رابعاً : قتل الأحرار من أصحاب محمد ، ( صلى اللّه عليه وآله وسلم ) .
قال تعالى : ( مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا ) .
روى الطبري في تاريخه : ( استعمل معاوية المغيرة بن شعبة على الكوفة وأوصاه : لا تتحم عن شتم على وذمة والترحم على عثمان والاستغفار له ، والعيب على أصحاب على والاقصاء لهم ، وترك الاستماع منهم ، وباطراء شيعة عثمان والادناء لهم والاستماع منهم ، وأقام المغيرة على الكوفة عاملاً لمعاوية سبع سنين واشهراً ، وهو من أحسن شيء سيره ، واشده حباً للعافية غير انه لا يدع ذم على والوقوع فيه والعيب لقتله عثمان واللعن لهم ، والدعاء لعثمان بالرحمة والاستغفار له والتزكية لأصحابه ، فكان حجر بن عدي اذا سمع ذلك قال : بل اياكم فذمم اللّه ولعن .
ثم قام فقال : ان اللّه ( عز وجل ) يقول : ( كُونُواْ قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاء لِلّهِ ) وأنا اشهد ان من تذمون وتعيرون لاحق بالفضل وان من تزكون وتطرون اولى بالذم ) ، وأستمرت هذه الحال حتى ولى زياد الكوفة فقال مثلما كان يقول المغيرة ، ورد عليه حجر ( رضوان اللّه عليه ) بمثل ما كان يرد على المغيرة ، فأرسل زياد الى أميره معاوية فأمر باعتقاله ( وفقا لقانون طوارىء بني أمية ) وأرسل الى ابن آكله الاكباد مشدوداً فى الحديد فأمر بقتله ، فقال حجر للذين يلون أمره : دعوني حتى أصلي ركعتين ، فقالوا : صل ، فصلي ركعتين خفف فيهما ثم قال : لولا ان تظنوا بي غير الذي انا عليه ، لأحببت ان تكونا أطول مما كانتا ، ثم قال لمن حضره من اهله : لا تطلقوا عنى حديدا ولا تغسلوا عني دما فأني الاقي معاوية غداً على الجادة ، ثم قدم فضربت عنقه .
لم يكن حجر بن عدي النموذج الوحيد الدال على ظلم هذه الدولة الجائرة التى يزعم جاهلو امرها ، وحدهم ، أنها كانت تحكم او تحكم بشريعة الإسلام ، لقد كان بنو أمية يدابون ليل نهار لأطفاء نور اللّه ، وفي الوقت نفسه كان خط الائمة ( عليه السلام) قد تحول الى مشروع تأسيس لاقامة دولة المهدي المنتظر وان تأخر ذلك قرونا وقرونا ، اما بنو أمية فيجهدون لأحداث اكبر قدر من الدمار بألامة الإسلامية وبرجالاتها وبقيمها ، وفي الوقت نفسه كان خط آل بيت محمد حريصاً على ابقاء قيم الإسلام الرسالي الأصيل حية ومتوهجة ، والتأكيد على ان مرحلة التمهيد وتأسيس دولة الإمام المهدي ليست مرحله هدنة سلبية ، وليست ايثاراً للابقاء على حياة مجموعة من البشر وإنما ابقاء للقيم وامدادها بكل ما يبقيها متألقة وحية حتى زمن الظهور .
على خطى الحسين عليه السلام
_ 28 _
3 - مواجهة التزييف ، وأحياء قيم الإسلام
لم تتوقف المواجهة بين ائمة أهل البيت ( عليهم السلام) ، وبين بني أمية خلال هذه المرحلة ، وان ابتعدت عن المعارك العسكرية الكبرى ، فقد سال الكثير من الدماء ، في هذه المرحلة ، ومنها دماء حجر بن عدي وأصحابه وعمرو بن الحمق الخزاعي وغيرهم ، من خواص أصحاب الإمام علي ( عليه السلام ) ، وفي مواضع اخرى كان الائمة ( عليهم السلام ) ، يتصدون لعمليات التزييف التي تمارسها الدعاية الأموية ويدعون الناس الى الحق وتغيير الباطل وعدم السكوت عليه ، ولنأخذ بعض الامثلة على ذلك من تاريخ الإمام الحسن ( عليه السلام ) ، قبيل استشهاده ، ثم من تاريخ الإمام الحسين ( عليه السلام ) .
يروي ابو الفرج : ( قال : خطب معاوية بالكوف حين دخلها والحسن والحسين ( عليهم السلام ) جالسان تحت المنبر ، فذكر عليا ( عليه السلام ) فنال منه ، ثم نال من الحسن ، فقام الحسين ليرد عليه ، فأخذه الحسن بيده فاجلسه ، ثم قام فقال : ايها الذاكر عليا ، انا الحسن ، وأبي علي ، وانت معاوية وابوك صخر ، وأمي فاطمة وامك هند ، وجدي رسول اللّه وجدك عتبة بن ربيعة ، وجدتي خديجي وجدتك قتيلة ، فلعن اللّه اخملنا ذكراً ، والامناً حسباً وشرنا قديما وحديثا ، واقدمنا كفراً ونفاقاً ! فقال طوائف من أهل المسجد : آمين ) .
روي ابو الحسن المدائني قال : ( سأل معاوية الحسن بن علي ، بعد الصلح ، ان يخطب الناس ، فأمتنع فناشده ان يفعل ، فوضع له كرسي ، فجلس عليه ، ثم قال : الحمد للّه الذي توحد في ملكه ، وتفرد في ربوبيته ، يؤتي الملك من يشاء ، وينزعه عمن يشاء ، والحمد للّه الذي اكرم بنا مؤمنكم ، وأخرج من الشرك أولكم ، وحقن دماء آخركم ، فبلاونا عندكم قديما وحديثاً احسن البلاء ، ان شكرتم او كفرتم ، ايها الناس ان رب علي كان اعلم بعلي حين قبضة اليه ، وقد اختصه بفضل لم تعتادوا مثله ، ولم تجدوا سابقته ، فهيهات هيهات! طالما قلبتم له الأمور حتى اعلاه اللّه عليكم ، وهو صاحبكم ، وعدوكم في بدر واخواتها ، جرعكم رنقا ، وسقاكم علقا ، واذل رقابكم ، واشرقكم بريقكم ، فلستم بملومين على بغضه ، وأيم اللّه لا ترى أمة محمد خفضاً ما كان سادتهم وقادتهم في بني أمية ، ولقد وجه اللّه اليكم فتنة لن تصدروا عنها حتى تهلكوا ، لطاعتكم طواغيتكم ، وانضوائكم الى شياطينكم ، فعند اللّه أحتسب ما مضي وما ينتظر من سوء دعتكم ، وحيف حكمكم) .
يقول ابو الفرج : ( لما اراد معاوية البيعة لأبنه يزيد فلم يكن عليه شيء أثقل من أمر الحسن بن علي وسعد بن ابي وقاص فدس اليهما سما فماتا ) .
على خطى الحسين عليه السلام
_ 29 _
استشهد الإمام الحسن ( عليه السلام ) في ربيع الأول عام تسعة وأربعين ، وحمل الإمام الحسين ( عليه السلام ) عبء مواجهة الامويين طوال هذه المرحله حتى استشهاده ( عليه السلام) في واقعة كربلاء ، وكما اسلفنا كانت هذه المرحلة مرحلة مواجهة (غير مسلحة) ، وهي كلمة غير دقيقة والا فبماذا نصف قتل حجر بن عدي وعمرو بن الحمق الخزاعي واصحابهما ومئات غيرهم ممن لم تشتهر اسماؤهم على يد شرطة معاوية وزياد وأبن زياد وسمرة بن جندب وغيرهم ، واذا قلنا غير مسلحة فأننا نعني عدم حدوث معارك كبرى فقط .
كانت هذه المرحله التي أمتدت ، من عام تسع واربعين حتى هلاك الطاغية ، مرحلة تسابق ، ان الطاغية يحاول تكريس نهج الدولة الأموية وتحويله الى قدر ابدى (وهو ما نجح فى بعضة ) ، والإمام الحسين يحاول أحياء موات هذه الأمة ، وردهم الى الدين الصحيح ، دين محمد وعلي .
4 - محاولة تحويل ( النهج الأموي) الى قدر ابدى
نفذ معاوية سياسة واضحة المعالم ، من ابرز معالمها :
أ - لعن آل البيت (عليه السلام ) ، وخاصة إمام الائمة علي بن ابي طالب ( عليه السلام ) على منابر الأمة ، صباح مساء .
ب - العمل على رفع مكانة مناوئي أهل البيت ومنافسيهم بأختلاق الروايات المنسوبة الى رسول اللّه ، ( صلى اللّه عليه وآله وسلم ) .
ج - القضاء على خطوط الدفاع بقتل رجال الشيعة وأغتيالهم ، مثل حجر وعمرو بن الحمق ، كما اسلفنا بل وحتى قتل أي معارض آخر له وزن وان لم يكن من شيعي أهل البيت ، ومثال ذلك سعد بن أبي وقاص وعبد الرحمن بن خالد بن الوليد .
د - استعمال سياسة الرشوة وأفساد الذمم لاستمالة من تبقي ، وهذه السياسات نفسها هي التى بدا بها تمدده السرطاني في جسد الأمة .
على خطى الحسين عليه السلام
_ 30 _
5 - امتداد الملك يزيد ولي عهد
اراد ابن آكله الاكباد ان يمهد الامر ليزيد ابنه ليمتد الملك في عقبة حتى قيام الساعة ، ومن يتتبع أخبار الرواة ، في هذا الصدد ، يجد تباينا ، فمن قائل يقول : ان هذا الامر كان بمبادرة من المغيرة بن شعبة ليمد له معاوية في ولايته على الكوفة ، ومن قائل يقول : ان هذا كان بأمر من معاوية ، وأتفاق مع الضحاك بن قيس ، وما اعتقده ان هذه امور واحدة . . كل المنافقين يعلمون رغبة سيدهم والكل يتباري فى اختيار الاسلوب الملائم للتنفيذ ، ولا بأس بإيراد بعض النماذج التى توضح طبيعة الملك الاموي وسياسته :
(أوفد المغيرة بن شعبة عشرة من شيعة بني أمية الى معاوية ، ليطالبوا ببيعة يزيد ، وعليهم موسى بن المغيرة ، فقال معاوية :
لا تعجلوا بإظهار هذا ، وكونوا على رأيكم ، ثم قال لموسى : بكم اشترى ابوك هؤلاء من دينهم ، قال : بثلاثين الفاً ، قال : لقد هان عليهم دينهم ) .
لما اجتمعت عند معاوية وفود الامصار بدمشق ، بإحضار منه ، دعا الضحاك بن قيس ، فقال له : اذا جلست على المنبر ، وفرغت من بعض موعظتي وكلامي ، فأستأذني للقيام ، فاذا اذنت لك ، فأحمد اللّه تعالى ، وأذكر يزيد ، وقل فيه الذي يحق له عليك ، من حسن الثناء عليه ، ثم أدعني الى توليته من بعدي ، فأني قد رأيت وأجمعت على توليته ، فأسال اللّه فى ذلك ، وفي غيره الخيرة وحسن القضاء ، ثم دعا عدة رجال فأمرهم ان يقوموا اذا فرغ الضحاك ، وان يصدقوا قوله ، ويدعو الى يزيد ، ثم خطب معاوية فتكلم القوم بعده على ما يروقه من الدعوة الى يزيد فقال معاوية : اين الاحنف ؟ فأجابه ، قال : الا تتكلم ؟ فقام الاحنف ، فحمد اللّه واثنى عليه وقال بعد مقدمه : ان أهل الحجاز وأهل العراق لا يرضون بهذا ، ولا يبايعون ليزيد ما كان الحسن حيا ، فغضب الضحاك ورد غاضباً : ما للحسن وذوي الحسن في سلطان اللّه الذي استخلف به معاوية في ارضه ؟ هيهات ولا تورث الخلافة عن كلاله ولا يحجب غير الذكر العصبة ، فوطنوا انفسكم يا أهل العراق على المناصحة لأمامكم ، وكاتب نبيكم وصهره ، يسلم لكم العاجل ، وتربحوا من الاجل ، ثم قام الاحنف بن قيس فحمد اللّه واثنى عليه فقال : قد علمت انك لم تفتح العراق عنوة ، ولم تظهر عليها قصعاً ، ولكنك اعطيت الحسن بن علي من عهود اللّه ما قد علمت ، ليكون له الامر بعدك ) .
على خطى الحسين عليه السلام
_ 31 _
اما عبد الرحمن بن خالد بن الوليد ، وكان من خواص أصحاب معاوية فقد لقي حتفه مسموماً حيث حدثته نفسه بالسلطة والأمارة بدلاً من يزيد .
جاء في تاريخ الطبري : ( ان عبد الرحمن بن خالد بن الوليد كان قد عظم شأنه بالشام ، او مال اليه اهلها لما كان عندهم من آثار ابيه خالد بن الوليد ولغنائه عن المسلمين في أرض الروم وبأسمه حتى خافة معاوية ، وخشي على نفسه منه لميل الناس إليه فأمر أبن آثال ان يحتال في قتله وضمن له ان هو فعل ذلك ان يضع عنه خراجه ما عاش وان يوليه جباية خراج حمص ، فلما قدم عبد الرحمن بن خالد لحمص منصرفاً من بلاد الروم دس اليه ابن آثال شربه مسمومة مع بعض مماليكه فشربها ، فمات بحمص ) .
ويحكي لنا التاريخ صورة أخرى من مشاورات معاوية في خلافة يزيد ، ومن بينها كلمات ذلك الاحمق الذي قام فقال : ( هذا أمير المومنين وأشار الى معاوية فإن هلك فهذا وأشار الى يزيد ومن أبي فهذا وأشار الى سيفه قال معاوية : اجلس فأنت سيد الخطباء ) .
لم يكن عبد الرحمن بن خالد وحده هو الذي طمع فى الخلافة بعد معاوية ، فهناك سعيد بن عثمان بن عفان الذي وجد له انصاراً من اهل المدينة يقولون : واللّه لا ينالها يزيد حتى يعض هامة الحديد ، أن الأمير بعده سعيد ، ولكن كان أمره هيناً ، حيث خرج من حلبة المنافسة راضياً بولايه خراسان ) .
من الواضح ان الصراع السياسي كان دائراً على اشده حول قضية خلافة معاوية ، وقد هددت هذه القضية الصف الأموي بالتفكك والانهيار ، وان الخلافة اليزيدية لم تكن أمراً مستقراً حتى في داخل البيت الأموي نفسه ، حتى ان معاوية اضطر لتأجيل أعلان هذا الأمر الى ما بعد هلاك زياد ، وان مروان بن الحكم ، والى معاوية على المدينة ، عارض هذا الأمر بشدة ما أضطر معاوية الى اعفائه من منصبه ، ويمكننا ان نرجع هذه المعارضة الداخلية لعدة اسباب منها :
على خطى الحسين عليه السلام
_ 32 _
أ - ان أنتقال السلطة الى يزيد ، من طريق ولاية العهد ، كان اقتباساً من النظام السياسي البيزنطي الذي لم يعرفه العرب في سابق تاريخهم ، ولعل قرب موقع معاوية من دوله الروم كان مصدر معرفته بهذا النظام الملكي الامبراطوري الذي صار هو النظام السياسي في الأمة الإسلامية في ما بعد .
ب - ان هذا الاسلوب كان اهداراً لنظام الشورى الذي توهم المسلمون انه القانون الاساسي للمسلمين ، والواقع أن الشورى لم تكن قد مورست بصورة جيده في الحقب السابقة مما يسمح باستقرار معالمها واساليب ممارستها ، فإن يأتي معاوية لينقل المداراه الى ديكتاتورية صريحة كان هذا أمراً ثقيلاً على كثيرين ، وخاصه على اولئك الذين توهموا انهم أهل الحل والعقد ، ولم يكن معاوية ليبقى على نفوذهم ولا على وجودهم نفسه ، اذا تعارض ذلك مع رغباته السلطوية الجامحة .
ج - صفات يزيد الشخصية وافتقاده الحد الادنى من المقومات جعلت زياداً ، وهو من هو في بغية وعدوانه ونسبة ، كأرها لبيعته وأمارته قائلاً : ( ويزيد صاحب رسله وتهاون مع ما قد اولع به من الصيد) ، وكتب الى معاوية يأمره بالتودة والا يعجل ) .
لم تستعص الاغلبية على معاوية ولا على اساليبه ، فهناك المتطوعون السابقون الى مرضاة الطواغيت ، مثل الضحاك بن قيس والمغيرة بن شعبة وسمرة بن جندب ، ولا بأس هنا بإن نورد بعضاً من منجزات سمرة ، هذا ( الصحابي ) الذي استخلفه زياد على الكوفة ثم عاد اليه فوجده قد قتل ثمانية آلاف من الناس فقال له : ( هل تخاف ان تكون قد قتلت احداً بريئا ؟ ، قال :
لو قتلت اليهم مثلهم ما خشيت ، او كما قال ، وعن ابي سوار العدوي قال : قتل سمرة من قومي في غداه سبعة وأربعين رجلاً كلهم قد جمع القرآن ) ، ( ثم عزله معاوية فقال سمره : لعن اللّه معاوية واللّه لو اطعت اللّه كما اطعت معاوية ما عذبني ابداً ) .
على خطى الحسين عليه السلام
_ 33 _
لقد اجاد معاوية سياسة ( فرق تسد ) ، فلما احس ان رجالات المدينة يمتنعون من بيعة يزيد ، راسلهم اولا ثم ذهب اليهم بنفسه ، في عام خمسين للهجرة ، مستخدماً سياسة المخادعة عازفاً على أوتار النفوس ومكامن الاهواء ، عالما ان الأمة التي اسلمت عليا والحسن لن تجتمع كلمتها خلف الحسين ( عليه السلام ) ، ومن ثم فإن المطلوب هو كسب الوقت وتفتيت المعارضة وضرب الناس بعضهم ببعض حتى يصل الملك الى يزيد غنيمة باردة .
كانت للحسين بن علي ( عليه السلام ) ، وهو الإمام المنصوب من السماء ، خطته ، وهي خطة تهدف الى انتصار الحق وابقائه حياً متوهجاً .
كان الحسين ( عليه السلام ) ، عالماً بإن شجرة الحق لكي تنبت أغصاناً تبقى مدى القرون ولكي تضرب جذورها في عمق الأرض ، فتقضى على جذور الشجرة الخبيثة ، لا بد لها من ان تروي بدماء الحسين وعترته الطاهرة كي يعلم الجميع الى قيام الساعة ان ائمة اهل البيت ( عليهم السلام ) هم قادة السيف والعلم والزهد ، وان دماءهم رخيصة في مرضاة اللّه والإمام الحسين هو القاتل : ( اذا كان دين جدي لا يستقيم الا بقتلي فياً سيوف خذيني ) .
لم يكن بنو أمية يفهمون هذا ، ولا يملكون القدرة حتى على الاقتراب من فهمه ، الحياة عندهم متعة وخداع وقتل وسفك دماء ، وصولاً الى أهداف حيوانية يتم تغليفها ، بعد هذا ، بشعارات دينية ، ولا مانع لديهم ان يصعد الى المنبر من يحدث الناس عن الدين والزهد ويفاخر بصحبته لرسول اللّه ( صلى اللّه عليه وآله وسلم ) ، طالما انه ينهي الخطة بلعن إمام الهدى علي بن أبي طالب ، فأي دين هذا ! ؟ ، وقد اسلفنا في قصة حجر بن عدي وأسباب مقتله ، وقد امتلات كتب الروايات بهذه القصة الفاجرة :
( مالك الا تسب ابا تراب ؟ ) ولما ابطل السب يوما قال قائلهم : (لا صلاة الا بلعن أبي تراب ) .
على خطى الحسين عليه السلام
_ 34 _
لم يكن هناك نفوذ غربي ولا شرقي آنئذ ، ولا كانت القارة الأمريكية قد أكتشفت يومها حتى تبرر لنا هذه الحالة المزرية بالقول بإن معاوية كان عميلاً امريكياً او ان هذا مخطط صهيوني ، أنهم يقولون عنه أنه كاتب الوحي وخال المؤمنين ومؤسس الدولة الإسلامية ، يقولون أي شيء الا الحقيقة التي قلنا طرفاً منها هنا ، وسنقولها يوماً ما ان شاء اللّه بمزيد من التفصيل .
1 - نهج الثورة الحسينية والقول الفصل :
الآن ، وفي هذه اللحظات ، وعلى وجه التحديد ، ومنذ استشهاد الإمام الحسن ، ومحاولة أخذ البيعة ليزيد ، بدأت الثورة الحسينية واستمرت حتى كان عرس الدم في كربلاء عام واحد وستين ، ايضاً لا بد ان نؤكد على حقيقة ان ائمة أهل البيت ( عليهم السلام ) لم تكن ميزتهم الوحيدة ، أنهم أقدر من غيرهم على فهم حقائق الإسلام والنطق بها ، انما كانوا هم الاقدر من غيرهم على تجسيد هذه المفاهيم وتحويلها الى واقع والى تطبيق ونموذج ، في وقت كثر فيه المتكلمون وقل فيه الفاعلون .
ولنتأمل هذه الرواية التى أوردها أصحاب الصحاح وننقلها عن النسائي في كتابه ( خصائص الإمام علي ) : ( ان منكم من يقاتل على تأويل القرآن كما قاتلت انا على تنزيله ، قالوا : من يا رسول اللّه ؟ قال : هذا ، وأشار الى علي ( عليه السلام ) .
نعم لقد نزل القرآن على رسول اللّه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، وبلغه للأمة كاملاً غير منقوص ، مشفوعاً بسنته ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، وبقي باب التطبيق مفتوحاً بتطور الحوادث والايام من خلال اقامة المجتمع المسلم ومعايشته لكثير من المستجدات ، فقط ائمة اهل البيت كانوا وحدهم قادرين على الفعل الصحيح في كل موقف لا في موقف دون موقف ، كما قال عنهم رسولنا الاكرم ورواة اصحاب الصحاح : ( أني تارك فيكم ما ان تمسكتم به بعدي لن تضلوا ابداً ، كتاب اللّه وعترتي أهل بيتي ) ، أنهم حملة النص الصحيح والتطبيق الصحيح وما احوجنا اليهم ، والى نهجهم ، سلام اللّه عليهم .
على خطى الحسين عليه السلام
_ 35 _
وما احوج الأمة ، وسط هذا الظلام الاموي وهذه الفتنة العمياء الى موقف حسيني يبدد الظلمات ، موقف حسيني لا يتحدث عن الحق وإنما يفعله ، ولا يفعله فعلاً يراه بعض الناس ويغفل عنه بعضهم الآخر ، وإنما يفعله فعلاً يبقى مسطوراً ومحفوراً في عمق الأرض وفي عمق الوجدان البشري ، ما أحوج الأمة الإسلامية والبشرية كلها الى هذا النور المتوهج لتبقى شمس الحسين تهدي الحائرين وتدل السائلين على الحدود الفاصلة بين الحق والباطل ، بين مرضاة اللّه وسخطه ، هكذا كانت ثورة الحسين ، لم تكن حالة انفعالية نشأت عن حالة الحصار التي تعرض لها ابو عبد اللّه الحسين ولا كانت حركة الى المجهول املتها اجواء رسائل البيعة المشكوك في صدقها ، منذ البدء كانت فعلاً مدروساً ومخططاً منذ لحظة ولادته وبدأت خطوات تنفيذها في اللحظة التي تخيل فيها ابن آكله الاكباد انه لا اسلام حقيقياً بعد اليوم ، وليبق الدين لعق على السنة بعض القادة يصعدون به على اعناق الناس يطلبون الدنيا بادعاء النسك والزهادة على ان يدعوا ما لقيصر لقيصر ، وما تبقي ان تبقي شيء فهو للّه .
لم يبدأ الفصل الاخير بعد ، الفصل الاخير سيفتتحه الإمام محمد بن الحسن المهدي ( عليه السلام ) ، حيث سيسمع الجميع القول الفصل : ( ِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّمَنْ خَافَ عَذَابَ الآخِرَةِ ذَلِكَ يَوْمٌ مَّجْمُوعٌ لَّهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَّشْهُودٌ ) ( وَالسَّمَاء ذَاتِ الرَّجْعِ ، وَالْأَرْضِ ذَاتِ الصَّدْعِ ، إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ وَمَا هُوَ بِالْهَزْلِ ، إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا ، وَأَكِيدُ كَيْدًا ، فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا ) .
2 - التمهيد للثورة :
بيان فضائل آل البيت ، ومساوىء الحزب الفئة الحاكمة خرجت جماعة من الشيعة الى الإمام الحسن ( عليه السلام ) ، بعد صلحه مع ابن آكله الاكباد ، وطلبوا منه نقض الصلح ، فلم يجبهم فجاءوا الى الإمام الحسين ( عليه السلام ) فقال : ( قد كان صلحاً ، وكانت بيعة كنت بها كارها ، فأنظروا ما دام هذا الرجل حيا فإن يهلك نظرنا ونظرتم .
على خطى الحسين عليه السلام
_ 36 _
فأنصرفوا عنه ، فلم يكن شيء أحب اليهم والى الشيعة من هلاك معاوية ) .
ثم لما استشهد الإمام الحسن ( عليه السلام ) ، عاودوا الاتصال بالإمام الحسين قائلين : ( ان اللّه قد جعل فيك أعظم الخلف ممن مضى ، ونحن شيعتك المصابة بمصيبتك ، المحزونة بحزنك ، المسرورة بسرورك ، المنتظرة لأمرك ، فكتب اليهم : أني لأرجو ان يكون رأى أخي في الموادعة ورأيي في الجهاد رشداً وسداداً ، فالصقوا بالارض واخفوا الشخص واكتموا الهدى واحترسوا من الاظاء ما دام ابن هند حياً فإن يحدث به حدث ، وأنا حي ، يأتكم رأيي ان شاء اللّه ) .
ولما كثر أختلاف أشراف الحجاز ورجال العراق الى الحسين ( عليه السلام ) ، حجبهم الوليد بن عتبة ، والى المدينة عنه ، ومنعهم من ملاقاته فقال له الحسين : ( يا ظالماً نفسه ، وعاصياً لربه ، علام تحول بيني وبين قوم عرفوا من حقي ما جهلته انت وعمك ) .
كتب معاوية الى الحسين ( عليه السلام ) : ( أما بعد ، فقد انتهت الى منك أمور ، لم اكن اظنك بها رغبة عنها ، وأن أحق الناس بالوفاء لمن أعطي بيعة من كان مثلك ، في خطرك وشرفك ومنزلتك التي انزلك اللّه بها ، فلا تنازع الى قطيعتك ، واتق اللّه ، ولا تردن هذه الأمة في فتنة ، وأنظر لنفسك ودينك وأمة محمد ، ولا يستخفنك الذين لا يوقنون ) .
يظهر من هذا الخطاب ان الدولة الأموية كانت ترصد حركات أبي عبد اللّه الحسين وسكناته وأنه ، سلام اللّه عليه ، لم يكن نائماً على فراشه ينتظر هلاك الطاغية ليسرع الى اعلان نفسه خليفة كما يحلم الكسالي والواهمون ، ولعل كلمة معاوية ( انتهت الى منك أمور) يعني انه لم يكن تقريراً واحداً من مخابراته بل كانت تقارير عدة ، وكان الحسين ( عليه السلام ) ، حريصاً على أبلاغ كلمة الحق الى جميع افراد الأمة ، اما السياسة الأموية تجاه الحسين ( عليه السلام ) ، في هذه الحقبة فيلخصها سعيد بن العاص عندما يقول : ( فذر الحسين بمنبت النخلة ، يشرب الماء ويصعد في الهواء ولا يبلغ الى السماء ) ، فالنخلة ، مهما طالت ، لا تبلغ السماء ، وهذا المطلوب عينه ، من دون اراقه دماء ، ومن دون احداث ضجيج غير مطلوب ولا مرغوب ، في وقت كان يتعين فيه اظهار البيعة ليزيد وكأنها جاءت طواعيه وبملء ارادة الأمة .
على خطى الحسين عليه السلام
_ 37 _
فكان رد الإمام عليه : ( اما بعد ، فقد جاءني كتابك تذكر فيه انه انتهت اليك عني أمور ، لم تكن تظنني بها ، رغبة بي عنها ، وان الحسنات لا يهدي لها ولا يسدد اليها الا اللّه تعالى ، اما ما ذكرت انه رقي اليك عني ، فإنما رقاه الملاقون ، المشاءون بالنميمة ، المفرقون بين الجمع ، وكذب الغاوون المارقون ، ما أردت حرباً ولا خلافاً ، وأني لأخشي اللّه في ترك ذلك ، منك ومن حزبك ، القاسطين المحلين ، حزب الظالم ، وأعوان الشيطان الرجيم .
لست قاتل حجر ، وأصحابه العابدين المخبتين ، الذين كانوا يستفظعون البدع ، يأمرون بالمعروف ، وينهون عن المنكر ، فقتلتهم ظلماً وعدواناً ، من بعد ما اعطيتهم المواثيق الغليظة ، والعهود المؤكدة ، جراة على اللّه واستخفافاً بعهده ، أو لست بقاتل عمرو بن الحمق ، الذي اخلقت وأبلت وجهه العبادة ، فقتلته من بعد ما اعطيته من العهود ما لو فهمته العصم نزلت من شعف الجبال ، او لست المدعي زياداً في الإسلام ، فزعمت انه ابن ابي سفيان ، وقد قضى رسول اللّه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، ان الولد للفراش وللعاهر الحجر ، ثم سلطته على اهل الإسلام ، يقتلهم ويقطع ايديهم وارجلهم من خلاف ، ويصلبهم في جذوع النخل .
سبحان اللّه ! يا معاوية ، لكانك لست من هذه الأمة ، وليسوا منك ، أو لست قاتل الحضرمي الذي كتب اليك فيه زياد انه على دين على كرم اللّه وجهه ؟ ودين على هو دين أبن عمه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، الذي اجلسك مجلسك الذي انت فيه ، ولولا ذلك كان أفضل شرفك وشرف آبائك تجشم الرحلتين : رحلة الشتاء والصيف ، فوضعها اللّه عنكم بنا ، منه عليكم ، وقلت في ما قلت : لا ترد هذه الأمة في فتنة ، وأني لا أعلم لها فتنة أعظم من أمارتك عليها ، وقلت في ما قلت : أنظر لنفسك ولدينك ولأمة محمد ، وأني واللّه ما أعرف أفضل من جهادك ، فإن أفعل فإنه قربة الى ربي ، وأن لم أفعله فأستغفر اللّه لديني ، واسأله التوفيق لما يحب ويرضي .
على خطى الحسين عليه السلام
_ 38 _
وقلت في ما قلت : متى تكدني اكدك ، فكدني يا معاوية في ما بدا لك ، فلعمري لقديما يكاد الصالحون ، وأني لأرجو ان لا تضر الا نفسك ، ولا تمحق الا عملك ، فكدني ما بدا لك ، واتق اللّه يا معاوية ، واعلم ان للّه كتاباً لا يغادر صغيرة ولا كبيرة الا احصاها .
وأعلم ان اللّه ليس بناس لك قتلك بالظنة واخذك بالتهمة ، وأمارتك صبياً يشرب الشراب ، ويلعب بالكلاب ، ما اراك الا وقد أو بقت نفسك ، وأهلكت دينك ، وأضعت الرعية والسلام ) .
كانت هذه الرسالة اعلاناً مؤجلاً للحرب وليست محاولة للاسترضاء ، فها هو الإمام الحسين يضع النقاط على الحروف ، ويعلن موقفه من بني أمية الذين وصفهم بأنهم حزب الظالم وأعوان الشيطان الرجيم .
ثم يرد على تلبيس أبليس بادعائه خوف الفتنة على أمة محمد بأنه ، ( عليه السلام ) ، لا يرى فتنة أخطر ولا أضل على أمة محمد من أمارة معاوية والقاسطين من حزبه ، وهو تأكيد لما ذكرناه من قبل في تفسير قوله تعالى : ( وَمِنْهُم مَّن يَقُولُ ائْذَن لِّي وَلاَ تَفْتِنِّي أَلاَ فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُواْ ) ، فليس هناك أضل على الأمة من أمارة الظلمة اعداء اللّه حزب الشيطان ، وأن ترك جهادهم ذنب والبراءة منهم وقتالهم هدف نبيل يتضاءل الى جواره كل بذل وتضحية ، وبين اعلان موقفه من بني أمية وأعلانه وجوب الجهاد ضدهم يفصل جرائمهم ونكايتهم بالصالحين من امة محمد ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، ان هذه الرساله تأكيد لما أسلفنا ، وهو ان خروج الإمام الحسين ( عليه السلام ) ، لم يكن رد فعل وأنفعال بل هو فعل مدروس وترجمة عملية لموقف عقيدي راسخ وتنفيذ لتكليف الهي .
كل هذه الكلمات والمواقف لم تردع معاوية عن غيه بل هو ماض في ما نوى فيذهب الى المدينة ، ويلتقي وجوه الأمة ، ويلوح لهم تارة بالوعود وتارة بالوعيد ، يلبس الحق بالباطل ويزور ويزيف ليمهد الأمر ليزيد اللعين ، فقام الحسين ( عليه السلام ) يجبهة بالحق : ( اما بعد يا معاوية لم يناده بأمره المؤمنين فلن يؤدي القائل ، وأن أطنب ، في صفه الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، من جميع جزءاً ، وقد فهمت ما لبست به الخلف بعد رسول اللّه من إيجاز الصفة والتنكب عن استبلاغ النعت ، وهيهات هيهات يا معاوية :
على خطى الحسين عليه السلام
_ 39 _
فضح الصبح فحمه الدجى ، وبهرت الشمس انوار السرج ، ولقد فضلت حتى أفرطت ، وأستأثرت حتى أجحفت ، ومنعت حتى محلت ، وجزت حتى جاوزت ما بذلت لذي حق من أسم حقه بنصيب حتى أخذ الشيطان حظه الأوفر ، ونصيبه الأكمل ، وفهمت ما ذكرته عن يزيد من اكتماله ، وسياستة لأمة محمد ، تريد ان توهم الناس في يزيد كأنك تصف محجوباً ، او تنعت غائباً او تخبر عما كان مما احتويته بعلم خاص ، وقد دل يزيد من نفسه على موقع رأيه ، فخذ ليزيد في ما اخذ فيه ، من استقرائه الكلاب المهارشة عند التحارش ، والحمام السبق لأترابهن ، والقيان ذوات المعازف وضرب الملاهي تجده باصراً ، ودع عنك ما تحاول ، فما أغناك ان تلقى اللّه من وزر الخلق بأكثر مما أنت لاقيه ، فواللّه ما برحت تقدم جور باطلاً في جور وحنقاً في ظلم حتى ملأت الاسقية وما بينك وبين الموت الا غمضة ، فتقدم على عمل محفوظ ، في يوم مشهود ، ولات حين مناص ، ورأيتك عرضت بنا بعد هذا الأمر ، ومنعتنا عن آبائنا ، ولقد لعمر اللّه اورثنا الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، ولادة وجئت لنا بها ، ما حججتم به فأذعن للحجة بذلك ، ورده الإيمان الى النصف ، فركبتم الأعاليل ، وفعلتم الأفاعيل ، وقلتم كان ويكون ، حتى اتاك الأمر يا معاوية من طريق كان قصدها لغيرك ، فهناك أعتبروا يا أولي الأبصار ، وذكرت قيادة الرجل القوم بعهد رسول اللّه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وتأميره له ، وقد كان ذلك ، ولعمرو بن العاص يومئذ فضيلة بصحبة الرسول ، وبيعته له ، وما صار لعمرو يومئذ مبعثهم حتى أنف القوم أمرته ، وكرهوا تقديمه ، وعدوا عليه أفعاله ، فقال ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : لا جرم معشر المهاجرين ، لا يعمل عليكم بعد اليوم غيري ، فكيف يحتج بالمنسوخ من فعل الرسول ، في أؤكد الأحكام ، وأولاها بالمجمع عليه من الصواب ؟ أم كيف صاحبت بصاحب تابعاً ، وحولك من لا يؤمن في صحبته ، ولا يعتمد في دينه وقرابته ، وتتخطاهم الى مسرف مفتون ، تريد ان تلبس الناس شبهه يسعد بها الباقي في دنياه ، وتشقى بها في آخرتك ، ان هذا لهو الخسران المبين ، وأستغفر اللّه لي ولكم .
على خطى الحسين عليه السلام
_ 40 _
قال : فنظر معاوية الى ابن عباس فقال : ما هذا يا ابن عباس ؟ ولما عندك أدهي وأمر ، فقال ابن عباس : لعمر اللّه ، أنها لذرية الرسول ، واحد أصحاب الكساء ، ومن البيت المطهر ، ما له عما تريد ، فإن لك فى الناس مقنعاً ، حتى يحكم اللّه بأمره وهو خير الحاكمين ) .
تأمل قوله ، ( عليه السلام) ، عن يزيد : ( تريد ان توهم الناس فى يزيد كأنك تصف محجوباً وتنعت غائباً ) ، لم تكن شخصية يزيد شخصيه مجهوله ، ولا كانت أخلاقياته أمراً غائباً عن الناس ولا كانت الأمة المسلمة قد صارت الى ما هي عليه الآن من فساد أخلاقي ومجاهرة بالمعاصي وشرب الخمور حتى يتجاوز المسلمون عن ذلك الفاسق المستهتر ، وهل عجزت أمة محمد عن إيجاد رجل منها يتمتع بالخلق الحميد والسمعة الطيبة حتى تسلم أمرها الى يزيد ؟ .
3 - التصميم والتخطيط لم يتوقف الحسين ( عليه السلام) :
عن تذكير الناس بحق أهل البيت ( عليه السلام ) ، سواء في مواجهة معاوية أم فى مجلسه ، فها هو يجمع رجالات بني هاشم ورجالات الشيعة والتابعين والأنصار ، وعددهم حوالي تسعمئة رجل ، فلما اجتمعوا قام خطيباً فحمد اللّه وأثني عليه ثم قال : ( اما بعد ، فإن هذا الطاغية قد فعل بنا وبشيعتنا ما قد رأيتم وعلمتم وشهدتم ، وأني اريد ان أسألكم عن شيء ، فإن صدقت فصدقوني وأن كذبت فكذبوني ، أسمعوا مقالتي وأكتموا قولي ثم أرجعوا الى امصاركم وقبائلكم من أمنتموه ووثقتم به فأدعوهم الى ما تعلمون فأني أخاف ان يندرس هذا الحق ويذهب ، واللّه متم نوره ولو كره الكافرون .
قال الراوي : فما ترك الحسين شيئا مما أنزل اللّه فيهم الا تلاه وفسره ، ولا شيئا مما قاله رسول اللّه في أبيه وأخيه وفي نفسه واهل بيته الا رواة ، وفي كل ذلك يقول أصحابه : اللهم نعم ، قد سمعنا وشهدنا .
على خطى الحسين عليه السلام
_ 41 _
وقد ناشدهم فقال : أنشدكم اللّه ، أتعلمون ان علي بن أبي طالب كان اخاً لرسول اللّه حين آخى بين أصحابه فأخي بينه وبين نفسه ، وقال : أنت أخي وانا اخوك في الدنيا والآخرة ؟ ، قالوا : نعم .
قال : انشدكم اللّه ، هل تعلمون ان رسول اللّه أشترى موضع مسجده ومنازله فأبتناه ثم أبتنى فيه عشرة منازل ، تسعه له ، وجعل عاشرها في وسطها لأبي ، ثم سد كل باب شارع الى المسجد غير بأبه فتكلم في ذلك من تكلم ، فقال : ما انا سددت أبوابكم وفتحت بأبه ولكن اللّه أمرني بسد أبوابكم وفتح بابه ثم نهى الناس ان يناموا فى المسجد غيره ، ومنزله في منزل رسول اللّه فولد لرسول اللّه وله فيه اولاد ؟ ، قالوا : اللهم نعم .
قال: انشدكم اللّه أفتعلمون ان عمر بن الخطاب حرص على كوه قدر عينيه يدعها فى منزله الى المسجد فأبى عليه ، ثم خطب فقال : ان اللّه أمرني بأبن أبني مسجداً طاهراً لا يسكنه غير أخي وغير أخي وبنيه ؟ ، قالوا : اللهم نعم .
قال : أنشدكم اللّه اتعلمون ان رسول اللّه قال في غزوة تبوك :
انت مني بمنزله هارون من موسى ، وانت ولى كل مومن بعدي ؟ ، قالوا : اللهم نعم .
قال: انشدكم اللّه أتعلمون ان رسول اللّه دفع اليه اللواء يوم خيبر ، ثم قال : لأدفعه الى رجل يحبه اللّه ورسوله ويحب اللّه ورسوله ، كرار غير فرار فيفتحها اللّه على يده ؟ ، قالوا : اللهم نعم .
قال : اتعلمون ان رسول اللّه بعثه ببراءه وقال : ( لا يبلغ عنى الا أنا أو رجل مني ؟ ، قالوا : اللهم نعم ) .
قال : أتعلمون أن رسول اللّه لم تنزل به شدة قط الا قدمة لها ثقه به وأنه لم يدعه بأسمه قط الا يقول : يا أخي ؟ ، قالوا : اللهم نعم .
قال : أنشدكم اللّه أتعلمون ان رسول اللّه قضى بينه وبين جعفر وزيد فقال : يا على أنت مني وانا منك وانت ولي كل مؤمن بعدي ؟ ، قالوا : اللهم نعم .
قال: أنشدكم اللّه اتعلمون انه كانت له من رسول اللّه كل يوم خلوة وكل ليلة دخله اذا سأله أعطاه وإذا سكت أبداه ؟ ، قالوا : اللهم نعم .
على خطى الحسين عليه السلام
_ 42 _
قال: انشدكم اللّه اتعلمون ان رسول اللّه فضله على جعفر وحمزة حين قال لفاطمة ، ( عليها السلام ) ، زوجتك خير أهل البيت ، أقدمهم سلماً واعظمهم حلما واكثرهم علماً ؟ ، قالوا : اللهم نعم .
قال: أنشدكم اللّه أتعلمون ان رسول اللّه قال : انا سيد ولد آدم ، وأخي علي سيد العرب وفاطمة سيدة نساء أهل الجنة والحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنه ؟ ، قالوا : اللهم نعم .
قال: انشدكم اللّه أتعلمون ان رسول اللّه امره بتغسيله وأخبره ان جبرائيل يعينه عليه ؟ ، قالوا : اللهم نعم .
قال: أنشدكم اللّه اتعلمون ان رسول اللّه قال في آخر خطبه خطبها : أني تركت فيكم الثقلين كتاب اللّه وأهل بيتي فتمسكوا بهما لن تضلوا ؟ ، قالوا : اللهم نعم .
فلم يدع ، شيئاً أنزله اللّه في علي بن أبي طالب خاصه وأهل بيته من القرآن ولا عن لسان نبيه الا ناشدهم ، فيقول الصحابة :
اللهم نعم ، قد سمعناه ، ويقول التابعون : اللهم نعم قد حدثنية من أثق به فلان وفلان .
ثم ناشدهم ان كانوا قد سمعوا رسول اللّه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، يقول : من زعم أنه يحبني ويبغض علًيا فقد كذب ، ليس يحبني ويبغض علياً ، فقال له قائل : يا رسول اللّه وكيف ذلك ؟ ، قال : لأنه مني وأنا منه ، من أحبه فقد أحبني ومن أحبني فقد أحب اللّه ، ومن ابغضه فقد أبغضني ومن أبغضني فقد ابغض اللّه ، فقالوا : اللهم نعم قد سمعناه ، وتفرقوا على ذلك ) .
ثم ها هو يخاطب الأمة ويحثها على القيام بواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر : (اعتبروا ، أيها الناس ، بما وعظ اللّه به اولياءه من سوء ثنائه على الاحبار اذ يقول : (لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ كَانُواْ لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ ) ، وانما عاب اللّه ذلك عليهم لأنهم كانوا يرون من الظلمة الذين بين أظهرهم المنكر والفساد فلا ينهونهم عن ذلك ، رغبة في ما كانوا ينالون منهم ورهبة مما يحذرون ، واللّه يقول : ( فَلاَ تَخْشَوُاْ النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلاَ تَشْتَرُواْ بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلاً ) ، وقال : ( وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ ) ، فبدأ اللّه بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فريضة منه لعلمه بأنها اذا أديت وأقيمت أستقامت الفرائض كلها هينها وصعبها ، وذلك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر دعاء الى الإسلام مع رد المظالم ومخالفة الظالم وقسمه الفىء والغنائم وأخذ الصدقات من مواضعها ووضعها فى حقها .
على خطى الحسين عليه السلام
_ 43 _
ثم أنتم ، أيها العصابة ، بالعلم مشهورة وبالخير مذكورة وبالنصيحة معروفة وباللّه في أنفس الناس مهابة ، يهابكم الشريف ويكرمكم الضعيف ويوثركم من لا فضل لكم عليه ولا يدلكم عنده ، تشفعون فى الحوائج اذا امتنعت من طلابها ، وتمشون في الطريق بهيئه الملوك وكرامة الاكابر ، اليس كل ذلك إنما نلتمؤه بما يرجى عندكم من القيام بحق اللّه ، ان كنتم عن اكثر حقه تقصرون ، فأستخففتم بحق الائمة فأما حق الضعفاء فضيعتم وأما حقكم بزعمكم طلبتم ، فلا مالاً بذلتموه ولا نفساً خاطرتم بها للذي خلقها ولا عشيرة عاديتموها في ذات اللّه ، أنتم تتمنون على اللّه جنته ومجاوره رسله وأمانا من عذابه ، لقد خشيت عليكم أيها المتمنون على اللّه ان تحل بكم نقمة من نقماته لأنكم بلغتم من كرامة اللّه منزلة فضلتم بها ، ومن يعرف باللّه لا تكرمون وانتم في عباده تكرمون وقد ترون عهود اللّه منقوضة فلا تفزعون وأنتم لبعض ذمم آبائكم تفزعون .
وما أمركم اللّه به من النهي والتناهي انتم عنه غافلون وأنتم أعظم الناس مصيبة لما غلبتم عليه من منازل العلماء لو كنتم تسعون ، ذلك بإن مجاري الأمور والاحكام على أيدي العلماء باللّه الأمناء على حلاله وحرامه ، فأنتم المسلوبون تلك المنزله وما سلبتم ذلك الا لتفرقكم عن الحق واختلافكم في السنة بعد البينة الواضحة ، ولو صبرتم على الاذى وتحملتم المؤونه في ذات اللّه كانت أمور اللّه عليكم ترد وعنكم تصدر واليكم ترجع ، ولكنكم مكنتم الظلمة من منزلتكم واستسلمتم ، أمور اللّه فى أيديهم يعملون بالشبهات ويسيرون في الشهوات سلطهم على ذلك فراركم من الموت واعجابكم بالحياة التى هي مفارقتكم ، فأسلمتم الضعفاء في أيديهم فما بين مستعبد مقهور وبين مستضعف على معيشة مغلوب ، يتقلبون فى الملك بأرائهم ويستشعرون الخزي بأهدائهم اقتداء بالاشرار وجراة على الجبار ، في كل بلد منهم على منبره خطيب يصقع فالأرض لهم شاغرة وأيديهم فيها مبسوطة والناس لهم خول لا يدفعون يد لأمس ، فمن بين جبار عنيد وذي سطوة على الضعيف شديد مطاع لا يعرف المبدي المعيد ، فيا عجباً وما لي لا أعجب والارض من غاش غشوم ومتصدق ظلوم وعامل على المؤمنين غير رحيم ، فاللّه الحاكم فيما فيه تنازعنا والقاضي بحكمه فيما شجر بيننا .
على خطى الحسين عليه السلام
_ 44 _
اللهم انك تعلم انه لم يكن ما كان منا تنافساً في سلطان ولا التماساً من فضول الحكام ، ولكن لنرى المعالم من دينك ونظهر الاصلاح فى بلادك ويأمن المظلومون من عبادك ويعمل بفرائضك وسنتك في بلادك ، فأنكم ان لم تنصرونا وتنصفونا قوي الظلمة عليكم وعملوا في اطفاء نور نبيكم ، وحسبنا اللّه وعليه توكلنا واليه انبنا واليه المصير ) .
أنظروا الى هذه الخطبة العظيمة ، في التمهيد ، وأعداد الارضية للثورة الحسينية .
والخطبه التي سبقتها في ذكر فضائل أهل البيت وفضائله ( عليهم السلام ) .
ما أحوجنا الى استخراج هذه المعاني وشرحها وتأكيدها لأصحاب العقول الراجحة ، أنها دستور ومنهج في فهم حقائق الإسلام تنسف ما حاول بنو أمية ترسيخه من صورة كهنوتية للإسلام تكرس فصل الدين عن الدولة فصلا عملياً منذ البداية ، بل وتجعل من مفاهيم الدين خادمة لظلم الظالمين وجور السلاطين وتستفيد من مقالات بعض المتقاعصين الذين خدمهم الإسلام بأكثر مما خدموه .
أن بني أمية وأصحاب السلطة من بعدهم مهدوا في الأغداق على افراد هذه الطبقة والأدناء لهم وأسماع صوتهم للناس ، وكبت المخلصين في ولائهم لآل بيت محمد ( صلى الله عليه وآله وسلم ) بدءاً من أبي ذر الغفاري ( رضوان اللّه عليه ) ومروراً بحجر بن عدي وعمرو بن الحمق الخزاعي حتى لا تصل الى مسمع العالم الا هذه الكلمات المشبوهة المنسوبة الى أصحابها او المكذوبة على رسول اللّه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، داعية الناس للخنوع والخضوع بدعوى تجنيب الناس الوقوع في الفتنة ، وتحاول أن تعطي الغاصبين شرعية يحلمون بها وتعطل فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .
فها هو أبو عبد اللّه الحسين يؤكد على هذه الفريضة المعطلة ويرى أنها ضرورة لأزمة لأقامه احكام الدين ، فيقول : أنها اذا أديت استقامت الفرائض جميعها هينها وصعبها ، وتجنب المجتمع الوقوع في الظلم الذي هو رأس كل مصيبة تنزل بالناس ، وها هو ( عليه السلام ) ينبه الى ضياع حقوق الضعفاء وينبه الى أنهم أسلموا الضعفاء في يد الظلمة ، فصار الناس ما بين مستعبد مقهور وبين مستضعف على معيشة مقهور .
على خطى الحسين عليه السلام
_ 45 _
ويلفت الانظار الى التوازن المفقود فى المجتمع المسلم بين هؤلاء الجبابرة واعوانهم الذي كان يفترض فيهم اقامة العدل ، فها هم ينطلقون في خدمة شهواتهم وحقدهم على الإسلام وأهله فيصف حالهم : ( في كل بلد منهم على منبره خطيب فيصقع ، فالارض لهم شاغرة وأيديهم فيها مبسوطة والناس لهم خول أي خدم لا يدفعون يد لأمس ، فمن بين جبار عنيد وذي سطوة على الضعيف شديد مطاع لا يعرف المبدي المعيد ) .
هذا هو حال المسلمين ، كما وصفه ابو عبد اللّه ، ولا بد من ان يستعيد الذهن ما فعله زياد وأبن زياد وسمره بن جندب من قتلهم للمسلمين وسفكهم للدماء ، هذه هي الصورة الحقيقية للدولة الأموية التي وجدت وما زالت تجد من يدافع عنها ويدعو الناس للخنوع والخضوع بأسم الدين ، والدين براء من هؤلاء وهؤلاء .
ان هذه الخطب الثلاث ترسم معالم التصور الإسلامي لنظام الحكم ، هذا التصور الذي افتتح معسكر النفاق جهدهم بالهجوم عليه ، عالمين بإن انتقاضة يسهل عليهم كل عسير ، والحسين (عليه السلام) يعيد التأكيد على معالمه الرئيسية خاصة بعدما جرب الناس حكومة بني أمية وراوا جراتهم على سفك الدماء واستئثارهم بالأموال ، أنها حكومة الظلمة التي أمرنا اللّه تبارك وتعالى بإن نجاهد حتى ننهي وجودها سواء رفعت شعارات الكفر أم أدعت الإسلام فقال عز من قائل : ( َقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلّه ) ، فكيف يكون الدين كله للّه إذا كان الناس مجبرون على الخضوع للظلم والا قتلوا او جاعوا ؟ ! ، كيف يكون الدين كله للّه ، والحاكم الجائر يمتلك أزهاق الارواح بكلمة لا تستند الى شرع ولا قانون ؟ ! ، كيف يكون الدين كله للّه وقد صارت سلطة الحاكم الجائر هدفاً مقدساً وصنماً يعبد من دون اللّه ومن دون شريعته ؟ ! .
وننهي خطب الحسين ( عليه السلام ) ، في التمهيد للثورة بهذه الخطبة الرائعة :
على خطى الحسين عليه السلام
_ 46 _
( نحن حزب اللّه الغالبون ، وعترة رسول اللّه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، الأقربون ، وأهل بيته الطيبون ، واحد الثقلين الذين جعلنا رسول اللّه ثاني كتاب اللّه تبارك وتعالى الذي فيه تفصيل كل شيء لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه والمعول علينا في تفسيره ، ولا يبطانا تأويله بل نتبع حقائقه ، فأطيعونا ان طاعتنا مفروضة اذا كانت بطاعة اللّه ورسوله مقرونة ، قال اللّه ( عز وجل ) : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ ) ، وقال :
( وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلاَ فَضْلُ اللّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاَتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ ) ، وأحذركم الاصغاء الى هتوف الشيطان بكم ، فأنه لكم عدو مبين ، فتكونوا كأوليائه الذين قال لهم : لا غالب لكم اليوم من الناس وأني جار لكم فلما تراءت الفئتان نكص على عقبية وقال أني بريء منكم فتلقون للسيوف ضرباً وللرماح ورداً وللعمد حطماً وللسهام غرضاً ثم لا يقبل من نفس إيمانها لم تكن آمنت من قبل او كسبت في إيمانها خيراً ) .
ثم هلك معاوية ، وكشرت الأفعى الأموية عن أنيابها ، فأرسل يزيد رسالة الى عامله على المدينة الوليد بن عتبة بن ابي سفيان ، وجاء فى صحيفة ملحقة بها ( كأنها اذن فاره ) : ( اما بعد ، فخذ حسيناً وعبد اللّه بن عمرو وعبد اللّه بن الزبير بالبيعة آخذاً شديداً ، ليس فيه رخصة حتى يبايعوا ، والسلام ) .
فلما وصلت الرسالة ، استشار الوليد مروان بن الحكم ( وقال : كيف ترى ان نصنع ؟ ، قال : فأني أرى ان تبعث الساعة الى هولاء النفر فتدعوهم الى البيعة والدخول في الطاعة ، فإن فعلوا قبلت منهم وكففت عنهم ، وأن أبواً قدمتهم فضربت أعناقهم ، قبل ان يعلموا بموت معاوية ، فإن علموا بموته وثب كل أمرىء منهم في جانب ، واظهر الخلاف والمنابذة ، فأرسل الوليد الى الحسين ، ( عليه السلام ) ، والى ابن الزبير يدعوهما فقالا له : أنصرف ، الآن نأتيه ، ثم أقبل أحدهما على الآخر ، فقال عبد اللّه بن الزبير للحسين : ما تراه بعث الينا في هذه الساعة التي لم يكن يجلس فيها ؟ ، فقال حسين : قد ظننت أرى طاغيتهم قد هلك ، فبعث الينا ليأخذننا بالبيعة قبل ان يفشو في الناس الخبر ، فقال : وأنا ما أظن غيره .
على خطى الحسين عليه السلام
_ 47 _
قال : فما تريد ان تصنع ؟ ، قال : اجمع فتياني الساعة ثم أمشي اليه ، فإذا بلغت الباب احتبستهم عليه ثم دخلت عليه ، وأنا على الامتناع قادر ، فذهب الحسين بن علي الى دار الوليد فجلس فأقراه الوليد الكتاب ، ونعى له معاوية ودعاه الى البيعه ، فقال حسين : انا للّه وانا اليه راجعون ، ورحم اللّه معاوية وعظم لك الاجر ، اما ما سألتني من البيعه فإن مثلي لا يعطي بيعتة سراً ولا اراك تجتزىء لها مني سراً ودون ان نظهرها على رؤوس الناس علانية ، قال : اجل ، قال : فإذا خرجت الى الناس فدعوتهم الى البيعة دعوتنا مع الناس فكان أمراً واحداً ، فقال له الوليد :
فأنصرف على أسم اللّه حتى تأتينا مع جماعة الناس ، فقال له مروان : واللّه لئن فأرقك الساعة ولم يبايع لا قدرت منه على مثلها ابداً حتى تكثر القتلى بينكم وبينه ، أحبس الرجل ولا يخرج من عندك حتى يبايع او تضرب عنقه ، فوثب عند ذلك الحسين فقال : يا ابن الزرقاء ، أنت تقتلني ام هو كذبت واللّه وأثمت ، ثم خرج فمر بأصحابه فخرجوا معه حتى اتي منزله .
فقال مروان للوليد : عصيتني ؟ لا واللّه لا يمكنك من مثلها من نفسه ابداً .
فقال الوليد : وبخ غيرك يا مروان ، انك اخترت لي التي فيها هلاك ديني ، واللّه ما أحب ان لي ما طلعت عليه الشمس وغربت عنه من مال الدنيا وملكها وأني قتلت سينا ، سبحان اللّه اقتل حسينا ان قال لا ابايع ، واللّه أني لا اظن أمراً يحاسب بدم حسين لخفيف الميزان عند اللّه يوم القيامة ، فقال له مروان : فإذا كان هذا رأيك فقد اصبت فيما صنعت ) .
خرج حسين من ليلته ، وسبقه ابن الزبير ، متوجهين الى مكة .
ويبدو ان هذه الآونة القصيرة في هذا اليوم ، كانت حافلة بالمشاورات بين ابي عبد اللّه الحسين وبين المحيطين به سواء ممن يحبه ويشفق عليه ويتمنى له النصر ام من اولئك الذين قدموا النصيحة لمجرد اداء الواجب ، وهذه المشاورات على قصر مدتها تعكس حاله التصميم والتخطيط الواعي من قبل الإمام الحسين الذي كان يحمل على كاهله ما لو حملته الجبال لتدكدكت ، وآخر هذه الاعباء سلامة ذلك الجسد الطاهر الذي هو قطعه من نور الرسول الأكرم طالما حملها المصطفى ، ( صلى اللّه عليه وسلم ) ، على عاتقه ولكن الأولويه كانت حينئذ لحفظ الدين لا لحفظ الارواح .
على خطى الحسين عليه السلام
_ 48 _
ها هو ابو عبد اللّه يستشير أخاه محمد بن الحنفية فيقول له أخوة : ( يا أخي ، أنت أحب الناس الى وأعزهم على ، ولست أدخر النصيحة لأحد من الخلق أحق بها منك ، تنح بتبعتك عن يزيد بن معاوية وعن الامصار ما استطعت ، ثم ابعث رسلك الى الناس فأدعهم الى نفسك ، فإن بايعوا لك حمدت اللّه على ذلك ، وأن اجمع الناس على غيرك لم ينقص اللّه بذلك دينك ولا عقلك ولا يذهب به مروءتك ولا فضلك ، أني اخاف ان تدخل مصراً من هذه الامصار ، وتأتي جماعه من الناس فيختلفون بينهم فمنهم طائفه معك وأخرى عليك فيقتتلون فتكون لأول الاسنهة ، فإذا خير هذه الأمة كلها نفسا وابا واما اضيعها دما واذلها اهلا ، قال له الحسين : فأني ذاهب يا أخي ، قال : فأنزل مكة فان اطمأنت بك الدار فسبيل ذلك ، وأن نبت بك لحقت بالرمال وشعف الجبال ، وخرجت من بلد الى بلد حتى تنظر الى ما يصير أمر الناس وتعرف عند ذلك الرأي فأنك أصوب ما تكون رأياً وأحزمة عملاً حين تستقبل الأمور استقبالاً ولا تكون الأمور عليك ابدا أشكل منها حين تستدبرها استدباراً ، قال : يا أخي قد نصحت فأشفقت فأرجو ان يكون رأيك سديداً موفقا ) .
وفي رواية أخرى انه اشار عليه بالتوجه الى اليمن فكان جواب ابي عبد اللّه الحسين : ( يا أخى ، لو لم يكن في الدنيا ملجأ ولا مأوى لما بايعت يزيد بن معاوية ، فقطع محمد بن الحنفية الكلام وبكى فبكي الحسين ساعة ثم قال : يا أخي جزاك اللّه خيراً ، لقد نصحت وأشرت بالصواب ، وأنا عازم على الخروج الى مكة ، وقد تهيأت لذلك أنا وأخوتي وبنو أخي وشيعتي وأمرهم أمري ورأيهم رأيي ، وأما أنت يا أخي فلا عليك ان تقيم بالمدينة فتكون لي عيناً عليهم لا تخفي عني شيئا من أمورهم ، ثم دعا بكتاب وكتب وصيه ) .
(هذا ما أوصي به الحسين بن علي بن أبي طالب الى اخيه محمد المعروف بأبن الحنفية : ان الحسين يشهد ان لا اله الا اللّه وحده لا شريك له ، وأن محمداً عبده ورسوله ، جاء بالحق من عنده ، وان الجنة والنار حق ، وان الساعة آتيه لا ريب فيها ، وان اللّه يبعث من في القبور ، وأني لم اخرج اشراً ولا بطراً ولا مفسداً ولا ظالماً ، وإنما خرجت لطلب الإصلاح في أمة جدي وشيعة أبي علي بن أبي طالب ، فمن قبلني بقبول الحق فاللّه اولي بالحق ، ومن رد على هذا اصبر حتى يقضي اللّه بيني وبين القوم بالحق وهو خير الحاكمين ، وهذه وصيتي لك يا أخي وما توفيقي الا باللّه عليه توكلت واليه انيب ) .
على خطى الحسين عليه السلام
_ 49 _
كما روى عنه ، ( عليه السلام ) ، أنه كتب كتاباً الى أخيه ابن الحنفية والى بني هاشم : ( بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ) ، من الحسين بن علي الى محمد بن علي ومن قبله من بني هاشم ، أما بعد ، ان الدنيا لم تكن وأن الآخرة لم تزل ، والسلام ) .
كما روي الطبري ، في تاريخه ، عن ابي سعد المقبري قال :
(نظرت الى الحسين داخلاً مسجد المدينة وأنه ليمشي وهو معتمد على رجلين ، وهو يتمثل بقول ابن مفرغ :
لا ذعرت السوام في فلق الصبح مغيراً ، ولا دعيت يزيدا يوم اعطى من المهابة ضيماً والمنايا يرصدنني ان احيداً قال : فقلت في نفسي واللّه ما تمثل بهذين البيتين الا لشيء يريد ، قال : فما مكث الا يومين حتى بلغني انه سار الى مكة . . . . . ، فلما سار نحو مكه قال : ( فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ) ( ، فلما دخل مكة قال : ( وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاء مَدْيَنَ قَالَ عَسَى رَبِّي أَن يَهْدِيَنِي سَوَاء السَّبِيلِ ) .
4 - ضرورات المرحلة ونماذج رجالاتها :
هكذا بدأت مسيرة ابي عبد اللّه الحسين ( عليه السلام ) متجهاً الى مكة ، ثم الى ارض الطف حيث المقر والمقام .
سأمضي وما بالموت عار على الفتى اذا ما نوى حقا وجاهد مسلماً وواسي الرجال الصالحين بنفسه وفارق مذموماً وخالف مجرماً كان الحسين ، ( عليه السلام ) ، قبل خروجه ، يتمثل بقول الشاعر في اباء الذل والضيم حتى وان كان ثمن ذلك التضحية بالنفس :
وهو على ما قاله الإمام علي ، ذات يوم ، مستحثاً أصحابه على الجهاد من اجل الحق : ( الموت في حياتكم مقهورين والحياة في موتكم قاهرين ) ، أنها المعادلة التى لو وعاها المسلمون من قديم لما صاروا الى هذه الهوة السحيقة التى هم فيها الآن ، اباء الضيم وعدم الخضوع للظلم والظالمين مهما كان الثمن .
على خطى الحسين عليه السلام
_ 50 _
ا - النموذج الأول : التعلق بالأوهام :
كانت الامة المسلمة ، آنئذ ، في أمس الحاجة الى هذا الموقف الحسيني حيث تداخلت الأهواء والمواقف ما بين عبد اللّه بن عمر صاحب المواقف التائهة بدءاً من خلع بيعة إمام الحق علي بن ابي طالب وجلوسه في بيته يخزل الحق ، بعتبار ان هذه الاحداث كانت فتنة وأنه وحدة هو والقلة الذين جلس كل منهم في بيته كانوا على الحق ، ثم ها هو يكرر المأساة نفسها ، ويحاول ان يسبغ هالة من القداسة الموهومة على ما أسماه ( جماعة المسلمين ) ، يعني الدولة اليزيدية الأموية ، فينصح للحسين وأبن الزبير قائلاً : ( اتقياً اللّه ، ولا تفرقاً جماعة المسلمين ) ، هذه الجماعة او الأمة التي صارت خولاً وعبيداً لبني أمية يقتلون ابناءهم ويستحيون نساءهم ويذبحون خيارهم وصلحاءهم ويدنون فساقهم ومنافقيهم ويستأثرون بأموال المسسلمين يجعلونها دولة بينهم ، أنها المفاهيم المعكوسة التي سادت الأمة المسلمة المنكوبة بعد ذلك ، ولذا نرى الإمام الحسين يجبهه بالحق حين التقاه في مكة قائلا له : (اتق اللّه ، يا ابا عبد الرحمن ، ولا تدع نصرتي ) .
انه من الضروري ان نفرق بين الإسلام كما جاء به محمد بن عبد اللّه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، والجماعة المسلمة التي عاشت في كنف القيادة الرسالية للنبي الأكرم محمد ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، وذلك الكيان المسخ الذي آلت اليه الأمة في ظل قيادة بني أمية ، شتان بين الحالين ، فجماعة الحق تعرف بإمام الحق ولا يمكن ان يكون العكس صحيحاً فيصبح من أغتصب أراده جماعة الحق هو امام الحق ، وهذا ما عجز أبن عمر عن رؤيته عمداً او عجزاً عن الأدراك ، فخذل الإمام علي ، وهو أوضح نموذج لألتقاء جماعة الحق مع أمام الحق ، ويسعى لتخذيل الإمام الحسين وابقائه مع القاعدين ، وينهي حياته أي أبن عمر نهاية تتلاءم مع مجموع مواقفه ، فبينما يخرج الصحابة والتابعون على يزيد في واقعة الحره تراه يصفهم بالبغي والعدوان ، ثم يذهب مبادراً ليبايع الحجاج بن يوسف الثقفي بعدما قتل ابن الزبير وهدم الكعبة ، انها مواقف التية .
على خطى الحسين عليه السلام
_ 51 _
ولذا كان الإمام الحسين ، ( عليه السلام ) ، واضحاً في مخاطبته قاطعاً عليه طريق الالتفاف قائلاً له : ( يا ابا عبد الرحمن ، اما علمت ان من هوان الدنيا على اللّه ان رأس يحيى بن زكريا أهدى الى بغي من بغايا بني اسرائيل ، اما تعلم ان بني أسرائيل كانوا يقتلون ما بين طلوع الفجر الى طلوع الشمس سبعين نبياً ثم يجلسون في أسواقهم يبيعون ويشترون كان لم يصنعوا شيئاً ، فلم يعجل اللّه عليهم بل امهلهم وأخذهم بعد ذلك اخذ عزيز ذي أنتقام ، اتق اللّه يا ابا عبد الرحمن ولا تدع نصرتي ) .
كان ابو عبد اللّه عارفاً بالرجل وبتوجهاته النفسية التى حاول دائماً ان يعطيها ثوب القداسة ، وكان بنو اميه لا يقلون معرفه بالرجل وكانوا لا يخشونه ، فقد بعث اليه الوليد قائلا : بايع ليزيد .
فقال: اذا بايع الناس بايعت ، فقال رجل : ما يمنعك ان تبايع ؟ إنما تريد ان يختلف الناس فيقتتلوا ويتفانوا فإذا جهدهم ذلك ، قالوا :
عليكم بعبد اللّه بن عمر لم يبق غيره بايعوه ، قال عبد اللّه : ما أحب ان يقتتلوا ولا يختلفوا ولا يتفانوا ، ولكن اذا بايع الناس ولم يبق غيري بايعت ، قال : فتركوه وكانوا لا يتخوفونه ) .
لماذا كان بنو أمية لا يتخوفونه ؟ ولماذا لم يبايع منذ اللحظة الأولى ؟ ، كانوا لا يتخوفونه لأن الرجل كان وارثاً لأسم ولم يكن وارثاً لفاعلية ، كانوا لا يتخوفونه لانه كان كما وصفوه يريد ان يقتتل الناس ويتفانوا ، فإذا جهدهم ذلك : قالوا عليكم بعبد اللّه بن عمر ، تماماً كما حدث يوم شورى ابن العاص حيث كان بعض الناس يريد ان يدفع به الى سدة الخلافة ، وكان الرجل لا يزال ذاكراً لهذا اليوم ويحلم بتكراره ، وهذا هو الوهم الاول الذي بدأ للرجل المنتظر ان يأتي الناس اليه ويبايعوه .
الوهم الثاني الذي عاشة أبن عمر يتمثل في انه كان يعتقد ويظن انه وارث لنهج في الدين والسياسة ليس بنهج آل بيت محمد ولا هو بالنهج الأموي ، والحقيقة أنه كان وارثاً لمرحلة طويت فأنطوت ، مرحله تخيل بعض الناس انها دائمة ، ولكن كبار المخططين الذين حكي عنهم ربنا ( عز وجل ) بقوله : ( أَمْ أَبْرَمُوا أَمْرًا فَإِنَّا مُبْرِمُونَ ) ، وصنعوها مرحله انتقالية .
على خطى الحسين عليه السلام
_ 52_
فليس من المعقول ان يموت رسول اللّه اليوم ، فيقفز بنو أمية على سدة الخلافة صبيحة اليوم التالي ، لا بد من انتقال وتمهيد سواء على مستوى الامكان والتنفيذ ام على مستوى القبول النفسي لأفراد هذه الأمة ، كان لا بد من ثلاثين عاماً من التمهيد لم يعكر صفوها الى صعود الإمام علي بن أبي طالب سدة الخلافة ، اذا لم يكن مسموحاً لأبن عمر ، ولا لأي أبن غيره ان يعيد استعراض نهج آبائه على المسلمين ، فهذه مرحلة قد طويت ويكفيكم ما نلتموه من شرف لم يكن يخطر لكم على بال ، وعلى كل حال شرف مدفوع الثمن في الدنيا .
ب - النموذج الثاني : طلب الدنيا بعمل الاخرة ، أختلاط الدين بالأهواء واذا كنا قد أتينا على ذكر ابن عمر وما قدمه من نموذج في فهم الإسلام ، فإن النموذج الآخر الذي عاصر ثورة الإمام الحسين ( عليه السلام ) : هو نموذج عبد اللّه بن الزبير ، ذاك الذي قال عنه أمير المؤمنين علي ( عليه السلام ) ( ما زال الزبير رجلاً منا اهل البيت حتى نشأ ابنه المشؤوم عبد اللّه ) ، فهو صاحب مواقف قد تركت بصماتها في التاريخ ، اذ لعب دوراً رئيسياً في تأجيج نار الفتنة في واقعة الجمل فيذكر أصحاب التاريخ ان عائشة دعت أبن عمر يوما وقالت له : ( يا ابا عبد الرحمن ، ما منعك ان تنهاني عن مسيري ؟ قال : رأيت رجلاً قد غلب عليك ورأيتك لا تخالفينه يعني عبد اللّه بن الزبير فقالت : اما انك لو نهيتني ما خرجت ) .
وها هو يرى فى هلاك معاوية وأستخلاف يزيد فرصة كبرى لا بد من انتهازها ليبلغ ما يتمناه من الملك والخلافة ، كما روى عنه الشعبي : ( رأيت عبد اللّه بن الزبير قام فى الحرم فألتزم الركن وقال : اللهم أنك عظيم ترجى لكل عظيم ، اسألك بحرمة وجهك وحرمة عرشك وحرمة بيتك الا تخرجني من هذه الدنيا حتى الى الحجاز ويسلم على بالخلافة ) .
على خطى الحسين عليه السلام
_ 53_
وشتان بين الحالين ، حال الإمام الحسين الذي يضحي بنفسه شهيداً في أرض كربلاء وبين هذا الرجل الذي يختار الحرم المكي موقفاً ملائماً لبدء تأسيس دولته بغض النظر عن النتائج الوخيمة التى تحل ببيت اللّه الحرام ، وهو عين ما حذر منه الإمام الحسين ( عليه السلام ) قائلاً : ( لئن اقتل خارج مكه بشبر أحب الي من ان أقتل داخلها بشبر ، وان اقتل خارجها بشبرين أحب الي من ان اقتل خارجها بشبر ) ، ولكنه لم يتورع عن تعريض الكعبة للدمار وجعلها مسرحاً لسفك الدماء وصولاً الى ما أراد من هدف وهو السلطة ، ولما تحقق له بعض ما أراد ، فعل الأعاجيب ، فهم يحكون عنه صلاة وصياماً وقياماً ويحكون عنه ايضا انه قطع ذكر رسول اللّه في خطبة الجمعة اسابيع كثيرة ، فأستعظم الناس ذلك فقال : ( أني لا أرغب عن ذكره ، ولكن له اهيل سوء اذا ذكرته اقلعوا اعناقهم فأنا أحب ان أكبتهم ) .
فلما عاتبة بعض خاصته في هذا قال : ( واللّه ما تركت ذلك علانية الا وأنا اقوله سراً وأكثر منه ، لكني رأيت بني هاشم اذا سمعوا ذكره اشرابوا وأحمرت ألوانهم وطالت رقابهم ، واللّه ما كنت لأتي لهم سروراً وأنا أقدر عليه ، واللّه لقد هممت ان احظر لهم حظيرة ثم اضرمها عليهم ناراً فأني لا أقتل منهم الا آثما كفارا سحاراً ، واللّه لا انماهم اللّه ولا بارك عليهم بيت سوء لا أول لهم ولا آخر ، واللّه ما ترك نبي اللّه فيهم خيراً ، أستفرغ نبي اللّه صدقهم فهم أكذب الناس ) .
ولسنا هنا بصدد استقصاء سيرة ابن الزبير ولا ردود ابن عباس عليه ، فيكفيه انه نفي ابن عباس الى الطائف ، فكان يجلس ليحدث أهل الطائف مترحماً على السابقين ، ويقول واصفاً ابن الزبير : ( ذهبوا فلم يدعوا امثالهم ولا اشباههم ، ولا من يدانيهم .
على خطى الحسين عليه السلام
_ 54_
ولكن بقي أقوام يطلبون الدنيا بعمل الآخرة ، يلبسون جلد الضان تحتها قلوب الذئاب والنمور ، ليظن الناس انهم من الزاهدين في الدنيا يراؤون الناس بأعمالهم ويسخطون اللّه بسرائرهم ، فأدعوا اللّه ان يقضي لهذه الأمة بالخير والأحسان فيولي امرها خيارها وأبرارها ويهلك فجارها وأشرارها ، ارفعوا ايديكم الى ربكم وسلوه ذلك ، فيفعلون ) .
ويكفيه انه جمع بني هاشم جميعهم في سجن عارم ، وأراد ان يحرقهم بالنار فجعل في فم الشعب حطباً كثيراً ، فأرسل المختار ابا عبد اللّه الجدلي في اربعة آلاف فارس فما شعر بهم ابن الزبير الا والرايات تخفق بمكة فأخرج الهاشميين ، قال المسعودي : ( وكان عروة بن الزبير من اعلام الرواة والمحدثين يعذر اخاه عبد اللّه في حصر بني هاشم في الشعب وجمعه الحطب ليحرقهم ويقول : إنما اراد بذلك ان لا تنتشر الكلمة ولا يختلف المسلمون وان يدخلوا فى الطاعة فتكون الكلمة واحدة ، كما فعل عمر بن الخطاب ببني هاشم لما تأخروا عن بيعة أبي بكر فأنه احضر الحطب ليحرق عليهم الدار ) .
اننا امام واقع لا بد من إيراده ، كما هو ، بغض النظر عما لدينا من انطباع وتخيلات عن هذا الشخص او ذاك ، كان ابن الزبير يشكل نموذجا اختلط فيه الدين بالاهواء ، نموذج يتكرر على مدى الازمنة وخاصة في زماننا هذا ، حيث يستفيد امثال هؤلاء ( الذين طلبوا الدنيا بعمل الآخرة ) من حالات الخلخلة التي تمر بها المجتمعات الإسلامية نتيجة للصراعات السياسية ، فيحاولون الاستفادة من هذه الفرصة للاستيلاء على السلطه عشقهم الاول والأخير ، وهم لا يرون اثقل على قلوبهم من حملة كلمة الحق مثل الحسين وأبن عباس ، ولو ظفروا بالسلطة لكان هولاء اول ضحاياهم ، وهم في محاولاتهم الحصول على مشتهاهم من السلطان والجاه يمكنهم الاطاحة بكثير من المقدسات مثل انتهاك حرمة بيت اللّه الحرام ، ثم يموهون على العامة والبسطاء ببعض التوابل مثل الصلاة والصيام والقيام وطول الركوع والسجود ، وتبقي القلوب قلوب الذئاب مهما ارتدت من جلود الضان ، اذا كان الزبير طالباً للحق فلماذا حارب امير المؤمنين علي ؟ ، ولماذا خذل الحسين ، ( عليه السلام ) ؟ ، فلا عجب ان يهدي اليه ابن عباس هذه الكلمات ، والحسين خارج من مكة :
يا لك من قبره بمعمر خلالك الجو فبيضي وأصفري ونقري ما شئت ان تنقري ولا عجب ايضاً ان ينذره الحسين بسوء فاله : ( ان ابي حدثني ان بها كبشاً يستحل حرمتها ، فما احب ان اكون ذلك الكبش ) .