حتّى انّ بعض المشايخ من العرفاء كان يدّعي انّ دلالة الآية على هذا المعنى أمر بديهي ، فقد نظر العارف إلى القرآن لا بنظر الاهتداء بل بنظر ما يدعم عقيدته ، مع أنّ الآية أجنبية عمّا رامه ، فإنّ الآية و ما بعدها بصدد بيان آياته سبحانه الكونية من جعل الليل لباساً والنوم سباتاً والنهار نشوراً ، وإرسال الرياح بشرى بين يدي رحمته ، إلى غير ذلك من الآيات ، فأي صلة لها بالوجود المنبسط على الماهيات ؟!
ومن القسم الثاني ، أعني : تفسير القرآن من غير استناد إلى أصل صحيح ، بل اعتماداً على ظاهر الآية من دون الوغول فيها بالأساليب المعهودة ، يقول سبحانه :
( وَما مَنَعْنا أَنْ نرسل بالآيات إِلاّ أن كذب بها الأَوّلُون وآتينا ثَمود الناقة مبصرة فظلمُوا بها وما نرسل بالآيات إلاّ تَخْويفاً ).
(1)
إنّ من يقتنع في تفسير القرآن بالقواعد العربية مع غض النظر عن سائر الأُصول ربما يجعل مبصرة وصفاً للناقة فيصف الناقة بالإبصار مع أنّها وصف لموصوف محذوف أي :
( وجعلنا الناقة آية مبصرة ) فالآية من قبيل الاختصار بحذف الموصوف.
الاجتهاد في فهم القرآن غير التفسير بالرأي
ثمّ إنّ المحظور هو التفسير بالرأي على ما عرفت ، وأمّا السعي وبذل الجهد في فهم مقاصد الآيات ومراميها عن الطرق المألوفة بين العلماء خلفاً عن سلف فليس بمحظور بل هو ممدوح ، بل لا محيص عنه في فهم القرآن الكريم.
فإنّ ما يهتدي إليه المفسر بعد التفكّر والتأمّل في مفردات الآية وجملها وسياقها ونظائرها من الآيات إذا كان له صلة لها فهو تفسير مقبول ولا صلة له
--------------------
(1) الإسراء : 59.
المناهج التفسيرية في علوم القرآن
_ 68 _
بالتفسير بالرأي ، وإذا كانت الآية ممّا تتضمن حكماً فقهياً يرجع في فهم الموضوع وشرائطه وجزئياته وموانعه إلى الروايات والاخبار المأثورة ، ثمّ يتمسك في موارد الشك في اعتبار شيء ، أو خروج فرد عن تحت الدليل بإطلاقها أو عمومها فلا يعد ذلك تفسيراً بالرأي بل اجتهاداً معقولاً ، مقبولاً في فهم الآية.
ولعلّ كون القرآن كتاب القرون والأجيال لا تنقضي عجائبه يلازم قبول هذا النوع من التفسير الاجتهادي ، ولأجل ذلك لم يزل كتاب اللّه طريّاً في غضون الأجيال لم يندرس ولم يطرأ عليه الاندراس ، بل هو طريّ ما دامت السماوات والأرض ، ولازم ذلك وجود معارف وحقائق في القرآن يهتدي إليها الإنسان بالتعمّق في دلالاته اللفظية : المطابقية والتضمنية والالتزامية ، وإن كان السلف في الأعصار الماضية غافلين عن هذه المعاني ، ولعلّه إلى ذلك يشير الصادق ( عليه السَّلام ) في جواب من سأله أنّه ما بال القرآن لا يزداد على النشر والدرس إلاّ غضاضة بقوله : ( لأنّ اللّه تبارك وتعالى لم يجعله لزمان دون زمان ، ولا لناس دون ناس ، وهو في كلّ زمان جديد ، وعند كلّ قوم غض إلى يوم القيامة ).
(1)
وبالجملة فإيصاد هذا الباب في وجه المفسرين ، يوجب وقف الحركة العلمية في فهم الكتاب العزيز ، وبالتالي يكون القرآن كسائر الكتب محدود المعنى ومقصور المراد لا يحتاج إلى تداوم البحث وتضافره.
ولأجل إعطاء نموذج من الاجتهاد الصحيح في فهم القرآن نذكر اجتهاد الإمام أبي الحسن الهادي ( عليه السَّلام ) في تفسير الآية.
روى ابن شهر آشوب في مناقبه ، قال :
--------------------
(1) بحار الأنوار : 92 / 15 ، باب فضل القرآن ، الحديث 8.
المناهج التفسيرية في علوم القرآن
_ 69 _
قُدِّم إلى المتوكل رجل نصراني فجر بامرأة مسلمة ، فأراد أن يقيم عليه الحد ، فأسلم ، فقال يحيى بن أكثم : الإيمان يمحو ما قبله ، و قال بعضهم : يضرب ثلاثة حدود ، فكتب المتوكل إلى الإمام الهادي ( عليه السَّلام ) يسأله ، فلما قرأ الكتاب ، كتب : ( يضرب حتى يموت ).
فأنكر الفقهاء ذلك ، فكتب إليه يسأله عن العلة ، فكتب :
( بسم اللّه الرّحمن الرّحيم * فلمّا رأوا بأسنا قالوا آمنّا باللّه وحده وكفرنا بما كنّا به مشركين * فلم يك ينفعهم إيمانهم لمّا رأوا بأسنا سنّة اللّه التي قد خلت في عباده وخسر هنالك الكافرون ) (1) فأمر به المتوكل فضرب حتى مات .
(2)
فالآية تدلّ بوضوح على أنّ الإيمان لدفع البأس ، غير نافع في دفعه وعليه جرت سنة اللّه سبحانه ، فليكن المقام من صغريات تلك الكبرى.
( تمّ الكلام في المقدّمات التمهيديّة فلنشرع في بيان المناهج التفسيرية )
--------------------
(1) غافر : 84 ـ 85.
(2) مناقب آل أبي طالب : 4 / 403 ـ 405.
المناهج التفسيرية في علوم القرآن
_ 71 _
المنهج الأوّل التفسير بالعقل وصوره :
1 ـ التفسير بالعقل الصريح الفطري
2 ـ التفسير على ضوء المدارس الكلامية
3 ـ التفسير على ضوء السنن الاجتماعية
4 ـ التفسير على ضوء العلم الحديث
5 ـ التفسير حسب تأويلات الباطنية
6 ـ التفسير حسب تأويلات الصوفية
المناهج التفسيرية في علوم القرآن
_ 73 _