المنهج الثاني / 2
التفسير البياني للقرآن
  هذا المنهج الذي ابتكره حسب ما تدّعيه الدكتورة عائشة عبد الرحمن بنت الشاطئ أُستاذها الأمين الخولي المصري ، عبارة عن استقراء اللفظ القرآني في كل مواضع وروده للوصول إلى دلالته وعرض الظاهرة الاسلوبية على كل نظائرها في الكتاب المحكم ، وتدبّر سياقها الخاص في الآية والسورة ثم سياقها العام في المصحف كلّه التماساً لسرّه البياني.
  وحاصل هذا المنهج يدور على ضوابط ، وهي :
  ألف : التناول الموضوعي لما يراد فهمه من القرآن ، ويُبدأ بجمع كل ما في الكتاب المحكم من سور وآيات في الموضوع المدروس.
  ب : ترتّب الآيات فيه حسب نزولها ، لمعرفة ظروف الزمان والمكان كما يستأنس بالمرويات في أسباب النزول من حيث هي قرائن لابست نزول الآية دون أن يفوت المفسّـر أنّ العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب الذي نزلت فيه الآية.
  ج : في فهم دلالات الألفاظ يُقدّر أنّ العربية هي لغة القرآن ، فتلتمس الدلالة اللغوية الأصلية التي تعطينا حس العربية للمادة في مختلف استعمالاتها الحسية والمجازية.

المناهج التفسيرية في علوم القرآن _ 146 _

  ثم يخلص لِلَمحِ الدلالة القرآنية بجمع كل ما في القرآن من صيغ اللفظ وتدبّر سياقها الخاص في الآية والسورة وسياقها العام في القرآن كله.
  د : وفي فهم أسرار التعبير يحتكم إلى سياق النص في الكتاب المحكم ملتزمين ما يحتمله نصاً وروحاً ، ويعرض عليه أقوال المفسّرين فيقبل منها ما يقبله النص.
  هذا خلاصة هذا المنهج الذي ابتكره الأُستاذ الخولي المصري واقتفت أثره تلميذته بنت الشاطئ ، فخرج من هذا المنهج كتاب باسم ( التفسير البياني للقرآن الكريم ) في جزأين تناول تفسير السور التالية في الجزء الأوّل : ( الضحى ، والشرح ، الزلزلة ، النازعات ، العاديات ، البلد ، التكاثر ) كما تناول في الجزء الثاني تفسير السور التالية : ( العلق ، القلم ، العصر ، الليل ، الفجر ، الهمز ، الماعون ).
  ولا شك أنّه نمط بديع بين التفاسير ، إذ لا يماثل شيئاً مما أُلّف في القرون الماضية من زمن الطبري إلى العصر الأخير الذي عرف فيه تفسير الإمام عبده وتفسير المراغي ، فهذا النمط لا يشابه التفاسير السابقة ، غير أنّه لون من التفسير الموضوعي أوّلاً ، وتفسير القرآن بالقرآن ثانياً ، والنقطة البارزة في هذا النمط هو استقراء اللفظ القرآني في كل مواضع وروده في الكتاب.
  وبعبارة أُخرى : يهتم المفسّر في فهم لغة القرآن بالتتبع في جميع صيغ هذا اللفظ الواردة في القرآن الكريم ثم يخرج من ضمّ بعض إلى بعض بحقيقة المعنى اللغوي الأصيل ، وهو لا يترك هذا العمل حتى في أوضح الألفاظ ، مثلاً تتبع في تفسير قوله سبحانه : ( ألَم نَشرَح لَكَ صَدرَك ) كل آية ورد فيها مادة ( الشرح ) بصورها ، أو كل آية ورد فيها مادة ( الصدر ) بصيغه المختلفة ، وهكذا في كل كلمة حتى وإن كان معناها واضحاً عندنا لكنّه لايعتني بهذا الوضوح ، بل يرجع إلى

المناهج التفسيرية في علوم القرآن _ 147 _

  نفس القرآن ثم يطبّق عليه سائر الضوابط من تدبّر سياق الآية وسياق السورة ، وسياق الآية العام في القرآن كله.
  والذي يؤخذ على هذا النوع من التفسير أنّه أمر بديع قابل للاعتماد ، غير أنّه لا يكفي في تفسير الآيات الفقهية بلا مراجعة السنّة ، لأنّها عمومات فيها مخصصها ، أو مطلقات فيها مقيدها ، أو مجملات فيها مبينها.
  نعم هذا النمط من التفسير يُغني عن كثير من الأبحاث اللغوية التي طرحها المفسرون ، لأنّ المفسّـر في هذا النمط يريد أن يستخرج معنى اللفظ منالتدبّر في النص القرآني ، نعم معاجم العربية وكتب التفسير تعينه في بداية الأمر.
  وربما يوجد في روايات أهل البيت في مواضع ، هذا النوع من النمط ، وهو الدقة في خصوصيات الآية وجملها ومفرداتها.
  1 ـ روى الصدوق بإسناده عن زرارة قال : قلت لأبي جعفر ( عليه السَّلام ) : ألا تخبرني من أين علمت وقلت : إنّ المسح ببعض الرأس وبعض الرجلين ؟ فضحك فقال : ( يا زرارة قاله رسول اللّه ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) ونزل به الكتاب من اللّه عزّ وجلّ ، لأنّ اللّه عزّ وجلّ قال : ( فاغْسِلُوا وُجُوهَكُم ) فعرفنا أنّ الوجه كلّه ينبغي أنّ يغسل ، ثم قال : ( وأيْدِيَكُمْ إلى المَرَافِق ) فعرفنا أنّه ينبغي لهماأن يغسلا إلى المرفقين ، ثم فصل بين الكلامين فقال : ( وامسَحُوا بِرؤُوسِكُم ) أنّ المسح ببعض الرأس لمكان ( الباء ) ثم وصل الرجلين بالرأس ، فعرفنا حين وصلهما بالرأس أنّ المسح على بعضهما ، ثم فسر ذلك رسول اللّه ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) للناس فضيّعوه ) (1).

--------------------
(1) الوسائل : 1 ، الباب 23 من أبواب الوضوء ، الحديث 1 ، والآية 6 من سورة المائدة.

المناهج التفسيرية في علوم القرآن _ 148 _

  2 ـ روى الكليني بسند صحيح عن حمّاد بن عيسى ، عن أبي عبد اللّه ( عليه السَّلام ) أنّه سئل عن التيمّم ، فتلا هذه الآية : ( والسّارِقُ والسّارِقَةُ فاقطَعُوا أيْدِيَهُما ) وقال : ( فاغسِلُوا وجُوهَكُمْ وأيْدِيَكُمْ إلى المَرَافِق ) قال : فامسح على كفّيك من حيث موضع القطع (1).
  فقد استظهر الإمام في التيمّم كفاية المسح على الكفين بحجّة أنّه أطلق الأيدي في آية السرقة والتيمّم ولم تقيّد بالمرافق وقال : ( فَلَم تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعيداً طَيّباً فَامسَحُوا بِوجُوهِكُم وأيْدِيكُم مِنه ) (2) فعلم أنّ القطع والتيمّم ليس من المرفقين.
  وأمّا التعبير عن الزند بموضع القطع ـ مع انّه ليس موضع القطع عند السرقة كما مرّ ـ فانّما هو لأجل إفهام مبدأ المسح بالتعبير الراسخ ذلك اليوم ، أي موضع القطع عند القوم.
  3 ـ سأل أبو بصير أحد الصادقين عليمها السَّلام هل كانت صلاة النبي إلى بيت المقدس بأمر اللّه سبحانه أو لا ؟ قال : ( نعم ، ألا ترى أنّ اللّه تعالى يقول : ( وَما جَعَلنا القِبْلَةَ التي كُنْتَ عَلَيها إلاّ لِنَعلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرَّسُول ) ) (3).

--------------------
(1) الوسائل : 2 ، الباب 13 من أبواب التيمم ، الحديث 2. والآية 38 و 6 من سورة المائدة.
(2) المائدة : 6.
(3) الوسائل : 3 ، الباب 2 من أبواب القبلة ، الحديث 2. والآية 143 من سورة البقرة.

المناهج التفسيرية في علوم القرآن _ 149 _

  المنهج الثاني / 3
تفسير القرآن باللغة والقواعد العربية
  ففي هذا المنهج يهتم المفسّـر اهتماماً شديداً بالقراءة حتى يقف على الصحيح منها ، لأنّه ينبعث عن تحريف القراءة ، تحريف اللفظ القرآني المنزل ، ومن ثمّ تحريف المعنى.
  فالحرص على سلامة المنطق حرص على سلامة معنى النص القرآني ، وصيانته من الشبهة أو التحريف.
  والاهتمام بالقراءة يستدعي ـ منطقياً ـ الاهتمام بالصنعة النحوية ، في النص القرآني إذ أنّ هذا الاهتمام بضبط أواخر الكلمات ، إنّما يقصد أساساً إلى المعنى ، فعلى المعنى يدور ضبط الكلمة وإعرابها ، فالفاعل يرفع والمفعول به ينصب وما لحقه من الجر بسبب من أسبابه يجر.
  فالتفات النحويين إلى إعراب القرآن كان التفاتاً طبيعياً ، لأنّ الغاية من وضع النحو هو خدمة معنى القرآن وتحليته.
  ففي ضوء ضبط القراءة ثم ضبط الإعراب القرآني ، يتضح مفاد الآية في هذا الإطار الخاص ، مضافاً إلى تحقيق مفردات الآية لغوياً ، وتوضيح معانيها الأصيلة.
  وعلى هذا النمط تجد التفاسير الآتية :

المناهج التفسيرية في علوم القرآن _ 150 _
  1 ـ ( معاني القرآن ) : تأليف ابن زكريا يحيى بن زياد الفرّاء ( المتوفّى 207 هـ ) ففسر مشكل إعراب القرآن ومعانيه على هذا المنهج ، وقد طبع الكتاب في جزأين ، حقّقهما محمد علي النجار وأحمد يوسف نجاتي.
  ويبدو من ديباجة الكتاب أنّ الفرّاء شرع في تأليفه سنة ( 204 هـ ).
  والكتاب قيّم في نوعه ، وإن كان غير واف بعامة مقاصد القرآن الكريم.
  2 ـ ( مجاز القرآن ) لأبي عبيدة معمر بن المثنى ( المتوفّى 213 هـ ) وقيل غير ذلك.
  يقول في مقدّمة الكتاب : قالوا : إنّما أُنزل القرآن بلسان عربي ومصداق ذلك في آية من القرآن ، وفي آية أُخرى : ( وَما أرسَلنا مِن رَسُول إلاّ بِلسانِ قَومِه ) (1) فَلم يحتج السلف ولا الّذين أدركوا وحيه إلى النبي أن يسألوا عن معانيه ، لأنّهم كانوا عرب الألسن ، فاستغنوا بعلمهم به عن المسألة عن معانيه ، وعمّا فيه ممّا في كلام العرب من وجوه الإعراب ، ومن الغريب والمعاني.
  وهذا يعرب عن أنّه كان معتقداً بأنّ الإحاطة باللغة العربية ، كافية في إخراج معاني القرآن وهو كما ترى.
  نعم القرآن نمط من التعبير العربي لكن ليس كل تعبير عربي غنياً عن البيان ، خصوصاً في مجال التشريع والتقنين الذي نرى تفصيله في السنّة.
  ولا يقصد أبو عبيدة من المجاز ما يقابل الحقيقة ، بل يريد ما يتوقف فهم الآية على تقدير محذوف ، وما شابه ذلك ، وهو على غرار ( مجازات القرآن ) للشريف الرضي ـ رضوان اللّه عليه ـ ولكن الشريف خصّص كتابه بالمجاز بشكله المصطلح.

--------------------
(1) إبراهيم : 4.

المناهج التفسيرية في علوم القرآن _ 151 _
  مثلاً يقول أبو عبيدة : ومن المحتمل من مجاز ما اختصر وفيه مضمر ، قال : ( وانطَلَقَ المَلأُ مِنهُم أنِ امشُوا وَاصبِرُوا ) (1) فهذا مختصر فيه ضمير مجازه : ( وانطلق الملاء منهم ) ثم اختصر إلى فعلهم وأضمر فيه وتواصوا أن امشوا أو تنادوا أن امشوا أو نحو ذلك.
  وفي آية أُخرى : ( ماذا أرادَ اللّهُ بِهذا مَثلاً ) (2) فهذا من قول الكفّار ، ثم اختصر إلى قول اللّه ، وأُضمر فيه قل يا محمّد ، ( يُضِلُّ بِهِ كَثيراً ) (3) فهذا من كلام اللّه.
  ومن مجاز ما حُذف وفيه مضمر ، قال : ( واسْئَلِ القَرْيَةَ التي كُنَّا فِيها والعِيرَ التي أَقبَلْنا فِيها ) ، (4) فهذا محذوف فيه ضمير مجازه : واسأل أهل القرية ، ومَن في العير، وقد طبع الكتاب وانتشر.
  3 ـ ( معاني القرآن ) لأبي إسحاق الزجاج ( المتوفّـى 311 هـ ) يحدّد ابن النديم تاريخ تأليف هذا الكتاب في نص قرأه على ظهر كتاب المعاني : ابتدأ أبو إسحاق إملاء كتابه الموسوم بمعاني القرآن في صفر سنة 285 هـ وأتمّه في شهر ربيع الأوّل سنة 301 هـ.
  والكتاب بعد مخطوط ومنه نسخ متفرقة في المكتبات.
  4 ـ ( تلخيص البيان في مجازات القرآن ) : تأليف الشريف الرضي أبي الحسن ، محمد بن الحسين ( 359 ـ 406 هـ ).
  يقول في أوّله : إنّ بعض الإخوان جاراني وذكر ما يشتمل عليه القرآن من عجائب الاستعارات وغرائب المجازات ، التي هي أحسن من الحقائق مَعْرضاً

--------------------
(1) ص : 6.
(2) البقرة : 26.
(3) البقرة : 26.
(4) يوسف : 82.

المناهج التفسيرية في علوم القرآن _ 152 _
  وأنفع للعلة معنى ولفظاً ، وإنّ اللفظة التي وقعت مستعارة لو أوقعت في موقعها ، لفظة الحقيقة لكان موضعها نابياً بها ، ونصابها قلقاً بمركّبها ، إذا كان الحكيم سبحانه لم يورد ألفاظ المجازات لضيق العبارة عليه ، ولكن لأنّها أجلى في أسماع السامعين ، وأشبه بلغة المخاطبين ، وسألني أن أجرد جميع ما في القرآن في ذلك على ترتيب السور ليكون اجتماعه أجل موقعاً وأعم نفعاً ، وليكون في ذلك أيضاً فائدة أُخرى.
  ( إلى أن قال ) وقد أوردت في كتابي الكبير ( حقائق التأويل في متشابه التأويل ) طرفاً كبيراً من هذا الجنس ، أطلتُ الكلام والتنبيه على غوامض العجائب التي فيه من غير استقصاء أوانه (1).
  وبهذا البيان امتاز نمط هذا التأليف عمّا ألّفه أبو عبيدة وأسماه بمجاز القرآن.
  فالشريف يروم من المجاز القسم المصطلح ، ولكنّ أبا عبيدة يروم الكلام الخارج على غير النمط العادي من حذف وتقدير وتأخير ، وإضمار وغير ذلك.

--------------------
(1) تلخيص البيان في مجازات القرآن : 2 ، طبع عالم الكتب.

المناهج التفسيرية في علوم القرآن _ 153 _
  المنهج الثاني / 4
تفسير القرآن بالمأثور عن النبي والأئمة ( عليهم السَّلام )
  ومن التفسير بالمنقول هو تفسير القرآن بما أثر عن النبي والأئمة المعصومين ( عليهم السَّلام ) أو الصحابة والتابعين ، وقد ظهر هذا النوع من المنهج بعد رحلة النبي ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) ، ومن المعروفين في سلوك هذا المنهج بعد عهد الرسالة عبد اللّه بن عباس ، وهو القائل : ما أخذت من تفسير القرآن فعن علي بن أبي طالب ( عليه السَّلام ) (1) وحسبك هذه الشهادة من ترجمان القرآن.
  نعم روي عن النبي ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) أنّه دعا له بالفقه والحكمة وتأويل القرآن. (2)
  وقد ذاع هذا المنهج من القرن الأوّل إلى عصرنا هذا ، فظهر بين المفسرين من يكتفون في التفسير بالأثر المروي ولا يتجاوزون عنه ، حتى أنّ بعض المفسرين لا يذكر الآية التي لا يجد حولها أثراً من النبي والأئمة ، كما هو ديدن تفسير البرهان للسيد البحراني ، فإليك أشهر التفاسير الحديثية بين الفريقين.
  فأشهر المصنّفات على هذا النمط عند أهل السنّة عبارة عن :
  1 ـ تفسيـر أبي جعفر محمد بن جرير الطبري ( 224 ـ 310 هـ ) وهذا الكتاب أوسع ما أُلّف في هذا المجال ، ومن مزايا هذا التفسير ذكر الروايات

--------------------
(1) مناهل العرفان : 1 / 468.
(2) أُسد الغابة : 3 / 193.

المناهج التفسيرية في علوم القرآن _ 154 _
  مسندة أو موقوفة على الصحابة والتابعين ، وقد سهّل بذلك طريق التحقيق والتثبيت منها ، نعم فيها من الإسرائيليّات والمسيحيّات ما لا يحصى كثرة.
  2 ـ ويليه في التبسط تفسير الثعلبي ( المتوفّى 427 هـ ) باسم ( الكشف والبيان ) وهو تفسير مخطوط ، ونسخه قليلة ، عسى أن يقيّض اللّه رجال التحقيق لإخراجه إلى عالم النور ، ومؤلّفه من المعترفين بفضائل أهل البيت ( عليهم السَّلام ) ، فقد روى نزول كثير من الآيات في حقّ العترة الطاهرة ، وينقل عنه كثيراً السيد البحراني في كتبه مثل غاية المرام وتفسير البرهان.
  3 ـ تفسير الدر المنثور للسيوطي ( المتوفّى 911 هـ ) ففيه ما ذكره الطبري في تفسيره وغيره ويبدو من كتابه ( الإتقان ) أنّه جعله مقدّمة لذلك التفسير ، وقد ذكر في خاتمة ( الإتقان ) نبذة من التفسير بالمأثور المرفوع إلى النبي ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) من أوّل الفاتحة إلى سورة الناس.
  هذه مشاهير التفاسير الحديثية عند أهل السنّة ، اكتفينا بذلك روماً للاختصار.
  وأمّا التفسير بالمأثور عند الشيعة ، فأشهرها ما يلي :
  1 ـ تفسير محمد بن مسعود العياشي المعاصر للكليني الذي توفّي عام 329 هـ ، وقد طبع في جزأين ، غير أنّ ناسخ الكتاب في القرون السابقة ، جنى على الكتاب جناية علمية لاتغتفر حيث أسقط الأسانيد ، وأتى بالمتون ، وبذلك سدّ على المحقّقين باب التحقيق.
  2 ـ تفسير علي بن إبراهيم القمي ( الذي كان حياً عام 307 هـ ) ، وتفسيره هذا مطبوع قديماً وحديثاً ، غير أنّ التفسير ليس لعلي بن ابراهيم القمي وحده

المناهج التفسيرية في علوم القرآن _ 155 _
  وإنّما هو تفسير ممزوج من تفسيرين ، فهو ملفّق مما أملاه علي بن إبراهيم على تلميذه أبي الفضل العباس ، وما رواه تلميذه بسنده الخاص ، عن أبي الجارود عن الإمام الباقر ( عليه السَّلام ) ، وقد أوضحنا حاله في أبحاثنا الرجالية (1).
  3 ـ وقد أُلّف في أواخر القرن الحادي عشر تفسيران بالمنهج المذكور ، أعني بهما :
  ( البرهان في تفسير القرآن ) للسيد هاشم البحراني ( المتوفّى 1107 هـ ).
  و ( نور الثقلين ) للشيخ عبد علي الحويزي من علماء القرن الحادي عشر.
  والاستفادة من التفسير بالمأثور يتوقّف على تحقيق اسناد الروايات ، لكثرة تطرق الإسرائيليات والمسيحيات والمجوسيات المروية من مسلمة أهل الكتاب إليها أو مستسلمتهم.
  وهناك كلمة قيّمة لابن خلدون يقول : إنّ العرب لم يكونوا أهل كتاب ولاعلم ، وإنّما غلبت عليهم البداوة والأُميّة ، وإذا تشوّقوا إلى معرفة شيء ممّا تتوق إليه النفوس البشرية في أسباب المكونّات ، وبدء الخليقة وأسرار الوجود ، فإنّما يسألون عنه أهل الكتاب قبلهم ويستفيدون منهم ، وهؤلاء مثل : كعب الأحبار ووهب بن منبه ، وعبد اللّه بن سلام وأمثالهم ، فامتلأت التفاسير من المنقولات عنهم وتُلقّيت بالقبول ، وتساهل المفسرون في مثل ذلك ، وملأوا كتب التفسير بهذه المنقولات ، وأصلها كلها ـ كما قلنا ـ من التوراة أو مما كانوا يفترون (2).
  ولأجل ذلك ترى أنّ ما أتى به الطبري في تفسيره حول قصة آدم وحواء تطابق ما جاء في التوراة.

--------------------
(1) راجع كليات في علم الرجال : 311 ـ 315.
(2) مقدمة ابن خلدون : 439.

المناهج التفسيرية في علوم القرآن _ 156 _
  والعجب أنّ كتب التفسير مملوءة من أقاويل هؤلاء ( أي مسلمة أهل الكتاب ) ومن أخذ عنهم ، من المسلمين أمثال عكرمة ومجاهد وعطاء والضحاك.
  فهؤلاء مضافاً إلى ما ورد فيهم من الجرح والطعن في كتب الرجال المعتبرة عند أهل السنّة ، كانوا يأخذون ما أثر عنهم من التفاسير من اليهود والنصارى. (1)
  وأمّا ما يتراءى من نقل أقوالهم في تفاسير الشيعة كـ ( التبيان ) لشيخ الطائفة الطوسي ، و ( مجمع البيان ) للشيخ الطبرسي ، فعذرهم في نقل أقوالهم هو رواجها في تلك العصور والأزمنة بحيث كان الجهل بها نقصاً في التفسير وسبباً لعدم الاعتناءبه.
  وعلى كل تقدير فالتفسير بالمأثور يتوقف على توفر شرائط الحجية فيه ، إلاّ إذا كان الخبر ناظراً إلى بيان كيفية الاستفادة من الآية ، ومرشداً إلى القرائن الموجودة فيها ، فعندئذ تلاحظ كيفية الاستفادة ، فعلى فرض صحة الاستنتاج يؤخذ بالنتيجة وإن كان الخبر غير واجد للشرائط. كما عرفت نماذج منه.
  وأمّا إذا كان التفسير مبنياً على التعبّد فلا يؤخذ به إلاّ عند توفر الشرائط.
  هذه هي المناهج التفسيرية على وجه الاختصار قد عرفت المقبول والمردود ، غير أنّ المنهج الكامل عبارة عن المنهج الذي يعتمد على المناهج الصحيحة ، فيعتمد في تفسير القرآن على العقل القطعي الذي هو كالقرينة ، كما يفسر القرآن بعضه ببعض ويرفع إبهام الآية بأُختها ، ويستفيد من الأثر الصحيح الذي يكون حجّة بينه وبين ربّه ، إلى غير ذلك من المناهج التي مر بيانها.

--------------------
(1) لاحظ آلاء الرحمن : 1 / 46.

المناهج التفسيرية في علوم القرآن _ 157 _
خاتمة المطاف
  1 ـ المحكم والمتشابه في القرآن الكريم
  2 ـ التأويل في القرآن الكريم
  3 ـ القراء السبعة والقراءات السبع
  4 ـ صيانة القرآن من التحريف

المناهج التفسيرية في علوم القرآن _ 159 _
1 ـ المحكم والمتشابه في القرآن الكريم
  وصف سبحانه كتابه العزيز بالإحكام ، وقال : ( الر * كِتابٌ أُحكِمت آياتُهُ ثُمَّ فُصِّلت مِنْ لَدُنْ حَكيم خَبير ) (1) والمراد أنّها أُحكمت في نظمها بأن جعلت على أبلغ وجوه الفصاحة حتى صار معجزاً ثمّ فصّلت بالبيان ، فالقرآن محكم النظم ، مفصل الآيات ، (2) أو اتقنت آياته فليس فيها خلل ولا باطل ، لأنّ الفعل المحكم ما قد أتقنه فاعله حتّى لا يكون فيه خلل ثمّ فصّلت وجعلت متتابعة بعضها أثر بعض. (3)
  فعلى الأوّل فالإحكام صفة اللفظ ، فالقرآن بجزالة نظمه وإتقان أُسلوبه محكم ومتقن لا يمكن تحدِّيه ، وعلى الثاني وصف لمعناه ، فهو يشتمل ـ من التوحيد والأخلاق وسائر السنن ـ على أُصول محكمة لا تنقض ولا تردُّ.
  وفي الوقت نفسه وصف سبحانه كتابه الكريم بالتشابه ، قال سبحانه : ( اللّهُ نَزّل أَحسن الحدَيث كِتاباً مُتَشابهاً مَثاني تَقْشَعِرُ مِنْهُ جُلُودُ الّذينَ يَخْشَونهُمْ ثُمَّ

--------------------
(1) هود : 1 .
(2) مجمع البيان : 3 / 141 عن أبي مسلم لإصفهاني.
(3) المصدر نفسه ، ولم يذكر اسم القائل.

المناهج التفسيرية في علوم القرآن _ 160 ـ
  َلينُ جُلودهُمْ وَقُلوبهُمْ إِلى ذِكْرِ اللّه ذلِك هُدى اللّه يَهْدي به مَنْ يَشاء وَمَنْ يضلِل اللّه فَما لَهُ مِنْ هاد ). (1)
  وقد اختلفت كلمة المفسرين في تفسير ( المتشابه ) في هذه الآية الذي جعل وصفاً لعامة آيات القرآن الحكيم ، ولكنّهم لو رجعوا إلى نفس الآية وامعنوا النظر فيها لارتفع الابهام ، وذلك انّه سبحانه يأتي بعد كلمة ( متشابهاً ) قوله ( مثاني ) فهو يفسر معنى المتشابه ، فالقرآن الكريم يشتمل على آيات متكررة المضمون ، يُشبه بعضها بعضاً ، ويؤيد بعضها بعضاً ، فقد كرر القصص والمغازي كما كرّر ما يرجع إلى التوحيد بأقسامه إلى غير ذلك من المعاني المتكررة.
  وعلى ضوء ذلك فلا منافاة بين الآيتين اللتين تصفان القرآن بالإحكام تارة وبالتشابه أُخرى.
  تقسيم الآيات إلى محكمات ، ومتشابهات إذا كانت الآية الأُولى تصف القرآن كلّه بالإحكام وآياته بالمحكمة ، والآية الثانية تصف القرآن كلّه بالمتشابه ، فثمة آية أُخرى تقسّم الآيات إلى قسمين :
  1 ـ آيات محكمات هي أُمّ الكتاب.
  2 ـ وآيات متشابهات يبغون أهل الزيغ تأويلها.
  قال سبحانه : ( هُوَ الّذي أنْزل عليكَ الكِتاب مِنْهُ آيات مُحْكَمات هُنَّ أُمّ الكِتاب وَأُخر مَتَشابهات فَأَمّا الّذينَ في قُلُوبِهِمْ زَيغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الفِتْنَة وَابْتِغاءَ تَأْويلِهِ وَما يَعْلَمُ تَأْويلهُ إِلاّ اللّه وَالرّاسِخُونَ فِي العِلْمِ يَقُولُونَ آمّنا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبّنا وَما يَذَّكّرُ إِلاّ أُولوا الأَلباب ). (2)

--------------------
(1) الزمر : 23.
(2) آل عمران : 7.

المناهج التفسيرية في علوم القرآن _ 161 _
  ولا منافاة بين هذا التقسيم والتقسيمين الأوّلين ، وذلك لاختلاف متعلّق الإحكام والتشابه فيها ، فانّ الإحكام الذي هو بمعنى الإتقان في الآية الأُولى وصف للآية باعتبار نظم الآية وجزالة ألفاظها على وجه لا يمكن تحدّيها ، كما أنّ التشابه في الآية الثانية وصف لمعنى الآية ، فمعاني الآيات القرآنية متكرّرة لكنّها متوحّدة الهدف.
  وأمّا الإحكام والتشابه في هذه الآية فالموصوف بهما دلالة الآية وظهورها في المعنى المقصود ولا مانع من أن يكون القرآن كلّه متقناً من حيث تركيبه وجُمَله ، ومتشابهاً متكرر المضمون من حيث معانيه ، وفي الوقت نفسه محكماً ومتقن الدلالة في قسم ، ومتشابه الدلالة في قسم آخر.
  إنّ الإحكام في اللغة هو الإتقان ، توصف به الآية إذا كانت ذات دلالة واضحة بحيث لا تحتمل وجهاً آخر ، فهو ( الإحكام ) مأخوذ من الحُكْم بمعنى المنع ، قال الشاعر :
أبني  حنيفة حكِّموا iiأولادكم      إني أخاف عليكم أن أُغضبا
  أي امنعوا أولادكم من التعرض :
  فالآية باعتبار استحكام دلالتها وإتقانها تمنع من الاضطراب وتطرّق ما ليس بمراد فيها ، ويقابله التشابه فهو مأخوذ من الشِّبه أي التماثل ، فالتشابه في الدلالة هو أن لا يكون للآية ظهور مستقر ودلالة ثابتة بل يحتمل فيها وجوهاً مختلفة مع أنّ المقصود هو واحد منها.
  ويدلّ على أنّ الإحكام والتشابه وصف للدلالة ، أُمور :
  الأوّل : انّ أصحاب الزيغ ( يتبعون ما تشابه ) وذلك لأحد الوجهين :
  1 ـ ابتغاء الفتنة والفساد في المجتمع وإضلال الناس.

المناهج التفسيرية في علوم القرآن _ 162 _
  2 ـ ابتغاء تأويله وإرجاعه إلى ما يتوافق مع أهدافهم الفاسدة ، فهم مكان أن يتّبعوا الآيات المحكمة يتّبعون ما تشابه للغايتين الفاسدتين.
  فاتّباع المتشابه لإيجاد الفتنة وابتغاء تأويله يعرب عن أنّ التشابه إنّما في دلالة الآية ، فيأخذون من الاحتمالات ما يمكّنهم من الفتنة وجعل الآية حجّة لما يتبنّون من الأهواء.
  2 ـ انّه يصف الآيات المحكمة بأنّها أُمّ الكتاب ، ومعنى ذلك إرجاع ما تشابه إلى الأُمّ ، فيجب أن تكون الأُم واضحة الدلالة ، بيّنة المعالم ، حتى تفسر بها الآيات المتشابهة.
  3 ـ انّ الآية تبحث عن تأويل المتشابه ، فانّ التأويل في الآية ( كما سيوافيك في فصل مستقل ) إرجاع الآية بالتدبّر فيها وسائر الآيات الواردة في موضوعها إلى المعنى المقصود ، وهذا يناسب كون المحور في وصف القرآن بهما هو دلالة الآية وظهورها ، فالآيات القرآنية بما انّها ليست على نسق واحد في الدلالة وعلى درجة واحدة في إفهام المراد تنقسم إلى محكمة ومتشابهة.
  فالمحكم ما لا يحتمل إلاّ معنى واحداً ، والمتشابه ما يحتمل وجوهاً متعدّدة وكان بعض الوجوه مثيراً للريب والشبهة ، والتأويل إرجاع الآية بالتدبّر فيها وما ورد في موضوع الآية من الآيات ، إلى المعنى المقصود.
  هذا هو المعنى المقصود من الآية من المراحل الثلاثة :
  أ ـ المحكم وما يراد به.
  ب ـ المتشابه وما يراد به.
  ج ـ التأويل وما يراد به في الآية.
  وقد سبقنا في تفسير الآية بهذا النحو لفيف من العلماء.
  1 ـ قال الشيخ الطوسي : المحكم ما أنبأ لفظه عن معناه من غير اعتبار أمر ينضم إليه سواء كان اللفظ لغوياً أو عرفيّاً ، ولا يحتاج إلى ضروب من التأويل.

المناهج التفسيرية في علوم القرآن _ 163 _
  وذلك نحو قوله ( لا يُكَلّف اللّه نَفْساً إِلاّ وُسْعها ) (1) ، وقوله : ( وَلا تَقْتُلُوا النَّفْس الّتي حَرّم اللّه ) (2) وقوله : ( قُلْ هُوَ اللّهُ أَحَد ) (3) وقوله : ( لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَد ) (4) ونظائر ذلك.
  والمتشابه : ما كان المراد به لا يعرف بظاهره بل يحتاج إلى دليل ، وذلك ما كان محتملاً لأُمور كثيرة أو أمرين ، ولا يجوز أن يكون الجميع مراداً فانّه من باب المتشابه ، وإنّما سمّي متشابهاً لاشتباه المراد منه بما ليس بمراد ، وذلك نحو قوله : ( يا حسرتى عَلى ما فرّطت في جَنْب اللّه ) (5) ، وقوله : ( وَالسَّماوات مَطوِياتٌ بِيَمِينهِ ) (6) ، وقوله : ( تَجْري بِأَعْيُنِنا ) (7) ، ونظائر ذلك من الآي التي المراد منها غير ظاهرها. (8)
  2 ـ قال الراغب : المتشابه من القرآن ما أشكل تفسيره لمشابهته بغيره إمّا من حيث اللفظ أو من حيث المعنى ، فقال الفقهاء : المتشابه ما لا ينبئُ ظاهره عن مراده ، وحقيقة ذلك انّ الآيات عند اعتبار بعضها ببعض ثلاثة أضرب : محكم على الإطلاق ، ومتشابه على الإطلاق ، ومحكم في وجه ومشابه من وجه آخر. (9)
  3 ـ وقال المحقّق النهاوندي : لا ريب في أنّ آيات الكتاب العزيز قسمان : محكم ، ومتشابه.

--------------------
(1) البقرة : 286.
(2) الأنعام : 151.
(3) التوحيد : 1.
(4) التوحيد : 3 و 4.
(5) الزمر : 56.
(6) الزمر : 67.
(7) القمر : 14.
(8) التبيان : 1 / 9. ومراده من قوله : ( المراد منها غير ظاهرها ) هو الظاهر اليدوي المتزلزل ، دون الظاهر المستقر الذي ينتهى إليه المفسر بعد الإمعان في الآية ونظائرها والقرائن الأُخرى.
(9) المفردات : مادة أول.

المناهج التفسيرية في علوم القرآن _ 164 _
  والمحكم هو الكلام الواضح الدلالة بحيث لا يكون للعرف ـ و لو بملاحظة القرائن المكتنفة به ـ تحيّر في استفادة المراد منه ، ولا يحتاج في تعيين المقصود منه إلى الرجوع إلى العالم أو إلى القرائن المنفصلة أو الأدلّة العقلية والنقلية الخارجية.
  والمراد بالمتشابه هو الكلام المجمل أو المبهم الذي يشتبه المراد منه على العرف بحيث لا يكون له بالوضع أو بالقرائن المتصلة حقيقة أو حكماً ظهور في المعنى المراد ، بل لابدّ في الاستفادة منه من الرجوع إلى العالم الخبير بمراد المتكلّم ، أو الاجتهاد في تحصيل القرائن المنفصلة عن الكلام من حيث العقل المستقل أو سائر كلمات المتكلّمين ، ولعلّه إلى ما ذكرنا يرجع ما عن العياشي ( رحمه الله ) عن الصادق ( عليه السَّلام ) انّه سأل عن المحكم والمتشابه ، فقال : ( المحكم ما يعمل به ، والمتشابه ما اشتبه على جاهله ). (1)
  وقال العلاّمة الطباطبائي : المراد بالتشابه كون الآية لا يتعيّن مرادها لفهم السامع بمجرد اسماعها ، بل يتردد بين معنى ومعنى حتى يرجع إلى محكمات الكتاب فتُعيّن هي معناها وتبيّنها بياناً ، فتصير الآية المتشابهة عند ذلك محكمة بواسطة الآية المحكمة ، والآية المحكمة ، محكمة بنفسها.
  كما أنّ قوله سبحانه : ( الرّحمنُ عَلى العَرْشِ اسْتَوى ) (2) يشتبه المراد منه على السامع أوّل ما يسمعه ، فإذا رجع إلى مثل قوله تعالى : ( ليس كمثله شيء ) (3) ، استقر الذهن على انّ المراد به التسلّط على الملك والإحاطة على الخلق دون التمكّن والاعتماد على المكان المستلزم للتجسم المستحيل على اللّه سبحانه.
  وكذا قوله تعالى : ( إِلى ربّها ناظرة ) (4) إذا أرجع إلى مثل قوله : ( لا تُدْرِكُهُ

--------------------
(1) نفحات الرحمن : 1 / 19.
(2) طه : 5.
(3) الشورى : 11.
(4) القيامة : 23.

المناهج التفسيرية في علوم القرآن _ 165 _
  الأَبْصار وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصار ) (1) ، علم به أنّ المراد بالنظر غير النظر بالبصر الحسي ـ إلى أن قال : ـ فهذا ما يتحصّل من معنى المحكم والمتشابه ويتلقّاها الفهم الساذج من مجموع الآية ، ولا ريب انّ الآية التي تقسّم آيات الكتاب إلى محكم ومتشابهة من الآيات المحكمة. (2)
  وأنت إذا سبرت تاريخ المسلمين عبر القرون ، تقف على لفيف من أصحاب الزيغ ، راحوا يتمسّكون بآيات لها ظهور بدويّ مريب ، ومثير للشك في سائر الأُصول دون أن يأوّلوها بالمحكمات وإرجاعها إليها ، كبعض الآيات التي توهم التجسيم والتشبيه ، والجبر والتفويض ، والهداية والضلالة ، والختم على القلوب وحبط الأعمال ، إلى غير ذلك من الآيات التي وقعت ذريعة لبغاة الفتنة وإضلال الناس.
  نعم فسّر ابن تيمية ، وتبعه صاحب المنار ، وبعض المعاصرين من أنّ المراد من المتشابه ، ما لا يعلم تأويله إلاّ اللّه. والمراد من التأويل ما استأثر اللّه بعلمه ، مثل وقت الساعة ، ومجيء نفسه ، ومثل كيفية نفسه ، وما أعدّه في الجنة لأوليائه. (3)
  يلاحظ عليه بأُمور :
  1 ـ انّ ما ذكره كلّها مفردات ، والمتشابه من أقسام الآيات ، فكيف تفسر المتشابه بمثل وقت الساعة وأمثالها من واقع الجنة والنار والصراط ، والكلّ مفردات وليس آية ، والمتشابه آية متشابهة لا مفرد مبهم ؟!
  2 ـ انّها فاقدة للظهور ، والمتشابه ما له ظهور مستقل يتبعه أصحاب الزيغ.

--------------------
(1) الأنعام : 103.
(2) الميزان : 3 / 21.
(3) التفسير الكبير : 1 / 253.

المناهج التفسيرية في علوم القرآن _ 166 _
  3 ـ انّ المتشابه ما يقع ذريعة لأصحاب الزيغ لإضلال الناس وليس فيما عدّه ما يمكن به أغوائهم ، ولم تقع تلك الآيات ذريعة للإضلال في تاريخ حياة المسلمين.
  وبما ذكرنا يظهر انّ الوجوه المذكورة حول تفسير المحكم والمتشابه التي ربما يناهز إلى 16 وجهاً احتمالات غير صحيحة نشأت من عدم التدبّر في مفهوم الآية. (1)
  والذي يمكن أن يلاحظ على كلام النهاوندي هو عدّ المجمل من المتشابه ، فانّ المجمل لا ظهور له ولو بدئياً حتّى يؤخذ به ويتّبعه أهل الزيغ ، بخلاف المتشابه فهو ذو ظهور مضطرب ومتزلزل ومريب.
 وأمّا الفرق بين المبهم والمتشابه ، فهو انّ كلّ متشابه مبهم الدلالة غير واضحة المعالم وليس كلّ مبهم متشابهاً.
  أمّا الأوّل فواضح ، وأمّا الثاني فانّ قوله سبحانه : ( أَوَ لَمْ يَرَوا أَنّا نَأْتي الأَرضَ نَنْقُصها مِنْ أَطرافها واللّهُ يَحْكُمُ لا مُعقّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سريعُ الحِساب ) (2) مبهم من حيث المقصود لا من حيث الدلالة ، ولذلك فسر الإمام تنقيص أطراف الأرض بموت العلماء. (3)
  2 ـ ( وَإذا وَقع القَول عَلَيْهِمْ أَخرجنا لَهُمْ دابّة منَ الأَرْضِ تُكلّمهم انّ النّاس كانوا بآياتِنا لا يُوقِنُون ) (4) فالآية واضحة الدلالة لكنّها مبهمة المعنى ،

--------------------
(1) فقد ذكر الرازي في مفاتيح الغيب : 2 / 417 أربعة أوجه ، وأضاف إليها صاحب المنار : 3 / 163 ـ 165 ستة أُخرى ، وأوصلها إلى ستة عشر احتمالاً سيّدنا الأُستاذ ، انظر في الوقوف على هذه الوجوه : تفسير الميزان : 3 / 32 ـ 39.
(2) الرعد : 41.
(3) البرهان للبحراني : 2 / 301.
(4)النمل : 82.

المناهج التفسيرية في علوم القرآن _ 167 _
  فما هو المراد من الدابة ؟ وكيف يكون تكلّمها مع الناس ؟
  3 ـ ( وَلَقَدْ هَمَّت بِهِ وَهَمَّ بِها لَولا أَن رَأى بُرهانَ رَبّهِ كَذلِكَ لنَصرف عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشاء انّهُ مِنْ عِبادِنا المُخْلصين ) (1) والآية واضحة الدلالة مبهمة المصداق فما هو المراد من البرهان ؟
  إلى غير ذلك من الآيات التي تعدّ دلالتها واضحة حسب الدلالة الاستعمالية لكن الإبهام في المقاصد والمصاديق الحقيقية.

المحكمات أُمّ الكتاب
  إنّ الآيات المحكمة ـ واضحة الدلالة بيّنة المعالم ـ بشهادة أنّها ( أُمّ الكتاب ) والمراد من الأُمّ كونها أصلاً في الكتاب تبتني عليها قواعد الدين وأركانه في مجالي العقيدة والعمل.
  وأمّا المتشابهات فلاضطراب دلالتها وعدم تمركزها على معنى واحد ترجع إلى المحكمات رجوع بيان ، فالمتشابهات ذات مداليل ترجع وتتفرع على المحكمات ، ولازمه كون المحكمات واضحة المعنى.
  ثمّ إنّ الاحكام والتشابه وصفان نسبيان بمعنى انّ آية ما يمكن أن تكون محكمة من جهة ومتشابهة من جهة أُخرى ، فتكون محكمة بالإضافة إلى آية و متشابهة بالإضافة إلى أُخرى ، ولا مصداق للمتشابه على الإطلاق في القرآن ولا مانع من وجود محكم على الإطلاق.

العلم بتأويل المتشابه
  هل يختص العلم بتأويل المتشابه باللّه سبحانه ؟ أو يعمّه والراسخين في

--------------------
(1) يوسف : 34.

المناهج التفسيرية في علوم القرآن _ 168 _
  العلم فالكلّ يعلم تأويل المتشابه ، وإن كان بين العلمين فرق ، فالأوّل علم واجب غير متناه ، والآخر علم إمكاني متناه ؟
  وقد احتدم النزاع عبر قرون في تفسير الآية ، أعني قوله سبحانه : ( وَما يَعْلَمُ تَأْويلهُ إِلاّ اللّه وَالرّاسِخُونَ فِي العِلْم ) ، فقد وقفت طائفة على لفظ الجلالة وعليه حرم الراسخون في العلم من تأويل المتشابه ، وطائفة أُخرى عطفت ( الراسخون في العلم ) على لفظ الجلالة وشرّكتهم في العلم بها ، ولم تزل هذه المسألة مورد البحث والنقاش إلى عصرنا هذا.
  إنّ حلّ هذه المشكلة تكمن في تفسير المتشابه ، فمن فسر المحكم بكلّ ما أمكن تحصيل العلم به بدليل جلي أو خفي ، والمتشابه ما لا سبيل إلى العلم به كوقت قيام الساعة وحقيقة الجن والملك وسائر الأُمور غير المحسوسة ، فلا محيص له عن الوقف ، لأنّه سبحانه تبارك و تعالى استأثر بها على غيره.
  وأمّا على ما أوضحناه من أنّ الإحكام والتشابه يرجع إلى الدلالة ، و انّ تأويل المتشابه عبارة عن إرجاعه إلى المعنى المراد ببركة الإمعان في نفس الآية والقرائن المكتنفة والقرائن المنفصلة ، فالعلم بتأويل المتشابه يعمّه سبحانه والراسخين في العلم أيضاً.
  فمن حاول تحقيق المطلب يجب عليه الانطلاق أوّلاً بحلّ معضلة التشابه ثمّ العروج على تأويل المتشابه.
  إنّ القرآن الكريم كتاب هداية وتذكرة أنزل للتدبّر فيه ، يقول سبحانه : ( فَما لَهُمْ عَنِ التذْكِرَة مُعْرِضين * كأَنّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفَرة * فرّت من قَسْورة ) (1) ويقول سبحانه : ( وَلَقَدْ يَسَّرنا القُرآن لِلّذِّكْر فَهَلْ مِنْ مُدَّكر ). (2)


--------------------
(1) المدثر : 49 ـ 50.
(2) القمر : 17.

المناهج التفسيرية في علوم القرآن _ 169 _
  فعلى ضوء ذلك يجب أن يكون القرآن مفهوماً و معلوماً من بدئه إلى ختمه على ضوء الأُصول التي ذكرناها عند البحث عن مؤهلات المفسر ، ومنه الآيات المتشابهة فقد أنزلت للهداية والتذكرة فلا معنى لأن يستأثر اللّه بعض آياته على العباد ، وعلى ضوء ذلك لم نجد أحداً من علماء الأُمّة يتوقف في تفسير الآية بذريعة انّ الآية متشابهة ، بل ظل يتفحّص عن القرائن الرافعة للشبه حولها ، وقد أيّد هذا المعنى فريق من العلماء.
  قال الشيخ أبو علي الطبرسي : وممّا يؤيد هذا القول ـ أي انّ الراسخين يعلمون التأويل ـ انّ الصحابة والتابعين أجمعوا على تفسير جميع آي القرآن ولم نرهم توقفوا على شيء منه لم يفسروه بأن قالوا : هذا متشابه لا يعلمه إلاّ اللّه. (1)
  وقال الإمام بدر الدين الزركشي : انّ اللّه لم ينزل شيئاً من القرآن إلاّ لينتفع به عباده ، ويدلّ به على معنى أراده ـ إلى أن قال : ـ ولا يسوغ لأحد أن يقول : انّ رسول اللّه ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) لم يعلم المتشابه ، فإذا جاز أن يعرفه الرسول ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) مع قوله : ( وَما يَعْلم تَأْويله إِلاّ اللّه ) جاز أن يعرفه الربانيون من صحابته ، والمفسرون من أُمّته.
  ألا ترى أنّ ابن عباس كان يقول : أنا من الراسخين في العلم، ولو لم يكن للراسخين في العلم حظ من المتشابه إلاّ أن يقولوا ( آمنا ) لم يكن لهم فضل على الجاهل ، لأنّ الكلّ قائلون ذلك. قال : ونحن لم نر المفسرين إلى هذه الغاية توقّفوا عن شيء من القرآن ، فقالوا : هذا متشابه لا يعلم تأويله إلاّ اللّه ، بل أمرّوه على التفسير حتّى فسروا الحروف المقطعة. (2)
  ثمّ إنّ في نفس الآية دلالة واضحة على أنّه معطوف على لفظ الجلالة وهو انّه سبحانه يصف هؤلاء بالرسوخ في العلم ومقتضى الرسوخ فيه العلم بالتأويل

--------------------
(1) مجمع البيان : 1 / 410.
(2) البرهان : 2 / 72 ـ 73.

المناهج التفسيرية في علوم القرآن _ 170 _
  ولو كانت وظيفتهم مقتصرة على الإيمان من دون العلم به كان الأنسب بل المناسب أن يقول والراسخون في الإيمان.
  وعلى ضوء ما ذكرنا فالجملة معطوفة على لفظ الجلالة وتفسر الآية بالشكل التالي : ( وَلا يَعْلم تأويله إِلاّ اللّه والرّاسِخون في العلم ).
  أي لكن الراسخين في العلم يقولون ( آمنا بالمتشابه ) كإيماننا بالمحكم ، فيأخذون بكلتا الآيتين بحجة ( كل من عند ربّنا ) ولكن الذي في قلوبهم زيغ يأخذون بخصوص المتشابه للغايتين الفاسدتين دون المحكم ، فكأنّه سبحانه لم ينزل إلاّ المتشابه ، فالإيمان بالمتشابه الذي جاء في قوله ( آمّنا به ) لا يدلّ على أنّ الراسخين يؤمنون به دون أن يعلموا ، وذلك لأنّ ذكر إيمانهم بهما لغاية ردّ أصحاب الزيغ حيث يؤمنون بواحد منهما واختصاص الإيمان به بالراسخين لا انّه لا شأن لهم سوى الإيمان دون العلم.
  وعلى ذلك فليس فيه إشعار على اختصاصهم بالإيمان دون العلم.
  هذا ما يفهمه كلّ من له إلمام بالأدب العربي وكلمات البلغاء والفصحاء فلا يشك في العطف.
  وأمّا ما هو موضع قوله : ( يقولون آمنا به كّل من عند ربّنا ) إذا كان مفصولاً عما تقدّم.
  والجواب واضح وهو انّه جملة حالية ، قال الزمخشري : ( يقولون ) كلام مستأنف موضح لحال الراسخين.
  بقي الكلام في ما هو المقصود من تأويل المتشابه ، وإراءة نماذج منه ، وهذا هو الذي نتطرّق إليه في الفصل التالي.

المناهج التفسيرية في علوم القرآن _ 171 _
2 ـ التأويل في القرآن الكريم
  التأويل مأخوذ من آل يؤول : رجع ، قال الأعشى :
  أُوِّل الحــكم إلـــى أهــله ليس قضائي بالهوى الجائر (1) ويقول ابن منظور : الأُوْل الرجوع ، أل الشيء يؤول أولاً ومآلاً : رجع ، وأوّل إليه الشيء : رجّعه ، وآلت عن الشيء : ارتددت. (2)
  وقال الراغب الإصفهاني : التأويل من الأُول ، أي الرجوع إلى الأصل ومنه المؤْئِل للموضع الذي يرجع إليه ، وذلك هو رد الشيء إلى الغاية المرادة منه ، علماً كان أو فعلاً . (3)
  إذا كان التأويل بمعنى إرجاع الشيء إلى مآله وحقيقته ، فقد استعمله القرآن في موارد ثلاثة يجمعها شيء واحد ، وهو إرجاع الشيء المبهم من الكلام والعمل والنوم إلى واقعه.
  الأوّل : إرجاع الكلام المبهم إلى ما قصد منه برفع الإبهام من خلال القرائن الحافّة بها ، فقوله سبحانه : ( وَالسَّماءَ بَنَيْناها بِأَيْد وَإِنّا لَمُوسِعُون ) (4) كلام يكتنفه

--------------------
(1) المقاييس : 1 ، مادة أول.
(2) لسان العرب : 11 ، مادة أول.
(3) المفرادت : مادة أول.
(4) الذاريات : 47.

المناهج التفسيرية في علوم القرآن _ 172 _
  الإبهام ويثبت ظاهره انّ للّه سبحانه أيد بنى بها السماء ، ولكن رفع الإبهام عن الآية بالإمعان في القرائن الحافّة بها تأويل لها ، أي إرجاع لها إلى ما قصد منه حقيقة ، وسيوافيك انّ تأويل المتشابه قسم من هذا النوع.
  الثاني : إرجاع الفعل إلى واقعه بمعنى رفع الإبهام عنه بذكر مصالحه والدواعي التي حملت الفاعل إلى العمل ، وهذا كما في عمل مصاحب موسى حيث أتى بأعمال مبهمة ومريبة من خرق السفينة وقتل الصبي وبناء الجدار الذي كاد أن ينقضّ ، فسأله موسى عن الدواعي فبيّنها وقال : ( ذلِكَ تَأْويلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيهِ صَبراً ) (1) ، فالتأويل في الآية رفع الإبهام عن الفعل ، وإرجاع ظاهرة المريب إلى واقعه.
  ومن هذا القبيل وصف الكيل المقرون بالعدل والإنصاف ( بكونه أحسن تأويلاً ) أي أحسن مآلاً ، يقول سبحانه : ( وَأَوفُوا الكَيلَ إذا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالقِسْطاسِ المُسْتَقيم ذلِكَ خَيْرٌ وَأَحسَنُ تَأويلاً )(2) ، فالمراد أحسن مآلاً لما يترتب على إجراء العدل في عملية الوزن من المصالح والغايات الصحيحة.
  حتى أنّ القرآن يستعمله في مورد الرجوع إلى قضاة العدل ، يقول سبحانه : ( يا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنُوا أَطيعُوا اللّهَ وَأَطيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنازَعْتُمْ في شيء فَرُدُّوهُ إِلى اللّهِ والرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَاليَومِ الآخرِ ذلِكَ خَيرٌ وَأَحْسَنُ تَأْويلاً ) (3) أي أحسن مآلاً ، لأنّ في الرجوع إلى اللّه والرسول إحقاقاً للحق وإبطالاً للباطل على خلاف الرجوع إلى الجبت والطاغوت.
  الثالث : تأويل الرؤيا التي يكتنفها الإبهام ، فإنّ الرؤيا الصادقة على أقسام : منها ما تتصل نفس النائم بالواقع غير انّ النفس تتصرف فيما تراه قبل أن يستيقظ

--------------------
(1) الكهف : 82.
(2) الإسراء : 35.
(3) النساء : 59.

المناهج التفسيرية في علوم القرآن _ 173 _
  النائم من نومه فتختلف الرؤيا عن واقعه ، والتأويل عبارة عن إرجاع النوم إلى الأصل الذي اشتقت منه الرؤيا الفعلية ، وذلك علم خاص يرزقه اللّه تعالى لمن يشاء ، فرزقه اللّه ليوسف كما يقول : ( كَذلِكَ يَجْتَبيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْويلِ الأَحادِيث ) (1) ، فالتأويل الوارد في سورة يوسف في عدّة موارد عبارة عن إرجاع الرؤية الصادقة المتصرّفة فيه من قبل النفس إلى واقعها الذي تحولت عنه كما هو الحال في الموارد التالية :
  1 ـ رؤية يوسف سجود أحد عشر كوكباً مع الشمس والقمرله.
  2 ـ رؤية أحد مصاحبيه في السجن انّه يعصر خمراً.
  3 ـ رؤية مصاحبه الآخر انّه يحمل فوق رأسه خبزاً تأكل منه الطير.
  4 ـ رؤية الملك سبع بقرات سمان وسبع عجاف ... فالتأويل في هذه الموارد تأويل عمل تكويني وإرجاع له إلى واقعه.
  ومن هنا تبيّن انّ التأويل حسب مصطلح القرآن هو إرجاع الشيء إلى واقعه ، وأمّا التأويل بمعنى صرف الكلام عن ظاهره المستقر ، إلى خلافه ، فهو مصطلح حديث بين العلماء لا يمتّ إلى القرآن بصلة ، وإن اغتر ابن منظور بهذا المصطلح وذكره من أحد المعاني و قال : والمراد بالتأويل نقل ظاهر اللفظ عن وضعه الأصلي إلى ما يحتاج إلى دليل لولاه ما ترك ظاهر اللفظ. (2)
  فلو صحّ ذلك الاستعمال ، فإنّما هو اصطلاح جديد لا يصحّ للمفسِّر أن يفسّر القرآن به ، ولم نجد في القرآن آية يُلزمنا العقل والنقل إلى صرفها عن ظهورها المستقر الثابت ، وأمّا الظهور البدائي فليس ظهوراً له قيمة حتى يعدّ العدول عنه صرفاً للظاهر عن ظاهره.

--------------------
(1) يوسف : 6.
(2) لسان العرب : 11 ، مادة أول.

المناهج التفسيرية في علوم القرآن _ 174 _
تأويل المتشابه
  قد عرفت معنى التأويل بوجه مطلق في القرآن الكريم وحان البحث في تأويل خصوص المتشابه حيث إنّ آيات القرآن تقسّم إلى محكم ومتشابه ، يقول سبحانه : ( هُوَ الَّذي أنْزَلَ عَلَيكَ الكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الكِتابِ وَأُخرُ مُتشابِهاتٌ فَأَمّا الَّذينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُون ما تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الفِتْنَةِ وَابْتِغاءَ تَأْويلهِ وَما يَعْلَمُ تَأْويلَهُ إِلاّ اللّهُ وَالرّاسِخُونَ فِي العِلْمِ يَقُولُونَ آمنّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا وَما يَذَّكَّرُ إِلاّ أُولوا الأَلْباب ). (1)
  فما معنى التأويل في هذه الآية أليس هو صرف الظاهر عن ظاهره ؟! فكيف تقول بأنّ التأويل بمعنى صرف الظاهر عن ظاهره مصطلح حديث لا يمتُّ إلى القرآن بصلة ؟
  هذا هو السؤال وقد تقدّم في الفصل الماضي إنّ آيات الذكر الحكيم على قسمين : قسم منها ما يتمتع بدلالة واضحة في بدء الأمر بحيث لا يشتبه المراد بغير المراد ، كالآيات التي تتضمن نصائح لقمان لابنه (2) ، أو ما يذكره سبحانه في سورة الإسراء بعنوان الحكمة. (3)
  فالناظر في هذه الآيات يقف على المراد في بدء الأمر ، لأنّها تتمتع بدلالة

--------------------
(1) آل عمران : 7.
(2) لقمان : 13 ـ 19.
(3) الإسراء : 22 ـ 39.

المناهج التفسيرية في علوم القرآن _ 175 _
  واضحة لا يشتبه المراد بغيره.
  وهناك آيات لا تبلغ دلالتها على المعنى المراد هذا الحدَّ ، بل الناظر في بدء الأمر لا يميّز المراد عن غيره ، ويشتبه المراد بغير المراد ، كالأشجار المتشابهة مع اختلاف أثمارها كالرمّان والزيتون ، فتوصف بالآية المتشابهة لتشابه المراد بغيره ، والحقّ بالباطل.
  وأمّا ما هو الوجه لنزول بعض الآيات على هذا الوصف فهو موكول إلى محله ، وقد ذكر المفسِّـرون هناك وجوهاً مختلفة لنزول الآيات المتشابهة. (1)
  فهذه الآيات التي ليست لها دلالة قاطعة في بدء الأمر هي التي وقعت ذريعة عبر التاريخ في أيدي الذين في قلوبهم زيغ لإيجاد الفتنة والبلبلة الفكرية وإشاعة الباطل وستر الحقّ.
  وتجد في الآيات التي تتعرض للمعارف ، هذا النوعَ من التشابه ، فالآيات التي يستشم منها التجسيم والتشبيه ورؤية اللّه تعالى بالحواس ، والجبر وأنّه ليس للإنسان دور في الضلالة والهداية ، كلّها من الآيات المتشابهة التي لم يزل أصحاب الزيغ يبتغون الفتنة من ورائها ، فهم يأوِّلون هذه الآيات بالأخذ بظواهرها من إرجاعها إلى محكماتها.
  والراسخون أيضاً يأوّلونها.
  أمّا الطائفة الأُولى فتأويلهم يتلخّص في الأخذ بالظهور المتزلزل غير المستقر إبتغاءً للفتنة ، فيغترون بظاهر قوله سبحانه : ( يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاء ) (2) ويبثّون فكرة الجبر الذي هو سلب الاختيار عن الإنسان في مجال الهداية والضلالة ، والإيمان والكفر.


--------------------
(1) لاحظ المعجزة الخالدة للسيد الشهرستاني.
(2) النحل : 93.

المناهج التفسيرية في علوم القرآن _ 176 _
  وأمّاالراسخون فتأويلهم هو إرجاع الآية إلى واقعها ، بالإمعان في الآية والقرائن الحافّة بها ، منضماً إلى ما ورد في الآيات المحكمة في هذا الموضوع ، فيفسرون ما سبق من الآيات حول الهداية والضلالة ، بقوله سبحانه : ( وَقُلِ الحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِن وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُر ) (1) ، وبقوله سبحانه : ( قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّما أَضِلُّ عَلى نَفْسِي وَإِن اهْتَدَيْتُ فَبِما يُوحِي إِليَّ رَبّي إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيب ). (2)
  فكلتا الطائفتين يأوّلون أي يرجعون الآية إلى المراد منها ، فيأخذ أصحاب الزيغ بالظاهر المتزلزل الموافق لهواهم ونزعتهم ، فيجعلونه ذريعة لنشر البدع والضلالة ؛ وأمّا الآخرون فيأوّلونه بإرجاع المتشابه إلى المحكمات التي هي أُمّ الكتاب.
  هذه هي حقيقة المتشابه وحقيقة التأويل فيه ، وليس تأويل كلتا الطائفتين بمعنى صرف الظاهر المستقر عن ظاهره ، بل هو إمّا الأخذ بالظاهر البدوي لغاية الفتنة ، أو إرجاعه إلى الظاهر المستقر بالإمعان في نفس الآية والقرائن المكتنفة بها ، مضافاً إلى الآيات المحكمة الواردة في نفس ذلك الموضوع.
  وقد عرفت هذا النوع من التأويل في تفسير اليد (3) في قوله سبحانه : ( وَالسَّماء بَنَيْناها بِأَيْد وَإِنّا لَمُوسِعُون ). (4)
  وبما ذكرنا في المقام تقدر على تأويل عامة الآيات المتشابهة نظير :
  1 ـ العين ، كقوله سبحانه : ( وَلِتُصْنَعَ عَلى عَيْنِي ). (5)

--------------------
(1) الكهف : 29.
(2) سبأ : 50.
(3) لاحظ مبحث : دلالة القرآن ، قطعية ص 53 ـ 56.
(4) الذاريات : 47.
(5) طه : 39.

المناهج التفسيرية في علوم القرآن _ 177 _
  2 ـ اليمين ، كقوله سبحانه : ( وَالسّماواتُ مَطْوِيّاتٌ بِيَمِينِه ). (1)
  3 ـ الاستواء ، كقوله سبحانه : ( الرَّحمنُ عَلَى العَرْشِ اسْتَوى ). (2)
  4 ـ النفس ، كقوله سبحانه : ( تَعْلَمُ ما فِي نَفْسي وَلا أَعْلَمُ ما في نَفْسِكَ ). (3)
  5 ـ الوجه ، كقوله سبحانه : ( فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللّه ). (4)
  6 ـ الساق ، كقوله سبحانه : ( يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ ساق ). (5)
  7 ـ الجنب ، كقوله سبحانه : ( عَلى ما فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللّهِ ). (6)
  8 ـ القرب ، كقوله سبحانه : ( فَإِنّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوةَ الدّاعِ ). (7)
  9 ـ المجيء ، كقوله سبحانه : ( وَجاءَ رَبُّكَ ). (8)
  10 ـ الإتيان ، كما قال سبحانه : ( أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ ). (9)
  11 ـ الغضب ، كما في قوله : ( وَغَضِبَ اللّهُ عَلَيْهِم ). (10)
  12 ـ الرضا ، كما في قوله : ( رَضِيَ اللّهُ عَنْهُم ). (11)
  إلى غير ذلك من الصفات الخبرية التي وردت في القرآن الكريم وأخبر عنها الوحي ، فللجميع ظواهر غير مستقرة لا تلائم الأُصول الواردة في محكمات الآيات ، ولكن بالإمعان و الدقة يصل الإنسان إلى مآلها ومرجعها وواقعها ، وهذا لا يعني حمل الظاهر على خلافه ، بل التتبع لغاية العثور على الظاهر ، إذ ليس للمتشابه ظاهر ظهور مستقرّ في بدء الأمر حتّى نتبعه.


--------------------
(1) الزمر : 67.
(2) طه : 5.
(3) المائدة : 116.
(4) البقرة : 115.
(5) القلم : 42.
(6) الزمر : 56.
(7) البقرة : 186.
(8) الفجر : 22.
(9) الأنعام : 158.
(10) الفتح : 6.
(11) المائدة : 119.

المناهج التفسيرية في علوم القرآن _ 178 _
  وفي الختام نذكر نموذجين من تأويل المتشابه ـ وراء ما ذكرناه حول تفسير ( الأيدى ) في قوله سبحانه : ( وَالسَّماء بَنَيْناها بِأَيْد ).
  1 ـ انّ الصفات الخبرية الواردة في القرآن كالوجه وغيره لها حكم عند الإفراد ولها حكم آخر إذا ما جاءت في ضمن الجمل ، فلا يصحّ حملها على المعاني اللغوية إذا كانت هناك قرائن صارفة عنها ، فإذا قال سبحانه : ( وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْها كُلَّ البَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً ) (1) فتحمل الآية على ما هو المتبادر من الآية عند العرف العام ، أعني : الإسراف والتقتير ، فبسط اليد كناية عن الإنفاق بلا شرط ، كما أنّ جعل اليد مغلولة إلى العنق كناية عن البخل والتقتير ، ولا يعني به بسط اليد بمعنى مدها ، ولا غلّ اليد إلى العنق بمعنى شدّها إليه.
  2 ـ قوله سبحانه : ( الرّحمنُ على العَرْشِ اسْتَوى ) (2) نظير الآية السابقة فالعرش في اللغة هو السرير ، والاستواء عليه هو الجلوس ، غير انّ هذا حكم مفرداتها ، وأمّا مع الجملة فيتفرع الاستظهار منها ، على القرائن الحافّة بها ، فالعرب الأقحاح لا يفهمون منها سوى العلو والاستيلاء ، وحملها على غير ذلك يعد تصرفاً في الظاهر ، وتأويلاً لها ، فإذا سمع العرب قول القائل :
قد استوى بشر على العراق      من  غير سيف ودم iiمهراق
  أو سمع قول الشاعر :
ولـما علونا واستوينا iiعليهم      تركناهم مرعى لنسر وكاسر
  فلا يتبادر إلى أذهانهم سوى العلو والسيطرة والسلطة لا العلو المكاني الذي

--------------------
(1) الإسراء : 29.
(2) طه : 5.

المناهج التفسيرية في علوم القرآن _ 179 _
  يعد كمالاً للجسم ، وأين هو من العلو المعنوي الذي هو كمال الذات ؟!
  وقد جاء استعمال لفظ الاستواء على العرش في سبع آيات (1) مقترناً بذكر فعل من أفعاله ، وهو رفع السماوات بغير عمد ، أو خلق السماوات والأرض و ما بينهما في ستة أيّام ، فكان ذاك قرينة على أنّ المراد منه ليس هو الاستواء المكاني بل الاستيلاء والسيطرة على العالم كلّه ، فكما لا شريك له في الخلق والإيجاد لا شريك له أيضاً في الملك والسلطة ، ولأجل ذلك يقول في ذيل بعض هذه الآيات : ( أَلا لَهُ الخَلق وَالأَمْر تَباركَ اللّه ربّ العالَمين ). (2)
  إذا عرفت ذلك فاعلم أنّ التأويل في القرآن هو ما ذكرنا من إرجاع الشيء إلى واقعه من دون فرق بين الكلام والفعل والحقيقة التكوينية كالرؤيا.
  ولكن يستفاد من الأحاديث النبوية والعلوية انّ للتأويل مصطلحاً آخر ، ويطلق عليه التأويل في مقابل التنزيل ، وهذا النوع من التأويل لا يعني التصرّف في الآية بإرجاعها إلى الغاية المرادة ، وإنّما يتبنّى بيان مصاديق جديدة لم تكن في عصر نزول القرآن ، وهذا ما دعانا إلى عقد الفصل التالي.

--------------------
(1) الأعراف : 54 ، يونس : 3 ، الرعد : 2 ، طه : 5 ، الفرقان : 59 ، السجدة : 4 ، الحديد : 4.
(2) الأعراف : 54.

المناهج التفسيرية في علوم القرآن _ 180 _
التأويل في مقابل التنزيل
  القرآن الكريم معجزة خالدة يشق طريقه للأجيال بمفاهيمه ومعانيه السامية ، فهو حجّة إلهية في كلّ عصر وجيل في عامّة الحوادث المختلفة صوراً والمتحدة مادة ، يقول النبي ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) : ( فإذا التبست عليكم الفتن كقطع الليل المظلم فعليكم بالقرآن ، فإنّه شافع مشفّع ، وما حل مصدَّق ، ومن جعله أمامه قاده إلى الجنة ، ومن جعله خلفه ساقه إلى النار ، وهو الدليل يدل على خير سبيل ، وهو كتاب فيه تفصيل و بيان وتحصيل ، وهو الفصل ليس بالهزل ، وله ظهر وبطن ، فظاهره حكم وباطنه علم ، ظاهره أنيق وباطنه عميق ، له نجوم وعلى نجومه نجوم ، لا تُحصى عجائبُه ولا تُبلى غرائبه ، فيه مصابيح الهدى ومنار الحكمة ). (1)
  فقوله ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) : ( لا تُحصى عجائبه ولا تبلى غرائبه ) يرشدنا إلى الإمعان في القرآن في كلّ عصر وجيل والرجوع إليه في الحوادث والطوارق ، كما أنّ قوله ( صلَّى الله عليه وآله وسلَّم ) : ( وله ظهر وبطن ) يرشدنا إلى أن نقف على ظهره وبطنه ، والمراد من البطن ليس هو التفسير بالرأي ، بل تحرّي المصداق المماثل للمصداق الموجود في عصر الوحي و به فسّره الإمام الصادق ( عليه السَّلام ) حيث قال : ( ظهره تنزيله ، وبطنه تأويله ، منه ما مضى ، منه ما لم يجئ بعد ، يجري كما تجري الشمس والقمر ). (2)

--------------------
(1) الكافي : 2 / 599.
(2) مرآة الأنوار : 4.