فلو أنه سبحانه أجبر عباده على الطاعات أو المعاصي لم يكن جزا المطيع بالجنة والعاصي بالنار الا جزافا في مورد المطيع ، وظلما في مورد العاصي ، والجزاف والظلم قبيحان عند العقلاء ولزم الترجيح من غير مرجح وهو قبيح عندهم ايضا ولا حجة في قبيح وقد قال تعالى : ( لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ ) النساء ـ 165 ، وقال تعالى : ( لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَن بَيِّنَةٍ ) الانفال ـ 42 ، فقد اتضح بالبيان السابق أمور :
  أحدهما : أن التشريع ليس مبنيا على أساس الاجبار في الافعال ، فالتكاليف مجعولة على وفق مصالح العباد في معاشهم ومعادهم أولا ، وهي متوجهة إلى العباد من حيث أنهم مختارون في الفعل والترك ثانيا ، والمكلفون انما يثابون أو يعاقبون بما كسبت أيديهم من خير أو شر اختيارا.
  ثانيها : أن ما ينسبه القرآن إليه تعالى من الاضلال والخدعة والمكر والامداد في الطغيان وتسليط الشيطان وتوليته على الانسان وتقييض القرين ونظائر ذلك جميعها منسوبة إليه تعالى على ما يلائم ساحة قدسه ونزاهته تعالى عن ألواث النقص والقبح والمنكر ، فإن جميع هذه المعاني راجعة بالآخرة إلى الاضلال وشعبه وأنواعه ، وليس كل إضلال حتى الاضلال البدوي وعلى سبيل الاغفال بمنسوب إليه ولا لائق بجنابه ، بل الثابت له الاضلال مجازاة وخذلانا لمن يستقبل بسوء إختياره ذلك كما قال تعالى : ( يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الْفَاسِقِينَ ) الاية البقرة ـ 26 ، وقال : ( فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ ) الصف ـ 5 ، وقال تعالى : ( كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُّرْتَابٌ ) المؤمن ـ 34.
  ثالثها : أن القضاء غير متعلق بأفعال العباد من حيث أنها منسوبة إلى الفاعلين بالانتساب الفعلي دون الانتساب الوجودي وسيجئ لهذا القول زيادة توضيح في التذييل الآتي وفي الكلام على القضاء والقدر إن شاء الله تعالى.
  رابعها : أن التشريع كما لا يلائم الجبر كذلك لا يلائم التفويض ، إذ لا معنى للامر والنهي المولويين فيما لا يملك المولى منه شيئا ، مضافا إلى أن التفويض لا يتم الا مع سلب اطلاق الملك منه تعالى عن بعض ما في ملكه.

الميزان في تفسير القران (الجزء الاول) _ 97 _

  ( بحث روائي )
  إستفاضت الروايات عن أئمة أهل البيت ( عليه السلام ) أنهم قالوا : ( لا جبر ولا تفويض بل أمر بين أمرين الحديث ).
  وفي العيون بعدة طرق لما إنصرف أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) من صفين قام إليه شيخ ممن شهد الواقعة معه فقال يا أمير المؤمنين أخبرنا من مسيرنا هذا أبقضاء من الله وقدر ، فقال له أمير المؤمنين ( أجل يا شيخ فو الله ما علوتم تلعة ولا هبطتم بطن واد الا بقضاء من الله وقدر ) ، فقال الشيخ عند الله احتسب عنائي يا أمير المؤمنين فقال : ( مهلا يا شيخ لعلك تظن قضاء حتما وقدرا لازما ، لو كان كذلك لبطل الثواب والعقاب والامر والنهي والزجر ، ولسقط معنى الوعد والوعيد ، ولم تكن على مسئ لائمة ولا لمحسن محمدة ، ولكان المحسن أولى باللائمة من المذنب والمذنب أولى بالاحسان من المحسن ، تلك مقالة عبدة الاوثان وخصماء الرحمن وقدرية هذه الامة ومجوسها ، يا شيخ إن الله كلف تخييرا ونهى تحذيرا ، وأعطى على القليل كثيرا ولم يعص مغلوبا ، ولم يطع مكروها ولم يخلق السموات والارض وما بينهما باطلا ، ذلك ظن الذين كفروا فويل للذين كفروا من النار الحديث ).
  أقول : قوله : بقضاء من الله وقدر إلى قوله : عند الله أحتسب عنائي ، ليعلم أن من أقدم المباحث التي وقعت في الاسلام موردا للنقض والابرام ، وتشاغبت فيه الانظار مسألة الكلام ومسألة القضاء والقدر وإذ صوروا معنى القضاء والقدر وإستنتجوا نتيجتة فإذا هي أن الارادة الالهية الازلية تعلقت بكل شئ من العالم فلا شئ من العالم موجودا على وصف الامكان ، بل إن كان موجودا فبالضرورة ، لتعلق الارادة بها واستحالة تخلف مرادة تعالى عن إرادتة ، وان كان معدوما فبالامتناع لعدم تعلق الارادة بها وإلا لكانت موجودة ، وإذا اطردت هذه القاعدة في الموجودات وقع الاشكال في الافعال الاختيارية الصادرة منا فانا نرى في بادي النظر أن نسبة هذه الافعال وجودا وعدما الينا متساوية ، وإنما يتعين واحد من الجانبين بتعلق الارادة به

الميزان في تفسير القران (الجزء الاول) _ 98 _

  بعد إختيار ذلك الجانب فأفعالنا إختيارية ، والارادة مؤثرة في تحققه سبب في إيجاده ، ولكن ، فرض تعلق الارادة الالهية الازلية المستحيلة التخلف بالفعل يبطل إختيارية الفعل أولا ، وتأثير إرادتنا في وجود الفعل ثانيا وحينئذ لم يكن معنى للقدرة قبل الفعل على الفعل ، ولا معنى للتكليف لعدم القدرة قبل الفعل وخاصة في صورة الخلاف والتمرد فيكون تكليفا بما لا يطاق ، ولا معنى لاثابة المطيع بالجبر لانه جزاف قبيح ، ولا معنى لعقاب العاصي بالجبر لانه ظلم قبيح إلى غير ذلك من اللوازم ، وقد إلتزم الجميع هؤلاء الباحثون فقالوا القدرة غير موجودة قبل الفعل ، والحسن والقبح أمران غير واقعيين لا يلزم تقيد أفعاله تعالى بهما بل كل ما يفعله فهو حسن ولا يتصف فعله تعالى بالقبح ، فلا مانع هناك من الترجيح بلا مرجح ، ولا من الارادة الجزافية ، ولا من التكليف بما لا يطاق ، ولا من عقاب العاصي وإن لم يكن النقصان من قبله إلى غير ذلك من التوالي تعالى عن ذلك.
  وبالجملة كان القول بالقضاء والقدر في الصدر الاول مساوقا لارتفاع الحسن والقبح والجزاء بالاستحقاق ولذلك لما سمع الشيخ منه ( عليه السلام ) كون المسير بقضاء وقدر قال وهو في مقام التأثر واليأس : عند الله أحتسب عنائي أي إن مسيري وإرادتي فاقدة الجدوى من حيث تعلق الارادة الالهية بها فلم يبق لي إلا العناء والتعب من الفعل فأحتسبه عند ربي فهو الذي أتعبني بذلك فأجاب عنه الامام ( عليه السلام ) بقوله : لو كان كذلك لبطل الثواب والعقاب الخ ، وهو أخذ بالاصول العقلائية التي أساس التشريع مبني عليها واستدل في آخر كلامه ( عليه السلام ) بقوله : ولم يخلق السموات والارض وما بينهما باطلا الخ ، وذلك لان صحة الارادة الجزافية التي هي من لوازم ارتفاع الاختيار يوجب إمكان تحقق الفعل من غير غاية وغرض وهو يوجب امكان إرتفاع الغاية عن الخلقة والايجاد ، وهذا الامكان يساوق الوجوب ، فلا غاية على هذا التقدير للخلقة والايجاد ، وذلك خلق السموات والارض وما بينهما باطلا ، وفيه بطلان المعاد وفيه كل محذور ، وقوله ولم يعص مغلوبا ولم يطع مكروها كان المراد لم يعص والحال أن عاصيه مغلوب بالجبر ولم يطع والحال أن طوعه مكروه للمطيع.
  وفي التوحيد والعيون عن الرضا ( عليه السلام ) قال : ذكر عنده الجبر والتفويض فقال :

الميزان في تفسير القران (الجزء الاول) _ 99 _

  ألا أعلمكم في هذا أصلا لا تختلفون فيه ولا يخاصمكم عليه أحد إلا كسرتموه ؟ قلنا إن رأيت ذلك ، فقال إن الله عزوجل لم يطع بإكراه ، ولم يعص بغلبة ولم يهمل العباد في ملكة ، هو المالك لما ملكهم ، والقادر على ما أقدرهم عليه فان إئتمر العباد بطاعته لم يكن الله منها صادا ، ولا منها مانعا وان إئتمروا بمعصيته فشاء أن يحول بينهم وبين ذلك فعل ، وان لم يحل فعلوه فليس هو الذي أدخلهم فيه ثم قال ( عليه السلام ) من يضبط حدود هذا الكلام فقد خصم من خالفه.
  اقول : قد عرفت أن الذي ألزم المجبرة أن قالوا بما قالوا هو البحث في القضاء والقدر وإستنتاج الحتم واللزوم فيهما وهذا البحث صحيح وكذلك النتيجة أيضا نتيجة صحيحة غير أنهم اخطأوا في تطبيقها ، واشتبه عليهم أمر الحقائق والاعتباريات ، واختلط عليهم الوجوب والامكان ، توضيح ذلك أن القضاء والقدر على تقدير ثبوتهما ينتجان أن الاشياء في نظام الايجاد والخلقة على صفة الوجوب واللزوم فكل موجود من الموجودات وكل حال من أحوال الموجود مقدرة محدودة عند الله سبحانه ، معين له جميع ما هو معه من الوجود وأطواره واحواله لا يتخلف عنه ولا يختلف ، ومن الواضح أن الضرورة والوجوب من شؤون العلة فإن العلخ التامة هي التي إذا قيس إليها الشئ صار متصفا بصفة الوجوب وإذا قيس إلى غيرها أي شئ كان لم يصر إلا متصفا بالامكان ، فانبساط القدر والقضاء في العالم هو سريان العلية التامة والمعلولية في العالم بتمامه وجميعه ، وذلك لا ينافي سريان حكم القوة والامكان في العام من جهة أخرى وبنظر آخر فالفعل الاختياري الصادر عن الانسان بإرادته إذا فرض منسوبا إلى جميع ما يحتاج إليه في وجوده من علم وإرادة وأدوات صحيحة ومادة يتعلق بها الفعل وسائر الشرائط الزمانية والمكانية كان ضروري الوجود ، وهو الذي تعلقت به الارادة الالهية الازلية لكن كون الفعل ضروريا بالقياس إلى جميع أجزاء علته التامة ومن جهتها لا يوجب كونه ضروريا إذا قيس إلى بعض أجزاء علته التامة كما إذا قيس الفعل إلى الفاعل دون بقية أجزاء علته التامة فإنه لا يتجاوز حد الامكان ، ولا يبلغ البتة حد الوجوب فلا معنى لما زعموه أن عموم القضاء وتعلق الارادة الالهية بالفعل يوجب زوال القدرة وارتفاع الاختيار ، بل الارادة الالهية إنما تعلقت بالفعل بجميع شؤونه وخصوصيانه الوجودية ومنها إرتباطاته بعلله وشرائط وجوده ، وبعبارة أخرى تعلقت الارادة

الميزان في تفسير القران (الجزء الاول) _ 100 _

  الالهية بالفعل الصادر من زيد مثلا لا مطلقا بل من حيث أنه فعل إختياري صادر من فاعل كذا في زمان كذا ومكان كذا فإذن تأثير الارادة الالهية في الفعل يوجب كون لفعل إختياريا وإلا تخلف متعلق الارادة الالهية عنها فإذن تأثير الارادة الالهية في صيرورة الفعل ضروريا يوجب كون الفعل إختياريا أي كون الفعل ضروريا بالنسبة إلى الارادة الالهية ممكنا إختياريا بالنسبة إلى الرادة الانسانية الفاعلية ، فالارادة في طول الارادة وليست في عرضها حتى تتزاحما ، ويلزم من تأثير الارادة الالهية بطلان تأثير الارادة الانسانية فظهر أن ملاك خطأ المجبرة فيما أخطأوا فيه عدم تمييزهم كيفية تعلق الارادة الالهية بالفعل ، وعدم فرقهم بين الارادتين الطوليتين وبين الارادتين العرضيتين وحكمهم ببطلان تأثير إراد العبد في الفعل لتعلق إرادة الله تعالى به.
  والمعتزلة وإن خالفت المجبرة في إختيارية افعال العبد وسائر اللوازم إلا إنهم سلكوا في أثباته مسلكا لا يقصر من قول المجبرة فسادا ، وهو أنهم سلموا للمجبرة أن تعلق ارادة الله بالفعل يوجب بطلان الاختيار ، ومن جهة أخرى أصروا على اختيارية الافعال الاختيارية فنفوا بالاخرة تعلق الارادة الالهية بالافعال فلزمهم إثبات خالق آخر للافعال وهو الانسان ، كما أن خالق غيرها هو الله سبحانه فلزمهم محذور الثنوية ، ثم وقعوا في محاذير اخرى أشد مما وقعت فيه المجبرة ، كما قال ( عليه السلام ) : مساكين القدرية أرادوا أن يصفوا الله بعدله فأخرجوه من قدرته وسلطانه الحديث.
  فمثل هذا مثل المولى من الموالي العرفية يختار عبدا من عبيده ويزوجه إحدى فتياته ثم يقطع له قطيعة ويخصه بدار وأثاث وغير ذلك مما يحتاج إليه الانسان في حيوته إلى حين محدود وأجل مسمى ، فإن قلنا إن المولى وإن اعطى لعبده ما أعطى وملكه ما ملك فإنه لا يملك وأين العبد من الملك كان ذلك قول المجبرة ، وان قلنا أن للمولى باعطائه المال لعبده وتمليكه جعله مالكا وإنعزل هو عن المالكية وكان المالك هو العبد كان ذلك قول المعتزلة ، ولو جمعنا بين الملكين بحفظ المرتبتين وقلنا : أن المولى مقامه في المولوية وللعبد مقامه في الرقية وإن العبد إنما يملك في ملك المولى ، فالمولى مالك في عين أن العبد مالك فهنا ملك على ملك كان ذلك القول الحق الذى رآه أئمة أهل البيت ( عليه السلام ) ، وقام عليه البرهان هذا

الميزان في تفسير القران (الجزء الاول) _ 101 _
  وفي الاحتجاج فيما سأله عباية بن ربعي الاسدي عن أمير المؤمنين على ( عليه السلام ) في معنى الاستطاعة ، فقال أمير المؤمنين ( عليه السلام ) : تملكها من دون الله أو مع الله ؟ فسكت عباية بن ربعي فقال له قل يا عباية ، قال : وما أقول يا امير المؤمنين ؟ قال : تقول تملكها بالله الذي يملكها من دونك فإن ملككها كان ذلك من عطائه وإن سلبكها كان ذلك من بلائه وهو المالك لما ملكك والقادر على ما عليه أقدرك الحديث.
  أقول : ومعنى الرواية واضح مما بيناه آنفا.
  وفي شرح العقائد للمفيد قال : وقد روى عن أبي الحسن الثالث ( عليه السلام ) إنه سئل عن أفعال العباد أهي مخلوقة لله تعالى ؟ فقال ( عليه السلام ) : لو كان خالقا لها لما تبرا منها وقد قال سبحانه : إن الله برئ من المشركين ولم يرد البراءة من خلق ذواتهم وإنما تبرا من شركهم وقبائحهم.
  اقول للافعال جهتان : جهة ثبوت ووجود ، وجهة الانتساب إلى الفاعل ، وهذه الجهة الثانية هي التي تتصف بها الافعال باأنها طاعة أو معصية أو حسنه أو سيئة فإن النكاح والزنا لا فرق بينهما من جهة الثبوت والتحقق ، وإنما الفرق الفارق هو أن النكاح موافق لامر الله تعالى ، والزنا فاقد للموافقة المذكورة ، وكذا قتل النفس بالنفس وقتل النفس بغير نفس ، وضرب اليتيم تأديبا وضربه ظلما ، فالمعاصي فاقدة لجهة من جهات الصلاح أو لموافقة الامر أو الغاية الاجتماعية بخلاف غيرها ، وقد قال تعالى : ( اللّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ ) الزمر ـ 62 ، والفعل شئ بثبوته ووجوده ، وقد قال ( عليه السلام ) : ( كل ما وقع عليه اسم شئ فهو مخلوق ما خلا الله الحديث ) ثم قال تعالى : ( الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ ) السجدة ـ 7 ، فتبين أن كل شئ كما أنه مخلوق فهو في أنه مخلوق حسن ، فالخلقة والحسن متلازمان متصاحبان لا ينفك أحدهما عن الآخر أصلا ، ثم إنه تعالى سمى بعض الافعال سيئة فقال : ( مَن جَاء بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَن جَاء بِالسَّيِّئَةِ فَلاَ يُجْزَى إِلاَّ مِثْلَهَا ) الانعام ـ 160 ، وهي المعاصي التي يفعلها الانسان بدليل المجازاة ، وعلمنا بذلك أنها من حيث أنها معاص عدمية غير مخلوقة وإلا كانت حسنة ، وقال تعالى : ( مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا ) الحديد ـ 22 ، وقال : ( مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ

الميزان في تفسير القران (الجزء الاول) _ 102 _
  إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَن يُؤْمِن بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ ) التغابن ـ 11 ، وقال : ( مَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ ) الشورى ـ 30 ، وقال : ( مَّا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ ) النساء ـ 79 ، وقال : ( وَإِن تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُواْ هَذِهِ مِنْ عِندِ اللّهِ وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُواْ هَذِهِ مِنْ عِندِكَ قُلْ كُلًّ مِّنْ عِندِ اللّهِ فَمَا لِهَؤُلاء الْقَوْمِ لاَ يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا ) النساء ـ 78 ، علمنا بذلك أن هذه المصائب إنما هي سيئات نسبية بمعنى أن الانسان المنعم بنعمة من نعم الله كالامن والسلامة والصحة والغنى يعد واجدا فإذا فقدها لنزول نازلة وإصابة مصيبة كانت النازلة بالنسبة إليه سيئة لانها مقارنة لفقد ما وعدم ما ، فكل نازلة فهى من الله وليست من هذه الجهة سيئة وإنما هي سيئة نسبية بالنسبة إلى الانسان وهو واجد ، فكل سيئة فهي أمر عدمي غير منسوب من هذه الجهة إلى الله سبحانه البتة وإن كانت من جهة أخرى منسوبة إليه تعالى بالاذن فيه ونحو ذلك.
  وفي قرب الاسناد عن البزنطي ، قال : قلت : للرضا ( عليه السلام ) إن أصحابنا بعضهم يقول : بالجبر ، وبعضهم بالاستطاعة فقال لي : ( أكتب ، قال الله تبارك وتعالى يا بن آدم بمشيتي كنت أنت الذي تشاء لنفسك ما تشاء وبقوتي أديت إلي فرائضي وبنعمتي قويت على معصيتي جعلتك سميعا بصيرا قويا ، ما أصابك من حسنة فمن الله ، وما أصابك من سيئة فمن نفسك ، وذلك اني أولى بحسناتك منك وأنت أولى بسيئاتك مني ، وذلك أني لا أسأل عما أفعل وهم يسألون ، فقد نظمت لك كل شئ تريد الحديث ) وهو أو ما يقربه مروي بطرق عامية وخاصية اخرى وبالجملة فالذي لا تنسب إلى الله سبحانه من الافعال هي المعاصي من جهة أنها معاص خاصة ، وبذلك يعلم معنى قوله ( عليه السلام ) في الرواية السابقة ، لو كان خالقا لها لما تبرأ منها إلى قوله وإنما تبرأ من شركهم وقبائحهم الحديث.
  وفي التوحيد : عن أبي جعفر وأبي عبد الله ( عليه السلام ) ( قالا : إن الله عزوجل أرحم بخلقه من أن يجبر خلقه على الذنوب ثم يعذبهم عليها ، والله أعز من أن يريد أمرا فلا يكون ) قال : فسئلا ( عليها السلام ) هل بين الجبر والقدر منزلة ثالثة ؟ قالا نعم أوسع مما بين السماء والارض

الميزان في تفسير القران (الجزء الاول) _ 103 _
  وفي التوحيد عن محمد بن عجلان ، قال : قلت لابي عبد الله ( عليه السلام ) فوض الله الامر إلى العباد ؟ قال : ( الله أكرم من أن يفوض إليهم ) قلت : فأجبر الله العباد على أفعالهم فقال : ( الله أعدل من أن يجبر عبدا على فعل ثم يعذبه عليه ).
  وفي التوحيد أيضا عن مهزم ، قال قال أبو عبد الله ( عليه السلام ) أخبرني عما اختلف فيه من خلفك من موالينا ، قال : قلت : في الجبر والتفويض ؟ قال : فاسألني قلت : أجبر الله العباد على المعاصي ؟ قال : ( الله أقهر لهم من ذلك ) قلت : ففوض إليهم ؟ قال الله أقدر عليهم من ذلك ، قال قلت فأي شئ هذا ، أصلحك الله ؟ قال : فقلب يده مرتين أو ثلاثا ثم قال : ( لو أجبتك فيه لكفرت ).
  اقول : قوله ( عليه السلام ) : الله أقهر لهم من ذلك ، معناه أن الجبر إنما هو لقهر من المجبر يبطل به مقاومة القوة الفاعلة ، وأقهر منه وأقوى أن يريد المريد وقوع الفعل الاختياري من فاعله من مجرى إختياره فيأتي به من غير أن يبطل إرادته وإختياره إو ينازع إرادة الفاعل إرادة الآمر.
  وفي التوحيد أيضا عن الصادق ( عليه السلام ) قال : قال : ( رسول الله : من زعم أن الله يأمر بالسوء والفحشاء فقد كذب على الله ، ومن زعم أن الخير والشر بغير مشية الله فقد أخرج الله من سلطانه )
  وفي الطرائف : روي أن الحجاج بن يوسف كتب إلى الحسن البصري وإلى عمرو بن عبيد وإلى واصل بن عطاء وإلى عامر الشعبي أن يذكروا ما عندهم وما وصل إليهم في القضاء والقدر ، فكتب إليه الحسن البصري أن احسن ما انتهى إلي ما سمعت أمير المؤمنين علي بن ابى طالب ( عليه السلام ) ، إنه قال : أتظن ان الذي نهاك دهاك ؟ وإنما دهاك أسفلك وأعلاك ، والله برئ من ذاك ) ، وكتب إليه عمرو بن عبيد أحسن ما سمعت في القضاء والقدر قول أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) ( لو كان الزور في الاصل محتوما لكان المزور في القصاص مظلوما ) ، وكتب إليه واصل بن عطاء أحسن ما سمعت في القضاء والقدر قول أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) ( أيدلك على الطريق ويأخذ عليك المضيق ؟ وكتب إليه الشعبي أحسن ما سمعت في القضاء والقدر

الميزان في تفسير القران (الجزء الاول) _ 104 _
  قول أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) ( كلما استغفرت الله منه فهو منك ، وكلما حمدت الله عليه فهو منه ) فلما وصلت كتبهم إلى الحجاج ووقف عليها قال : لقد أخذوها من عين صافية.
  وفي الطرائف أيضا روى أن رجلا سأل جعفر بن محمد الصادق ( عليه السلام ) عن القضاء والقدر فقال : ( ما أستطعت أن تلوم العبد عليه فهو منه ، وما لم تستطع أن تلوم العبد عليه فهو من فعل الله ) يقول الله للعبد : لم عصيت ، لم فسقت ، لم شربت الخمر ، لم زنيت ؟ فهذا فعل العبد ، ولا يقول له لم مرضت ، لم قصرت ، لم إبيضضت ، لم إسوددت ؟ لانه من فعل الله تعالى.
  وفي النهج سئل ( عليه السلام ) عن التوحيد والعدل فقال : ( التوحيد أن لا تتو همه ، والعدل أن لا تتهمه ).
  اقول : والاخبار فيما مر متكاثرة جدا غير أن الذي نقلناه حاو لمعاني ما تركناه ولئن تدبرت فيما تقدم من الاخبار وجدتها مشتملة على طرق خاصة عديدة من الاستدلال.
  منها : الاستدلال بنفس الامر والنهي والعقاب و الثواب وأمثالها على تحقق الاختيار من غير جبر ولا تفويض ، كما في الخبر المنقول عن امير المؤمنين علي ( عليه السلام ) فيما أجاب به الشيخ ، وهو قريب المأخذ مما استفدناه من كلامه تعالى.
  ومنها : الاستدلال بوقوع امور في القرآن لاتصدق لو صدق جبر أو تفويض ، كقوله تعالى : ( وَلِلّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ ) وقوله : ( وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ ) ، وقوله تعالى : ( قل ان الله لا يأمر بالفحشاء الآية ، ويمكن أن يناقش فيه بأن الفعل إنما هو فاحشة أو ظلم بالنسبة إلينا وأما إذا نسب إليه تعالى فلا يسمى فاحشة ولا ظلما فلا يقع منه تعالى فاحشة ولا ظلم ، ولكن صدر الآية بمدلولها الخاص يدفعها فإنه تعالى يقول : ( وَإِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً قَالُواْ وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءنَا وَاللّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللّهَ لاَ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاء ) الآية ، فالاشارة بقوله بهذا يوجب أن يكون النفي اللاحق متوجها إليه سواء سمي فحشاء أو لم يسم.

الميزان في تفسير القران (الجزء الاول) _ 105 _
  ومنها : الاستدلال من جهة الصفات وهو أن الله تسمى بأسماء حسنى وإتصف بصفات عليا لا تصدق ولا تصح ثبوتها على تقدير جبر أو تفويض فانه تعالى قهار قادر كريم رحيم ، وهذه صفات لا تستقر معانيها إلا عند ما يكون وجود كل شئ منه تعالى ونقص كل شئ وفساده غير راجع إلى ساحة قدسه كما في الروايات التي نقلناها عن التوحيد.
  ومنها : الاستدلال بمثل الاستغفار وعروض اللوم فان الذنب لو لم يكن من العبد لم يكن معنى لاستغفاره ولو كان الفعل كله من الله لم يكن فرق بين فعل وفعل في عروض اللوم على بعضها وعدم عروضه على بعض آخر.
  وهيهنا روايات أخر مروية فيما ينسب إليه سبحانه من معنى الاضلال والطبع والاغواء وغير ذلك.
  ففى العيون عن الرضا ( عليه السلام ) في قوله تعالى : ( وتركهم في ظلمات لا يبصرون ) قال ( عليه السلام ) ( إن الله لا يوصف بالترك كما يوصف خلقه لكنه متى علم إنهم لا يرجعون عن الكفر والضلال منعهم المعاونة و اللطف وخلى بينهم وبين اختيارهم ).
  وفي العيون ايضا عنه ( عليه السلام ) في قوله تعالى : ختم الله على قلوبهم ، قال : الختم هو الطبع على قلوب الكفار عقوبة على كفرهم ، كما قال الله تعالى : بل طبع الله عليها بكفرهم فلا يؤمنون إلا قليلا.
  وفي المجمع عن الصادق ( عليه السلام ) في قوله تعالى : إن الله لا يستحي الآية ، هذا القول من الله رد على من زعم إن الله تبارك وتعالى يضل العباد ثم يعذبهم على ضلالتهم الحديث ، أقول : قد مر بيان معناها.
  ( بحث فلسفي )
  لا ريب ان الامور التي نسميها أنواعا في الخارج هي التي تفعل الافاعيل النوعية ، وهي موضوعاتها ، فإنا انما أثبتنا وجود هذه الانواع ونوعيتها الممتازة عن غيرها

الميزان في تفسير القران (الجزء الاول) _ 106 _
  من طريق الآثار والافاعيل ، بأن شاهدنا من طرق الحواس أفاعيل متنوعة وآثارا مختلفة من غير أن تنال الحواس في إحساسها امرا وراء الآثار العرضية ، ثم أثبتنا من طريق القياس والبرهان علة فاعلة لها وموضوعا يقومها ثم حكمنا باختلاف هذه الموضوعات أعني الانواع لاختلاف الآثار والافاعيل المشهودة لنا ، فالاختلاف المشهود في آثار الانسان وساير الانواع الحيوانية مثلا هو الموجب للحكم بأن هناك انواعا مختلفة تسمى بكذا وكذا ولها آثار وأفاعيل كذا وكذا ، وكذا ، الاختلافات بين الاعراض والافاعيل إنما نثبتها ونحكم بها من ناحية موضوعاتها أو خواصها.
  وكيف كان فالافاعيل بالنسبة إلى موضوعاتها تنقسم بانقسام أولى إلى قسمين : الاول : الفعل الصادر عن الطبيعة من غير دخل للعلم في صدوره كأفعال النشوء والنمو والتغذي للنبات والحركات للاجسام ، ومن هذا القبيل الصحة والمرض وأمثال ذلك فإنها وأن كانت معلومة لنا وقائمة بنا الا أن تعلق العلم بها لا يؤثر في وجودها وصدورها شيئا وانما هي مستندة تمام الاستناد إلى فاعلها الطبيعي ، والثاني : الفعل الصادر عن الفاعل من حيث أنه معلوم تعلق به العلم كما في الافعال الارادية للانسان وساير ذوات الشعور من الحيوان ، فهذا القسم من الفعل انما يفعله فاعله من حيث تعلق العلم به وتشخيصه وتمييزه ، فالعلم فيه انما يفيد تعيينه وتمييزه من غيره ، وهذا التمييز والتعيين انما يتحقق من جهة انطباق مفهوم يكون كمالا للفاعل انطباقا بواسطة العلم ، فإن الفاعل أي فاعل كان إنما يفعل من الفعل ما يكون مقتضى كماله وتمام وجوده فالفعل الصادر عن العلم إنما يحتاج إلى العلم من جهة أن يتميز عند الفاعل ما هو كمال له عن ما ليس بكمال له.
  ومن هنا ما نرى أن الافعال الصادرة عن الملكات كصدور أصوات الحروف منظمة عن الانسان المتكلم ، وكذا الافعال الصادرة عنها مع اقتضاء ما ومداخلة من الطبيعة كصدور التنفس عن الانسان ، وكذا الافعال الصادرة عن الانسان بغلبة الحزن أو الخوف أو غير ذلك كل ذلك لا يحتاج إلى ترو من الفاعل ، إذ ليس هناك إلا صورة علمية واحدة منطبقة على الفعل والفاعل لاحالة منتظرة لفعلة ، فيفعل البتة ، واما الافعال التي لها صور علمية متعددة تكون هي من جهة بعضها مصداق

الميزان في تفسير القران (الجزء الاول) _ 107 _
  كمال الانسان حقيقة أو تخيلا ، ومن جهة بعضها غير مصداق لكماله الحقيقي أو التخيلي كما أن الخبز بالنسبة إلى زيد الجائع كذلك فإنه مشبع رافع لجوعه ويمكن أن يكون مال الغير ويمكن أن يكون مسموما ويمكن ان يكون قذرا يتنفر عنه الطبع ، وهكذا والانسان انما يتروى فيما يتروى لترجيح أحد هذه العناوين في انطباقه على الخبز مثلا ، فإذا تعين أحد العناوين وسقطت بقيتها وصار مصداقا كمال الفاعل لم يلبث الفاعل في فعله أصلا ، والقسم الاول : نسميه فعلا إضطراريا كالتأثيرات الطبيعية. والقسم الثاني : نسميه فعلا إراديا كالمشي والتكلم.
  والفعل الارادي : الصادر عن علم وارادة ينقسم ثانيا إلى قسمين : فإن ترجيح احد جانبي الفعل والترك إما مستند إلى نفس الفاعل من غير أن يتأثر عن آخر كالجائع الذي يتروى في أكل خبز موجود عنده حتى رجح أن يبقيه ولا يأكله لانه كان مال الغير من غير إذن منه في التصرف فانتخب الحفظ واختاره أو رجح الاكل فأكله إختيارا ، وإما أن يكون الترجيح والتعيين مستندا إلى تأثير الغير كمن يجبره جبار على فعل بتهديده بقتل أو نحوه ففعله إجبارا من غير أن يكون متعينا بانتخابه واختياره والقسم الاول، يسمى فعلا اختياريا ، والثاني فعلا اجباريا هذا ، وانت تجد بجودة التأمل أن الفعل الاجباري وإن أسندناه إلى إجبار المجبر وأنه هو الذي يجعل أحد الطرفين محالا وممتنعا بواسطة الاجبار فلا يبقى للفاعل إلا طرف واحد ، لكن الفعل الاجباري أيضا كالاختياري لا يقع إلا بعد ترجيح الفاعل المجبور جانب الفعل على الترك وإن كان الذي يجبره هو المتسبب إلى الفعل بوجه ، لكن الفعل ما لم يترجح بنظر الفاعل وإن كان نظره مستندا بوجه إلى اجبار المجبر وتهديده لم يقع ، والوجدان الصحيح شاهد على ذلك ، ومن هنا يظهر أن تقسيم الافعال الارادية إلى إختيارية وجبرية ليس تقسيما حقيقيا ينوع المقسم إلى نوعين مختلفين بحسب الذات والآثار ، فإن الفعل الارادي انما يحتاج إلى تعيين وترجيح علمي يعين للفاعل مجرى فعله ، وهو في الفعل الاختياري والجبري على حد سواء ، وأما أن ترجيح الفاعل في أحدهما مستند إلى رسله وفي آخر إلى آخر فلا يوجب إختلافا نوعيا يؤدي إلى اختلاف الآثار ، ألا ترى أن المستظل تحت حائط إذا شاهد أن الحائط يريد أن ينقض ، فخرج خائفا عد فعله هذا إختياريا ؟ وأما إذا هدده جبار بأنه لو لم يقم لهدم الحائط عليه ، فخرج خائفا عد فعله هذا اجباريا من غير فرق

الميزان في تفسير القران (الجزء الاول) _ 108 _
  بين الفعلين والترجيحين أصلا غير أن أحد الترجيحين مستند إلى ارادة الجبار.
  فان قلت : كفى فرقا بين الفعلين أن الفعل الاختياري يوافق في صدوره مصلحة عند الفاعل وهو فعل يترتب عليه المدح والذم ويتبعه الثواب والعقاب إلى غير ذلك من الآثار ، وهذا بخلاف الفعل الاجباري فانه لا يترتب عليه شئ من ذلك.
  قلت : الامر على ما ذكر ، غير أن هذه الآثار انما هي بحسب اعتبار العقلاء على ما يوافق الكمال الاخير الاجتماعي ، فهي آثار اعتبارية غير حقيقية ، فليس البحث عن الجبر والاختيار بحثا فلسفيا لان البحث الفلسفي انما ينال الموجودات الخارجية وآثارها العينية ، وأما الامور المنتهية إلى أنحاء الاعتبارات العقلائية ، فلا ينالها بحث فلسفي ولا يشملها برهان البتة ، وان كانت معتبرة في بابها ، مؤثرة أثرها ، فالواجب ، أن نرد البحث المزبور من طريق آخر ، فنقول : لا شك أن كل ممكن حادث مفتقر إلى علة ، والحكم ثابت من طريق البرهان ، ولا شك ايضا أن الشئ ما لم يجب لم يوجد إذ الشئ ما لم يتعين طرف وجوده بمعين كانسبته إلى الوجود والعدم بالسوية ، ولو وجد الشئ وهو كذلك لم يكن مفتقرا إلى علة وهف ، فإذا فرض وجود الشئ كان متصفا بالضرورة ما دام موجودا ، وهذه الضرورة انما إكتسبها من ناحية العلة ، فإذا أخذنا دار الوجود بأجمعها كانت كسلسلة مؤلفة من حلقات مترتبة متوالية كلها واجبة الوجود ، ولا موقع لامر ممكن الوجود في هذه السلسلة.
  ثم نقول : هذه النسبة الوجوبية انما تنشأ عن نسبة المعلول إلى علتها التامة البسيطة أو المركبة من امور كثيرة كالعلل الاربع والشرائط والمعدات وأما إذا نسب المعلول المذكور إلى بعض أجزاء العلة أو إلى شئ آخر لو فرض كانت النسبة نسبة الامكان بالضرورة ، بداهة أنه لو كانت بالضرورة كانت العلة التامة وجودها مستغنى عنه وهي علة تامة هف ، ففي عالمنا الطبيعي نظامان : نظام الضرورة ونظام الامكان ، فنظام الضرورة منبسط على العلل التامة ومعلولاتها ولا يوجد بين أجزاء هذا النظام أمر إمكاني البتة لا ذات ولا فعل ذات ونظام الامكان منبسط على المادة والصور التي في قوة المادة التلبس بها والآثار التي يمكنها أن تقبلها ، فإذا فرضت فعلا من أفعال الانسان الاختيارية ونسبتها إلى تمام علتها ، وهي الانسان والعلم والارادة

الميزان في تفسير القران (الجزء الاول) _ 109 _
  ووجود المادة القابلة وتحقق الشرائط المكانية والزمانية وإرتفاع الموانع ، وبالجملة كل ما يحتاج إليه الفعل في وجوده كان الفعل واجبا ضروريا ، وإذا نسب إلى الانسان فقط ، ومن المعلوم أنه جزء من أجزاء العلة التامة كانت النسبة بالامكان.
  ثم نقول : سبب الاحتياج والفقر إلى العلة كما بين في محله كون الوجود ( وهو مناط الجعل ) وجودا إمكانيا ، أي رابطا بحسب الحقيقة غير مستقل بنفسه ، فما لم ينته سلسلة الربط إلى مستقل بالذات لم ينقطع سلسلة الفقر والفاقة.
  ومن هنا يستنتج اولا : أن المعلول لا ينقطع بواسطة استناده إلى علته عن الاحتياج إلى العلة الواجبة التي إليها تنتهي سلسلة الامكان.
  وثانيا : ان هذا الاحتياج حيث كان من حيث الوجود كان الاحتياج في الوجود مع حفظ جميع خصوصياته الوجودية وارتباطاته بعلله وشرائطه الزمانية والمكانية إلى غير ذلك.
  فقد تبين بهذا أمران الأول : أن الانسان كما أنه مستند الوجود إلى الارادة الالهية على حد سائر الذوات الطبيعية وأفعالها الطبيعية فكذلك أفعال الانسان مستنده الوجود إلى الارادة الالهية على حد سائر الذوات الطبيعية وأفعالها الطبيعية فكذالك أفعال الانسان مستندة الوجود إلى الارادة الالهية ، فما ذكره المعتزلة من كون الافعال الانسانية غير مرتبطة الوجود بالله سبحانه وإنكار القدر ساقط من اصله ، وهذا الاستناد حيث أنه إستناد وجودي فالخصوصيات الوجودية الموجودة في المعلول دخيلة فيه ، فكل معلول مستند إلى علته بحده الوجودي الذي له ، فكما أن الفرد من الانسان إنما يستند إلى العلة الاولى بجميع حدوده الوجودية من أب وأم وزمان ومكان وشكل وكم وكيف وعوامل أخر مادية ، فكذلك فعل الانسان إنما يستند إلى العلة الاولى مأخوذا بجميع خصوصياته الوجودية ، فهذا الفعل إذا إنتسب إلى العلة الاولى والارادة الواجبة مثلا لا يخرجه ذلك عما هو عليه ولا يوجب بطلان الارادة الانسانية مثلا في التأثير ، فإن الارادة الواجبية إنما تعلقت بالفعل الصادر من الانسان عن إرادة وإختيار ، فلو كان هذا الفعل حين التحقق غير إرادي وغير إختياري لزم تخلف إرادته تعالى عن مراده وهو محال ، فما ذهب إليه المجبرة من الاشاعرة من أن تعلق الارادة الالهية بالافعال الارادية يوجب بطلان تأثير الارادة والاختيار فاسد جدا ، فالحق الحقيق بالتصديق

الميزان في تفسير القران (الجزء الاول) _ 110 _
  أن الافعال الانسانية لها نسبة إلى الفاعل ونسبة إلى الواجب ، وإحدى النسبتين لا توجب بطلان الاخرى لكونهما طوليتين لا عرضيتين.
  الثاني : أن الافعال كما أن لها إستنادا إلى عللها التامة ( وقد عرفت أن هذه النسبة ضرورية وجوبية كسائر الموجودات المنسوبة إلى عللها التامة بالوجوب ) كذلك لها إستنادا إلى بعض اجزاء عللها التامة كالانسان مثلا ، وقد عرفت أن هذه النسبة بالامكان فكون فعل من الافعال ضروري الوجود بملاحظة علته التامة الضرورية لا يوجب عدم كون هذا الفعل ممكنا بنظر آخر ، إذ النسبتان ثابتتان وهما غير متنافيتين كما مر فما ذكره جمع من الماديين من فلاسفة العصر الحاضر من شمول الجبر لنظام الطبيعة وإنكار الاختيار باطل جدا بل الحق أن الحوادث بالنسبة إلى عللها التامة واجبة الوجود بالنسبة إلى موادها وأجزاء عللها ممكنة الوجود ، وهذا هو الملاك في أعمال الانسان وأفعاله فبنائه في جميع مواقف عمله على أساس الرجاء والتربية والتعليم ونحو ذلك ، ولا معنى لابتناء الواجبات والضروريات على التربية والتعليم ، ولا الركون إلى الرجاء فيها وهو ظاهر.
  ( كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنتُمْ أَمْوَاتاً فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ) ـ 28 ، ( هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ) ـ 29.
  ( بيان )
  رجوع ثان إلى ما في بدء الكلام فإنه تعالى بعد ما بين في أول السورة ما بين أوضحة بنحو التلخيص بقوله : يا أيها الناس أعبدوا ربكم إلى بضع آيات ، ثم رجع

الميزان في تفسير القران (الجزء الاول) _ 111 _
  إليه ثانيا وأوضحه بنحو البسطو التفصيل بقوله : كيف تكفرون إلى إثنتي عشرة آية ، ببيان حقيقة الانسان وما أودعه الله تعالى فيه من ذخائر الكمال وما تسعه دائرة وجوده وما يقطعه هذا الموجود في مسير وجوده من منازل موت وحيوة ثم موت ثم حيوة ثم رجوع إلى الله سبحانه وإن إلى ربك المنتهي وفيه ذكر جمل ما خص الله تعالى به الانسان من مواهب التكوين والتشريع ، أنه كان ميتا فأحياة ثم لا يزال يميته ويحييه حتى يرجعه إليه ، وقد خلق له ما في الارض وسخر له السموات وجعله خليفته في الارض وأسجد له ملائكته وأسكن أباه الجنة وفتح له باب التوبة وأكرمه بعبادته وهدايته ، وهذا هو المناسب لسياق قوله : كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتا فأحياكم الخ ، فإن السياق سياق العتبى والامتنان.
  قوله تعالى : ( كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتا ) الآية قريبة السياق من قوله تعالى : ( قالوا ربنا أمتنا إثنتين وأحييتنا إثنتين فاعترفنا بذنوبنا فهل إلى خروج من سبيل ) المؤمن ـ 11 ، وهذه من الآيات التي يستدل بها على وجود البرزخ بين الدنيا والآخرة ، فإنها تشتمل على إماتتين ، فلو كان إحديهما الموت الناقل من الدنيا لم يكن بد في تصوير الاماتة الثانية من فرض حيوة بين الموتين وهو البرزخ ، وهو إستدلال تام اعتني به في بعض الروايات ايضا ، وربما ذكر بعض المنكرين للبرزخ أن الآيتين أعني قوله : كيف تكفرون الآية ، وقوله : قالوا ربنا الآية ، متحدتا السياق ، وقد اشتملتا على موتين وحيوتين ، فمدلولهما واحد ، والآية الاولى ظاهرة في أن الموت الاول هو حال الانسان قبل ولوج الروح في الحيوة الدنيا ، فالموت والحيوة الاوليان هما الموت قبل الحيوة الدنيا والحيوة الدنيا والموت والحيوة الثانيتان هما الموت عن الدنيا والحيوة يوم البعث ، والمراد بالمراتب في الآية الثانية هو ما في الآية الاولى ، فلا معنى لدلالتها على البرزخ ، وهو خطأ فان الآيتين مختلفتان سياقا إذا المأخوذ في الاية الاولى ، موت واحد وإماتة واحدة وإحيائان ، وفي الآية الثانية إماتتان وإحيائان ، ومن المعلوم أن الاماتة لا يتحقق لها مصداق من دون سابقة حيوة بخلاف الموت ، فالموت الاول في الآية الاولى غير الاماتة الاولى في الآية الثانية ، فلامح في قوله تعالى. أمتنا إثنتين وأحييتنا إثنتين ، الاماتة الاولى هي التي بعد الدنيا والاحياء الاول بعدها للبرزخ والاماتة والاحياء الثانيتان للاخرة يوم البعث ، وفي قوله تعالى : وكنتم أمواتا فأحياكم

الميزان في تفسير القران (الجزء الاول) _ 112 _
  إنما يريد الموت قبل الحيوة وهو موت وليس بإماتة والحيوة هي الحيوة الدنيا ، وفي قوله تعالى : ثم إليه ترجعون حيث فصل بين الاحياء والرجوع بلفظ ثم تأييد لما ذكرنا هذا.
  قوله تعالى : وكنتم أمواتا ، بيان حقيقة الانسان من حيث وجوده فهو وجود متحول متكامل يسير في مسير وجوده المتبدل المتغير تدريجا ويقطعه مرحلة مرحلة ، فقد كان الانسان قبل نشأته في الحيوة الدنيا ميتا ثم حيي بإحياء الله ثم يتحول بإماتة وإحياء وهكذا وقد قال سبحانه : ( وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنسَانِ مِن طِينٍ * ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِن سُلَالَةٍ مِّن مَّاء مَّهِينٍ * ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِن رُّوحِهِ ) السجدة ـ 9 ، وقال تعالى : ( ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ ) المؤمنون ـ 14 ، وقال تعالى : ( وَقَالُوا أَئِذَا ضَلَلْنَا فِي الْأَرْضِ أَئِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ بَلْ هُم بِلِقَاء رَبِّهِمْ كَافِرُونَ * قُلْ يَتَوَفَّاكُم مَّلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ) السجدة ـ 11 ، وقال تعالى : ( مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى ) طه ـ 55 ، والآيات كما ترى ( وسنزيدها توضيحا في محالها ) تدل على أن الانسان جزء من الارض غير مفارقها ولا مباين معها ، إنفصل منها ثم شرع في التطور بأطواره حتى بلغ مرحلة أنشئ فيها خلقا آخر ، فهو المتحول خلقا آخر والمتكامل بهذا الكمال الجديد الحديث ، ثم يأخذ ملك الموت هذا الانسان من البدن نوع أخذ يستوفيه ثم يرجع إلى الله سبحانه ، فهذا صراط وجود الانسان.
  ثم إن الانسان صاغه التقدير صوغا يرتبط به مع سائر الموجودات الارضية والسماوية من بسائط العناصر وقواها المنبجسة منها ومركباتها من حيوان ونبات ومعدن وغير ذلك من ماء أو هواء وما يشاكلها ، وكل موجود من الموجودات الطبيعية كذلك ، أي إنه مفطور على الارتباط مع غيره ليفعل وينفعل ويستبقي به موهبة وجوده غير أن نطاق عمل الانسان ومجال سعية أوسع ، كيف ؟ وهذا الموجود الاعزل على أنه يخالط الموجودات الاخر الطبيعية بالقرب والبعد والاجتماع والافتراق بالتصرفات البسيطة لغاية مقاصده البسيطة في حيوته ، فهو من جهة تجهيزة بالادراك والفكر يختص بتصرفات خارجة عن طوق سائر الموجودات بالتفصيل والتركيب والافساد والاصلاح ، فما من موجود إلا وهو في تصرف الانسان ، فزمانا يحاكي

الميزان في تفسير القران (الجزء الاول) _ 113 _
  الطبيعة بالصناعة فيما لا يناله من الطبيعة وزمانا يقاوم الطبيعة بالطبيعة ، وبالجملة فهو مستفيد لكل غرض من كل شئ ، ولا يزال مرور الدهور على هذا النوع العجيب يؤيده في تكثير تصرفاته وتعميق أنظاره ليحق الله الحق بكلماته ، وليصدق قوله : ( وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِّنْهُ ) الجاثية ـ 13 ، وقوله : ( ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء ) البقرة ـ 29 ، وكون الكلام واقعا موقع بيان النعم لتمام الامتنان يعطي أن يكون الاستواء إلى السماء لاجل الانسان فيكون تسويتها سبعا أيضا لاجله ، وعليك بزيادة التدبر فيه.
  فذاك الذي ذكرناه من صراط الانسان في مسير وجوده ، وهذا الذي ذكرناه من شعاع عمله في تصرفاته في عالم الكون هو الذي يذكره سبحانه من العالم الانساني ومن أين يبتدي وإلى أين ينتهي.
  غير أن القرآن كما يعد مبدأ حيوته الدنيوية آخذة في الشروع من الطبيعة الكونية ومرتبطة بها ( أحيانا ) كذلك يربطها بالرب تعالى وتقدس ، فقال تعالى : ( وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِن قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا ) مريم ـ 8 ، وقال تعالى : ( إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ ) البروج ـ 13 ، فالانسان وهو مخلوق مربى في مهد التكوين مرتضع من ثدي الصنع والايجاد متطور بأطوار الوجود يرتبط سلوكه بالطبيعة الميتة ، كما انه من جهة الفطر والابداع مرتبط متعلق بأمر الله وملكوته ، قال تعالى : ( إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ) يس ـ 82 ، وقال تعالى : ( إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَن نَّقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ ) النحل ـ 40 ، فهذا من جهة البدء وأما من جهة العود والرجوع فيعد صراط الانسان متشعبا إلى طريقين طريق السعادة وطريق الشقاوة ، فاما طريق السعادة فهو أقرب الطرق يأخذ في الانتهاء إلى الرفيع الاعلى ولا يزال يصعد الانسان ويرفعه حتى ينتهي به إلى ربه ، وأما طريق الشقاوة فهو طريق بعيد يأخذ في الانتهاء إلى اسفل السافلين حتى ينتهي إلى رب العالمين ، والله من ورائهم محيط ، وقد مر بيان ذلك في ذيل قوله تعالى : اهدنا الصراط المستقيم من سورة الفاتحة.
  فهذا اجمال القول في صراط الانسان ، واما تفصيل القول في حيوته قبل الدنيا

الميزان في تفسير القران (الجزء الاول) _ 114 _
  وفيها وبعد الدنيا فسيأتي كل في محله ، غير ان كلامه تعالى انما يتعرض لذلك من جهة ارتباطه بالهداية والضلال والسعادة والشقاء ، ويطوي البحث عما دون ذلك الا بمقدار يماس غرض القرآن المذكور.
  وقوله تعالى : فسويهن سبع سموات ، سيأتي الكلام في السماء في سورة حم السجدة انشاء الله تعالى.
  ( وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ ) ؟ قال : ( إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ ) ـ 30 ، ( وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاء كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلاَئِكَةِ فَقَالَ أَنبِئُونِي بِأَسْمَاء هَؤُلاء إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ) ـ 31 ، ( قَالُواْ سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ ) ـ 32 ، ( قَالَ يَا آدَمُ أَنبِئْهُم بِأَسْمَآئِهِمْ فَلَمَّا أَنبَأَهُمْ بِأَسْمَآئِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ ) ـ 33.
  ( بيان )
  الآت تنبئ عن غرض انزال الانسان إلى الدنيا وحقيقة جعل الخلاقة في الارض وما هو آثارها وخواصها ، وهي على خلاف سائر قصصه لم يقع في القرآن الا في محل واحد وهو هذا المحل.

الميزان في تفسير القران (الجزء الاول) _ 115 _
  قوله تعالى : واذ قال ربك الخ ، سيأتي الكلام في معنى القول منه تعالى وكذا القول من الملائكة والشيطان انشاء الله.
  قوله تعالى : قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ، إلى قوله : ونقدس لك ، مشعر بأنهم انما فهموا وقوع الافساد وسفك الدماء من قوله سبحانه : اني جاعل في الارض خليفة ، حيث أن الموجود الارضي بما انه مادي مركب من القوى الغضبية والشهوية ، والدار دار التزاحم ، محدودة الجهات ، وافرة المزاحمات ، مركباتها في معرض الانحلال ، وانتظاماتها واصلاحاتها في مظنة الفساد ومصب البطلان ، لا تتم الحيوة فيها الا بالحيوة النوعية ، ولا يكمل البقاء فيها الا بالاجتماع والتعاون ، فلا تخلو من الفساد وسفك الدماء ، ففهموا من هناك أن الخلافة المرادة لا تقع في الارض الا بكثرة من الافراد ونظام اجتماعي بينهم يفضي بالاخرة إلى الفساد والسفك و ، الخلافة وهي قيام شئ مقام آخر لا تتم إلا بكون الخليفة حاكيا للمستخلف في جميع شؤنه الوجودية وآثاره وأحكامه وتدابيره بما هو مستخلف ، والله سبحانه في وجوده مسمى بالاسماء الحسنى متصف بالصفات العليا ، من اوصاف الجمال والجلال ، منزه في نفسه عن النقص ومقدس في فعله عن الشر والفساد جلت عظمته ، والخليفة الارضي بما هو كذلك لا يليق بالاستخلاف ولا يحكي بوجوده المشوب بكل نقص وشين الوجود الالهي المقدس المنزه عن جميع النقائص وكل الاعدام ، فأين التراب ورب الارباب ، وهذا الكلام من الملائكة في مقام تعرف ما جهلوه واستيضاح ما أشكل عليهم من أمر هذا الخليفة ، وليس من الاعتراض والخصومة في شئ والدليل على ذلك قولهم فيما حكاه الله تعالى عنهم : انك أنت العليم الحكيم حيث صدر الجملة بأن التعليلية المشعرة بتسلم مدخولها فافهم ، فملخص قولهم يعود إلى ان جعل الخلافة انما هو لاجل ان يحكي الخليفة مستخلفه بتسبيحه بحمده وتقديسه له بوجوده ، والارضية لا تدعه يفعل ذلك بل تجره إلى الفساد والشر ، والغاية من هذا الجعل وهي التسبيح والتقديس بالمعنى الذي مر من الحكاية حاصلة بتسبيحنا بحمدك وتقديسنا لك ، فنحن خلفائك أو فاجعلنا خلفاء لك ، فما فائدة جعل هذه الخلافة الارضية لك ؟ فرد الله سبحانه ذلك عليهم بقوله : أني أعلم ما لا تعلمون وعلم آدم الاسماء كلها.
  وهذا السياق : يشعر اولا : بأن الخلافة المذكورة انما كانت خلافة الله تعالى ،

الميزان في تفسير القران (الجزء الاول) _ 116 _
  لا خلافة نوع من الموجود الارضي كانوا في الارض قبل الانسان وانقروضوا ثم أراد الله تعالى أن يخلفهم بالانسان كما إحتمله بعض المفسرين ، وذلك لان الجواب الذي اجاب سبحانه به عنهم وهو تعليم آدم الاسماء لا يناسب ذلك ، وعلى هذا فالخلافة غير مقصورة على شخص آدم ( عليه السلام ) بل بنوه يشاركونه فيها من غير إختصاص ، ويكون معنى تعليم الاسماء إيداع هذا العلم في الانسان بحيث يظهر منه آثاره تدريجا دائما ولو اهتدى إلى السبيل أمكنه أن يخرجه من القوة إلى الفعل ، ويؤيد عموم الخلافة قوله تعالى ( إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاء مِن بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ ) الاعراف ـ 69 ، وقوله تعالى ( ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلاَئِفَ فِي الأَرْضِ ) يونس ـ 14 ، وقوله تعالى ( وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاء الْأَرْضِ ) النحل ـ 62.
  وثانيا : إنه سبحانه لم ينف عن خليفة الارض الفساد وسفك الدماء ، ولا كذب الملائكة في دعويهم التسبيح والتقديس ، وقررهم على ما ادعوا ، بل انما أبدا شيئا آخر وهو أن هناك أمرا لا يقدر الملائكة على حمله ولا تتحمله ويتحمله هذا الخليفة الارضي فانه يحكي عن الله سبحانه أمرا ويتحمل منه سرا ليس في وسع الملائكة ، ولا محالة يتدارك بذلك أمر الفساد وسفك الدماء ، وقد بدل سبحانه قوله : قال إنى أعلم مالا تعلمون ثانيا بقوله : ألم أقل لكم إني أعلم غيب السموات والارض ، والمراد بهذا الغيب هو الاسماء لا علم آدم بها فإن الملائكة ما كانت تعلم أن هناك أسماء لايعلمونها ، لا أنهم كانوا يعلمون وجود أسماء كذلك ويجهلون من آدم أنه يعلمها ، وإلا لما كان لسؤاله تعالى إياهم عن الاسماء وجه وهو ظاهر بل كان حالمقام أن يقتصر بقوله : قال يا آدم أنبئهم بأسمائهم حتى يتبين لهم أن آدم يعلمها لا أن يسئل الملائكة عن ذلك ، فإن هذا السياق يعطي أنهم ادعوا الخلافة وأذعنوا بإنتفائها عن آدم وكان اللازم أن يعلم الخليفة بالاسماء فسئلهم عن الاسماء فجهلوها وعلمها آدم ، فثبت بذلك لياقته لها وإنتفائها عنهم ، وقد ذيل سبحانه السؤال بقوله : إن كنتم صادقين ، وهو مشعر بأنهم كانوا إدعوا شيئا كان لازمه العلم بالاسماء.
  وقوله تعالى : وعلم آدم الاسماء كلها ثم عرضهم ، مشعر بأن هذه الاسماء أو أن مسمياتها كانوا موجودات أحياء عقلاء ، محجوبين تحت حجاب الغيب وأن العلم بأسمائهم كان غير نحو العلم الذي عندنا بأسماء الاشياء ، وإلا كانت الملائكة بانباء آدم إياهم بها

الميزان في تفسير القران (الجزء الاول) _ 117 _
  عالمين وصائرين مثل آدم مساوين معه ، ولم يكن في ذلك اكرام لآدم ولا كرامة حيث علمه الله سبحانه أسماء ولم يعلمهم ، ولو عملهم إياها كانوا مثل آدم أو أشرف منه ، ولم يكن في ذلك ما يقنعهم أو يبطل حجتهم ، وأي حجة تتم في أن يعلم الله تعالى رجلا علم اللغة ثم يباهي به ويتم الحجة على ملائكة مكرمين لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون بأن هذا خليفتي وقابل لكرامتي دونكم ؟ ويقول تعالى أنبئوني باللغات التي سوف يضعها الآدميون بينهم للافهام والتفهيم إن كنتم صادقين في دعويكم أو مسئلتكم خلافتي ، على أن كمال اللغة هو المعرفة بمقاصد القلوب والملائكة لا تحتاج فيها إلى التكلم ، وانما تتلقى المقاصد من غير واسطة ، فلهم كمال فوق كمال التكلم ، وبالجملة فما حصل لملائكة من العلم بواسطة انباء آدم لهم بالاسماء هو غير ما حصل لآدم من حقيقة العلم بالاسماء بتعليم الله تعالى فأحد الامرين كان ممكنا في حق الملائكة وفي مقدرتهم دون الآخر ، وآدم انما استحق الخلافة الالهية بالعلم بالاسماء دون انبائها إذ الملائكة انما قالوا في مقام الجواب : سبحانك لا علم لنا الا ما علمتنا ، فنفوا العلم.
  فقد ظهر مما مر ان العلم بأسماء هؤلاء المسميات يجب أن يكون بحيث يكشف عن حقائقهم وأعيان وجوداتهم ، دون مجرد ما يتكفله الوضع اللغوي من اعطاء المفهوم فهؤلاء المسميات المعلومة حقائق خارجية ، ووجودات عينية وهى مع ذلك مستورة تحت ستر الغيب غيب السموات والارض ، والعلم بها على ما هي عليها كان اولا ميسورا ممكنا لموجود أرضي لا ملك سماوي ، وثانيا : دخيلا في الخلافة الالهية.
  والاسماء في قوله تعالى : وعلم آدم الاسماء كلها ، جمع محلى باللام وهو يفيد العموم على ما صرحوا به مضافا إلى انه مؤكد بقوله : كلها ، فالمراد بها كل اسم يقع لمسمى ولا تقييد ولا عهد ، ثم قوله : عرضهم ، دال على كون كل اسم أي مسماه ذا حيوة وعلم وهو مع ذلك تحت حجاب الغيب ، غيب السموات والارض، واضافة الغيب إلى السموات والارض وان امكن أن يكون في بعض الموارد اضافة من ، فيفيد التبعيض لكن المورد وهو مقام اظهار تمام قدرته تعالى واحاطته وعجز الملائكة ونقصهم يوجب كون اضافة الغيب إلى السموات والارض اضافة اللام ، فيفيد أن الاسماء امور غائبة عن العالم السماوي والارضي ، خارج محيط الكون ، و إذا تأملت هذه الجهات

الميزان في تفسير القران (الجزء الاول) _ 118 _
  اعني عموم الاسماء وكون مسمياتها أولي حيوة وعلم وكونها غيب السموات والارض قضيت بإنطباقها بالضرورة على ما اشير إليه في قوله تعالى : ( وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ عِندَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَّعْلُومٍ ) الحجر ـ 21 ، حيث أخبر سبحانه بأنه كل ما يقع عليه اسم شئ فله عنده تعالى خزائن مخزونة باقية عنده غير نافده ، ولا مقدرة بقدر ، ولا محدودة بحد ، وأن القدر والحد في مرتبة الانزال والخلق ، وأن الكثرة التي في هذه الخزائن ليست من جنس الكثرة العددية الملازمة للتقدير والتحديد بل تعدد المراتب والدرجات ، وسيجئ بعض الكلام فيها في سورة الحجر انشاء الله تعالى.
  فتحصل ان هؤلاء الذين عرضهم الله تعالى على الملائكة موجودات عالية محفوظة عند الله تعالى ، محجوبة بحجب الغيب ، أنزل الله سبحانه كل اسم في العالم بخيرها وبركتها واشتق كل ما في السموات والارض من نورها وبهائها ، وأنهم على كثرتهم وتعددهم لا يتعددون تعدد الافراد ، ولا يتفاوتون تفاوت الاشخاص ، وانما يدور الامر هناك مدار المراتب و الدرجات ونزول الاسم من عند هؤلاء انما هو بهذا القسم من النزول.
  وقوله تعالى : وأعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون وكان هذان القسمان من الغيب النسبي الذي هو بعض السموات والارض ، ولذلك قوبل به قوله : أعلم غيب السموات والارض ، ليشمل قسمي الغيب أعني الخارج عن العالم الارضى والسماوي وغير الخارج عنه.
  وقوله تعالى : كنتم تكتمون ، تقييد الكتمان بقوله : كنتم ، مشعر بأن هناك امرا مكتوما في خصوص آدم وجعل خلافته ، ويمكن أن يستظهر ذلك من قوله تعالى في الآية التالية : ( فَسَجَدُواْ إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ ).
  فيظهر أن ابليس كان كافرا قبل ذلك الحين ، وأن إبائه عن السجدة كان مرتبطا بذلك فقد كان أضمره هذا.
  ويظهر بذلك أن سجدة الملائكة وإباء إبليس عنها كانت واقعة بين قوله تعالى : قال اني أعلم ما لا تعلمون وبين قوله : اعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون ، ويظهر السر أيضا في تبديل قوله : اني أعلم ما لا تعلمون ثانيا بقوله : اني أعلم غيب السموات والارض.

الميزان في تفسير القران (الجزء الاول) _ 119 _
  ( بحث روائي )
  في تفسير العياشي عن الصادق ( عليه السلام ) ، قال : ما علم الملائكة بقولهم : أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ، لو لا انهم قد كانوا رأوا من يفسد فيها ويسفك الدماء
  اقول : يمكن أن يشير بها إلى دورة في الارض سابقة على دورة بني آدم هذه كما وردت فيه الاخبار ولا ينافي ذلك ما مر أن الملائكة فهمت ذلك من قوله تعالى : إني جاعل في الارض خليفة ، بل لا يتم الخبر بدون ذلك ، والا كان هذا القول قياسا من الملائكة مذموما كقياس ابليس.
  وفي تفسير العياشي أيضا عنه ( عليه السلام ) قال زرارة : دخلت على أبي جعفر عليه لسلام فقال : أي شئ عندك من احاديث الشيعة فقلت : ان عندي منها شيئا كثيرا فقد هممت أن اوقد لها نارا فأحرقها فقال ( عليه السلام ) : وارها تنس ما أنكرت منها فخطر على بالي الآدميون فقال : ما كان علم الملائكة حيث قالوا : أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ؟ قال : وكان يقول أبو عبد الله ( عليه السلام ) إذا حدث بهذا الحديث هو كسر على القدرية ، ثم قال أبو عبد الله ( عليه السلام ) : ان آدم ( عليه السلام ) كان له في السماء خليل من الملائكة ، فلما هبط آدم من السماء إلى الارض استوحش الملك وشكى إلى الله تعالى وسأله أن يأذن له ، فأذن له فهبط عليه فوجده قاعدا في قفرة من الارض ، فلما رآه آدم وضع يده على رأسه وصاح صيحة ، قال أبو عبد الله ( عليه السلام ) : يروون انه أسمع عامة الخلق فقال له الملك : يا آدم ما أراك الا وقد عصيت ربك وحملت على نفسك ما لا تطيق ، اتدري ما قال لنا الله فيك فرددنا عليه ؟ قال : لا ، قال : قال : اني جاعل في الأرض خليفة ، قلنا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ؟ فهو خلقك أن تكون في الارض أيستقيم أن تكون في السماء ؟ قال أبو عبد الله ( عليه السلام ) والله عزى بها آدم ثلثا.
  أقول : ويستفاد من الرواية ان جنة آدم كانت في السماء وسيجئ فيه روايات أخر أيضا.
  وفي تفسير العياشي ايضا عن أبي العباس عن أبي عبد الله ( عليه السلام ) ، قال : سألته

الميزان في تفسير القران (الجزء الاول) _ 120 _
  عن قول الله : وعلم آدم الاسماء كلها ، ما ذا علمه ؟ قال : الارضين والجبال والشعاب والاودية ، ثم نظر إلى بساط تحته ، فقال وهذا البساط مما علمه.
  وفي التفسير ايضا عن الفضيل بن العباس عن أبي عبد الله ( عليه السلام ) قال : سألته عن قول الله : وعلم آدم الاسماء كلها ، ما هي ؟ قال : أسماء الاودية والنبات والشجر والجبال من الارض.
  وفي التفسير أيضا عن داود بن سرحان العطار ، قال : كنت عند أبي عبد الله ( عليه السلام ) فدعا بالخوان فتغذينا ثم دعا بالطست والدست سنانه فقلت : جعلت فداك ، قوله : وعلم آدم الاسماء كلها ، الطست والدست سنانه منه ، فقال ( عليه السلام ) : الفجاج والاودية وأهوى بيده كذا وكذا.
  وفي المعاني عن الصادق ( عليه السلام ) : إن الله عزوجل علم آدم أسماء حججه كلها ثم عرضهم وهم أرواح على الملائكة فقال : أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين بأنكم أحق بالخلافة في الارض لتسبيحكم وتقديسكم من آدم فقالوا : سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم ، قال الله تبارك وتعالى : ( يا آدم أنبئهم بأسمائهم فلما أنبئهم بأسمائهم وقفوا على عظيم منزلتهم عند الله عز ذكره ، فعلموا أنهم أحق بأن يكونوا خلفاء الله في أرضه وحججه على بريته ) ، ثم غيبهم عن أبصارهم واستعبدهم بولايتهم ومحبتهم ، وقال لهم :( أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ ).
  أقول : وبالرجوع إلى ما مر من البيان تعرف معنى هذه الروايات وان لا منافاة بين هذه وما تقدمها ، إذ قد تقدم أن قوله تعالى : وإن من شئ إلا عندنا خزائنه تعطي أنه مامن شئ إلا وله في خزائن الغيب وجود ، وإن هذه الاشياء التي قبلنا إنما وجدت بالنزول من هناك ، وكل اسم وضع بحيال مسمى من هذه المسميات فهى اسم لما في خزائن الغيب ، فسواء قيل : إن الله علم آدم ما في خزائن غيبه من الاشياء وهي غيب السموات والارض ، أو قيل : إنه علم آدم أسماء كل شئ وهي غيب السموات والارض كان المؤدي والنتيجة واحدا وهو ظاهر.

الميزان في تفسير القران (الجزء الاول) _ 121 _
  ويناسب المقام عدة من أخبار الطينة كما رواه في البحار عن جابر بن عبد الله قال : قلت لرسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : أول شئ خلق الله ما هو ؟ فقال نور نبيك يا جابر خلقه الله ثم خلق منه كل خير ، ثم أقامه بين يديه في مقام القرب ما شاء الله ، ثم جعله أقساما ، فخلق العرش من قسم ، والكرسي من قسم ، وحملة العرش وسكنة الكرسي من قسم ، وأقام القسم الرابع في مقام الحب ما شاء الله ، ثم جعله أقساما ، فخلق القلم من قسم ، واللوح من قسم ، والجنة من قسم ، وأقام القسم الرابع في مقام الخوف ما شاء الله ، ثم جعله أجزاء فخلق الملائكة من جزء ، والشمس من جزء والقمر من جزء ، وأقام القسم الرابع في مقام الرجاء ما شاء الله ، ثم جعله أجزاء ، فخلق العقل من جزء والعلم والحلم من جزء ، والعصمة والتوفيق من جزء ، وأقام القسم الرابع في مقام الحياء ما شاء الله ، ثم نظر إليه بعين الهيبة فرشح ذلك النور وقطرت منه مائة ألف واربعة وعشرون ألف قطرة ، فخلق الله من كل قطرة روح نبي ورسول ، ثم تنفست أرواح الانبياء فخلق الله من أنفاسها أرواح الاولياء والشهداء والصالحين.
  أقول : والاخبار في هذه المعاني كثيرة ، متظافرة وأنت إذا أجلت نظرة التأمل والامعان فيها وجدتها شواهد على ما قدمناه ، وسيجئ شطر من الكلام في بعضها ، وإياك أن ترمي أمثال هذه الاحاديث الشريفة المأثورة عن معادن العلم ومنابع الحكمة بأنها من اختلاقات المتصوفة وأوهامهم فللخلقة أسرار ، وهو ذا العلماء من طبقات أقوام الانسان لا يألون جهدا في البحث عن أسرار الطبيعة ، منذ أخذ البشر في الانتشار ، وكلما لاح لهم معلوم واحد بان لهم مجاهيل كثيرة ، وهي عالم الطبيعة أضيق العوالم وأخسها فما ظنك بما ورائها ، وهي عوالم النور والسعة.
  ( وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ اسْجُدُواْ لآدَمَ فَسَجَدُواْ إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ ) ـ 34.

الميزان في تفسير القران (الجزء الاول) _ 122 _
  ( بيان )
  قد عرفت أن قوله تعالى : وما كنتم تكتمون ، فيه دلالة على وقوع أمر مكتوم ظاهر بعد أن كان مكتوما ، ولا يخلو ذلك عن مناسبة مع قوله : أبى واستكبر وكان من الكافرين حيث لم يعبر أبي واستكبر وكفر ، وعرفت أيضا أن قصه السجدة كالواقعة أو هي واقعة بين قوله تعالى : إني اعلم ما لا تعلمون ، وقوله : واعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون ، فقوله تعالى : وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم ، كالجملة المستخرجة من بين الجمل ليتخلص بها إلى قصة الجنة ، فإن هذه الآيات كما عرفت إنما سيقت لبيان كيفية خلافة الانسان وموقعه وكيفية نزوله إلى الدنيا وما يؤول إليه أمره من سعادة وشقاء ، فلا يهم من قصة السجدة هيهنا إلا إجمالها المؤدي إلى قصة الجنة وهبوط آدم هذا ، فهذا هو الوجه في الاضراب عن الاطناب إلى الايجاز ، ولعل هذا هو السر أيضا في الالتفات من الغيبة إلى التكلم في قوله تعالى : وإذ قلنا للملائكة اسجدوا ، بعد قوله : وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل ، وعلى ما مر فنسبة الكتمان إلى الملائكة وهو فعل إبليس بناء على الجري على الدأب الكلامي من نسبة فعل الواحد إلى الجماعة إذا اختلط بهم ولم يتميز منهم ، ويمكن أن يكون له وجه آخر ، وهو أن يكون ظاهر قوله تعالى : إني جاعل في الارض خليفة ، إطلاق الخلافة حتى على الملائكة كما يؤيده ايضا أمرهم ثانيا بالسجود ، ويوجب ذلك خطورا في قلوب الملائكة ، حيث أنها ما كانت تظن أن موجودا أرضيا يمكن ان يسود على كل شئ حتى عليهم ، ويدل على هذا المعنى بعض الروايات كما سيأتي.
  وقوله تعالى : أسجدوا لآدم ، يستفاد منه جواز السجود لغير الله في الجملة إذا كان تحية وتكرمة للغير وفيه خضوع لله تعالى بموافقة أمره ، ونظيره قوله تعالى في قصة يوسف ( عليه السلام ) ( وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّواْ لَهُ سُجَّدًا قال : يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِن قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا ) يوسف ـ 100 ، وملخص القول في ذلك أنك قد عرفت في سورة الفاتحة أن العبادة هي نصب العبد نفسه في مقام العبودية وإتيان ما يثبت ويستثبت به ذلك فالفعل العبادي يجب أن يكون فيه صلاحية إظهار مولوية المولى أو عبدية العبد كالسجود والركوع والقيام أمامه حينما يقعد ، والمشي خلفه حينما يمشي

الميزان في تفسير القران (الجزء الاول) _ 123 _
  وغير ذلك ، وكلما زادت الصلاحية المزبورة إزدادت العبادة تعينا للعبودية ، وأوضح الافعال في الدلالة على عز المولوية وذل العبودية السجدة ، لما فيها من الخرور على الارض ، ووضع الجبهة عليها ، واما ما ربما ظنه بعض : من أن السجدة عبادة ذاتية ، فليس بشئ ، فإن الذاتي لا يختلف ولا يتخلف ، وهذا الفعل يمكن أن يصدر بعينه من فاعله بداع غير داع التعظيم والعبادة كالسخرية والاستهزاء فلا يكون عبادة مع اشتماله على جميع ما يشتمل عليه وهو عبادة نعم معنى العبادة أوضح في السجدة من غيرها ، وإذا لم يكن عبادة ذاتية لم يكن لذاته مختصا بالله سبحانه ، بناء على أن المعبود منحصر فيه تعالى ، فلو كان هناك مانع لكان من جهة النهي الشرعي أو العقلي والممنوع شرعا أو عقلا ليس إلا إعطاء الربوبية لغيره تعالى ، وأما تحية الغير أو تكرمته من غير إعطاء الربوبية بل لمجرد التعارف والتحية فحسب ، فلا دليل على المنع من ذلك ، لكن الذوق الديني المتخذ من الاستيناس بظواهره يقضي باختصاص هذا الفعل به تعالى ، والمنع عن استعماله في غير مورده تعالى ، وان لم يقصد به إلا التحية والتكرمة فقط ، وأما المنع عن كل ما فيه إظهار الاخلاص لله ، بإبراز المحبة لصالحي عباده أو لقبور أوليائه أو آثارهم فمما لم يقم عليه دليل عقلي أو نقلي أصلا ، وسنعود إلى البحث عن هذا الموضوع في محل يناسبه إن شاء الله تعالى.
  ( بحث روائي )
  في تفسير العياشي عن أبي عبد الله ( عليه السلام ) قال : لما أن خلق الله آدم أمر الملائكة أن يسجدوا له فقالت الملائكة في انفسها : ما كنا نظن أن الله خلق خلقا أكرم عليه منا فنحن جيرانه ونحن أقرب الخلق إليه ، فقال الله : ألم أقل لكم إني أعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون ، فيما أبدوا من أمر بني الجان وكتموا ما في أنفسهم ، فلاذت الملائكة الذين قالوا ما قالوا بالعرش وفي التفسير أيضا عن علي بن الحسين ( عليه السلام ) : ما في معناه وفيه : فلما عرفت الملائكة أنها وقعت في خطيئة لاذوا بالعرش ، وأنها كانت عصابة من الملائكه وهم الذين كانوا حول العرش ، لم يكن جميع الملائكة إلى أن قال : فهم يلوذون حول العرش إلى يوم القيامة.

الميزان في تفسير القران (الجزء الاول) _ 124 _
  اقول : يمكن أن يستفاد مضمون الروايتين من قوله حكاية عن الملائكة : ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك إلى قوله : سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم.
  وسيجئ أن العرش هو العلم ، وبذلك وردت الروايات عن أئمة أهل البيت ( عليهم السلام ) فافهم ذلك ، وعلى هذا كان المراد من قوله تعالى : وكان من الكافرين ، قوم إبليس من الجان المخلوقين قبل الانسان ، قال تعالى : ( وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ {الحجر/26} وَالْجَآنَّ خَلَقْنَاهُ مِن قَبْلُ مِن نَّارِ السَّمُومِ ) الحجر ـ 27 ، وعلى هذه الرواية فنسبة الكتمان إلى جميع الملائكة لا تحتاج إلى عناية زائدة ، بل هي على حقيقتة ، فإن المعنى المكتوم خطر على قلوب جميع الملائكة ، ولا منافاة بين هذه الرواية وما تفيد أن المكتوم هو ما كان يكتمه إبليس من الاباء عن الخضوع لآدم ، والاستكبار لو دعي إلى السجود ، لجواز استفادة الجميع كما هو كذلك.
  وفي قصص الانبياء عن أبي بصير ، قال : قلت لابي عبد الله ( عليه السلام ) : سجدت الملائكة ووضعوا أجباههم على الارض ؟ قال : نعم تكرمة من الله تعالى
  وفي تحف العقول قال : إن السجود من الملائكة لآدم إنما كان ذلك طاعة لله ومحبة منهم لادم.
  وفي الاحتجاج عن موسى بن جعفر عن آبائه : إن يهوديا سأل أمير المؤمنين ( عليه السلام ) عن معجزات النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) في مقابلة معجزات الانبياء ، فقال : هذا آدم أسجد الله له ملائكته ، فهل فعل بمحمد شيئا من هذا ؟ فقال علي : لقد كان ذلك ، ولكن أسجد الله لآدم ملائكتة ، فإن سجودهم لم يكن سجود طاعة انهم عبدوا آدم من دون الله عزوجل ، ولكن اعترافا لآدم بالفضيلة ورحمة من الله له ومحمد ( صلى الله عليه وآله وسلم ) أعطي ما هو أفضل من هذا ، إن الله جل وعلا صلى عليه في جبروته والملائكة بأجمعها ، وتعبد المؤمنون بالصلوة عليه فهذه زيادة له يا يهودي.
  وفي تفسير القمي : خلق الله آدم فبقي أربعين سنة مصورا ، وكان يمر به إبليس اللعين فيقول : لامر ما خلقت ؟ فقال : العالم ، فقال إبليس : ( لئن أمرني الله

الميزان في تفسير القران (الجزء الاول) _ 125 _
  بالسجود لهذا لعصيته ) إلى أن قال : ثم قال الله تعالى للملائكة : أسجدوا لآدم فسجدوا فأخرج إبليس ما كان في قلبه من الحسد فأبى أن يسجد.
  وفي البحار عن قصص الانبياء عن الصادق ( عليه السلام ) قال : أمر إبليس بالسجود لآدم فقال : يا رب وعزتك إن أعفيتني من السجود لادم لاعبدنك عبادة ما عبدك أحد قط مثلها ، قال الله جل جلاله : إني احب أن اطاع من حيث اريد وقال : إن إبليس رن أربع رنات : أولهن يوم لعن ، ويوم أهبط إلى الارض ، ويوم بعث محمد ( صلى الله عليه وآله وسلم ) على فترة من الرسل ، وحين أنزلت أم الكتاب ، ونخر نخرتين : حين أكل آدم من الشجرة ، وحين أهبط من الجنة ، وقال في قوله تعالى : فبدت لهما سوآتهما ، وكانت سوآتهما لا ترى فصارت ترى بارزة ، وقال الشجرة التي نهى عنها آدم هي السنبلة.
  اقول : وفي الروايات ـ وهي كثيرة ـ تأييد ما ذكرناه في السجدة.
  ( وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلاَ مِنْهَا رَغَداً حَيْثُ شِئْتُمَا وَلاَ تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الْظَّالِمِينَ ) ـ 35 ، ( فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُواْ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ ) ـ 36 ، ( فَتَلَقَّى آدَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ) ـ 37 ، ( قُلْنَا اهْبِطُواْ مِنْهَا جَمِيعاً فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَن تَبِعَ هُدَايَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ ) ـ 38 ، ( وَالَّذِينَ كَفَرواْ وَكَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ) ـ 39.

الميزان في تفسير القران (الجزء الاول) _ 126 _
  ( بيان )
  قوله تعالى : ( قلنا يا آدم اسكن ، على أن قصة سجود الملائكة لآدم تكررت في عدة مواضع من القرآن الكريم ) ، لم يقع قصة الجنة إلا في ثلث مواضع :
  احدهما : هيهنا من سورة البقرة.
  الثاني : في سورة الاعراف ، قال الله تعالى : ( يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلاَ مِنْهَا رَغَداً حَيْثُ شِئْتُمَا وَلاَ تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الْظَّالِمِينَ * فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا وقال : مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلاَّ أَن تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ *وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ *فَدَلاَّهُمَا بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْءَاتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ الْجَنَّةِ وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَن تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُل لَّكُمَا إِنَّ الشَّيْطَآنَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُّبِين ، قالا : رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ ، قال : اهْبِطُواْ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ ، قال : فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ ) الآيات 19 ، 25.
  والثالث : في سورة طه ، قال الله تعالى : ( وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِن قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا * وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى * فَقُلْنَا يَا آدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَّكَ وَلِزَوْجِكَ فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى * إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَى * وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَا وَلَا تَضْحَى * فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَّا يَبْلَى * فَأَكَلَا مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ الْجَنَّةِ وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى * ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى : قال : اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى * وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى ) ، الآيات ، وسياق الآيات وخاصة قوله تعالى في صدر القصة : إني جاعل في الارض خليفة يعطي أن آدم ( عليه السلام ) إنما خلق ليحيى في الارض ويموت

الميزان في تفسير القران (الجزء الاول) _ 127 _
  فيها وإنما أسكنهما الله الجنة لاختبارهما ولتبدو لهما سوآتهما حتى يهبطا إلى الارض ، وكذا سياق قوله تعالى في سورة طه : فقلنا يا آدم ، وفي سورة الاعراف : ويا آدم أسكن حيث سبك قصة الجنة مع قصة إسجاد الملائكة كلتيهما كقصة واحدة متواصلة ، وبالجملة فهو ( عليه السلام ) كان مخلوقا ليسكن الارض ، وكان الطريق إلى الاستقرار في الارض هذا الطريق ، وهو تفضيله على الملائكة لاثبات خلافته ، ثم أمرهم بالسجدة ، ثم إسكان الجنة ، والنهي عن قرب الشجرة المنهية حتى يأكلا منها فيبدو لهما سوآتهما فيهبطا إلى الارض ، فأخر العوامل للاستقرار في الارض ، وانتخاب الحيوة الدنيوية ظهور السوأة ، وهي العورة بقرينة قوله تعالى : وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة فهو التمايل الحيواني ويستلزم التغذي والنمو ايضا فما كان لابليس هم إلا ابداء سوآتهما ، وآدم وزوجته وإن كانا قد سواهما الله تعالى تسوية أرضية بشرية ثم أدخلهما الجنة لم يمكثا بعد التسوية ، ولم يمهلا كثيرا ، ليتم في الدنيا إدراكهما لسوآتهما ولا لغيرها من لوازم الحيوة الدنيا واحتياجاتها حتى أدخلهما الله الجنة ، وانه إنما أدخلهما الله الجنة حين أدخلهما ولما ينفصلا ولما ينقطع إدراكهما عن عالم الروح والملائكة ، والدليل على ذلك قوله تعالى : ليبدي لهما ما ووري عنهما ولم يقل ما كان ووري عنهما ، وهو مشعر بأن مواراة السوآة ما كانت ممكنة في الحيوة الدنيا إستدامة وإنما تمشت دفعة ما واستعقب ذلك ، إسكان الجنة فظهور السوآة كان مقضيا محتوما في الحيوة الارضية ومع أكل الشجرة ، ولذلك قال تعالى : فلا يخرجنكما من الجنة فتشقي ، وقال تعالى : وأخرجهما مما كانا فيه وأيضا هو تعالى غفر خطيئتهما بعد ما تابا ولم يرجعهما إلى الجنة بل أهبطهما إلى الدنيا ليحييا فيها ولو لم تكن الحيوة الارضية مع أكل الشجرة وظهور السوآة حتما مقضيا ، والرجوع إلى الجنة مع ذلك محالا ، لرجعا إليها بعد حط الخطيئة ، فالعامل في خروجهما من الجنة وهبوطهما هو الاكل من الشجرة وظهور السوآة ، وكان ذلك بوسوسة الشيطان اللعين ، وقد قال تعالى في سورة طه في صدر القصة : ( وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِن قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا ) ، ثم ساق تعالى القصة ، فهل هذا العهد هو قوله تعالى : لا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين ؟ أو أنه قوله تعالى : ان هذا عدو لك ولزوجك أو أنه العهد بمعني الميثاق العمومي المأخوذ من جميع الانسان ، ومن الانبياء خاصة بوجه آكد وأغلظ.

الميزان في تفسير القران (الجزء الاول) _ 128 _
  والاحتمال الاول غير صحيح لقوله تعالى : ( فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِن سَوْءَاتِهِمَا وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلاَّ أَن تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ * وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ ) الآيتان فهما قد كانا حين اقتراف الخطيئة واقتراب الشجرة على ذكر من النهي ، وقد قال تعالى : ( فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا ) فالعهد المذكور ليس هو النهى عن قرب الشجرة وأما الاحتمال الثاني ( وهو ان يكون العهد المذكور هو التحذير عن اتباع ابليس فهو وان لم يكن بالبعيد كل البعيد ) ، لكن ظواهر الآيات لا تساعد عليه فإن العهد مخصوص بآدم ( عليه السلام ) كما هو ظاهر الآية.
  مع ان التحذير عن ابليس كان لهما معا ، وأيضا ذيل الآيات وهو على طبق صدرها في سورة طه يناسب العهد بمعنى الميثاق الكلي ، لا العهد بمعنى التحذير عن ابليس ، قال تعالى : ( فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى * وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى ) الآيات فبحسب التطبيق ينطبق قوله تعالى : ( وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا ) على نسيان العهد وهو كما ترى مع العهد بمعنى الميثاق على الربوبية والعبودية أنسب منه مع التحذير من ابليس ، إذ لا كثير مناسبة بحسب المفهوم بين الاعراض عن الذكر واتباع ابليس ، واما الميثاق على الربوبية فهو له انسب ، فان الميثاق على الربوبية هو ان لا ينسى الانسان كونه تعالى ربا له أي مالكا مدبرا أي لا ينسى الانسان أبدا ولا في حال أنه مملوك طلق لا يملك لنفسه شيئا لا نفعا وضرا ولا موتا ولا حيوة ولا نشورا ، أي لا ذاتا ولا وصفا ولا فعلا.
  والخطيئة التي تقابله هو إعراض الانسان عن ذكر مقام ربه والغفلة عنه بالالتفات إلى نفسه أو ما يعود ويرجع إلى نفسه من زخارف الحيوة الدنيا الفانية البالية هذا.
  لكنك إذا امعنت النظر في الحيوة الدنيا على اختلاف جهاتها وتشتت أطرافها وانحائها ووحدتها واشتراكها بين المؤمن والكافر وجدتها بحسب الحقيقة والباطن مختلفة في الموردين بحسب ذوق العلم بالله تعالى والجهل به فالعارف بمقام ربه إذا نظر إلى نفسه وكذلك إلى الحيوة الدنيا الجامعه لاقسام الكدورات وانواع الآلام وضروب المكاره من موت وحياة ، وصحة وسقم ، وسعة واقتار ، وراحة وتعب ، ووجدان وفقدان.

الميزان في تفسير القران (الجزء الاول) _ 129 _
  على ان الجميع ( أعم مما في نفس الانسان أو في غيره ) مملوكة لربه ، لا استقلال لشئ منها وفيها ، بل الكل ممن ليس عنده الا الحسن والبهاء والجمال والخير على ما يليق بعزتة وجلاله ، ولا يترشح من لدنه الا الجميل والخير ، فإذا نظر إليها وهي هكذا لم ير مكروها يكرهه ولا مخوفا يخافه ، ولا مهيبا يهابه ، ولا محذورا يحذره ، بل يرى كل ما يراه حسنا محبوبا الا ما يأمره ربه أن يكرهه ويبغضه ، وهو مع ذلك يكرهه لامره ، ويحب ما يحب ويلتذ ويبتهج بأمره ، لا شغل له إلا بربه ، كل ذلك لما يرى الجميع ملكا طلقا لربه لا نصيب ولا حظ لشئ غيره في شئ منها ، فما له ولمالك الامر وما يتصرف به في ملكه ؟ من احياء واماتة ، ونفع وضر وغيرها ، فهذه هي الحيوة الطيبة التي لا شقاء فيها البتة وهي نور لا ظلمة معه ، وسرور لا غم معه ، ووجدان لا فقد معه ، وغنى لا فقر معه كل ذلك بالله سبحانه ، وفي مقابل هذه الحيوة حيوة الجاهل بمقام ربه ، إذ هذا المسكين بانقطاعه عن ربه لا يقع بصره على موجود من نفسه وغيره الا رآه مستقلا بنفسه ضارا أو نافعا خيرا أو شرا فهو يتقلب في حيوته بين الخوف عما يخاف فوته ، والحذر عما يحذر وقوعه ، والحزن لما يفوته ، والحسرة لما يضيع عنه من جاه أو مال أو بنين أو اعوان وساير ما يحبه ويتكل ويعتمد عليه ويؤثره.
  كلما نضج جلده بالاعتياد بمكروه والسكون إلى مرارة بدل جلدا غيره ، ليذوق العذاب بفؤاد مضطرب قلق ، وحشى ذائب محترق ، وصدر ضيق حرج ، كأنما يصعد في السماء ، كذلك يجعل الله الرجس على الذين لا يؤمنون.
  إذا عرفت هذا علمت : أن مرجع الامرين أعني نسيان الميثاق وشقاء الحيوة الدنيا واحد ، وان الشقاء الدنيوي من فروع نسيان الميثاق.
  وهذا هو الذي يشعر به كلامه سبحانه حيث أتى بالتكليف الجامع لاهل الدنيا في سورة طه فقال تعالى : ( فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى * وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى ).
  وبدل ذلك في هذه السورة بقوله : ( فمن إتبع هداي فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون ).

الميزان في تفسير القران (الجزء الاول) _ 130 _
  ومن هنا تحدس إن كنت ذا فطانة أن الشجرة كانت شجرة في اقترابها تعب الحيوة الدنيا وشقائها ، وهو أن يعيش الانسان في الدنيا ناسيا لربه ، غافلا عن مقامه ، وأن آدم ( عليه السلام ) كأنه أراد أن يجمع بينها وبين الميثاق المأخوذ عليه ، فلم يتمكن فنسي الميثاق ووقع في تعب الحيوة الدنيا ، ثم تدورك له ذلك بالتوبة.
  قوله تعالى : ( وكلا منها رغدا ) الرغد الهناء وطيب العيش وأرغد القوم مواشيهم تركوها ترعى كيف شاءت ، وقوم رغد ، ونساء رغد ، أي ذووا عيش رغيد.
  وقوله تعالى : ( وَلاَ تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ ) وكأن النهي انما كان عن أكل الثمرة وانما تعلق بالقرب من الشجرة ايذانا بشدة النهى ومبالغة في التأكيد ويشهد بذلك قوله تعالى ( فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْءَاتُهُمَا ) الاعراف ـ 22.
  وقوله تعالى : ( فَأَكَلَا مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا ) طه ـ 121 ، فكانت المخالفة بالاكل فهو المنهى عنه بقوله : ولا تقربا.
  قوله تعالى : فتكونا من الظالمين ، من الظلم لا من الظلمة على ما إحتمله بعضهم وقد إعترفا بظلمهما حيث قالا على ما حكاه الله تعالى عنهما : ( ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا.
  إلا أنه تعالى بدل في سورة طه هذه الكلمة أعني قوله : ( فتكونا من الظالمين من قوله : ( فتشقى والشقاء هو التعب ثم فسر التعب وفصله ، فقال ، ( إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَى * وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَا وَلَا تَضْحَى ) الآيات.
  ومن هنا يظهر أن وبال هذا الظلم انما كان هو الوقوع في تعب حيوة هذه الدنيا من جوع وعطش وعراء وعناء وعلى هذا فالظلم منهما انما هو ظلمهما لانفسهما ، لا بمعنى المعصية المصطلحة والظلم على الله سبحانه ، ومن هنا يظهر أيضا أن هذا النهى اعني قوله : ولا تقربا ، إنما كان نهيا تنزيهيا إرشاديا يرشد به إلى ما فيه خير المكلف وصلاحه في مقام النصح لا نهيا مولويا.
  فهما انما ظلما أنفسهما في ترك الجنة على ان جزاء المخالفة للنهى المولوي التكليفي

الميزان في تفسير القران (الجزء الاول) _ 131 _
  يتبدل بالتوبة إذا قبلت ولم يتبدل في موردهما ، فانهما تابا وقبلت توبتهما ولم يرجعا إلى ما كانا فيه من الجنة ولو لا أن التكليف إرشادى ليس له الا التبعة التكوينية دون التشريعية لاستلزام قبول التوبة رجوعهما إلى ما كانا فيه من مقام القرب وسيأتي لهذا الكلام بقية فيما سيأتي ان شاء الله.
  قوله سبحانه : فأزلهما الشيطان ، الظاهر من هذه الجملة كنظائرها وإن لم يكن أزيد من وسوسة الشيطان لهما مثل ما يوسوس لنا ( بني آدم ) على نحو القاء الوسوسة في القلب من غير رؤية الشخص.
  لكن الظاهر من أمثال قوله تعالى في سورة طه : ( فَقُلْنَا يَا آدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَّكَ وَلِزَوْجِكَ ) يدل على أنه تعالى أراهما الشيطان وعرفهما إياه بالشخص والعين دون الوصف وكذا قوله تعالى حكاية عن الشيطان : ( يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ ) الآية حيث أتى بالكلام في صورة حكاية الخطاب ، ويدل ذلك على متكلم مشعور به.
  وكذا قوله تعالى في سورة الاعراف : ( وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ ) والقسم إنما يكون من مقاسم مشعور به.
  وكذا قوله تعالى : ( وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَن تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُل لَّكُمَا إِنَّ الشَّيْطَآنَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُّبِينٌ ) ، كل ذلك يدل على أنه كان يترآى لهما وكانا يشاهدانه ، ولو كان حالهما ( عليهما السلام ) مثل حالنا من عدم المشاهدة حين الوسوسة لجاز لهما أن يقولا : ( ربنا اننا لم نشعر وخلناأن هذه الوساوس هي من أفكارنا من غير استشعار بحضوره ، ولا قصد لمخالفة ما وصيتنا به من التحذير من وسوسته.
  وبالجملة فهما كانا يشاهدانه ويعرفانه ، والانبياء وهم المعصومون بعصمة الله كذلك يعرفونه ويشاهدونه حين تعرضه بهم لو تعرض على ما وردت به الروايات في نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ويحيى وايوب واسماعيل ومحمد صلى الله عليه وآله وعليهم هذا.
  وكذا ظاهر هذه الآيات كظاهر قوله تعالى : ( مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ )

الميزان في تفسير القران (الجزء الاول) _ 132 _
  حيث ينبئ عن كونهما معه لعنه الله بحيال الشجرة في الجنة ، فقد كان دخل الجنة وصاحبهما وغرهما بوسوسته ، ولا محذور فيه إذ لم تكن الجنة جنة الخلد حتى لا يدخلها الشيطان ، والدليل على ذلك خروجهم جميعا من هذه الجنه.
  وأما قوله تعالى خطابا لابليس : ( فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَن تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ ) الاعراف ـ 13 ، فيمكن أن يكون المراد به الخروج من الملائكة ، أو الخروج من السماء من جهة كونها مقام قرب وتشريف.
  قوله تعالى : ( وَقُلْنَا اهْبِطُواْ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ ) الآية ، ظاهر السياق أنه خطاب آدم وزوجته وإبليس وقد خص إبليس وحده بالخطاب في سورة الاعراف حيث قال : ( فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَن تَتَكَبَّرَ فِيهَا ) الاية ، فقوله تعالى : إهبطوا كالجمع بين الخطابين وحكاية عن قضاء قضى الله به العداوة بين إبليس لعنه الله وبين آدم وزوجته وذريتهما ، وكذلك قضى به حيوتهم في الارض وموتهم فيها وبعثهم منها.
  وذرية آدم مع آدم في الحكم كما ربما يستشعر من ظاهر قوله : ( فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ ) الآية وكما سيأتي في قوله تعالى : ( وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلآئِكَةِ اسْجُدُواْ لآدَمَ ) الآية ، من سورة الاعراف.
  إن إسجاد الملائكة لآدم ( عليه السلام ) إنما كان من جهة أنه خليفة أرضي ، فكان المسجود له آدم ( عليه السلام ) وحكم السجدة لجميع البشر ، فكان إقامة آدم ( عليه السلام ) مقام المسجود له معنونا بعنوان الانموذج والنائب.
  وبالجملة يشبه أن تكون هذه القصة التي قصها الله تعالى من إسكان آدم وزوجته الجنة ، ثم إهباطهما لاكل الشجرة كالمثل يمثل به ما كان الانسان فيه قبل نزوله إلى الدنيا من السعادة والكرامة بسكونة حظيره القدس ، ومنزل الرفعة والقرب ، ودار نعمة وسرور ، وانس ونور ، ورفقاء طاهرين ، وإخلاء روحانيين ، وجوار رب العالمين.
  ثم إنه يختار مكانه كل تعب وعناء ومكروه وألم بالميل إلى حيوة فانية ، وجيفة

الميزان في تفسير القران (الجزء الاول) _ 133 _
  منتنة دانية ، ثم إنه لو رجع بعد ذلك إلى ربه لاعاده إلى دار كرامته وسعادته ولو لم يرجع إليه وأخلد إلى الارض واتبع هواه فقد بدل نعمه الله كفرا واحل بنفسه دار البوار ، جهنم يصليها وبئس القرار.
  قوله تعالى : ( فَتَلَقَّى آدَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ ) ، التلقي هو التلقن ، وهو أخذ الكلام مع فهم وفقه وهذا التلقى كان هو الطريق المسهل لآدم ( عليه السلام ) توبته.
  ومن ذلك يظهر أن التوبة توبتان : توبه من الله تعالى وهي الرجوع إلى العبد بالرحمة ، وتوبة من العبد وهي الرجوع إلى الله بالاستغفار والانقلاع من المعصية.
  وتوبة العبد ، محفوفة بتوبتين : من الله تعالى ، فان العبد لا يستغني عن ربه في حال من الاحوال ، فرجوعه عن المعصية إليه يحتاج إلى توفيقه تعالى وإعانته ورحمته حتى يتحقق منه التوبة ، ثم تمس الحاجة إلى قبوله تعالى وعنايته ورحمته ، فتوبة العبد إذا قبلت كانت بين توبتين من الله كما يدل عليه قوله تعالى : ( ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُواْ ) التوبة ـ 119.
  وقراءة نصب آدم ورفع كلمات تناسب هذه النكتة ، وإن كانت القراءة الاخرى ( وهي قراءة رفع آدم ونصب كلمات ) لا تنافيه ايضا.
  وأما أن هذه الكلمات ما هي ؟ فربما يحتمل انها هي ما يحكيه الله تعالى عنهما في سورة الاعراف بقوله : ( قَالاَ رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ ) الاعراف ـ 23 ، إلا أن وقوع هذه الكلمات أعني قوله : ( قَالاَ رَبَّنَا ظَلَمْنَا ) الآية قبل قوله : ( قلنا إهبطوا ) في سورة الاعراف ووقوع قوله ( فتلقى آدم ) الآية بعد قوله : قلنا اهبطوا ، في هذه السورة لا يساعد عليه.
  لكن هيهنا شئ : وهو أنك عرفت في صدر القصة أن الله تعالى حيث قال : ( إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً ) ، قالت الملائكة : ( أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ ) الآية وهو تعالى لم يرد عليهم دعويهم على الخليفة الارضي بما رموه به ولم يجب عنه بشئ إلا أنه علم آدم الاسماء كلها.
  ولو لا أنه كان فيما صنعه تعالى من تعليم الاسماء ما يسد باب إعتراضهم ذلك لم

الميزان في تفسير القران (الجزء الاول) _ 134 _
  ينقطع كلامهم ولا تمت الحجة عليهم قطعا ، ففي جملة ما علمه الله تعالى آدم من الاسماء أمر ينفع العاصي إذا عصى والمذنب إذا أذنب ، فلعل تلقيه من ربه كان متعلقا بشئ من تلك الاسماء فافهم ذلك.
  وإعلم أن آدم ( عليه السلام ) وإن ظلم نفسه في القائها إلى شفا جرف الهلكة ومنشعب طريقي السعادة والشقاوة أعني الدنيا ، فلو وقف في مهبطة فقد هلك ، ولو رجع إلى سعادتة الاولى فقد أتعب نفسه وظلمها ، فهو ( عليه السلام ) ظالم لنفسه على كل تقدير ، إلا أنه ( عليه السلام ) هيأ لنفسه بنزوله درجة من السعادة ومنزلة من الكمال ما كان ينالها لو لم ينزل وكذلك ماكان ينالها لو نزل من غير خطيئة.
  فمتى كان يمكنه أن يشاهد ما لنفسه من الفقر والمذلة والمسكنة والحاجة والقصور وله في كل ما يصيبه من التعب والعناء والكد روح وراحة في حظيرة القدس وجوار رب العالمين ، فلله تعالى صفات من عفو ومغفرة وتوبة وستر وفضل ورأفة ورحمة لا ينالها إلا المذنبون ، وله في أيام الدهر نفحات يرتاح بها إلا المتعرضون.
  فهذه التوبة هي التي إستدعت تشريع الطريق الذي يتوقع سلوكه وتنظيف المنزل الذي يرجى سكونة ، فورائها تشريع الدين وتقويم الملة.
  ويدل على ذلك ما تراه أن الله تعالى يكرر في كلامه تقدم التوبة على الايمان ، قال تعالى : ( فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَن تَابَ مَعَكَ ) هود ـ 112 ، وقال : ( وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِّمَن تَابَ وَآمَنَ ) طه ـ 82 ، إلى غير ذلك من الآيات.
  قوله تعالى : قلنا إهبطوا منها جميعا فإما يأتينكم مني هدى ، وهذا أول ما شرع من الدين لآدم ( عليه السلام ) وذريته ، أوجز الدين كله في جملتين لا يزاد عليه شئ إلى يوم القيامة.
  وأنت إذا تدبرت هذه القصة ( قصة الجنة ) وخاصة ما وقع في سورة طه وجدت أن المستفاد منها أن جريان القصة أوجب قضائين منه تعالى في آدم وذريته ، فأكل الشجرة أوجب حكمه تعالى وقضائه بالهبوط والاستقرار في الارض والحيوة

الميزان في تفسير القران (الجزء الاول) _ 135 _
  فيها تلك الحيوة الشقية التي حذرا منها حين نهيا عن إقتراب الشجرة هذا.
  وأن التوبة ثانيا : تعقب قضاء وحكما ثانيا منه تعالى بإكرام آدم وذريته بالهداية إلى العبودية فالمقضي أولا كان نفس الحيوة الارضية ، ثم بالتوبة طيب الله تلك الحيوة بأن ركب عليها الهداية إلى العبودية ، فتألفت الحيوة من حيوة أرضية ، وحيوة سماوية.
  وهذا هو المستفاد من تكرار الامر بالهبوط في هذه السورة حيث قال تعالى : ( وَقُلْنَا اهْبِطُواْ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ ) الآية وقال تعالى : ( قُلْنَا اهْبِطُواْ مِنْهَا جَمِيعاً فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى ) الآية.
  وتوسيط التوبة بين الامرين بالهبوط مشعر بأن التوبة وقعت ولما ينفصلا من الجنة وإن لم يكونا أيضا فيها كاستقرار هما فيها قبل ذلك.
  يشعر بذلك أيضا قوله تعالى : ( وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَن تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ ) الآية بعد ما قال لهما : لا تقربا هذه الشجرة فأتى بلفظة تلكما وهي إشارة إلى البعيد بعد ما أتى بلفظة هذه وهي إشارة إلى القريب وعبر بلفظة نادى وهي للبعيد بعد ما أتى بلفظة قال وهي للقريب فافهم.
  واعلم أن ظاهر قوله تعالى : ( وَقُلْنَا اهْبِطُواْ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ ) الآية وقوله تعالى : ( قَالَ فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ ) الآية أن نحوه هذه الحيوة بعد الهبوط تغاير نحوها في الجنة قبل الهبوط ، وان هذه حيوة ممتزجة حقيقتها بحقيقة الارض ذات عناء وشقاء يلزمها أن يتكون الانسان في الارض ثم يعاد بالموت إليها ثم يخرج بالبعث منها.
  فالحيوة الارضية تغاير حيوة الجنة فحيوتها حيوة سماوية غير أرضية.
  ومن هنا يمكن أن يجزم أن جنة آدم كانت في السماء ، وإن لم تكن جنة الآخرة جنة الخلد التي لا يخرج منها من دخل فيها.
  نعم : يبقي الكلام في معنى السماء ولعلنا سنوفق لاستيفاء البحث منه ، إنشاء الله تعالى.
  بقى هنا شئ وهو القول في خطيئة آدم فنقول ظاهر الآيات في بادي النظر

الميزان في تفسير القران (الجزء الاول) _ 136 _
  وان كان تحقق المعصية والخطيئة منه ( عليه السلام ) كما قال تعالى : ( فتكونا من الظالمين ، وقال تعالى : ( وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى ) الآية ، وكما إعترف به فيما حكاه الله عنهما : ( رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ ) الآية.
  لكن التدبر في آيات القصة والدقة في النهي الوارد عن أكل الشجرة يوجب القطع بأن النهي المذكور لم يكن نهيا مولويا وانما هو نهي إرشادي يراد به الارشاد والهداية إلى ما في مورد التكليف من الصلاح والخير لا البعث والارادة المولوية.
  ويدل على ذلك اولا : أنه تعالى فرع على النهى في هذه السورة وفي سورة الاعراف أنه ظلم حيث قال : ( لاَ تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الْظَّالِمِينَ ) ثم بدله في سورة طه من قوله : فتشقى مفرعا إياه على ترك الجنة ، ومعنى الشقاء التعب ثم ذكر بعده كالتفسير له : ( إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَى * وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَا وَلَا تَضْحَى ) الآيات.
  فأوضح أن المراد بالشقاء هو التعب الدنيوي ، الذي تستتبعه هذه الحيوة الارضية من جوع وعطش وعراء وغير ذلك.
  فألتوقي من هذه الامور هو الموجب للنهي الكذائي لا جهة اخرى مولوية فالنهى إرشادي ، ومخالفة النهى الارشادي لا توجب معصية مولوية ، وتعديا عن طور العبودية وعلى هذا فالمراد بالظلم أيضا في ما ورد من الآيات ظلمهما على انفسهما في القائها في التعب والتهلكة دون الظلم المذموم في باب الربوبية والعبودية وهو ظاهر.
  وثانيا : أن التوبة ، وهي الرجوع من العبد إذا استتبع القبول من جانب المولى أوجب كون الذنب كلا ذنب ، والمعصية كأنها لم تصدر ، فيعامل مع العاصي التائب معاملة المطيع المنقاد ، وفي مورد فعله معاملة الامتثال والانقياد.
  ولو كان النهى عن أكل الشجرة مولويا وكانت التوبة توبة عن ذنب عبودي ورجوعا عن مخالفة نهى مولوي كان اللازم رجوعهما إلى الجنة مع انهما لم يرجعا.
  ومن هنا يعلم أن استتباع الاكل المنهى للخروج من الجنة كان إستتباعا

الميزان في تفسير القران (الجزء الاول) _ 137 _
  ضروريا تكوينيا ، نظير إستتباع السم للقتل والنار للاحراق كما في وارد التكاليف الارشادية لا استتباعا من قبيل المجازاة المولوية في التكاليف المولوية ، كدخول النار لتارك الصلوة ، وإستحقاق الذم واستيجاب البعد في المخالفات العمومية الاجتماعية المولوية.
  وثالثا : أن قوله تعالى : ( قُلْنَا اهْبِطُواْ مِنْهَا جَمِيعاً فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَن تَبِعَ هُدَايَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ * وَالَّذِينَ كَفَرواْ وَكَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ) ، الآيات.
  وهو كلمة جامعة لجميع التشريعات التفصيلية التي أنزلها الله تعالى في هذه الدنيا من طرق ملائكته وكتبه ورسله ، يحكى عن اول تشريع شرع للانسان في هذه الدنيا التي هي دنيا آدم وذريته ، وقد وقع على ما يحكي الله تعالى بعد الامر الثاني بالهبوط ومن الواضح ان الامر بالهبوط أمر تكويني متأخر عن الكون في الجنة واقتراف الخطيئة ، فلم يكن حين مخالفة النهي واقتراب الشجرة لا دين مشروع ولا تكليف مولوي فلم يتحقق عند ذلك ذنب عبودي ، ولا معصية مولوية.
  ولا ينافي ذلك كون خطاب اسجدوا للملائكة ولابليس وهو قبل خطاب لا تقربا ، خطابا مولويا لان المكلف غير المكلف.
  فإن قلت : إذا كان النهى نهيا إرشاديا لا نهيا مولويا فما معنى عده تعالى فعلهما ظلما وعصيانا وغواية.
  قلت : اما الظلم فقد مر أن المراد به ظلمهما لانفسهما في جنب الله تعالى ، وأما العصيان فهو لغة عدم الانفعال أو الانفعال بصعوبة كما يقال : كسرته فإنكسر وكسرته فعصى ، والعصيان وهو عدم الانفعال عن الامر أو النهى كما يتحقق في مورد التكاليف المولوية كذلك يتحقق في مورد الخطابات الارشادية.
  وأما تعين معنى المعصية في هذه الازمنة عندنا جماعة المسلمين في مخالفة مثل صل ، أم صم ، أو حج ، أو لا تشرب الخمر ، أو لا تزن ونحو ذلك فهو تعين بنحو الحقيقة الشرعية أو المتشرعة لا يضر بعموم المعنى بحسب اللغة والعرف العام هذا.

الميزان في تفسير القران (الجزء الاول) _ 138 _
  وأما الغواية فهو عدم إقتدا الانسان مثلا على حفظ المقصد وتدبير نفسه في معيشته بحيث يناسب المقصد ويلائمه.
  وواضح أنه يختلف بإختلاف الموارد من إرشاد ومولوية.
  فإن قلت : فما معنى التوبة حينئذ وقولهما : ( وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ ) ؟ .
  قلت : التوبة كما مر هي الرجوع ، والرجوع يختلف بحسب إختلاف موارده.
  فكما يجوز للعبد المتمرد عن أمر سيده وإرادته أن يتوب إليه ، فيرد إليه مقامه الزائل من القرب عنده كذلك يجوز للمريض الذي نهاه الطبيب نهيا إرشاديا عن أكل شئ معين من الفواكه والمأكولات ، وانما كان ذلك منه مراعاة لجانب سلامته وعافيته فلم ينته المريض عن نهيه فإقترفه فتضرر فأشرف على الهلاك.
  يجوز ان يتوب إلى الطبيب ليشير إليه بدواء يعيده إلى سابق حاله وعافيته ، فيذكر له إن ذلك محتاج إلى تحمل التعب والمشقة العناء والرياضة خلال مدة حتى يعود إلى سلامة المزاج الاولية بل إلى اشرف منها وأحسن ، هذا.
  وأما المغفرة والرحمة والخسران فالكلام فيها نظير الكلام في نظائر ها في إختلافها بحسب إختلاف مواردها ، هذا.
  ( بحث روائي )
  في تفسير القمي عن أبيه رفعه قال : سئل الصادق ( عليه السلام ) عن جنة آدم أمن جنان الدنيا كانت أم من جنان الآخرة ؟ فقال ( عليه السلام ) : كانت من جنان الدنيا تطلع فيها الشمس والقمر ، ولو كانت من جنان الآخرة ما خرج منها أبدا ، قال ( عليه السلام ) : فلما أسكنه الله الجنة وأباحها له الا الشجرة ، لانه خلق خلقة لا يبقى الا بالامر والنهى والغذاء واللباس والاكتنان والنكاح ، ولا يدرك ما ينفعه مما يضره الا بالتوفيق ، فجائه إبليس فقال له : إنكما ان أكلمتا من هذه الشجرة التي نهاكما الله عنها صرتما ملكين ، وبقيتما في الجنة أبدا ، وإن لم تأكلا منها أخرجكما الله من الجنة ، وحلف

الميزان في تفسير القران (الجزء الاول) _ 139 _
  لهما أنه لهما ناصح كما قال الله عزوجل حكاية عنه : ( مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلاَّ أَن تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ * وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ ) فقبل آدم قوله فأكلا من الشجرة فكانا كما حكى الله ، فبدت لهما سوأتهما ، وسقط عنهما ما ألبسهما الله من الجنة ، وأقبلا يستتران من ورق الجنة ، وناديهما ربهما : ألم انهكما عن تلكما الشجرة وأقل لكما إن الشيطان لكما عدو مبين ، فقالا كما حكى الله عنهما : ربنا ظلمنا انفسنا وأن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين فقال الله لهما : إهبطوا بعضكم لبعض عدو ولكم في الارض مستقر ومتاع إلى حين ، قال : أي يوم القيامة ، قال : فهبط آدم على الصفا ، وإنما سميت الصفا لان صفي الله أنزل عليها ، ونزلت حواء على المروة وانما سميت المروة لان المرئة أنزلت عليها ، فبقي آدم أربعين صباحا ساجدا يبكي على الجنة ، فنزل عليه جبرئيل ، فقال أليس خلقك الله بيده ونفخ فيك من روحه وأسجد لك ملائكته ؟ قال : بلى ، وأمرك أن لا تأكل من الشجرة فعصيته ؟ قال آدم : إن ابليس حلف لي بالله كاذبا.
  اقول : وفي كون جنة آدم من جنان الدنيا روايات أخر من طريق أهل البيت وإن اتحد بعضها مع هذه الرواية في إبراهيم بن هاشم.
  والمراد بكونها من جنان الدنيا كونها برزخية في مقابل جنان الخلد ، كما يشير إليه بعض فقرات الرواية كقوله : فهبط آدم على الصفا ، وكقوله : ونزلت حواء على المروة ، وكقوله : إن المراد بحين يوم القيامة فيكون المكث في البرزخ بعد الموت مكثا في الارض طبقا لما في آيات البعث من القرآن من عد المكث البرزخي مكثا في الارض كما يشير إليه قوله تعالى : ( قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ * قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلْ الْعَادِّينَ * قَالَ إِن لَّبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا لَّوْ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ ) المؤمنون ـ 114 ، وقوله تعالى : ( وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ كَذَلِكَ كَانُوا يُؤْفَكُونَ * وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمَانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ فَهَذَا يَوْمُ الْبَعْثِ وَلَكِنَّكُمْ كُنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ) الروم ـ 56 ، على أن عدة من الروايات المنقولة عن اهل البيت تدل على أن الجنة كانت في السماء ، وأنهما نزلا من السماء ، على ان المستأنس بلسان الروايات لا يستوحش من كون الجنة المذكورة في السماء

الميزان في تفسير القران (الجزء الاول) _ 140 _
  والهبوط منها إلى الارض مع كونهما خلقا في الارض وعاشا فيها كما ورد في كون الجنة في السماء ووقوع سؤال القبر فيه وكونه روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النار وغير ذلك وارجو أن يرتفع هذا الاشكال وما يشاكله من الاشكالات فيما سيأتي من البحث في السماء انشاء الله العزيز.
  وأما كيفية مجئ ابليس اليهما ، وما إتخذه فيه من الوسيلة فالصحاح والمعتبرة من الروايات خالية عن بيانها.
  وفي بعض الاخبار ذكر الحية والطاووس عونين لابليس في إغوائه إياهما لكنها غير معتبرة ، أضربنا عن ذكرها وكأنها من الاخبار الدخيلة ، والقصة مأخوذه من التوراة وهاك لفظ التوراة في القصة بعينه :
  قال في الفصل الثاني من السفر الاول وهو سفر الخليقة : وإن الله خلق آدم ترابا من الارض ، نفخ في انفه الحيات ، فصار آدم نفسا ناطقا ، وغرس الله جنانا في عدن شرقيا ، وصير هناك آدم الذي خلقه ، وأنبت الله من الارض كل شجرة ، حسن منظرها وطيب مأكلها ، وشجرة الحياة في وسط الجنان ، وشجرة معرفة الخير والشر ، وجعل نهرا يخرج من عدن ليسقى الجنان ، ومن ثم يفترق فيصير أربعة أرؤس ، إسم أحدها النيل ، وهو المحيط بجميع بلد ذويلة الذي فيه الذهب ، وذهب ذلك البلد جيد ، ثم اللؤلؤ وحجارة البلور ، وإسم النهر الثاني جيحون ، وهو المحيط بجميع بلد الحبشة ، وإسم النهر الثالث دجلة ، وهو يسير في شرقي الموصل ، واسم النهر الرابع هو الفرات ، فأخذ الله آدم وأنزله في جنان عدن ليفلحه وليحفظه وأمر الله آدم قائلا : من جميع شجر الجنان جايز لك أن تأكل ، ومن شجرة معرفة الخير والشر لا تأكل ، فإنك في يوم أكلك منها تستحق أن تموت ، وقال الله لا خير في بقاء آدم وحده ، اصنع له عونا حذاه ، فحشر الله من الارض جميع وحش الصحراء وطير السماء وأتى بها إلى آدم ليريه ما يسميها ، فكل ما سمى آدم من نفس حية بإسم هو إسمه إلى الآن.
  فأسمي آدم أسماء لجميع البهائم وطير السماء وجميع وحش الصحراء ولم يجد آدم