتاب ، تستعمل تارة في الطرائق ، كالطرائق التي ترى في السماء ، وأُخرى في الشعر المجعد ، وثالثة في حسن أثر الصنعة في الشيء واستوائه.
قال الراغب : ( وَالسَّماءِ ذات الحُبُكِ ) أي ذات الطرائق ، فمن الناس من تصور منها الطرائق المحسوسة بالنجوم والمجرة.
ولعلّ المراد منه هو المعنى الاَوّل أي السماء ذات الطرائق المختلفة ، ويوَيده جواب القسم ، وهو اختلاف الناس وتشتت طرائقهم ، كما في قوله : ( إِنَّكُم لَفِي قَولٍ مُختَلِف ) ، و ربما يحتمل أنّ المراد هو المعنى الثالث أي أقسم بالسماء ذات الحسن والزينة ، نظير قوله تعالى : ( إِنّا زَيَّنا السَّماءَ الدُّنيا بزِينةٍ الكَواكِب ) (1)
ولكنه لا يناسبه الجواب ، إذ لا يصحّ أن يحلف حالف بالاَمواج الجميلة التي ترتسم بالسحب أو بالمجرّات العظيمة التي تبدو كأنّها تجاعيد الشعر على صفحة السماء ، ثمّ يقول : ( إِنَّكُم لَفِي قَولٍ مُختَلِف ) ، أي إنّكم متناقضون في الكلام.
وعلى كلّ حال فالمقسم عليه هو التركيز على أنّهم متناقضون في الكلام ، فتارة ينسبون عقائدهم إلى آبائهم وأسلافهم فينكرون المعاد ، وأُخرى يستبعدون إحياء الموتى بعد صيرورتها عظاماً رميمة ، وثالثة يرفضون القرآن والدعوة النبوية ويصفونه بأنّه قول شاعر ، أو ساحر ، أو مجنون ، أو مما علّمه بشر ، أو هي من أساطير الاَوّلين.
وهذا الاختلاف دليل على بطلان ادّعائكم إذ لا تعتمدون على دليل خاص ،
--------------------
(1) الصافات : 6.
الأقسام في القرآن
_ 85 _
فانّ تناقض المدعي في كلامه أقوى دليل على بطلانه ونفاقه.
ثمّ إنّه سبحانه يقول : إنّ الاِعراض عن الاِيمان بالمعاد ليس أمراً مختصاً بشخص أو بطائفة ، بل هو شيمة كل مخالف للحق ، يقول : ( يُوَْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِك ) (1).
والافك : الصرف ، والضمير في (عنه) يرجع إلى الكتاب من حيث اشتماله على وعد البأس والجزاء أي يصرف عن القرآن من صرف وخالف الحق.
وأمّا الصلة بين المقسم به والمقسم عليه : فقد ظهر مما ذكرنا ، لما عرفت من أنّمعنى الحبك هو الطرائق المختلفة المتنوعة ، فناسب أن يحلف به سبحانه على اختلافهم وتشتت آرائهم في إنكارهم نبوّة النبي ورسالته والكتاب الذي أنزل معه والمعاد الذي يدعو إليه.
--------------------
(1) الذاريات : 9.
الأقسام في القرآن
_ 86 _