أكثر المفسّرين في القرون الأُولى أخذوا علم التفسير من مستسلمة أهل الكتاب ، خصوصاً فيما يرجع إلى قصص الأنبياء وسيرة أقوامهم ، فلا يمكن الاعتماد على كلام هؤلاء.
  يقول المحقّق الشيخ محمد جواد البلاغي :
  وأمّا الرجوع في التفسير وأسباب النزول إلى أمثال عكرمة ومجاهد وعطاء وضحاك كما ملئت كتب التفسير بأقوالهم المرسلة ، فهو ممّا لا يعذر فيه المسلم في أمر دينه فيما بينه وبين اللّه ولا تقوم به الحجّة ، لأنّ تلك الأقوال إن كانت روايات فهي مراسيل مقطوعة ، ولا يكون حجّة من المسانيد إلاّ ما ابتنى على قواعد العلم الديني الرصينة ، ولو لم يكن من الصوارف عنهم إلاّ ما ذكر في كتب الرجال لأهل السنّة لكفى . (1)
  ثمّ ذكر ( قدَّس سرَّه ) ما ذكره علماء الرجال في كتبهم في حقّ عكرمة ومجاهد وعطاء والضحاك وقتادة ومقاتل الذين هم المراجع في نقل كثير من الإسرائيليات والمسيحيات في تفسير الآيات.

الإحاطة بتاريخ صدر الإسلام
  بعث النبي ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) من بين أُمّة أُميّة لها ثقافتها الخاصة وتقاليدها وعاداتها ، فالقرآن الكريم يشير في كثير من الآيات إلى تلك العادات الجاهلية المتوارثة ، إنّ الاطّلاع على تاريخ العرب قبل الإسلام وبعده يوضح مفاد كثير من الآيات ويكشف النقاب عنها ، فلنذكر نماذج لذلك :
  أ : انّه سبحانه يذكر في سورة الأنعام تقاليد العرب وعاداتهم ويقول :

--------------------
(1) آلاء الرحمن : 45.

المناهج التفسيرية في علوم القرآن _ 42 _

  ( وَجعَلُوا للّهِ مِمّا ذَرأ مِنَ الحَرْثِ والأَنعامِ نَصِيباً فَقَالُوا هذا للّهِ بِزَعْمِهِمْ وهذا لِشُركائِنا فَماكانَ لِشُركائِهِمْ فَلا يَصِلُ إلى اللّهِ وما كانَ للّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلى شُرَكائِهِمْ ساءَ ما يَحْكُمُون * وَكَذلِكَ زَيَّنَ لِكَثير مِنَ المُشْرِكينَ قَتْلَ أَولادِهِمْ شُركاؤُهُمْ لِيُرْدُوهُمْ وَلِيَلْبِسُوا عََلَيْهِمْ دينَهُمْ وَلَوْ شاءَ اللّهُ ما فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَما يَفْتَرُونَ * وَقالُوا هذِهِ أَنْعامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لاَ يَطْعَمُها إِلاَّ مَنْ نَشاءُ بِزَعْمِهِمْ وَأَنْعامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُها وَأَنْعامٌ لا يَذْكُرُونَ اسمَ اللّهِ عَلَيْهَا افْتراءً عَليهِ سَيَجْزِيهِمْ بِما كانُوا يَفْتَرُونَ ). (1)
  إنّ هذه الآيات يسودها كثير من الغموض والإبهام ، ولكن إذا رجعنا إلى ما رواه المؤرّخون في ذلك المضمار من تقاليدهم حينها يزاح الغموض الذي يكتنفها.
  ولا يقتصر المفسِّر على هذا المقدار من التاريخ ، فانّ الآيات النازلة في الغزوات والحروب ، وفي بعث السرايا لها دور في رفع الإبهام وانكشاف الحقيقة على ما هي عليه.
  وفي وسع المفسِّـر أن يرجع إلى الكتب المعدّة لبيان تاريخ الإسلام ، وأخص بالذكر ( السيرة النبوية ) لابن هشام ( المتوفّى عام 218 هـ ) وتاريخ اليعقوبي ( المتوفّى 290 هـ ) وتاريخ الطبري ( المتوفّى 310 هـ ) وتفسيره ، و ( مروج الذهب ) للمسعودي ( المتوفّى 345 هـ ) و ( الإمتاع ) للمقريزي ( المتوفّى 845 هـ ) إلى غير ذلك من الكتب المعدّة.
  قال الشيخ عبده : أنا لا أعقل كيف يعقل لأحد أن يفسر قوله تعالى : ( كانَ الناسُ أُمّةً واحدة فَبَعَثَ اللّهُ النّبيينَ مُبشِّرينَ ومُنذِرين ) (2) الآية ، وهو لا يعرف أحوال البشر ، وكيف اتّحدوا ؟ وكيف تفرّقوا ؟ وما معنى تلك الوحدة التي كانوا

--------------------
(1) الأنعام : 136 ـ 138.
(2) البقرة : 213.

المناهج التفسيرية في علوم القرآن _ 43 _

  عليها ؟ وهل كانت نافعة أو ضارة ؟ وماذا كان من آثار بعثة الأنبياء فيهم ؟ (1)
  والحقّ انّ تفسير الآيات الواردة في الأُمم الغابرة ابتداءً من آدم وانتهاءً إلى نبيّنا خاتم الأنبياء والرسل رهن الوقوف على تاريخهم وسيرتهم وأعرافهم.

تمييز الآيات المكّية عن المدنية
  عرف المكي بما نزل قبل الهجرة ، والمدني بما نزل بعدها ، سواء نزل بمكة أم بالمدينة ، عام الفتح أو عام حجّة الوداع أو بسفر من الأسفار. (2)
  ثمّ إنّ الوقوف على الآيات المدنية وتمييزها عن المكية يحصل من خلال أُسلوبين :
  الأوّل : الأخذ بأقوال المفسِّرين ومؤلّفي علوم القرآن ، فقد ميّزوا السور المكية عن السور المدنية ، كما ميّزوا الآيات المدنية التي جعلت في ثنايا السور المكية وبالعكس.
  الثاني : دراسة مضمون الآية وانّها هل كانت تناسب البيئة المكية أو المدنية ؟ حيث إنّ الطابعَ السائد على أكثر الآيات المكية هو مكافحة الشرك والوثنية ، ونقد العادات والتقاليد الجاهلية ، والدعوة إلى الإيمان بالمعاد ، والتنديد بالكافرين والمشركين ، في حين انّ الطابَع السائد على أكثر الآيات المدنية هو تشريع الأحكام في مختلف المجالات ، والجدال مع أهل الكتاب في إخفاء الحقائق ، والتنديد بالمنافقين الذين أظهروا الإسلام وأبطنوا الكفر ، إلى غير ذلك من العلائم والملامح التي يمكن أن يتميّز بها المكي عن المدني.

--------------------
(1) تفسير المنار : البقرة : تفسير الآية 213.
(2) الإتقان : 1 / 26.

المناهج التفسيرية في علوم القرآن _ 44 _

  وقد ذكر السيوطي بسند خاص عن ابن عباس أسماء السور المدنيّة بعدما أنهى ذكر السور المكّية ، وإليك أسماء السور المدنية ، وبالوقوف عليها تعلم السور المكّية :
  سورة البقرة ، ثمّ الأنفال ، ثمّ آل عمران ، ثمّ الأحزاب ، ثمّ الممتحنة ، ثمّ النساء ، ثمّ إذا زلزلت ، ثمّ الحديد ، ثمّ القتال ، ثمّ الرعد ، ثمّ الإنسان ، ثمّ الطلاق ، ثمّ لم يكن ، ثمّ الحشر ، ثمّ إذا جاء نصر اللّه ، ثمّ النور ، ثمّ الحج ، ثمّ المنافقون ، ثمّ المجادلة ، ثمّ الحجرات ، ثمّ التحريم ، ثمّ الجمعة ، ثمّ التغابن ، ثمّ الصف ، ثمّ الفتح ، ثمّ المائدة ، ثمّ براءة. (1)
  وأمّا الحاجة لتمييز المكي عن المدني فلأنّه يرفع الإبهام العالق ببعض الآيات ، مثلاً : انّ سورة الشورى التي ورد فيها قوله سبحانه : ( قُلْ لا أَسأَلُكُمْ عَليه أَجراً إِلاّ المَوَدَّة فِي القُربى ) (2) سورة مكية مع أنّ هذه الآية حسب المأثور المتواتر نزلت في أهل بيت النبي ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) أعني : علياً و فاطمة والحسن والحسين ( عليهم السَّلام ) فربما يستبعد نزولها في حقّ أهل البيت بحجة انّ السورة مكية ولم يكن يومذاك في مكة الحسن والحسين ، ولكنّه لو وقف على أنّ مكية السورة لا تلازم مكية عامة آياتها ، لما استبعد نزولها في حقّهم ، فكم من سورة مكية وقعت في ثناياها آيات مدنية وبالعكس ، وهذه السورة من القسم الأوّل وإن كانت مكية لكن بعض آياتها مدنية ومنها هذه الآية ، وقد صرح به علماء التفسير في كتبهم (3) ، حتى أنّك تجد في المصاحف المصرية المطبوعة تحت إشراف مشيخة الأزهر ، التصريح بأنّ سورة الشورى مكية إلاّ الآيات 23 ، 24 ، 25 ، 27 فمدنية .


--------------------
(1) الإتقان : 1 / 31.
(2) الشورى : 23.
(3) لاحظ كتاب ( نظم الدرر و تناسق الآيات والسور ) : تأليف إبراهيم بن عمر البقاعي الشافعي من علماء القرن التاسع ، وقد ذكر في كتابه انّ الآية مدنية.

المناهج التفسيرية في علوم القرآن _ 45 _

الوقوف على الآراء المطروحة حول الآية

  إنّ الآراء الموروثة من الصحابة والتابعين ثمّ علماء التفسير إلى يومنا هذا ثروة علمية ورثناها من الأقدمين ، وهم قد بذلوا في تفسير الذكر الحكيم جهوداً كبيرة ، فألّفوا مختصرات ومفصّلات وموسوعات حول القرآن الكريم ، فالإحاطة بآرائهم والإمعان فيها وترجيح بعضها على بعض بالدليل والبرهان من أُصول التفسير شريطة أن يبحث فيها بحثاً موضوعياً بعيداً عن كلّ رأي مسبق.

الاجتناب عن التفسير بالرأي (1)
  المراد من التفسير بالرأي هو انّ المفسِّر يتخذ رأياً خاصاً في موضوع بسبب من الأسباب ثمّ يعود فيرجع إلى القرآن حتى يجد له دليلاً من الذكر الحكيم يعضده ، فهو في هذا المقام ليس بصدد فهم الآية وإنّما هو بصدد إخضاع الآية لرأيه وفكره ، وبذلك يبتعد عن التفسير الصحيح للقرآن.
  وقد حذّر النبي ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) كافة المسلمين من التفسير بالرأي أو التفسير بغير علم ، فقال : ( من قال في القرآن بغير علم فليتبوّأ مقعده من النار ). (2)
  وقال : ( من تكلم في القرآن برأيه فأصاب فقد أخطأ ). (3)
  وليس النهي عن التفسير بالرأي منحصراً بالأحاديث النبوية ، بل القرآن الكريم يندّد بالتقوّل على اللّه بما لا يعلم ويقول : ( وَأَن تَقُولُوا عَلى اللّهِ مَا لا تَعْلَمُون ) (4).


--------------------
(1) وفي الحقيقة ، التفسير بالرأي من موانع التفسير الصحيح لا من شرائطه.
(2) أخرجه البيهقي من حديث ابن عباس كما في البرهان في علوم القرآن : 2 / 161.
(3) أخرجه أبو داود والترمذي والنسائي على ما في البرهان.
(4) البقرة : 169.

المناهج التفسيرية في علوم القرآن _ 46 _
  ويقول : ( لا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْم ) (1)
  فمن يفسِّر القرآن برأيه ، فقد قضى بما ليس له به علم وتقوّل على اللّه بما لا يعلم.
  وقد راج التفسير بالرأي بطابَع علمي في العصور المتأخرة بعد الثورة الصناعية التي اجتاحت الغرب ، فإنّ الفروض العلمية التي طرحت من قبل علماء الطبيعة والفلك هي فروض غير مستقرة لا يمكن الركون إليها في تفسير الذكر الحكيم ، ولذلك سرعان ماتتبدّل النظريات العلمية إلى أُخرى ؛ فمن حاول أن يخضع القرآن الكريم للاكتشافات العلمية الحديثة ، فقد فسّر القرآن برأيه ، وإن صدق في نيته وأراد إبراز جانب من جوانب الإعجاز القرآني ، ولنذكر نموذجاً : نشر جارلز داروين كتابه ( تحوّل الأنواع ) عام 1908 م فأثبت فيه وفق تحقيقاته انّ الإنسان هو النوع الأخير من سلسلة تطور الأنواع ، وانّ سلسلته تنتهي إلى حيوان شبيه بالقردة ، فذكر آباءه وأجداده بصورة شجرة خاصة مترنماً قول الشاعر :
أُولئك آبائي فجئني بمثلهم ...

  كان لنشر هذه النظرية ردّ فعل سيّئ في الأوساط الدينية دون فرق بين الأوساط المسيحية والمسلمة واليهودية الذين اتّفقوا على أنّ الإنسان كائن إبداعي وانّ سلسلته تنتهي إلى آدم أبي البشر الذي خُلق بهذه الصورة من دون أن يكون له صلة بسائر الحيوانات.
  ثمّ إنّ بعض السُّذَّج من الناس اتّخذوا تلك الفرضية ذريعة لتعارض العلم والدين وفصله عن الآخر ، فزعموا انّ منهج الدين غير منهج العلم ، فربما يجتمعان

--------------------
(1) الإسراء : 36.

المناهج التفسيرية في علوم القرآن _ 47 _
  وربما يفترقان.
  وهناك من لم يؤمن بفصل العلم عن الدين فحاول إخضاع القرآن الكريم للفرضية ، فأخذ يفسِّر ما يرجع إلى خلقة الإنسان في سور مختلفة على وجه ينطبق على تلك الفرضية.
  هذا و كان السجال حاداً بين المتعبّدين بالنص والمتأوّلين له إلى أن أثبت الزمان زيف الفرضية والفروض التي جاءت بعده حول خلقة الإنسان.
  وليست خلقة الإنسان موضوعاً فريداً في هذا الباب ، بل لم يزل أصحاب البدع والنحل في دأب مستمر لإخضاع القرآن لآرائهم وعقائدهم ، فهذه النحل الكثيرة السائدة بين المسلمين اتّخذوا القرآن ذريعة لعقائدهم ، فما من منتحل إلاّ ويستدلّ بالقرآن على صحة عقيدته مع أنّ الحقّ واحد وهؤلاء متكثّرون.

وكلّ يدّعي وصلاً بليلى      وليلى  لا تقرّ لهم iiبذاكا
  ولقد كان لتفسير القرآن بالرأي دور في ظهور النحل والبدع بين المسلمين ، وكأنّ القرآن نزل لدعم آرائهم ومعتقداتهم !! أعاذنا اللّه وإيّاكم من التفسير بالرأي. (1)
  هذه شرائط عشرة ينبغي للمفسِّر أن يتحلّى بها ، وهناك آداب أُخرى ذكرها العلماء في كتبهم لم نتعرض إليها خشية الإطالة.
  وثمة كلمة قيمة للعلاّمة الشيخ محمد جواد مغنية جاء فيها :
  ولابدّ لهذا العلم من معدّات ومؤهّلات ، منها العلوم العربية بشتى أقسامها ، وعلم الفقه وأُصوله ، ومنها الحديث وعلم الكلام ، ليكون المفسر على بيّنة ممّا يجوز

--------------------
(1) سيوافيك الكلام في حقيقة التفسير بالرأي في الأمر الرابع من التمهيدات.

المناهج التفسيرية في علوم القرآن _ 48 _
  على اللّه وأنبيائه ، وما يستحيل عليه وعليهم ، ومنها كما يرى البعض علم التجويد والقراءات.
  وهنا شيء آخر يحتاج إليه المفسر ، وهو أهم وأعظم من كلّ ما ذكره المفسرون في مقدمة تفاسيرهم ، لأنّه الأساس والركيزة الأُولى لتفهم كلامه جلّ وعلا ، ولم أر من أشار إليه ، وقد اكتشفته بعد ان مضيت قليلاً في التفسير ، وهو انّ معاني القرآن لا يدركها ، ولن يدركها على حقيقتها ، ويعرف عظمتها إلاّ من يحسها من أعماقه ، وينسجم معها بقلبه وعقله ، ويختلط إيمانه بها بدمه ولحمه ، وهنا يكمن السر في قول الإمام أمير المؤمنين ( عليه السَّلام ) : ( ذاك القرآن الصامت ، وأنا القرآن الناطق ). (1)

--------------------
(1) الكاشف : 1 / 9 ـ 10.

المناهج التفسيرية في علوم القرآن _ 49 _
القرآن قطعي الدلالة (1)
  قسّم الأُصوليون دلالة الكلام على معناه إلى : دلالة قطعية ، ودلالة ظنية ، فوصفوا دلالة النصوص على معانيها بالدلالة القطعية التي لا يحتمل خلافها ، ودلالة الظواهر دلالة ظنية تقابل الأُولى.
  هذا من جانب ، ومن جانب آخر انّ نصوص القرآن بالنسبة إلى الظواهر أقل ، وبذلك أصبحت دلالة القرآن على مضامينها دلالة ظنية لا قطعية.
  ولأجل وصف دلالة الظواهر على مقاصدها بالظنية ، سَهُل التصرف في القرآن الكريم بحجج عقلية أو علمية بحجّة انّ دلالة القرآن ظنية لا تقاوم الحجج الفعلية والبراهين العلمية.
  ولكن وصف دلالة الآيات بالظنية يوجب كون القرآن حجّة ظنية ومعجزة غير قطعية مع أنّ الإعجاز يقوم على أساس من القطع واليقين.
  فالإعجاز البياني قائم على جمال اللفظ وإناقة الظاهر من جانب ، وجمال العرض وسموّ المعنى وعلوّ المضمون من جانب آخر ، فلو كانت دلالة القرآن على الجانب الآخر ـ أي المعنى ـ دلالة ظنية يُصبح القرآن معجزة ظنية تبعاً لأخسّ

--------------------
(1) موضوع البحث هو النصوص والظواهر دون المجملات ، فهي خارجة عن محطّ البحث.

المناهج التفسيرية في علوم القرآن _ 50 _
  المقدّمتين ، وهذا من النتائج السلبية لتقسيم دلالة القرآن إلى القطعي والظنّي ولا يلتزم به أحد إذا أمعن ، ومع ذلك فنحن نعتقد ـ غير هذا ـ بأنّ دلالة الظواهر كالنصوص على معانيها دلالة قطعية لا ظنية ، وذلك بالبيان التالي : إنّ أساس المحاورة بين الناس هو القطع بالمراد من ظواهر الكلام لا الظن به ، وإلاّ لما قام صَرْح الحياة.
  كيف لا يكون كذلك فانّ ما يتفوّه به الطبيب يتلقّاه المريض مفهوماً واضحاً لا تردد فيه ، وما يتلقّاه السائل من الجواب من خبير يسكن إليه السائل بلا تردد.
  ومع ذلك فكيف يُدّعى انّ ظواهر الكتاب والسنّة أو ما دار بين النبي والسائل هي ظواهر ظنّية ؟!
  إنّ القضاء الحاسم في أنّ كشف الظواهر عن مراد المتكلّم هل هو كشف قطعي أو ظنّي ؟ يتوقّف على بيان المهمّة الملقاة على عاتق الظواهر و ما هي رسالتها في إطار المحاورة ، فلو تبيّن ذلك لسهل القضاء بأنّ الكشف قطعي أو ظنّي.
  فنقول : إنّ للمتكلّم إرادتين :
  1 ـ إرادة استعمالية ، وهي استعمال اللفظ في معناه ، أو إحضار المعاني في ذهن المخاطب ، سواء أكان المتكلّم جادّاً أو هازلاً أو مورّياً أو غير ذلك ، سواء أكان المعنى حقيقياً أو مجازياً.
  2 ـ إرادة جدية ، وهي انّ ما استعمل فيه اللفظ مراد له جداً ، وما هذا إلاّ لأنّه ربما يفارق المراد الاستعمالي ، المراد الجدي ، كما في الهازل والمورّي والمقنّن الذي يُرتِّب الحكم على العام والمطلق مع أنّ المراد الجدي هو الخاص والمقيد ، ففي هذه الموارد تغاير الإرادةُ الجدية الإرادةَ الاستعمالية ، إمّا تغايراً كليّاً كما في

المناهج التفسيرية في علوم القرآن _ 51 _
  الهازل والمورّي واللاغي ، أو تغايراً جزئياً كما في العام الذي أُريد منه الخاص ، أو المطلق الذي أُريد منه المقيد بالإرادة الجدية.
  وعلى ضوء ذلك فيجب علينا أن نحلّل أمرين :
  الأوّل : ما هي الرسالة الموضوعة على عاتق الظواهر ؟
  الثاني : ما هو السبب لتسميتها ظنوناً ؟
  أمّا الأوّل : فالوظيفة الملقاة على عاتق الظواهر عبارة عن إحضار المعاني التي تعلّقت بها الإرادة الاستعماليّة ، في ذهن المخاطب سواء أكانت المعاني حقائق أم مجازات ؛ فلو قال : رأيت أسداً ، فرسالته إحضار انّ المتكلّم رأى الحيوان المفترس ؛ وإذا قال : رأيت أسداً في الحمام ، فرسالته إحضار انّ المتكلّم رأى رجلاً شجاعاً فيه ، فكشف الجملة في كلا الموردين عن المراد الاستعمالي كشف قطعي وليس كشفاً ظنيّاً ، وقد أدّى اللفظ رسالته بأحسن وجه.
  وعلى ذلك لا تصحّ تسميته كشفاً ظنياً ، اللّهمّ إلاّ إذا كان الكلام مجملاً أو متشابهاً ، فالكلام عندئذ قاصر عن إحضار المعنى الاستعمالي بوجه متعيّـن ، لكنّهما خارجان عن محطّ البحث والكلام في الظواهر لا في المجملات.
  وأمّا الثاني : أي السبب الذي يوجب تسمية ذلك الكشف ظنياً ، فانّه يتلخص في الأُمور التالية :
  1 ـ لعلّ المتكلّم لم يستعمل اللفظ في أيّ معنى.
  2 ـ أو استعمل في المعنى المجازي ولم ينصب قرينة.
  3 ـ أو كان هازلاً في كلامه.
  4 ـ أو مورّياً في خطابه.
  5 ـ أو لاغياً فيما يلقيه.
  6 ـ أو أطلق العام وأراد الخاص.

المناهج التفسيرية في علوم القرآن _ 52 _
  7 ـ أو أطلق المطلق وأراد المقيّد.
  إلى غير ذلك من المحتملات التي توجب الاضطراب في كشف المراد الاستعمالي عن المراد الجدي على وجه القطع.
  ولكن أُلفت نظر القارئ إلى أُمور ثلاثة لها دور في المقام :
  1 ـ انّ علاج هذه الاحتمالات ليس من وظائف الظواهر حتى يوصف كشف الظواهر عن المراد الجدي لأجلها بالظنيّة ، وذلك لما عرفت من أنّ المطلوب من الظواهر ليس إلاّ شيء واحد ، وهو إحضار المعاني في ذهن المخاطب ، وأمّا الاحتمالات المذكورة وكيفية دفعها فليس لها صلة بالظواهر حتى يوصف كشفها لأجلها ، بأنّ دلالتها ظنيّة .
  2 ـ إنّ بعض هذه الاحتمالات موجود في النصوص ، فاحتمال كون المتكلم لاغياً ، أو هازلاً ، أو مورّياً أو متّقياً ، أو غير ذلك من الاحتمالات موجود فيها ، و مع ذلك نرى أنّهم يعدّونها من القطعيات.
  3 ـ إنّ القوم عالجوا هذه الاحتمالات بادّعاء وجود أُصول عقلائية دافعة لها ، ككون الأصل ، هو كون المتكلّم في مقام الإفادة ، لا الهزل ولا التمرين ، بدافع نفسي ، لا بدافع خارجي كالخوف وغيره.
  وقد عرفت أنّ الحياة الاجتماعية مبنيّة على المفاهمة بالظواهر ، ففي مجال المفاهمة والتفاهم بين الأُستاذ والتلميذ والبائع والمشتري والسائس والمسوس ، يعتبر المخاطبُ دلالة كلام المتكلّم على المراد الاستعمالي والجدي دلالة قطعية لا ظنيّة ، لأجل عدم الالتفات إلى تلك الاحتمالات وانسحابها عن الأذهان.
  نعم إذا كان هناك إبهام أو إجمال ، أو جرت العادة على فصل الخاص والقيد عن الكلام ، يكون الكلام إمّا غير ظاهر في شيء أو يكون حجّية الظهور

المناهج التفسيرية في علوم القرآن _ 53 _
  معلّقاً على عدم ورود دليل على الخلاف كما في مورد العام والمطلق.
  وبذلك خرجنا بأن كشف الظواهر عن المراد الاستعمالي ، بل المراد الجدي ، على ما عرفت أخيراً في مجال المفاهمة ، كشف قطعي ولا يُعرَّج إلى تلك الشكوك.

الصفات الخبرية و كون الظواهر قطعيّة
  إذا كان الأخذ بظواهر الكلام أمراً لازماً في الذكر الحكيم والسنّة القطعية ، فكيف تُفسّر الصفات الخبرية التي تدلّ بظواهرها على التجسيم والتشبيه تعالى عن ذلك علواً كبيراً ؟
  فهل يمكن لنا الأخذ بظاهر قوله سبحانه : ( وَالسّماءَ بَنَيْناها بِأَيْد وَإِنّا لَمُوسِعُون ) (1) ، فظاهر الآية يدلّ على أنّه سبحانه بنى السماء بأيديه وانّ له يداً كالإنسان ، كما أنّ ظاهر قوله سبحانه ( الرّحمنُ عَلى العَرْشِ اسْتَوَى ) (2) انّه سبحانه استقر على عرشه وسريره ، فالقول بلزوم الأخذ بالظواهر يستلزم حمل هذه الآيات على ظواهرها المنبئة عن التجسيم والجهة ؟
  هذا هو السؤال المطروح في المقام ، وللإجابة عنه ، نقول : قد عرفت أنّ الضابطة الكلية ، أعني : لزوم الأخذ بظاهر الكتاب والسنّة القطعية ، أمر لا يمكن النقاش فيها ، ولا يصحّ استثناء آية من تلك الضابطة بعدَ تشخيص الظاهر عن غيره ، فلو تبيّن بالدلائل القطعية ما هو الظاهر يجب اتّباعه ، لكن الكلام في تعيين الظاهر ، و تمييز الظهور التصديقي عن الظهور التصورّي ، والظهور البدوي عن الظهور النهائيّ ، ومثل هذا لا يتحقق إلاّ بالتأمّل والإمعان في

--------------------
(1) الذاريات : 47.
(2) طه : 5.

المناهج التفسيرية في علوم القرآن _ 54 _
  نفس الآية الكريمة وما اختصّ بها من القرائن اللفظية ، فعندئذ يتميّز الظاهر عن غيره فيجب الأخذ به بلا كلام. والتجسيم والتشبيه إنّما هو في الظهور البدوي ، دون الظهور النهائي بعد الإمعان في الآية.
  وما ربما يتصوّر من أنّ أهل العدل والتنزيه يحملون الآيات الواردة فيها الصفات الخبرية على خلاف ظواهرها ، فهو كلام غير صحيح ، فإنّهم لا يأخذون بالظهور التصوّري أو الظهور البدوي للآيات ، وأمّا الظهور التصديقي أو الاستقراري فيأخذونه بتمامه ، ولا يحملونها على غير ظاهرها.
  ولتمييز الظهور الجزئي عن الظهور الجملي ، والتصوّري عن التصديقي نأتي بمثالين :
  1 ـ إذا قلت : رأيت أسداً في الحمام ، فلفظة ( أسد ) وحدها ظاهرة في الحيوان المفترس ولكنّها بظهورها الجملي ظاهرة في الرجل الشجاع ، فلو قيل : إنّ الجملة حملت على خلاف ظاهرها ، فإنّما يصحّ بالنسبة إلى ظهور جزء من الكلام ، أعني : الأسد دون المجموع ، فاللازم للأخذ هو الظهور الجملي لا الجزئي.
  2 ـ إذا قلت : زيد كثير الرماد ، فالظهور البدوي انّ بيت زيد غير نظيف ولكنّه ظهور بدوي ، فإذا لوحظ انّ الكلام ورد في مقام المدح يكون قرينة على أنّ المراد لازم المعنى وهو الجود ، فلو قيل بأنّ الكلام حمل على خلاف ظاهره ، فإنّما هو بحسب ظهوره البدوي لا الاستقراري ، فالذي يجب الأخذ به هو الظهور الجملي لا الحرفي ، والظهور المستقر لا البدوي.
  وعلى ذلك فحمل الجملة الأُولى على الحيوان المفترس والثانية على الجود أخذ بالظاهر وليس فيه شائبة تأويل ، ومن يرمي هذه التفاسير بالتأويل فهو لا يفرق بين الظهورين : البدوي والاستقراري.
  إذا عرفت ذلك ، فاعلم أنّ الآيات الحاكية عن الصفات الخبرية إذا

المناهج التفسيرية في علوم القرآن _ 55 _
  لوحظت مع القرائن المحتفة بالكلام ، يتبيّن الظهور التصوّري عن التصديقي والابتدائي عن الاستقراري ، ويتبين انّ هذه الآيات غنية عن التأويل ( بمعنى حمل الظاهر التصديقي على خلاف ظاهره ) وأنّ دلالتها على معانيها قطعيّة لكن بالشرط الذي ذكرناه.
  ولأجل توضيح ذلك نفسر الآيات التي ورد فيها لفظ اليد حتى يتضح انّ تلك الآيات ليست بحاجة إلى التأويل بهذا المعنى ، أي حمل الظاهر على خلافه ، ويكون مقياساً لسائر الآيات التي ربما يكون ظاهرها البدويّ ، موهماً خلاف التنزيه :
  1 ـ يقول سبحانه ( قالَ يا إِبليسُ ما مَنَعَكَ أن تَسْجُدَ لِما خَلَقْتُ بِيَديّ أَسْتَكْبَرتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ العالين ). (1)
  فنقول : إنّ اليد في الآية استعمل في العضو المخصوص ولكن كُنِّي بها عن الاهتمام بخلقة آدم حتى يتسنّى بذلك ذم إبليس على ترك السجود لآدم ، فقوله سبحانه : ( ما منَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِما خَلَقْتُ بيدي ) كناية عن أنّ آدم لم يكن مخلوقاً لغيري حتى يصحّ لك يا شيطان التجنّب عن السجود له ، بحجة أنّه لا صلة له بي ، مع أنّه موجود خلقتُه بنفسي ، ونفخت فيه من روحي ، فهو مخلوقي الذي قمت بخلقه ، فمع ذلك تمرّدت عن السجود له.
  فأُطلقت الخلقةُ باليد وكُنّي بها عن قيامه سبحانه بخلقه ، وعنايته بإيجاده ، وتعليمه إيّاه أسماءه ، لأنّ الغالب في عمل الإنسان هو القيام به باستعمال اليد ، يقول : هذا ما بنيته بيدي ، أو ما صنعته بيدي ، أو ربيّته بيدي ، ويراد من الكل هو القيام المباشري بالعمل ، وربما استعان فيه بعينه وسمعه وغيرهما من الأعضاء ،

--------------------
(1) ص : 75.

المناهج التفسيرية في علوم القرآن _ 56 _
  لكنّه لا يذكرها ويكتفي باليد ، وكأنّه سبحانه يندد بالشيطان بأنّك تركتَ السجود لموجود اهتممت بخلقه وصنعه.
  2 ـ ( أَوَ لَمْ يَرَوْا أَنّا خَلَقْنا لَهُمْ مِمّاعَمِلَت أَيْدِينا أَنعاماً فَهُمْ لَها مالِكُون ) (1) فالمجسّمة المتعبّدة بظواهر النصوص البدوية تستدلّ بالآية على أنّ للّه سبحانه أيدي يقوم بها بالأعمال الكبيرة ، ولكن المساكين اغترّوا بالظهور التصوريّ ولم يتدبّروا في الظهور التصديقي ، أخذوا بالظهور الجزئي دون الجملي ، فلو كانوا ممعنين في مضمون الآية وما احتفّ بها من القرائن ، لميّزوا الظهور التصديقي الذي هو الملاك عن غيره ، فإنّ الأيدي في الآية كناية عن تفرّده تعالى بخلق الأنعام وانّه لم يشاركه أحد فيها ، فهي مصنوعة للّه تعالى والناس ينتفعون بها ، فبدل أن يشكروا ، يكفرون بنعمته ، وأنت إذا قارنت بين الآيتين تقف على أنّ المقصود هو المعنى الكنائي ، والمدار في الموافقة والمخالفة هو الظهور التصديقي لا التصوري.
  قال الشريف المرتضى (2) : قوله تعالى : ( لماخلقت بيدي ) جار مجرى قوله : ( لماخلقت أنا ) وذلك مشهور في لغة العرب. يقول أحدهم : هذا ما كسبتْ يداك ، وما جرت عليك يداك ، وإذا أرادوا نفي الفعل عن الفاعل استعملوا فيه هذا الضرب من الكلام فيقولون : فلان لا تمشي قدمه ، ولا ينطق لسانه ، ولا تكتب يده ، وكذلك في الإثبات ، ولا يكون للفعل رجوع إلى الجوارح في الحقيقة بل الفائدة فيه النفي عن الفاعل. (3)
  3 ـ قال سبحانه :( وَالسَّماء بَنَيْناها بِأَيد وَانّا لَمُوسِعُون ) (4) فاليد وإن كانت

--------------------
(1) يس : 71.
(2) أمالي المرتضى : 1 / 565.
(3) الكشاف : 3 / 21.
(4) الذاريات : 47.

المناهج التفسيرية في علوم القرآن _ 57 _
  ظاهرة في العضو الخاص لكنّها في الآية كناية عن القوة والإحكام بقرينة قوله : ( وانّا لموسعون ) وكأنّه سبحانه يقول : والسماء بنيناها بقدرة لا يوصف قدرها وإنّا لذو سعة في القدرة لا يعجزها شيء ، أو بنيناها بقدرة عظيمة ونوسعها في الخلقة.
  إلى هنا خرجنا بالنتائج التالية :
  1 ـ انّ دلالة ظواهر الكتاب والسنّة القطعية على مضامينها دلالة قطعية.
  2 ـ لا يجوز تأويل الآيات بمعنى حملها على خلاف ظاهرها إلاّ في مورد جرت السنّة فيه على إمكان إرادة خلاف الظاهر كما هو الحال في مجال التقنين والتشريع.
  3 ـ انّ اللازم في الصفات الخبرية ، أعني : اليد والرجل والعين والاستواء ، هو تحصيل الظهور التصديقي لا التصوّري ، والظهور الجملي لا الجزئي ، فعندئذ يتعبّد به ولا يعدل عنه ، ولا يحتاج إلى حمل الظاهر على خلافه.
  4 ـ انّ اليد في الآيات الثلاث ، إمّا كناية عن قيام الفاعل بالفعل مباشرة لا باستعانة من الغير كما في الآيتين الأُوليين ، أو كناية عن القدرة الخارقة.
  5 ـ حمل الآية على خلاف ظهورها البدوي أمر لا مانع منه ، لأنّ الظهور البدوي ليس بحجّة ومخالفته لا تعد خلافاً للحجة.
  وأمّا حمل الآية على خلاف ظاهرها التصديقي الذي استقر ظهور الكلام فيه أمر غير جائز مطلقاً إلاّ فيما جرت السيرة فيه ، أعني : مجال التشريع ، مثل : حمل المطلق على المقيد ، والعام على الخاص.
  وما ربما يتراءى من المشايخ من ( أنّ الظواهر خفيفة المؤنة يمكن التصرف فيها ) صحيح في الظهور البدوي أو الظهور الجزئي لا في الظهور الجملي والتصديقي الاستقراري.

المناهج التفسيرية في علوم القرآن _ 58 _
  سؤال : إذ كانت الظواهر قطعية الدلالة فما هو الوجه في اختلاف المفسرين ؟
  والجواب : انّ اختلافهم يرجع إلى الصغرى ، وهي عدم وجود ظاهر في البين لأجل الاختلاف في الأُمور التالية :
  1 ـ اختلاف القراءات.
  2 ـ اختلاف وجود الاعراب وإن اتفقت القراءات.
  3 ـ اختلاف اللغويين في معنى الكلمة.
  4 ـ اشتراك اللفظ بين معنيين فأكثر.
  5 ـ احتمال العموم والخصوص.
  6 ـ احتمال الإطلاق أو التقييد.
  7 ـ احتمال الحقيقة أو المجاز.
  8 ـ احتمال الإضمار أو الاستقلال.
  9 ـ احتمال الكلمة زائدة.
  10 ـ احتمال حمل الكلام على الترتيب وعلى التقديم والتأخير.
  11 ـ احتمال أن يكون الحكم منسوخاً أو محكماً.
  12 ـ اختلاف الرواية في التفسير عن النبي ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) وعن السلف ( رض ). (1)
  ما ذكره من وجوه الاختلاف صحيح لكن ثمة وجه آخر للاختلاف هو تطبيق الآية على العقيدة التي يعتنقها المفسر ، فالجبري يحاول صرف الآيات الدالة على الاختيار عن ظاهرها ، كما انّ التفويضي يسعى إلى صرف ما يدلّ بظاهره على أنّ للسماء دوراً في أفعال البشر ، إلى صرفها إلى خلاف ظاهرها ، وقلّما يتّفق أن يتجرّد

--------------------
(1) ابن الجوزي : التسهيل : 1 / 9.

المناهج التفسيرية في علوم القرآن _ 59 _
  المفسر من معتقداته والأُصول التي يتبناها ، وهذا هو العامل المهم في اختلاف المفسرين.
  ثمّ إنّ هناك وجهاً آخر للاختلاف وهو الاختلاف في الأُصول التي يجب أن يصدر عنها المفسر.
  فالشيعي الإمامي يصدر عمّـا روي عن النبي وأهل بيته ( عليهم السَّلام ) بطرق خاصة ويفسر بها الآيات لا سيّما فيما يرجع إلى الأحكام ، ولكن المفسر السنّي يصدر عن غير هذا المصدر فيأخذ بقول كلّ صحابي وإن أدرك النبي يوماً أو يومين أو شهراً ولم تثبت عدالته ، كما أنّ هناك من يأخذ بالإسرائيليات التي جرّت الويلات على المفسرين.

المناهج التفسيرية في علوم القرآن _ 60 _
التفسير بالرأي

  تضافرت الروايات على النهي عن التفسير بالرأي عن النبي والآل ( عليهم السَّلام ).
  روى الصدوق باسناده عن الإمام أمير المؤمنين ( عليه السَّلام ) قال : ( قال رسول اللّه ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) قال جلّ جلاله : ما آمن بي من فسّر برأيه كلامي ). (1)
  وقال الإمام أمير المؤمنين ( عليه السَّلام ) : ( إيّاك أن تفسر القرآن برأيك حتى تفقهه عن العلماء ) . (2)
  وروى أبو جعفر الطبري ، باسناده عن ابن عباس ، عن النبي ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) : ( من قال في القرآن برأيه فليتبوّأ مقعده من النار ). (3)
  أخرج الترمذي عن النبي ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) قال : ( اتّقوا الحديث إلاّما علمتم ، فمن كذب عليّ متعمداً فليتبوّأ مقعده من النار ، ومن قال في القرآن برأيه فليتبوّأ مقعده من النار ). (4)
  إلى غير ذلك من الروايات الواردة حول النهي عن التفسير بالرأي ، غير انّ الذي يجب التركيز عليه هو تحديد التفسير بالرأي ، فقد اختلفت كلمتهم في تفسير هذا الموضوع إلى أقوال :

--------------------
(1) أمالي الصدوق : المجلس الثاني : 6.
(2) التوحيد : الباب 36 ، ص 264.
(3) تفسير الطبري : 1 / 27.
(4) سنن الترمذي : 2 / 157 ، كتاب التفسير.

المناهج التفسيرية في علوم القرآن _ 61 _
أ ـ تفسير ما لا يدرك علمه إلاّ ببيان الرسول
  يظهر من الطبري انّه يخصُّ التفسير بالرأي بتفسير آي القرآن الذي لا يدرك علمه إلاّ بنص بيان الرسول ، ومن أظهر مصاديقه ، الآيات الواردة حول الفرائض كالصلاة والزكاة والحجّ حيث إنّ الأجزاء والشرائط والموانع رهن بيان الرسول ، يقول الطبري في ذلك الصدد :
  وهذه الأخبار شاهدة لنا على صحّة ما قلنا من أنّ ما كان من تأويل آي القرآن الذي لا يدرك علمه إلاّ بنصّ بيان رسول اللّه ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) أو بنصبه الدلالة عليه ، فغير جائز لأحد القيل فيه برأيه ، بل القائل في ذلك برأيه وإن أصاب الحقّ فيه فمخطئ فيما كان ، من فعله بقيله فيه برأيه ، لأنّ إصابته ليست إصابة موقن أنّه محقّ وإنّما هو إصابة خارص وظانّ والقائل في دين اللّه بالظن قائل على اللّه ما لم يعلم ، وقد حرم اللّه جلّ ثناؤه ذلك في كتابه على عباده ، فقال : ( قُلْ إِنّما حَرّمَ رَبّي الفَواحِش ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنْ وَالإِثْم وَالْبَغْي بِغَيْر الحَقّ وَأَنْ تُشركوا بِاللّه ما لَمْ يُنَزّل بِهِ سُلْطاناً وَأَنْ تَقُولُوا عَلى اللّهِ ما لا تَعْلَمُون ) فالقائل في تأويل كتاب اللّه الذي لا يُدرك علمه إلاّ ببيان رسول اللّه ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) الذي جعل اللّه إليه بيانه قائل بما لا يعلم وإن وافق قيله ذلك في تأويله ما أراد اللّه به من معناه ، لأنّ القائل فيه بغير علم قائل على اللّه ما لا علم له به. (1)
  الظاهر انّ ما ذكره من مصاديق التفسير بالرأي وليس التفسير بالرأي منحصراً به.
  ويظهر من السيد الخوئي ( قدَّس سرَّه ) احتمال ذلك المعنى ، قال :

--------------------
(1) تفسير الطبري : 1 / 27.

المناهج التفسيرية في علوم القرآن _ 62 _
  ويحتمل انّ معنى التفسير بالرأي ، الاستقلال في الفتوى من غير مراجعة الأئمّة ( عليهم السَّلام ) مع أنّهم قرناء الكتاب في وجوب التمسك ، ولزوم الانتهاء إليهم ، فإذا عمل الإنسان بالعموم أو الإطلاق الوارد في الكتاب ، ولم يأخذ التخصيص أو التقييد الوارد عن الأئمّة كان هذا من التفسير بالرأي. (1)

ب ـ إخضاع القرآن للعقيدة
  إنّ المراد من التفسير بالرأي هو أن يكون الرأي والعقيدة المسبقة هو الملاك للتفسير ، فالمفسّـر ـ مكان أن يتجرد عن الآراء المسبقة ويوطِّن نفسه على ما توحيه الآية حسب الأُصول والقواعد ـ يُخضع القرآن لعقيدته ، ويعرضه عليها ، مع أنّ القرآن حجّة اللّه على خلقه وعهده إلى عباده فيجب أن يُحتكم إليه ويصدر عن حكمه لا بالعكس.
  إنّ موقف المفسر من كلام اللّه موقف المتعلّم من المعلم ، وموقف مجتني الثمرة من الشجرة ، فيجب أن يتربص إلى أن ينطلق المعلّم في أخذ ما يلقيه ، ويجتني الثمرة في أوانها وفي إيناعها ، غير انّ هذه الأدوار تنعكس حين التفسير بالرأي.
  ومن هذه المقولة دعم أرباب الملل والنحل آرائهم و حججهم بالقرآن مع أنّ لهم آراء متضاربة ، والقرآن لا يعترف إلاّ بواحد منها ، وما ذلك لأنّهم يصدرون عن التفسير بالرأي ولا يحتكمون إلى القرآن بل ـ مكان عرض عقيدتهم على القرآن ـ يعرضون القرآن على العقيدة ويطبقونه عليها.

ج ـ تفسير القرآن بغير الأُصول الصحيحة
  تفسير القرآن بغير الأُصول والقواعد التي يتوقف التفسير عليها ، من مقولة

--------------------
(1) البيان : 288.

المناهج التفسيرية في علوم القرآن _ 63 _
  التفسير بالرأي ، فإنّ لتفسير كلّ كلام ـ إلهياً كان أم بشرياً ـ أُصولاً لا يعرف المراد من غيره إلاّ في ظلها ، وقد عرفت تلك المقدّمات عند البحث في ما يهمّ المفسّر.
  وقد أُريد الوجهان من الروايات الناهية عن التفسير بالرأي ، وقد اختارهما لفيف من المحقّقين ، نذكر ما يلي :
  قال أبو عبد اللّه محمد بن أحمد الأنصاري القرطبي ( المتوفّى 671 هـ ) قال ـ بعد نقل روايات ناهية عن التفسير بالرأي ـ :
  إنّ النهي يحمل على أحد وجهين
  أحدهما : أن يكون له في الشيء رأي ، وإليه ميل من طبعه وهواه ، فيتأوّل القرآن على وفق رأيه وهواه ، ليحتج على تصحيح غرضه ، ولو لم يكن له ذلك الرأي والهوى لما يلوح له من القرآن ذلك المعنى ، وهذا النوع يكون تارة مع العلم كالذي يحتج ببعض آيات القرآن على تصحيح بدعته ، وهو يعلم ان ليس المراد من الآية ذلك ، ولكن مقصوده أن يُلبس على خصمه ، وتارة يكون مع الجهل وذلك إذا كانت الآية محتملة فيميل فهمه إلى الوجه الذي يوافق غرضه ، ويرجِّح ذلك الجانب برأيه وهواه ، فيكون قد فسّر برأيه ، أي رأيه حملَه على ذلك التفسير ، ولولا رأيه لما كان يترجح عنده ذلك الوجه.
  الثاني : أن يتسارع إلى تفسير القرآن بظاهر العربية ، من غير استظهار بالسماع والنقل فيما يتعلق بغرائب القرآن وما فيه من الألفاظ المبهمة ، وما فيه من الاختصار والحذف والإضمار والتقديم والتأخير ، فمن لم يُحكِّم ظاهر التفسير وبادر إلى استنباط المعاني بمجرد فهم العربية كثر غلطه ، ودخل في زمرة من فسر القرآن بالرأي ، والنقل والسماع لابدّ له منه في ظاهر التفسير ليتقى به مواضع الغلط ، ثمّ بعد ذلك يتسع الفهم والاستنباط ، والغرائب التي لا تفهم إلاّ بالسماع كثيرة ، ولا

المناهج التفسيرية في علوم القرآن _ 64 _
  مطمع في الوصول إلى الباطن قبل إحكام الظاهر . (1)
  وقد اختار ابن عاشور ( المتوفّـى عام 1284 هـ ) هذا المعنى ، فذكر للتفسير بالرأي هذين الوجهين ، أيضاً وقال :
  الأوّل : أن يكون له ميل إلى نزعة أو مذهب أو نحلة فيتأوّل القرآن على وفق رأيه ويصرفه عن المراد ويُرغمه على تحمله ما لا يساعد عليه المعنى المتعارف ، فيجرّ شهادة القرآن لتقرير رأيه ، ويمنعه عن فهم القرآن حقّ فهمه ما قيّد عقله من التعصب ، عن أن يجاوزه فلا يمكنه أن يخطر بباله غير مذهبه.
  الثاني : انّ المراد بالرأي هو القول عن مجرّد خاطر دون استناد إلى نظر في أدلّة العربية ومقاصد الشريعة وتصاريفها ، وما لا بدّ منه من معرفة الناسخ والمنسوخ وسبب النزول فهذا لا محالة إن أصاب فقد أخطأ في تصوره بلا علم. (2)
  فعلى ذلك التفسير بالرأي يتلخص في أمرين :
  الأوّل : أن يتوخى من تفسير القرآن دعم عقيدته ورأيه المُسْبَق حتى يحتج بالآية على الخصم أو يبرر به عمله ، ففي ذلك الموقف ينظر المفسر إلى القرآن لا بنظر الاهتداء بل بنظر دعم موقفه وعقيدته ومذهبه.
  الثاني : الاستبداد بالرأي في تفسير القرآن من دون أن يقتفي الأُسلوب الصحيح في تفسير القرآن حسب ما قدمناه عند البحث في مؤهلات المفسر.
  ويظهر من السيد الطباطبائي انّه خص التفسير بالرأي بالقسم الثاني ببيان آخر وهو أنّ كلام اللّه سبحانه لرفع مستواه لا يُفسّر كما يفسّر به كلام الإنسان حيث قال :

--------------------
(1) تفسير القرطبي : 1 / 33 ـ 34 ، ولاحظ تفسير الصافي : 1 / 39.
(2) التحرير والتنوير : 1 / 30 ـ 31.

المناهج التفسيرية في علوم القرآن _ 65 _
   إنّ الاضافة في قوله ( برأيه ) يفيد معنى الاختصاص والانفراد والاستقلال ، بأن يستقل المفسر في تفسير القرآن بما عنده من الأسباب في فهم الكلام العربي ، فيقيس كلامه تعالى بكلام الناس ، فانّ قطعة من الكلام من أيِّ متكلم إذا ورد علينا ، لم نلبث دون أن نعمل فيه القواعد المعمولة في كشف المراد الكلامي ، ونحكم بذلك انّه أراد كذا ، كما نجري عليه في الأقارير والشهادات وغيرهما كلّ ذلك لكون بياننا مبنياً على ما نعلمه من اللغة ، ونعهده من مصاديق الكلمات ، حقيقة ومجازاً.
  والبيان القرآني غير جار هذا المجرى ، بل هو كلام موصول بعضه ببعض ، في حين انّه مفصول ينطق بعضه ببعض ، ويشهد بعضه على بعض كما قاله علي ( عليه السَّلام ).
  فلا يكفي ما يتحصل من آية واحدة باعمال القواعد المقررة في العلوم المربوطة في انكشاف المعنى المراد منها دون أن يتعاهد جميع الآيات المناسبة لها ويجتهد في التدبر فيها كما يظهر من قوله تعالى : ( أَفَلا يَتَدبَّرون القُرآن وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْد غَير اللّهِ لَوَجَدُوا فيهِ اختلافاً كَثيراً ). (1)
  فالتفسير بالرأي المنهي عنه أمر راجع إلى طريق الكشف دون المكشوف.
  وبعبارة أُخرى : إنّما نهى ( عليه السَّلام ) عن تفهّم كلامه على نحو ما يتفهّم به كلام غيره وإن كان هذا النحو من التفهّم ربما صادف الواقع ، والدليل على ذلك قوله ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) في الرواية الأُخرى : ( من تكلّم في القرآن برأيه فأصاب فقد أخطأ ) فانّ الحكم بالخطأ مع فرض الإصابة ليس إلاّ لكون الخطأ في الطريق.
  والمحصل : انّ المنهي عنه إنّما هو الاستقلال في تفسير القرآن واعتماد المفسر

--------------------
(1) النساء : 82.