على نفسه من غير رجوع إلى غيره ، ولازمه وجوب الاستمداد من الغير بالرجوع إليه ، وهذا الغير لا محالة إمّا هو الكتاب أو السنة ، وكونه هو السنّة ينافي القرآن و نفس السنة الآمرة بالرجوع إليه وعرض الاخبار عليه ، فلا يبقى للرجوع إليه والاستمداد منه في تفسير القرآن إلاّ نفس القرآن. (1)
  ومع انّه فصل الكلام في القسم الثاني من التفسير بالرأي ـ لم تفته الإشارة إلى القسم الاوّل في بعض كلماته قال :
  يعرض المفسر الآية على ما توصل إليه العلم أو الفلسفة من نظريات أو فرضيات مقطوع أو مظنون بهما ظناً راجحاً ... نموذج لكلّ من القسمين ثمّ إنّ تأويلات الباطنية أو المتصوفة كلّها من قبيل القسم الأوّل ، وسيوافيك البحث عنها في موضعها ، ولتسليط الضوء نذكر مثالاً : أثبتت الأُصول الفلسفية انّ الأصل هو الوجود وانّ الماهية أمر انتزاعي من حدّ الوجود والمنسوب إلى الجاعل هو الوجود ، غير أن تنزل الوجود لا ينفك عن عروض الحدود ، فالصادر من اللّه سبحانه هو الوجود غير المحدّد المنبسط على الماهيات.
  هذا ما أثبتته الأُصول الفلسفية ، ثمّ إنّ العرفاء يدعمون تلك النظرية بالآية التالية : يقول سبحانه : ( أَلَمْ تَرَ إِلى ربّكَ كَيْفَ مَدّ الظلّ وَلَوْ شاءَ لَجَعَلهُ ساكناً ثُمَّ جَعَلنا الشمس عليه دَليلاً ) (2).
  ويفسرون مدّ الظل ببسط الوجود على الماهيات ،

--------------------
(1) الميزان : 3 / 76 ـ 77.
(2) الفرقان : 45.

المناهج التفسيرية في علوم القرآن _ 67 _

  حتّى انّ بعض المشايخ من العرفاء كان يدّعي انّ دلالة الآية على هذا المعنى أمر بديهي ، فقد نظر العارف إلى القرآن لا بنظر الاهتداء بل بنظر ما يدعم عقيدته ، مع أنّ الآية أجنبية عمّا رامه ، فإنّ الآية و ما بعدها بصدد بيان آياته سبحانه الكونية من جعل الليل لباساً والنوم سباتاً والنهار نشوراً ، وإرسال الرياح بشرى بين يدي رحمته ، إلى غير ذلك من الآيات ، فأي صلة لها بالوجود المنبسط على الماهيات ؟!
  ومن القسم الثاني ، أعني : تفسير القرآن من غير استناد إلى أصل صحيح ، بل اعتماداً على ظاهر الآية من دون الوغول فيها بالأساليب المعهودة ، يقول سبحانه : ( وَما مَنَعْنا أَنْ نرسل بالآيات إِلاّ أن كذب بها الأَوّلُون وآتينا ثَمود الناقة مبصرة فظلمُوا بها وما نرسل بالآيات إلاّ تَخْويفاً ). (1)
  إنّ من يقتنع في تفسير القرآن بالقواعد العربية مع غض النظر عن سائر الأُصول ربما يجعل مبصرة وصفاً للناقة فيصف الناقة بالإبصار مع أنّها وصف لموصوف محذوف أي : ( وجعلنا الناقة آية مبصرة ) فالآية من قبيل الاختصار بحذف الموصوف.

الاجتهاد في فهم القرآن غير التفسير بالرأي
  ثمّ إنّ المحظور هو التفسير بالرأي على ما عرفت ، وأمّا السعي وبذل الجهد في فهم مقاصد الآيات ومراميها عن الطرق المألوفة بين العلماء خلفاً عن سلف فليس بمحظور بل هو ممدوح ، بل لا محيص عنه في فهم القرآن الكريم.
  فإنّ ما يهتدي إليه المفسر بعد التفكّر والتأمّل في مفردات الآية وجملها وسياقها ونظائرها من الآيات إذا كان له صلة لها فهو تفسير مقبول ولا صلة له

--------------------
(1) الإسراء : 59.

المناهج التفسيرية في علوم القرآن _ 68 _

  بالتفسير بالرأي ، وإذا كانت الآية ممّا تتضمن حكماً فقهياً يرجع في فهم الموضوع وشرائطه وجزئياته وموانعه إلى الروايات والاخبار المأثورة ، ثمّ يتمسك في موارد الشك في اعتبار شيء ، أو خروج فرد عن تحت الدليل بإطلاقها أو عمومها فلا يعد ذلك تفسيراً بالرأي بل اجتهاداً معقولاً ، مقبولاً في فهم الآية.
  ولعلّ كون القرآن كتاب القرون والأجيال لا تنقضي عجائبه يلازم قبول هذا النوع من التفسير الاجتهادي ، ولأجل ذلك لم يزل كتاب اللّه طريّاً في غضون الأجيال لم يندرس ولم يطرأ عليه الاندراس ، بل هو طريّ ما دامت السماوات والأرض ، ولازم ذلك وجود معارف وحقائق في القرآن يهتدي إليها الإنسان بالتعمّق في دلالاته اللفظية : المطابقية والتضمنية والالتزامية ، وإن كان السلف في الأعصار الماضية غافلين عن هذه المعاني ، ولعلّه إلى ذلك يشير الصادق ( عليه السَّلام ) في جواب من سأله أنّه ما بال القرآن لا يزداد على النشر والدرس إلاّ غضاضة بقوله : ( لأنّ اللّه تبارك وتعالى لم يجعله لزمان دون زمان ، ولا لناس دون ناس ، وهو في كلّ زمان جديد ، وعند كلّ قوم غض إلى يوم القيامة ). (1)
  وبالجملة فإيصاد هذا الباب في وجه المفسرين ، يوجب وقف الحركة العلمية في فهم الكتاب العزيز ، وبالتالي يكون القرآن كسائر الكتب محدود المعنى ومقصور المراد لا يحتاج إلى تداوم البحث وتضافره.
  ولأجل إعطاء نموذج من الاجتهاد الصحيح في فهم القرآن نذكر اجتهاد الإمام أبي الحسن الهادي ( عليه السَّلام ) في تفسير الآية.
  روى ابن شهر آشوب في مناقبه ، قال :

--------------------
(1) بحار الأنوار : 92 / 15 ، باب فضل القرآن ، الحديث 8.

المناهج التفسيرية في علوم القرآن _ 69 _

  قُدِّم إلى المتوكل رجل نصراني فجر بامرأة مسلمة ، فأراد أن يقيم عليه الحد ، فأسلم ، فقال يحيى بن أكثم : الإيمان يمحو ما قبله ، و قال بعضهم : يضرب ثلاثة حدود ، فكتب المتوكل إلى الإمام الهادي ( عليه السَّلام ) يسأله ، فلما قرأ الكتاب ، كتب : ( يضرب حتى يموت ).
  فأنكر الفقهاء ذلك ، فكتب إليه يسأله عن العلة ، فكتب :
  ( بسم اللّه الرّحمن الرّحيم * فلمّا رأوا بأسنا قالوا آمنّا باللّه وحده وكفرنا بما كنّا به مشركين * فلم يك ينفعهم إيمانهم لمّا رأوا بأسنا سنّة اللّه التي قد خلت في عباده وخسر هنالك الكافرون ) (1) فأمر به المتوكل فضرب حتى مات . (2)
  فالآية تدلّ بوضوح على أنّ الإيمان لدفع البأس ، غير نافع في دفعه وعليه جرت سنة اللّه سبحانه ، فليكن المقام من صغريات تلك الكبرى.
  ( تمّ الكلام في المقدّمات التمهيديّة فلنشرع في بيان المناهج التفسيرية )

--------------------
(1) غافر : 84 ـ 85.
(2) مناقب آل أبي طالب : 4 / 403 ـ 405.

المناهج التفسيرية في علوم القرآن _ 71 _

  المنهج الأوّل التفسير بالعقل وصوره :
  1 ـ التفسير بالعقل الصريح الفطري
  2 ـ التفسير على ضوء المدارس الكلامية
  3 ـ التفسير على ضوء السنن الاجتماعية
  4 ـ التفسير على ضوء العلم الحديث
  5 ـ التفسير حسب تأويلات الباطنية
  6 ـ التفسير حسب تأويلات الصوفية

المناهج التفسيرية في علوم القرآن _ 73 _
إيضاح المنهج التفسيري غير الاهتمام التفسيري
  وقبل الخوض في استعراض المناهج التي يغلب عليها الطابَع العقلي أو النقلي ، نذكر نكتة في غاية الأهمية ، وهي ضرورة التمييز بين موضوعين : هما :
  1 ـ المنهج التفسيري.
  2 ـ الاهتمام التفسيري.
  فنقول : إنّ هاهنا بحثين :
  الأوّل : البحث عن المنهج التفسيري لكل مفسّـر ، وهو تبيين طريقة كل مفسر في تفسير القرآن الكريم ، والأداة والوسيلة التي يعتمد عليها لكشف الستر عن وجه الآية أو الآيات ؟ فهل يأخذ العقلَ أداةً للتفسير أو النقل ؟ وعلى الثاني فهل يعتمد في تفسير القرآن على نفس القرآن ، أو على السنّة ، أو على كليهما ، أو غيرهما ؟
  وبالجملة ما يتخذه مفتاحاً لرفع إبهام الآيات ، وهذا هو ما نسمّيه المنهج في تفسير القرآن في كتابنا هذا.
  الثاني : البحث عن الاتجاهات والاهتمامات التفسيرية ، والمراد منها المباحث التي يهتم بها المفسّـر في تفسيره مهما كان منهجه وطريقته في تفسير الآيات ، مثلاً تارة يتجه إلى إيضاح المادة القرآنية من حيث اللغة ، وأُخرى إلى صورتها العارضة

المناهج التفسيرية في علوم القرآن _ 74 _
  عليها من حيث الإعراب والبناء ، وثالثة يتجه إلى الجانب البلاغي ، ورابعة يعتني بآيات الأحكام ، وخامسة يصبّ اهتمامه على الجانب التاريخي والقصصي ، وسادسة يهتم بالأبحاث الأخلاقية ، وسابعة يهتم بالأبحاث الاجتماعية ، وثامنة يهتم بالآيات الباحثة عن الكون وعالم الطبيعة ، وتاسعة يهتم بمعارف القرآن وآياته الاعتقادية الباقية عن المبدأ والمعاد وغيرهما ، وعاشرة بالجميع حسبما أُوتي من المقدرة.
  ولا شك أنّ التفاسير مختلفة من حيث الاتجاه والاهتمام ، إمّا لاختلاف أذواق المفسرين وكفاءاتهم ومؤهّلاتهم ، أو لاختلاف بيئاتهم وظروفهم ، أو غير ذلك من العوامل التي تسوق المفسر إلى صبِّ اهتمامه إلى جانب من الجوانب المذكورة أو غيرها ، ولكن البحث عن هذا لايمتّ بالبحث عن المنهج التفسيري للمفسّـر بصلة ، فمن تصور أنّ البحث عن اختلاف الاهتمامات والاتجاهات راجع إلى البحث عن المنهج التفسيري فقد تسامح.
  وإن شئت أن تفرق بين البحثين فنأتي بكلمة موجزة ، وهي أنّ البحث في المناهج بحث عن الطريق والأُسلوب ، والبحث في الاهتمامات بحث عن الأغراض والأهداف التي يتوخّاها المفسر ، وتكون علة غائية لقيامه بالتأليف في مجال القرآن.

أنواع المناهج التفسيرية
  إذا تبيّـن الفرق بين البحثين فنقول : إنّ التقسيم الدارج في تبيين المناهج هو أنّ المفسّـر إمّا يعتمد في رفع الستر عن وجه الآية على الدليل العقلي أو على الدليل النقلي ، ونحن أيضاً نقتفي في هذا البحث أثر هذا التقسيم لكن بتبسيط في الكلام.

المناهج التفسيرية في علوم القرآن _ 75 _
   المنهج الأوّل / 1
تفسير القرآن في ظل العقل الصريح
  قد يطلق التفسير بالعقل ، ويراد به التفسير بغير النقل ، سواء أكان التفسير بالعقل الفطري ، أم بالقواعد الدارجة في المدارس الكلامية ، أو بتأويلات الباطنية ، أو الصوفية ، أو التفسير حسب العلوم الحديثة ، والتفسير بالعقل بهذا المعنى يعم جميع هذا النوع من التفسير ، وبهذا صار أيضاً ملاكاً لتقسيم المناهج التفسيرية إلى المنهج العقلي والنقلي.
  وقد يطلق ويراد به تفسير الآيات من منظار العقل الفطري والعقل الصريح والبراهين المشرقة غير الملتوية الواضحة لكلّ أرباب العقول ، وهذا هو المراد في المقام ، وهو بهذا المعنى قسم من المناهج التفسيرية العقلية فلاحظ. (1)
  وبما انّ العقل الصريح يقسم إلى عقل نظري (2) وإلى عقل عملي (3) ، فالآيات الواردة حول العقائد والمعارف تفسر في ظل العقل النظري ، كما أنّ الآيات الواردة حول الحقوق والأخلاق والاجتماع تفسر بما هو المسلم عند العقل العملي.

--------------------
(1) والعقل بالمعنى الأوّل مقسم للمناهج الستة ، وبالمعنى الثاني قسم منه.
(2) المراد من العقل النظري : إدراك ما يجب أن يعلم ، كحاجة الممكن إلى العلة ، والمراد من العقل العملي ، إدراك ما يجب أن يعمل ويطبَّق على الحياة ، كقولنا : العدل حسن والظلم قبيح.
(3) المراد من العقل النظري : إدراك ما يجب أن يعلم ، كحاجة الممكن إلى العلة ؛ والمراد من العقل العملي ، إدراك ما يجب أن يعمل ويطبَّق على الحياة ، كقولنا : العدل حسن والظلم قبيح.

المناهج التفسيرية في علوم القرآن _ 76 _
  ولأجل إيضاح هذا النوع من التفسير بالعقل الذي يفارق التفسير على سائر المعايير العقلية كما أشرنا إليها ، نذكر نماذج في مجالي العقل النظري والعقل العملي ، ولنقدّم الكلام في الأوّل على الثاني.
  1 ـ واحد لا ثاني له يقول سبحانه : ( لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيء وَهُوَ السَّميعُ الْبَصير ) (1) فالآية تنفي أن يكون له سبحانه أيُّ مثل وندّ ، وفي سورة أُخرى يقول : ( وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَد ) (2) وهذه عقيدة صريحة إسلامية ، يمكن أن يفسر في ضوء الحكم العقلي كالتالي.
  أ ـ صرف الوجود لا يتعدّد إذا كان الموجود منزهاً عن كلّ حد وقيد بحيث ليس له واقعية سوى الوجود المطلق فهو لا يتكرر ولا يتعدد ، بمعنى انّه لا تتعقل له الاثنينية والكثرة ، لأنّ ما فرضته ثانياً بحكم انّه أيضاً منزه عن كلّ قيد وحدّ وخليط يكون مثل الأوّل فلا يتميز ولا يتشخص ، وقد قام الإمام أمير المؤمنين علي ( عليه السَّلام ) بتفسير الآية على ضوء هذا الحكم العقلي.
  روى الصدوق أنّ اعرابياً قام يوم الجمل إلى أمير المؤمنين ( عليه السَّلام ) فقال : يا أمير المؤمنين أتقول : إنّ اللّه واحد ، قال فحمل الناس عليه ، وقالوا : يا أعرابي أما ترى ما فيه أمير المؤمنين من تقسم القلب ، فقال أمير المؤمنين : ( دعوه ، فانّ الذي يريده الأعرابي هو الذي نريده من القوم ) ... ثمّ قال شارحاً ما سأله عنه الأعرابي : ( وقول

--------------------
(1) الشورى : 11.
(2) الاخلاص : 4.

المناهج التفسيرية في علوم القرآن _ 77 _
  القائل واحد ، يقصد به باب الأعداد ، فهذا ما لا يجوز ، لأنّ ما لا ثاني له لا يدخل في باب الأعداد ، أما ترى أنّه كفر من قال : ثالث ثلاثة ).
  ثمّ قال : ( معنى هو واحد : انّه ليس له في الأشياء شِبْه ، كذلك ربّنا ، و قول القائل إنّه عزّ وجلّ أحديُّ المعنى يعني به أنّه لا ينقسم في وجود ولا عقل ولا وهم ، كذلك ربّنا عزّ وجلّ ). (1)
  فالإمام ( عليه السَّلام ) لم يكتف ببيان المقصود من وصفه سبحانه بأنّه واحد ، بل أشار إلى معنى آخر من معاني توحيده وهو كونه أحديّ الذات ، الذي يهدف إلى كونه بسيطاً لا جزء له في الخارج والذهن ، و التوحيد بهذا المعنى هو القسم الثاني من التوحيد الذاتي المبحوث عنه في محلّه .

ب ـ التعدّد يستلزم التركيب
  لو كان هناك واجب وجود آخر لشارك الواجبان في كونهما واجبي الوجود ، ولابدّ من تميز أحدهما عن الآخر بشيء وراء ذلك الأمر المشترك ، كما هو الحال في كلّ مثلين ، وذلك يستلزم تركب كلّ منهما من شيئين : أحدهما يرجع إلى ما به الاشتراك ، والآخر إلى ما به الامتياز ، والمركب بما أنّه محتاج إلى أجزائه لا يكون موصوفاً بوجوب الوجود ، بل يكون ـ لأجل الحاجة ـ ممكناً وهو خلاف الغرض.
  وباختصار لو كان في الوجود واجبان للزم إمكانهما وذلك انّهما يشتركان في وجوب الوجود فإن لم يتميّزا لم تحصل الاثنينية ، وإن تميّزا لزم تركب كلّ واحد منهما ممّا به المشاركة وما به الممايزة ، وكلّ مركب ممكن فيكونان ممكنين ، وهذا خلاف الفرض.

--------------------
(1) توحيد الصدوق : 83 ـ 84.

المناهج التفسيرية في علوم القرآن _ 78 _
ج ـ الوجود اللا متناهي لا يقبل التعدّد
  هذا البرهان مؤلّف من صغرى و كبرى والنتيجة هو وحدة الواجب وعدم إمكان تعدّده ، وإليك صورة القياس حتى نبرهن على كلّ من صغراه وكبراه.
  وجود الواجب غير متناه.
  وكلّ غير متناه واحد لا يقبل التعدّد.
  فالنتيجة وجود الواجب واحد لا يقبل التعدّد.
  وإليك البرهنة على كلّ من المقدّمتين.
  أمّا الصغرى : فانّ محدودية الموجود ، ملازمة لتلبّسه بالعدم.
  ولأجل تقريب هذا المعنى لاحظ الكتاب الموضوع بحجم خاص ، فانّك إذا نظرت إلى أيّ طرف من أطرافه ترى أنّه ينتهى إليه وينعدم بعده ، ولا فرق في ذلك بين صغير الموجودات وكبيرها ، حتّى أنّ جبال الهملايا مع عظمتها محدودة لا نرى أي أثر للجبل بعد حدّه. وهذه خصيصة كلّ موجود متناه زماناً أو مكاناً أو غير ذلك ، فالمحدودية والتلبس بالعدم متلازمان.
  وبتقرير آخر : انّ عوامل المحدودية تمحور في الأُمور التالية :
  1 ـ كون الشيء محدوداً بالماهية ومزدوجاً بها ، فانّها حد وجود الشيء والوجود المطلق بلا ماهية غير محدد ولا مقيد وإنّما يتحدّد بالماهية.
  2 ـ كون الشيء واقعاً في إطار الزمان ، فهذا الكم المتصل ( الزمان ) يحدّد وجود الشيء في زمان دون آخر.
  3 ـ كون الشيء في حيّز المكان ، وهو أيضاً يُحدّد وجود الشيء ويخصّه بمكان دون آخر.

المناهج التفسيرية في علوم القرآن _ 79 _
  وأمّا الكبرى فهي واضحة بأدنى تأمل ، وذلك لأنّ فرض تعدّد اللا متناهي يستلزم أن نعتبر كلّ واحد منهما متناهياً من بعض الجهات حتى يصحّ لنا أن نقول هذا غير ذاك ، ولا يقال هذا إلاّ إذا كان كلّ واحد متميزاً عن الآخر ، والتميّز يستلزم أن لا يوجد الأول حيث يوجد الثاني ، وكذا العكس ، وهذه هي ( المحدودية ) وعين ( التناهي ) ، والمفروض انّه سبحانه غير محدود ولا متناه.
  فيستنتج من هاتين المقدّمتين انّ وجود الواجب واحد لا يقبل التعدّد.
  ومن لطيف القول ما نجده في كلامه سبحانه حيث إنّه بعد ما يصف نفسه بالوحدانية يعقبه بوصف القهارية ويقول ( الواحد القَهّار ) (1) ، وما ذلك إلاّ لأنّ المحدود المتناهي مقهور للحدود والقيود الحاكمة عليه ، فإذا كان قاهراً من كلّ الجهات لم تتحكم فيه الحدود ، فكأنّ اللا محدودية تلازم وصف القاهرية وقد عرفت أنّ ما لا حدّ له يكون واحداً لا يقبل التعدّد ، فقوله سبحانه : ( وَهُوَ الواحِدُ القَهّار ) من قبيل ذكر الشيء مع البيّنة والبرهان.
  2 ـ لا مدبر للكون إلاّ اللّه
  إنّ القرآن يستدلّ على وحدة المدبر ببرهان شيق ، ويقول : ( قُلْ لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَة إِلاّ اللّه لَفَسَدَتا فَسُبحانَ اللّه رَبّ العَرْشِ عَمّا يَصِفُون ) (2) والمراد من الإله في المقام هو الإله الخالق رداً للثنوية الذين يظنون انّ خالق الخير غير خالق الشر أو النصرانية حيث ذهبت إلى التثليث.
  وحاصل البرهان : إذا افترضنا انّ للكون خالقين وانّ العالم مخلوق لإلهين ،

--------------------
(1) الرعد : 16.
(2) الأنبياء : 22.

المناهج التفسيرية في علوم القرآن _ 80 _
  فانّه لابدّ أن نقول ـ و بحكم كونهما اثنين ـ انّهما يختلفان عن بعض في جهة أو جهات ، وإلاّ لما صحّت الاثنينية والتعدّد أي لما صحّ ـ حينئذ ـ أن يكونا اثنين دون أن يكون بينهما أي نوع من الاختلاف.
  ومن المعلوم أنّ الاختلاف في الذات سبب للاختلاف في طريقة التدبير والإرادة بين المختلفين ذاتاً.
  فإذا كان تدبير العالم العلوي ـ مثلاً ـ من تدبير واحد من الإلهين وتدبير العالم السفلي من تدبير إله آخر ، فإنّ من الحتمي أن ينفصم الترابط بين نظامي العالمين ويزول الارتباط بينهما ، لأنّه من المستحيل تدبير موجود ذي أجزاء منسجمة بتدبيرين متنافيين متضادين.
  وينتج من ذلك التفكك بين جزئي العالم ، وبالتالي فساد الكون بأسره من سماوات وأرض وما بينهما ، لأنّا جميعاً نعلم بأنّ بقاء النظام الكوني ناشئ من الارتباط الحاكم على أجزاء المنظومة الشمسية بحيث لو فقد هذا الارتباط على أثر الاختلاف في التدبير ـ مثل أن تختل قوتاً الجذب والدفع ـ لتعرّض الكون بأسره للخلل ولم يبق للكون وجود ولا أثر.
  هذا هو البرهان المشرق الذي يفسر الآية بالعقل الصريح.
  3 ـ اللّه تبارك وتعالى فوق الرؤية
  يقول سبحانه : ( لا تُدْرِكُهُ الأَبْصار وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصار وَهُوَ اللَّطيفُ الخَبير ) (1) انّ الذكر الحكيم يُجلُّ سبحانه من أن تدركه الأبصار وفي الوقت نفسه يدرك الأبصار ، ويمكن تفسير هذه الآية بالوجوه التالية :

--------------------
(1) الأنعام : 103.

المناهج التفسيرية في علوم القرآن _ 81 _
  1 ـ انّ اللّه تعالى ليس في جهة ولا في مكان بدليل انّ ما كان في الجهة والمكان ، مفتقر إليهما وهو محال عليه ، واللّه تعالى ليس بمرئي بدليل أنّ كلّ مرئي لابدّ أن يكون في جهة. (1)
  وبعبارة أُخرى : انّ الرؤية إنّما تصحّ لمن كان مقابلاً أو في حكم المقابل والمقابلة إنّما تكون في حقّ الأجسام ذوات الجهة واللّه تعالى ليس في جهة فلا يكون مرئياً.
  2 ـ انّ الرؤية إمّا أن تقع على الذات كلّها أو على بعضها ، فعلى الأوّل يلزم أن يكون محدوداً متناهياً محصوراً شاغلاً لناحية من النواحي وخلوّ النواحي الأُخرى منه تعالى وذلك مستحيل ، وإمّا أن تقع على بعض الذات فيلزم أيضاً أن يكون مركباً متحيزاً ذا جهة إلى غير ذلك من التوالي الفاسدة الباطلة المرفوضة في حقه تعالى.
  3 ـ انّ الرؤية بأجهزة العين نوع إشارة بها إلى المرئي وهو سبحانه منزّه عن الإشارة.
  4 ـ انّ الرؤية لا تتحقّق إلاّ بانبعاث أشعة من المرئي إلى أجهزة العين وهو يستلزم أن يكون سبحانه جسماً ذات أبعاد ومعرضاً لعوارض وأحكام جسمانية وهو المنزّه عن كلّ ذلك. (2)
  4 ـ هو الأوّل والآخر والظاهر والباطن
  يصف سبحانه نفسه بأنّه الأوّل والآخر ، والظاهر والباطن ، ويقول : ( هُوَ

--------------------
(1) مجموعة الرسائل العشر ، المسألة 16 ـ 17.
(2) لاحظ أنوار الملكوت في شرح الياقوت : 82 ـ 83 واللوامع الإلهية : 81 ـ 82 ، وكشف المراد : 182.

المناهج التفسيرية في علوم القرآن _ 82 _
  الأَوّل وَالآخر وَالظّاهر وَالباطِن وَهُوَ بِكُلِّ شَيء عَليم ). (1)
  وهذه الصفات صفات متناقضة لا تجتمع في شيء واحد مع أنّه سبحانه يصف نفسه بها ، فلو كان أوّلاً كيف يكون آخراً ؟ ولو كان ظاهراً كيف يكون باطناً ؟ فأوّل الناس في العمل لا يكون آخرهم فيه وهكذا الظاهر والباطن.
  ولكن يمكن تفسير ذلك من خلال كونه محيطاً بالموجودات الامكانية أوّلاً ، وقيامهم به قيام المعنى الحرفي بالاسمي ثانياً.
  فإذا كان محيطاً بوجوده على كلّ شيء فكلّما فرض أوّلاً فهو قبله بحكم كونه محيطاً والشيء محاطاً ، فهو الأوّل دون الشيء المفروض أوّلاً ، وكلّ ما فرض آخراً فهو بعده لحديث إحاطة وجوده به من كلّ جهة ، فهو الآخر دون الشيء المفروض وليس أوّليته تعالى ولا آخريته زمانية ولا مكانية ، بل بمعنى كونه محيطاً بالأشياء على أيّ نحو فرضت وكيفما تصوّرت.
  فإذا كان العالم قائماً به قيام المعنى الحرفي بالاسمي ، فكيف يمكن خلو العالم عن وجود الواجب ؟ فالعالم بما فيه من الصغير والكبير ، ومن الذرة إلى المجرّة ، ومن المادي إلى المجرد ، قائم به سبحانه قيام المعنى الحرفي بالمعنى الاسمي ، فيكون سبحانه ظاهر العالم وباطنه.
  وبالجملة إحاطته له وقيمومته للوجود الإمكاني يجعله أوّلاً وآخراً وظاهراً وباطناً ويترتب عليه قوله سبحانه ( وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنما كُنْتُمْ ) (2) ، ومن الخطأ الواضح تفسير هذه المعية بالمعية العلمية ، بل هي معية وجودية لكن حسب ما ذكره الإمام أمير المؤمنين ( عليه السَّلام ) في خطبته : ( لم يحل في الأشياء فيقال هو كائن ، ولم ينأ

--------------------
(1) الحديد : 3.
(2) الحديد : 57.

المناهج التفسيرية في علوم القرآن _ 83 _
  عنها فيقال انّه منها بائن ). (1)
  إلى هنا تبيّن كيفية تفسير الآية بالعقل الصريح ، وقد أتينا بنماذج أربعة من هذه المقولة ، أعني :
  أ ـ واحد لا ثاني له.
  ب ـ ليس للعالم مدبّر سواء.
  ج ـ انّه سبحانه فوق الرؤية.
  د ـ انّه سبحانه هو الأوّل والآخر والظاهر والباطن.
  كلّ ذلك من قبيل تفسير الآية بالعقل الصريح النظري في مقابل التفسير بالعقل الصريح العملي الذي سنوضحه تالياً.

القرآن والعقل العملي
  قسّم الحكماء العقل إلى عقل نظري وعقل عملي ، والمراد هو تقسيم المدرك إلى هذين القسمين ، وإلاّ فالعقل المدرِك واحد بجوهره ووجوده ، فما يدركه لو كان من قبيل ما يجب أن يُعلم ويُدرك فهو عقل نظري كما عرفت من الأمثلة السابقة حيث أدركنا انّ اللّه سبحانه واحد لا نظير له ، وانّه مدبّر لا مدبّر سواه ، وانّه فوق أن يُرى وانّه الأوّل والآخر والظاهر والباطن.
  وأمّا ما يدركه العقل ممّا يجب أن يعمل ويطبق على الحياة فيعبر عنه بالعقل العملي أي المدرَك الذي يجب أن يعمل به في نظر العقل وهذا ما يعبر عنه بالتحسين والتقبيح العقليّين الذي له فروع وشؤون في نظر العقل.
  فهناك من يفسر القرآن الكريم بالعقل الصريح العملي ، وإليك نموذجين من هذه المقولة.

--------------------
(1) نهج البلاغة : الخطبة : 65 ، ولاحظ الخطبة 179.

المناهج التفسيرية في علوم القرآن _ 84 _
تنزيهه سبحانه عن العبث
  إذا قلنا بالتحسين والتقبيح العقليين وانّ العقل يدرك لزوم ما يحسنه العقل والاجتناب على ما يقبحه يفسر بذلك لفيف من الآيات :
  أ ـ انّه سبحانه يصف فعله بالنزاهة عن العبث واللغو ، ويقول : ( أَفَحَسِبْتُمْ أَنّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً وَانّكُمْ إِلينا لا ترجعُون ). (1)
  ( وَما خَلَقْنا السَّماوات وَالأَرْض وَما بَيْنَهُما لاعِبين ). (2)
  ( وَما خَلَقْنَا السَّماء وَالأَرْض وَما بَيْنَهُما باطِلاً ذلِكَ ظَنُّ الّذينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النّار ). (3)
  ( وَما خَلَقْتُ الجِنَّ وَالإِنْس إِلاّ لِيَعْبُدُون ). (4)
  وعلى ضوء ذلك فأفعاله سبحانه لا تنفك عن الأغراض ، لكن الغرض غاية للفعل لا للفاعل ، وبذلك يعلم جواب السؤال التالي :
  لو كان فعله تعالى نابعاً عن الغرض لكان ناقصاً بذاته ، مستكملاً بتحصيل ذلك الغرض ، لأنّه لا يصلح غرضاً للفاعل إلاّ ما هو أصلح له من عدمه وهو معنى الاكتمال.
  والجواب : انّ السائل خلط بين الغرض الراجع إلى الفاعل والغرض الراجع إلى فعله ، فالاستكمال موجود في الأوّل دون الثاني ، والقائل بأنّ أفعاله سبحانه ليست منفكّة عن الغايات والدواعي إنّما يعني بها الثاني ، أي كونه غرضاً للفعل دون الأوّل ، فانّ الغرض بالمعنى الأوّل ينافي كونه غنياً بالذات ، والغرض بالمعنى

--------------------
(1) المؤمنون : 115.
(2) الدخان : 38.
(3) ص : 27.
(4) الذاريات : 56.

المناهج التفسيرية في علوم القرآن _ 85 _
  الثاني يوجب خروج فعله عن كونه عبثاً ولغواً وكونه سبحانه عابثاً ولاغياً ، فالجمع بين كونه غنياً غير محتاج إليه وكونه حكيماً منزّهاً عن العبث واللغو يحصل باشتمال أفعاله على مصالح وحكم ترجع إلى العباد والنظام لا إلى وجوده وذاته.
  نعم ربما يمكن أن يقال انّ هذا النوع من التفسير يرجع إلى تفسير الآية في ضوء المدارس الكلامية مع أنّ البحث في غيره.
  والجواب انّ المقصود من المدارس الكلامية هو الأحكام العقلية غير الواضحة على أكثر العقول ، وأمّا الظاهر عليه فهو تفسير بالعقل الصريح ، والتحسين والتقبيح من هذا النوع من الإدراكات العقلية وان استخدمته العدلية في مدارسهم الكلامية.
  ب ـ اللّه عادل لا يجور
  إنّه سبحانه يصف نفسه بكونه قائماً بالقسط ، يقول : ( شَهِدَ اللّه أَنّهُ لا إِلهَ إِلاّ هُوَ وَالْمَلائِكَة وَأُولُوا العِلْمِ قائِماً بِالْقِسْطِ ). (1)
  وكما شهد على ذاته بالقيام بالقسط ، عرف الغاية من بعثة الأنبياء بإقامة القسط بين الناس.
  قال سبحانه : ( لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلنا بِالبَيّنات وَأَنْزَلْنا مَعَهُمُ الكِتاب وَالمِيزان لِيَقُومَ النّاس بِالقِسْطِ ). (2)
  كما صرح بأنّ القسط هو الركن الأساس في محاسبة العباد يوم القيامة ، إذ يقول سبحانه : ( وَنَضَعُ المَوازينَ القِسْطِ لِيَقُومَ القِيامَة فَلا تظلِمُ نَفسٌ شَيْئاً ). (3)
  وما في هذه الآيات وغيرها إرشادات إلى ما يدركه العقل من صميم ذاته ،

--------------------
(1) آل عمران : 18.
(2) الحديد : 25.
(3) الأنبياء : 47.

المناهج التفسيرية في علوم القرآن _ 86 _
  بأنّ العدل كمال لكلّ موجود حي مدرك مختار ، وانّه يجب أن يوصف اللّه تعالى به في أفعاله في الدنيا والآخرة ، ويجب أن يقوم سفراؤه به.
  وبعبارة أُخرى : اللّه سبحانه عادل ، لأنّ الظلم قبيح ، ولا يصدر القبيح من الحكيم ، فلا يصدر الظلم من اللّه سبحانه.
  هذا نموذج ثان لتفسير الآيات بالعقل العملي الصريح ، وعليك الإمعان في الآيات التي ترجع إلى العقائد ، كي تستخرج منها ما يرجع إلى العقل النظري وما يرجع إلى العقل العملي وتفسيرها بأحدهما في نهاية الأمر.
  بقيت هنا أُمور :
  الأوّل : انّه سبحانه يصف نفسه في سورة الحشر بصفات لا يمكن تفسيرها إلاّ في ضوء العقل الصريح ، فمن رفض العقل في تفسير القرآن الكريم يعرقل خطاه في تفسير هذا القسم من الآيات.
  يقول سبحانه : ( هُوَ الّذي لا إلهَ إِلاّ هُوَ عالِمُ الغَيْبِ وَالشَّهادةِ هُوَ الرّحمنُ الرَّحيم ). (1)
  ( هُوَ اللّهُ الّذي لا إلهَ إِلاّ هُوَ المَلِكُ الْقُدُوس السَّلام المُؤْمِنُ المُهَيْمِنُ العَزيِزُ الجَبّار المُتَكَبِّر سُبحانَ اللّه عَمّا يُشْرِكُونَ ). (2)
  ( هُوَ اللّهُ الخالِقُ البارئُ المُصَوِّر لَهُ الأَسماءُ الحُسْنى يُسَبِّحُ لَهُ ما فِي السَّماوات وَالأَرض وَهُوَ العَزيزُ الحَكيم ). (3)
  وفي هذا القسم من التفسير لا يهتم المفسر في إخضاع الآيات لمنهج عقلي كلامي خاص ، وإنّما هو من قبيل الاستضاءة بهذه الأُصول الثابتة عند العقل في تحصيل الآيات.

--------------------
(1) الحشر : 22 ـ 24.
(2) الحشر : 22 ـ 24.
(3) الحشر : 22 ـ 24.

المناهج التفسيرية في علوم القرآن _ 87 _
  الثاني : انّ من اتّخذ العقل أداة وحيدة للتفسير يجب عليه الاقتصار على تفسير الآيات الراجعة إلى العقائد والمعارف وشيئاً مما يرجع إلى الأخلاق والمسائل الاجتماعية ولا يتمكن من تفسير آيات الأحكام والقصص والمغازي وما أشببهما.
  الثالث : قد وقفت على كتاب أسماه مؤلّفه السيد نور الدين الحسين العراقي ( المتوفّـى عام 1341 هـ . ق ) ( القرآن والعقل ) و قد طبع في أجزاء ثلاثة ، فقد قام بتفسير القرآن بما يوحي إليه عقله الشخصي ويدركه بوجدانه ، وإنّما أسمى كتابه بهذا لأنّه لم يكن حين تأليف التفسير كتاب سوى تفسير الجلالين وقد ألّفه وهو في ساحات الحروب ينتقل من نقطة إلى أُخرى.
  وعلى كلّ تقدير فليس ما ألّفه على غرار ما ذكرنا من التفسير بالعقل السليم ، وإليك نماذج من بعض تفسيراته :
  1 ـ قال في تفسير قوله سبحانه جواباً لطلب موسى الرؤية : قال : ( ولكِن انْظُر إِلَى الجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكانَهُ فَسَوفَ تَرانِي فَلَمّا تَجَلّي رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكّاً وَخَرَّ مُوسى صَعِقاً ). (1)
  1 ـ قال : وقد يقال انّ كلمة الشرط ( فإن استقر ) تدلّ على سببية الشرط للجزاء ، وأي سببية بين بقاء جبل ورؤية موسى ( عليه السَّلام ) مع كون الجبل من الجمادات ، وموسى ( عليه السَّلام ) إنساناً كاملاً ؟!
  فأجاب بقوله : لو كان المراد بالرؤية الرؤية ، البصرية الجسمية ، فالربط بين الشرط والجزاء يكون حاصلاً ، فانّ الجسم الصلب العظيم غير الشاعر بالتجلّي ، إذا لم يبق وصار مندكاً ، فالعين الباصرة التي هي مركبة من العناصر وفي منتهى اللطافة تتلاشى بمشاهدة التجلّـي مع كونها ذي حس بالأولوية القطعية. (2)

--------------------
(1) الأعراف : 143.
(2) القرآن والعقل : 2 / 83.

المناهج التفسيرية في علوم القرآن _ 88 _
  2 ـ يقول في تفسير قوله سبحانه : ( فَلَمّا ذَهَبَ عَنْ إِبْراهيمَ الرَّوْعُ وَجاءتْهُ البُشْرى يُجادِلُنا فِي قَوْم لُوط * إِنّ إِبراهيمَ لَحَليمٌ أَوّاهٌ مُنيب ). (1)
  كان إبراهيم يجادل رسل اللّه تبارك وتعالى في إهلاك قوم لوط حيث استدعى إمهالهم لعلّهم يرجعون لكن إبراهيم خوطب بترك الجدال وقال : ( يا إِبْراهيمُ أَعْرِضْ عَنْ هذا إِنَّهُ قَدْ جاءَأَمْرُ رَبِّكَ وَإِنَّهُمْ آتيهِمْ عَذابٌ غَيْرُ مَرْدود ). (2)
  أمر سبحانه إبراهيم بالإعراض عن الشفاعة ، وذلك لأنّ الشفاعة فرع وجود الاستعداد في المشفوع له لا بعد شهود زوال الاستعداد للكمال ، وصيرورة أخلاقهم الفاسدة ملكات راسخة غير زائلة. (3)
  3 ـ يقول في تفسير قوله سبحانه : ( فَلَمّا جاءَ أَمْرُنا جَعَلْنا عالِيَها سافِلها وَأَمْطَرنا عَلَيْها حِجارةً مِنْ سِجِّيل منضُود ). (4)
  قال في وجه رجوع العالي إلى السافل ، والسافل إلى العالي : إنّ المورد كبعض الزلازل العظيمة التي تنشق الأرض بسببها ، فإذا انهدمَت تقع العوالي وتصل إلى المنشقات وتصير السفلى ، والأسفل يقع في البعد ويصير أعلا. (5)
  4 ـ يقول في تفسير قوله سبحانه : ( لَقَدْ كان في يُوسُفَ وَإِخوَتهِ آياتٌ لِلسّائلين ). (6)
  ومن تلك الآيات الكذب البيّن حيث أتوا بالقميص صحيحاً و في الوقت نفسه قالوا افترسه الذئب مع أنّهما متناقضان.

--------------------
(1) هود : 74 ـ 75.
(2) هود : 76.
(3) القرآن والعقل : 2 / 329.
(4) هود : 82.
(5) القرآن والعقل : 2 / 333.
(6) يوسف : 7.

المناهج التفسيرية في علوم القرآن _ 89 _
  ثمّ يقول : ونظير ذلك انّ قريشاً يتّهمون النبي بأنّه مسحور أو مجنون مع ما يرون في النبي من العقل والذكاء ، والبرهنة والاستدلال ، ومع ذلك يخفونه ويظهرون جنونه . (1)
  هذه نماذج مما التقطناها من الجزء الثاني من هذا الكتاب وهو يقع في ثلاثة أجزاء وهو بعد لم يكمل تفسير عامة السور على النهج الذي سار عليه.
  إلى هنا تمّ تفسير القرآن بالعقل الصريح ، وإليك الكلام في سائر الصور من تفسير القرآن بالعقل أي بغير النقل.

--------------------
(1) القرآن والعقل : 2 / 367.

المناهج التفسيرية في علوم القرآن _ 90 _
   المنهج الأوّل / 2
تفسير القرآن على ضوء المدارس الكلامية
  هذا هو القسم الثاني من تفسير القرآن بالعقل أي بغير الأثر المروي ، والمراد من هذا القسم هو إخضاع الآيات للعقائد التي اعتنقها المفسر في مدرسته الكلامية ، ونجد هذا اللون من التفسير بالعقل غالباً في تفاسير أصحاب المقالات : المعتزلة والأشاعرة ، فإنّ لهؤلاء عقائد خاصة في مجالات مختلفة ، زعموها حقائق راهنة على ضوء الاستدلال ، وفي مجال التفسير حملوا الآيات على معتقدهم ، وإن كان ظاهر الآية يأباه ولا يتحمّله غير انّ هذا النمط من التفسير بالرأي والعقل ، يختلف حسب بُعد المعتقد عن مدلول الآية ، فربما يكون التفسير بعيداً عن الآية ، ولكن تتحمّلها الآية بتصرف يسير ، وربما يكون الأصل الكلامي بعيداً عن الآية غاية البعد بحيث لا تتحمّله الآية حتى بالتصرف الكثير فضلاً عن اليسير.
  ولا يمكننا التوسع في هذا المضمار بل نقتصر على تفسير الآيات على ضوء المدرستين الكلاميتين المعتزلة والأشاعرة ، فلنقدم البحث في الأُولى.

المناهج التفسيرية في علوم القرآن _ 91 _
تفسير الآيات على ضوء مدرسة الاعتزال
  1 ـ الشفاعة حطّ الذنوب أو رفع الدرجة
  إنّ الشفاعة لم تكن فكرة جديدة ابتكرها الإسلام وانفرد بها ، بل كانت فكرة رائجة بين جميع أُمم العالم من قبلُ وخاصةً بين الوثنيّين واليهود.
  نعم إنّ الإسلام قد طرحها مهذَّبة من الخرافات ، وممّا نُسِج حولها من الأوهام ، ومن وقف على آراء اليهود والوثنيّين في أمر الشفاعة يقف على أنّ الشفاعة الدارجة بينهم كانت مبنيّة على رجائهم لشفاعة أنبيائهم في حط الذنوب وغفران آثامهم ، ولأجل هذا الاعتقاد كانوا يقترفون المعاصي ويرتكبون الذنوب ، تعويلاً على ذلك الرجاء ، فالآيات النافية للشفاعة والمثبتة لها تحت شرائط خاصة كلها راجعة إلى الشفاعة بهذا المعنى فلو نُفِيَت فالمنفي هو هذا المعنى ، ولو قُبِلت والمقبول هو هذا المعنى ، وقد أوضحنا في محله (1) أنّ الآيات الواردة في مجال الشفاعة على سبعة أنواع لا يصح تفسيرها إلاّ بتفسير بعضها ببعض ، وتمييز القسم المردود منها عن المقبول.
  ومع ذلك نرى أنّ المعتزلة يخصُّون آيات الشفاعة بأهل الطاعة دون العصاة ويرتكبون التأويل في موردها ، وما هذا إلاّ للموقف الذي اتّخذوه في حقّ العصاة ومقترفي الذنوب ، في أبحاثهم الكلامية ، فقالوا بخلود أهل العصيان في النار إذا ماتوا بلا توبة.
  قال القاضي عبد الجبار : إنّ شفاعة الفسّاق الذين ماتوا على الفسوق ولم

--------------------
(1) مفاهيم القرآن : 4 / 177 ـ 199.

المناهج التفسيرية في علوم القرآن _ 92 _
  يتوبوا ، يتنزل منزلة الشفاعة لِمن قتلَ ولدَ الغير ، وترصّد للآخر حتى يقتله ، فكما أنّ ذلك يقبح ، فكذلك هاهنا. (1)
  والذي دفع القاضي إلى تصوير الشفاعة في حقّ المذنب بما جاء في المثال ، هو اعتقاده الراسخ بالأصل الكلامي الذي يعدّ أصلاً من أُصول منهج الاعتزال ( خلود العاصي ـ إذا مات بلا توبة في النار ) وفي الوقت نفسه يعرب عن غفلته عن شروط الشفاعة ، فإنّ بعض الذنوب الكبيرة تقطع العلائق الإيمانية باللّه سبحانه كما تقطع الأواصر الروحية بالشفيع ، فأمثال هؤلاء ـ العصاة ـ محرومون من الشفاعة ، وقد وردت في الروايات الإسلامية شروط الشفاعة وحرمان طوائف منها.
  ولو افترضنا صحة ما ذكره من التمثيل فحكمه بحرمان العصاة من الشفاعة اجتهاد في مقابل نصوص الآيات وإخضاع لها لمدرسته الفكرية.
  يقول الزمخشري في تفسير قوله سبحانه : ( أنفِقُوا مِمّا رَزَقنَاكُمْ مِن قَبْلِ أنْ يَأتِيَ يَومٌ لا بَيعٌ فِيه ولا خُلَّةٌ ولا شَفاعَة ) (2) : ( ولا خُلَّة ) حتى يسامحكم أخلاّؤكم به ، وإن أردتم أن يحطّ عنكم ما في ذمّتكم من الواجب لم تجدوا شفيعاً يشفع لكم في حط الواجبات ، لأنّ الشفاعة ثمّة في زيادة الفضل لا غير . (3)
  يلاحظ عليه : أنّ الآية بصدد نفي الشفاعة بالمعنى الدارج بين اليهود والوثنيين لأجل أنّـهم كفّار ، وانقطاع صلتهم عن اللّه سبحانه ، وبالتالي إثباتها في حقّ غيرهم بإذنه سبحانه ويقول في الآية التالية : ( مَن ذا الّذِي يَشْفَعُ عِندَهُ إلاّ بإذنِه ) ، وأمّا أنّ حقيقة الشفاعة زيادة الفضل لا حطّ الذنوب فهو تحميل

--------------------
(1) شرح الأُصول الخمسة : 688.
(2) البقرة : 254.
(3) الكشاف : 1 / 291 في تفسير الآية رقم 254 من سورة البقرة.

المناهج التفسيرية في علوم القرآن _ 93 _
  للعقيدة على الآية ، فلو استدلّ القائل بها على نفي الشفاعة بتاتاً لكان أولى من استدلاله على نفي الشفاعة للكفّار ، وذلك لأنّ المفروض أنّ الشفاعة بمعنى زيادة الفضل لا حطُّ الذنوب ، وهو لايتصور في حقّ الكفّار لأنّهم لا يستحقون الثواب فضلاً عن زيادته.
  ب : هل مرتكب الكبيرة يستحق المغفرة أو لا ؟
  اتفقت المعتزلة على أنّ مرتكب الكبيرة مخلّد في النار إذا مات بلا توبة (1) وفي ضوء ذلك التجأوا إلى تأويل كثير من الآيات الظاهرة في خلافه نذكر منها آيتين :
  الأُولى : يقول سبحانه ( وإنّ ربَّكَ لَذُو مَغفِرة لِلنّاسِ عَلى ظُلمِهِمْ وإنَّ ربَّكَ لَشديدُ العِقاب ). (2)
  فالآية ظاهرة في أنّ مغفرة الربّ تشمل الناس في حال كونهم ظالمين ، ومن المعلوم أنّ الآية راجعة إلى غير صورة التوبة وإلاّ لا يصح وصفهم بكونهم ظالمين ، فلو أخذنا بظاهر الآية فهو يدلّ على عدم جواز الحكم القطعي بخلود مرتكب الكبيرة في النار إذا مات بلا توبة ، لرجاء شمول مغفرة الربّ له ، ولمّا كان ظاهر الآية مخالفاً للأصل الكلامي عند صاحب الكشاف ، حاول تأويل الآية بقوله : ( فيه أوجه :
  1 ـ أن يريد ـ قوله ( على ظلمهم ) السيئات المكفَّرة ، لمجتنب الكبائر.
  2 ـ أو الكبائر بشرط التوبة.
  3 ـ أو يريد بالمغفرة الستر والإمهال. (3)
  وأنت خبير بأنّ كل واحد من الاحتمالات مخالف لظاهر الآية أو صريحها.

--------------------
(1) لاحظ أوائل المقالات : 14 ، وشرح الأُصول الخمسة : 659.
(2) الرعد : 6.
(3) الكشاف : 2 / 158.

المناهج التفسيرية في علوم القرآن _ 94 _
  الثانية : ( إِنَّ اللّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاء ) . (1)
  والآية واردة في حقّ غير التائب ، لأنّ الشرك مغفور بالتوبة أيضاً ، فيعود معنى الآية أنّ اللّه سبحانه يغفر ما دون الشرك لمن يشاء وإن مات بلا توبة ، فتكون نتيجة ذلك عدم جواز الحكم القطعي بخلود مرتكب الكبائر في النار ، ولمّا كان مفاد الآية مخالفاً لما هو المحرّر في المدرسة الكلامية للمعتزلة حاول صاحب الكشاف تأويل الآية فقال :
  الوجه أن يكون الفعل المنفي والمثبت جميعاً موجهين بقوله تعالى : ( لمن يشاء ) كأنّه قيل : ( إنّ اللّه لا يغفر لمن يشاء الشرك ويغفر لمن يشاء ما دون الشرك ) على أنّ المراد بالأوّل من لم يتب وبالثاني من تاب ، نظير قولك : إنّ الأمير لا يبذل الدينار ويبذل القنطار لمن يشاء ، تريد لا يبذل الدينار لمن لا يستأهله ويبذل القنطار لمن يستأهله . (2)
  يلاحظ عليه : أنّ ما ذكره خلاف ظاهر الآية وقد ساقته إليه مدرسته الكلامية فنزّل الأوّل مورد عدم التوبة ، والثاني موردها ، حتى تتفق الآية ومعتقده.
  كما أنّه لا دلالة في الآية على تقييد الثاني بالتوبة ، لأنّه تفكيك بين الجملتين بلا دليل ، بل هما ناظرتان إلى صورة واحدة وهي صورة عدم اقترانهما بالتوبة فلا يغفر الشرك لعظم الذنب ويغفر ما دونه.
  ومن هذا القبيل أيضاً ، تفسيره لقوله سبحانه : ( وَمَنْ يَقْتُل مُؤْمِناً مُتَعَمداً فَجَزاؤهُ جَهَنَّم خالِداً فِيها وَغَضب اللّه عَلَيْهِ وَلَعَنهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذاباً عَظيماً ) . (3)
  فقد فسره الزمخشري على ضوء مذهب الاعتزال من خلود أصحاب الكبائر ـ

--------------------
(1) النساء : 48.
(2) الكشاف : 1 / 401 في تفسير الآية المذكورة.
(3) النساء : 93.

المناهج التفسيرية في علوم القرآن _ 95 _
  إذا ماتوا بلا توبة ـ في النار ، وجعل هذه الآية من أدلة عقيدته ، فقال : هذه الآية فيها من التهديد والايعاد ، والإبراق والإرعاد ، أمر عظيم وخطب غليظ ، ـ إلى أن قال ـ والعجب من قوم يقرأون هذه الآية ويرون ما فيها ويسمعون هذه الأحاديث العظيمة ، ثمّ لا تدعهم أشعبيتهم وطماعيتهم الفارغة ، واتّباعهم هواهم ، وما يخيل إليهم مناهم ، أن يطمعوا في العفو عن قاتل المؤمن بغير توبة ( أَفلا يتدبّرون القُرآن أَمْ عَلى قُلُوب أَقْفالها ).
  فإن قلت : هل فيها دليل على خلود من لم يتب من أهل الكبائر ؟ قلت : ما أبين الدليل ، وهو تناول قوله ( ومن يقتل ) أي قاتل كان ما من مسلم أو كافر ، تائب أو غير تائب ، إلاّ انّ التائب أخرجه الدليل ، فمن ادّعى اخراج المسلم غير التائب فليأت بدليل مثله . (1)
  إنّ ما ذكره الزمخشري بطوله قد ذكره القاضي عبد الجبار على وجه الإيجاز ، وقال : وجه الاستدلال انّه تعالى بين أن من قتل مؤمناً عمداً جازاه ، وعاقبه ، وغضب عليه ، ولعنه وأخلده في جهنم . (2)
  يلاحظ عليه أوّلاً : أنّ دلالة الآية بالإطلاق ، فكما خرج منه القاتل الكافر إذا أسلم ، والمسلم القاتل إذا تاب ، فليكن كذلك من مات بلا توبة ولكن اقتضت الحكمة الإلهية أن يتفضل عليه بالعفو ، فليس التخصيص أمراً مشكلاً.
  وثانياً : انّ المحتمل أن يكون المراد القاتل المستحل لقتل المؤمن ، أو قتله لإيمانه وهذا غير بعيد لمن لاحظ سياق الآيات ، و مثل هذا يكون كافراً خالداً في النار.

--------------------
(1) الكشاف : 1 / 416.
(2) الأُصول الخمسة : 659.

المناهج التفسيرية في علوم القرآن _ 96 _
التفسير على ضوء منهج الأشعري
  إنّ فخر الدين محمد بن عمر بن الحسين الرازي ( 543 ـ 606 هـ ) ممّن فسر كثيراً من الآيات القرآنية على ضوء مذهبه ومنهجه الذي يتبعه وهو مذهب الإمام الأشعري ، وهو أشعري في العقيدة ، شافعي في الفقه ، فلنذكر نماذج من تفاسيره.
  1 ـ جواز التكليف بما لا يطاق
  إنّ جواز التكليف بما لا يطاق من مذاهب الأشاعرة ولقد احتج الرازي على مذهبهم بالآيات التالية : ( إِنَّ الّذين كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ ءَأَنْذَرْتهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُون ). (1)
  وقوله سبحانه : ( لَقَدْحَقَّ الْقَولُ عَلى أَكْثرِهِمْ فَهُمْ لا يُؤْمُنُون ). (2)
  وقوله : ( ذَرني وَمَنْ خَلْقتُ وَحيداً ـ إلى قوله : ـ سأُرهِقُهُ صعوداً ). (3)
  ( تبّت يدا أَبي لَهَب ). (4)
  ثمّ أخذ بتقرير دلالة هذه الآيات على جواز التكليف بما لا يطاق بوجوه أربعة :
  أوّلاً : أنّه تعالى أخبر عن أشخاص معيّنين انّهم لا يؤمنون قط ، فلو صدر منهم الإيمان ، لزم انقلاب خبر اللّه تعالى الصدق كذباً.
  وثانياً : انّه تعالى لمّا علم منهم الكفر ، فكان صدور الإيمان منهم مستلزماً

--------------------
(1) البقرة : 6.
(2) يس : 7.
(3) المدثر : 11 ـ 17.
(4) المسد : 1.

المناهج التفسيرية في علوم القرآن _ 97 _
  لانقلاب علمه تعالى جهلاً.
  وثالثاً : انّه تعالى كلّف هؤلاء ـ الذين أخبر عنهم بأنّهم لا يؤمنون ـ بالإيمان ألبتة ، والإيمان يعتبر فيه تصديق اللّه تعالى في كلّ ما أخبر عنه ، وممّا أخبر عنه انّهم لا يؤمنون قط ، فقد صاروا مكلّفين بأن يؤمنوا بأنّهم لا يؤمنون قط ، وهذا تكلّف بالجمع بين النفي والإثبات. (1)
  يلاحظ عليه : أنّ الوجدان السليم والعقل الفطري يحكم بامتناع تكليف ما لا يطاق ، فلا تنقدح الإرادة في لوح نفس الآمر وضمير روحه إذا علم انّ المأمور غير قادر على العمل ، ولذلك قلنا في محله إنّ مرجع التكليف بما لا يطاق إلى كون نفس التكليف محالاً ، ولذلك يقول سبحانه : ( لا يُكَلّف اللّه نَفساً إِلاّ وُسعَها ). (2)
  وأمّا الوجوه التي اعتمد عليها الرازي فموهون جداً ، وذلك انّ علمه الأزلي الذي اعتمد عليه في الوجهين الأوّلين لم يتعلّق بصدور كلّ فعل عن فاعله على وجه الإطلاق ، بل تعلّق علمه بصدور كل فعل عن فاعله حسب الخصوصيات الموجودة فيه ، وعلى ضوء ذلك تعلّق علمه الأزلي بصدور الحرارة من النار على وجه الجبر ، بلا شعور كما تعلّق علمه الأزلي بصدور الرعشة من المرتعش ، عالماً بلا اختيار ، ولكن تعلّق علمه سبحانه بصدور فعل الإنسان الاختياري منه بقيد الاختيار والحرية ، فتعلّق علمه بوجود الإنسان وكونه فاعلاً مختاراً وصدور فعله عنه اختياراً ـ فمثل هذا العلم ـ يؤكد الاختيار ويدفع الجبر عن ساحة الإنسان.
  وإن شئت قلت : إنّ العلّة إذا كانت عالمة شاعرة ، ومريدة ومختارة كالإنسان ، فقد تعلّق علمه بصدور أفعالها منها بتلك الخصوصيات وانصباغ فعلها بصبغة الاختيار والحرية ، فلو صدر فعل الإنسان منه بهذه الكيفية كان

--------------------
(1) تفسير الرازي : 2 / 42.
(2) البقرة : 286.