وخلع بيعته فلن يضرّ إلاّ نفسه ، فسر بنا راشداً معافى ، مشرقاً ، ان شئت أو مغرباً ، فوالله ما اشفقنا من قدر الله ، ولا كرهنا لقاء ربّنا ، وإنّا على نيّاتنا وبصائرنا ، نوالي من والاك ونعادي من عاداك . . ) (1) ، دلّ هذا الخطاب الرائع على وعي نافع ، وإدراكه العميق للاَحداث ودراسته لاَبعادها فقد أعرب أن الرسول الاَعظم ( صلى الله عليه وآله وسلم ) بما يملك من طاقات روحية لم يستطع أن يجمع الناس على محبّته ، ويخضعهم إلى الاِيمان برسالته ، فقد كان هناك طائفة من المنافقين انتشروا في صفوف المسلمين ، وهم يضمرون الكفر في دخائل نفوسهم ويظهرون الاِسلام على ألسنتهم ، وكانوا يبغون للنبيّ ( صلى الله عليه وآله وسلم ) الغوائل ويكيدون له في غلس الليل وفي وضح النهار ، وكذلك حال وصيّه وباب مدينة علمه الاِمام أمير المؤمنين من بعده فقد ابتلي بمثل ما ابتلي به النبيّ ( صلى الله عليه وآله وسلم ) فقد آمن به قوم وحاربه قوم آخرون ، وحال الاِمام الحسين ( عليه السلام ) كحال جدّه وأبيه ، فقد آمنت به قلّة مؤمنة من أصحابه ، وزحفت لحربه الجموع الهائلة من الذين نزع الله الاِيمان من قلوبهم ، وعلى أيّ حال فقد تكلّم أكثر أصحاب الاِمام بمثل كلام نافع وهم يعلنون له الاِخلاص والتفاني ، وقد شكرهم الامام ، وأثنى عليهم ، ودعا لهم بالمغفرة والرضوان ، خروج الجيوش لحرب الاِمام الحسين : وتمّت أحلام ابن مرجانة ، وتحققت آماله حينما استولت طليعة جيوشه على ريحانة رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، وأخذ يطيل النظر فيمن ينتدبه لحربه ، ويرشّحه لقيادة قوّاته المسلّحة ، وتصفح الاَرجاس من أذنابه وعملائه ، فلم ير رجساً مثل عمر بن سعد يقدم على اقتراف هذه الجريمة فقد درس نفسيته ، ووقف على ميوله واتجاهاته التي منها الخنوع والمروق من الدين ، وعدم المبالاة بارتكاب الآثام والجرائم ، والتهالك على المادة وغير ذلك من نزعاته الشريرة .

---------------------------
(1) مقتل المقرم : 231 .

العباس بن علي _ 101 _

  وعرض ابن مرجانة سليل الاَدعياء على ابن سعد القيام بحرب سبط رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) فأمتنع عن إجابته فهدده بعزله عن ولاية الريّ فلم يطق صبراً عنها ، فقد سال لها لعابه فأجابه إلى ذلك ، وزحف إلى كربلاء ، ومعه أربعة آلاف فارس ، وهو يعلم أنّه خرج لقتال ذريّة رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) الذين هم خيرة من في الاَرض ، وأنتهى الجيش إلى كربلاء فانظم إلى الجيش الرابض هناك بقيادة الحرّ بن يزيد الرياحي .

خطبة ابن زياد :
  وأمر الطاغية بجمع الناس في رحاب المسجد الاَعظم فهرعوا كالاَغنام خوفاً من ابن مرجانة ، وقد امتلاَ الجامع منهم فقام خطيباً فقال : ( أيّها الناس : إنّكم قد بلوتم آل أبي سفيان فوجدتموهم كما تحبّون ، وهذا أمير المؤمنين يزيد ، قد عرفتموه حسن السيرة ، محمود الطريقة ، محسناً إلى الرعية ، يعطي العطاء في حقّه ، وقد أمنت السبل على عهده ، وكذلك كان أبوه معاوية في عصره ، وهذا ابنه يزيد يكرم العباد ، ويغنيهم بالاَموال ، وقد زادكم في أرزاقكم مائة مائة ، وأمرني أن أقّرؤها عليكم ، واخرجكم إلى حرب عدوّه الحسين فاسمعوا له وأطيعوا . . ) (1) ، لقد خاطبهم باللغة التي يفهمونها ، ويتهالكون عليها ، ويقدمون أرواحهم بسخاء في سبيلها ، وهي المادة التي هاموا بحبها ، وقد أجابوه إلى ما أراد فزجّهم لاقتراف أفظع جريمة في تأريخ البشرية ، وأسند القيادة في بعض قطعات جيشه إلى كل من الحصين بن نمير ، وحجار بن أبجر ، وشمر بن ذي الجوشن ، وشبث بن ربعي ، وغيرهم ، وقد زحفوا بمن معهم إلى كربلاء لمساعدة ابن سعد .

---------------------------
(1) الطبري 6: 230 .

العباس بن علي _ 102 _

احتلال الفرات :
  وقامت العصابة المجرمة التي تحمل شرور أهل الاَرض وخبثهم باحتلال الفرات ، ولم تبق شريعة أو منفذ إلاّ وقد وضع عليها الحرس ، وقد صدرت إليهم الاَوامر المشدّدة من قبل القيادة العامة بالحذر واليقظة كي لا تصل قطرة من الماء إلى عترة رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) الذين هم من خيرة ما خلق الله ، ويقول المؤرّخون : حيل بين الحسين والماء قبل قتله بثلاثة أيّام (1) وكان ذلك من أعظم ما عاناه الاِمام من المحن والخطوب ، فكان يسمع صراخ أطفاله ، وهم ينادون : العطش ، العطش ، وذاب قلب الاِمام حناناً ورحمة لذلك المشهد الرهيب ، فقد ذبلت شفاه أطفاله ، وذوي عودهم ، وجفّ لبن المراضع ، وصوّر أنور الجندي هذا المنظر المفجع بقوله :
وأهــل الـنبيّ مـن غـير iiمـاء      وذئــاب الـشرور تـنعم iiبـالماء
والـلـيث  مـوثـق iiالاَعـضـاء      يـالظلم الاَقـدار يـظمأ قلب iiالليث
يــا  ربّ أيـن غـوث iiالـقضاء      وصغار الحسين يبكون في الصحراء

---------------------------
(1) مرآة الزمان في تواريخ الاَعيان : 89 .

العباس بن علي _ 103 _

  لقد نزع الله الرحمة من قلوبهم ، فتنكّروا لاِنسانيتهم ، وتنكّروا لجميع القيم والاَعراف ، فإن جميع الشرائع والمذاهب لا تبيح منع الماء عن النساء والاَطفال فالناس فيه جميعاً شركاء ، وقد أكّدت ذلك الشريعة الاِسلامية ، واعتبرته حقاً طبيعياً لكل إنسان ، ولكن الجيش الاَموي لم يحفل بذلك ، فحرم الماء على آل النبيّ ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وكان بعض الممسوخين يتباهى ويفخر لحرمانهم الحسين من الماء ، فقد أنبرى الوغد اللئيم المهاجر بن أوس صوب الامام رافعاً صوته قائلاً : ( يا حسين ألا ترى الماء يلوح كأنّه بطون الحيات ، والله لا تذوقه أو تموت دونه . .) (1) ، واشتدّ عمرو بن الحجاج نحو الحسين ، وهو فرح كأنّما ظفر بمكسب أو مغنم قائلاً : ( يا حسين هذا الفرات تلغ فيه الكلاب ، وتشرب فيه الحمير والخنازير ، والله لا تذوق منه جرعة حتى تذوق الحميم في نار جهنّم . . ) (2) ، وكان هذا الوغد الاَثيم ممن كاتب الاِمام الحسين ( عليه السلام ) بالقدوم إلى الكوفة ، وانبرى جلف آخر من أوغاد أهل الكوفة وهو عبد الله بن الحصين الاَزدي فنادى بأعلى صوته لتسمعه مخابرات ابن مرجانة فينال منه جوائزه وهباته ، قائلاً : ( يا حسين ألا تنظر إلى الماء كأنّه كبد السماء ، والله لا تذوق منه قطرة حتى تموت عطشاً . . ) ، فرفع الاِمام يديه بالدعاء عليه قائلاً :

---------------------------
(1) أنساب الاَشراف 3: 181. (2) أنساب الاَشراف 3: 182 ، تأريخ ابن الاَثير 4: 236 .

العباس بن علي _ 104 _

  ( اللهمّ اقتله عطشاً ، ولا تغفر له أبداً . . ) (1) .
  لقد تمادى هؤلاء الممسوخون بالشرّ ، وسقطوا في هوّة سحيقة من الجرائم والآثام ما لها من قرار ، سقاية العباس لاَهل البيت والتاع أبو الفضل العبّاس كأشدّ ما تكون اللوعة ألماً ومحنة حينما رأى أطفال أخيه وأهل بيته وهم يستغيثون من الظمأ القاتل ، فانبرى الشهم النبيل لتحصيل الماء ، وأخذه بالقوة ، وقد صحب معه ثلاثين فارساً ، وعشرين راجلاً ، وحملوا معهم عشرين قربة ، وهجموا بأجمعهم على نهر الفرات وقد تقدّمهم نافع بن هلال المرادي وهو من أفذاذ أصحاب الامام الحسين فاستقبله عمرو بن الحجاج الزبيدي وهو من مجرمي حرب كربلاء وقد اعهد إليه حراسة الفرات فقال لنافع : ( ما جاء بك ؟. . ) ، ( جئنا لنشرب الماء الذي حلاَتمونا عنه . . ) ( اشرب هنيئاً . . ) ، ( أفأشرب والحسين عطشان ، ومن ترى من أصحابه ؟. ) ، ( لا سبيل إلى سقي هؤلاء ، انّما وضعنا بهذا المكان لمنعهم عن الماء . . ) .

---------------------------
(1) الصراط السوي في مناقب آل النبي : 86 .

العباس بن علي _ 105 _

  ولم يعن به الاَبطال من أصحاب الاِمام ، وسخروا من كلامه ، فاقتحموا الفرات ليملاَوا قربهم منه ، فثار في وجوههم عمرو بن الحجاج ومعه مفرزة من جنوده ، وألتحم معهم بطل كربلاء أبو الفضل ، ونافع بن هلال ، ودارت بينهم معركة إلاّ انّه لم يقتل فيها أحد من الجانبين ، وعاد أصحاب الامام بقيادة أبي الفضل ، وقد ملأوا قربهم من الماء .
  لقد أروى أبو الفضل عطاشى أهل البيت ، وانقذهم من الظمأ ، وقد منح منذ ذلك اليوم لقب ( السقاء ) وهو من أشهر ألقابه ، وأكثرها ذيوعاً بين الناس كما أنّه من أحبّ الاَلقاب وأعزّها عنده (1) ، أمان الشمر للعباس وأخوته : وبادر الخبيث الدنس شمر بن ذي الجوشن إلى سيّده ابن مرجانة فأخذ منه أماناً لاَبي الفضل وأخوته الممجّدين ، وقد ظنّ أنّه سيخدعهم ، ويفردهم عن أخيهم أبي الاَحرار ، وبذلك يضعف جيش الاِمام ، لاَنّه يخسر هؤلاء الاَبطال الذين هم من أشجع فرسان العرب ، وجاء الخبيث يشتدّ كالكلب ، وقد وقف أمام جيش الحسين ، وهتف منادياً : ( أين بنو أختنا العباس واخوته ؟ . . ) ، وهبّت الفتية كالاَسود ، فقالوا له : ( ما تريد يابن ذي الجوشن ؟ . . ) ، فانبرى مستبشراً يبدي لهم الحنان المزيّف قائلاً : ( لكم الاَمان . .) .

---------------------------
(1) أنساب الاَشراف 3: 181.

العباس بن علي _ 106 _

  وصاحوا به ، وهم يتميّزون من الغيظ ، فقد لذعهم قوله : ( لعنك الله ، ولعن أمانك ، أتؤمننا ، وابن بنت رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، لا أمان له . . . ) (1) .
  وولّى الخبيث خائباً فقد ظنّ أن السادة الاَماجد اخوة الاِمام من طراز أصحابه الممسوخين الذين باعوا ضمائرهم على ابن مرجانة ووهبوا حياتهم للشيطان ، ولم يعلم أن أخوة الحسين ( عليه السلام ) من أفذاذ الدنيا ، الذين صاغوا الكرامة الاِنسانية ، وصنعوا الفخر والمجد للاِنسان .

زحف الجيوش لحرب الحسين
  وزحفت طلائع الشرك والكفر لحرب ريحانة رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) في عصر الخميس لتسع خلون من شهر محرم ، بعد أن صدرت إليهم الاَوامر المشدّدة من ابن مرجانة بتعجيل القتال وحسم الموقف خوفاً من تبلور رأي الجيش وحدوث انقسام في صفوفه ، وكان الاِمام محتبياً بسيفه أمام بيته اذ خفق برأسه ، فسمعت شقيقته عقيلة بني هاشم السيدة زينب أصوات الرجال ، وتدافعهم نحو أخيها ، فأنبرت إليه فزعة مرعوبه ، فأيقظته ، فرفع الاِمام رأسه فرأى أخته مذهولة ، فقال لها بعزم وثبات : ( إنّي رأيت رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) في المنام ، فقال : إنك تروح إلينا . . ) ، وذابت نفس العقيلة أسى وحسرات ، وانهارت قواها ، ولم تملك نفسها أن لطمت وجهها ، وراحت تقول :

---------------------------
(1) أنساب الاَشراف 3: 184 .

العباس بن علي _ 107 _

  ( يا ويلتاه . . . ) (1) ، والتفت أبو الفضل إلى أخيه فقال له : ( أتاك القوم . . ) ، وطلب الاِمام منه أن يتعرّف على خبرهم قائلاً : ( اركب بنفسي أنت يا أخي ، حتى تلقاهم ، فتقول لهم : ما بدا لكم ، وما تريدون ؟ . . ) ، لقد فدى الاِمام ( عليه السلام ) اخاه بنفسه ، وهو مما يدلّ على سموّ مكانته ، وعظيم منزلته ، وانه قد بلغ قمّة الاِيمان ، وأعلى مراتب المتقين . . . وأسرع أبو الفضل نحو الجيش ، ومعه عشرون فارساً من أصحابه ، ومن بينهم زهير بن القين ، وحبيب بن مظاهر ، وسألهم أبو الفضل عن سبب زحفهم ، فقالوا له : ( جاء أمر الاَمير أن نعرض عليكم النزول على حكمه ، أو نناجزكم . . . ) (2) ، وقفل العباس إلى أخيه ، فأخبره بمقالتهم ، وراح حبيب بن مظاهر يعظهم ويحذّرهم من عقاب الله قائلاً : ( أما والله بئس القوم يقدمون غداً على الله ( عزّ وجلّ ) ، وعلى رسوله محمد ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وقد قتلوا ذريته ، وأهل بيته ، المتهجّدين بالاَسحار ، الذاكرين الله كثيراً بالليل والنهار ، وشيعته الاَتقياء الاَبرار . . ) (3) ، وردّ عليه بوقاحة عزرة بن قيس فقال له :

---------------------------
(1) ابن الاَثير 3: 284 .
(2) البداية والنهاية 8 : 177 .
(3) حياة الاِمام الحسين 3 : 172 .

العباس بن علي _ 108 _

  ( يا بن مظاهر إنّك لتزكّي نفسك . . ) ، وأنبرى إليه البطل الفذّ زهير بن القين فقال له : ( أتق الله يا بن قيس ، ولا تكن من الذين يعينون على الضلال ويقتلون النفس الزكية الطاهرة ، عترة خيرة الاَنبياء . . ) ، فأجابه عزرة : ( كنت عندنا عثمانياً فما بالك ، . . ) ، فردّ عليه زهير بمنطق الشرف والاِيمان : ( والله ما كتبت إلى الحسين ، ولا أرسلت إليه رسولاً ، ولكن الطريق جمعني وإياه ، فلما رأيته ذكرت به رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وعرفت ما تقدمون من غدركم ، ونكثكم ، وسبيلكم إلى الدنيا ، فرأيت أن أنصره ، وأكون في حزبه حفظاً لما ضيّعتم من حقّ رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) . . ) (1) ، لقد كان كلام زهير حافلاً بالصدق بجميع رحابه ، فقد بيّن أنّه لم يكتب إلى الاِمام بالقدوم إلى الكوفة لاَنّه كان عثماني الهوى ، ولكنه حينما التقى بالاِمام في الطريق ووقف على واقع الحال من غدر أهل الكوفة به ، ونكثهم لبيعته انقلب رأساً على عقب ، وصار من أنصار الاِمام ، ومن أكثرهم مودّة وحباً له ، لاَنّ الاِمام من ألصق الناس برسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، وعلى أيّ حال فقد عرض أبو الفضل مقالة القوم على أخيه ، فقال له : ( ارجع إليهم فان استطعت أن تؤخّرهم إلى غدوة لعلّنا نصلّي لربّنا هذه الليلة ، وندعوه ، ونستغفره فهو يعلم أنّي أحبّ الصلاة ، وتلاوة كتابه ، وكثرة الدعاء والاستغفار . . . ) .

---------------------------
(1) أنساب الاَشراف 3 : 184 .

العباس بن علي _ 109 _

  لقد أراد ريحانة رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) أن يودّع الحياة الدّنيا بأثمن ما فيها وهي الصلاة والدعاء والاستغفار وتلاوة القرآن الكريم ، وان يواجه الله تعالى وقد تزوّد منها .
  ورجع أبو الفضل ( عليه السلام ) إلى معسكر ابن مرجانة فأخبرهم بمقالةِ أخيه فعرض ابن سعد ذلك على الخبيث الدنس شمر بن ذي الجوشن خوفاً من وشايته إذا استجاب لطلب الاِمام ، فقد كان شمر المنافس الوحيد لأبن سعد على إمارة الجيش كما كان عيناً عليه ، كما أراد أن يكون شريكاً له في المسؤولية فيما إذا عاتبه ابن زياد على تأخير الحرب ، ولم يبد الشمر أي رأي له في الموضوع ، وإنما أحاله لابن سعد ليكون هو المسؤول عنه ، وأنبرى عمرو بن الحجاج الزبيدي فأنكر عليهم هذا التردد والاِحجام عن إجابة الاِمام قائلاً : ( سبحان الله !! والله لو كان من الديلم ثم سألكم هذه المسألة لكان ينبغي أن تجيبوه . . ) (1) ، ولم يزد ابن الحجّاج على ذلك ، فلم يقل لهم : انّه ابن رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وانّهم هم الذين غرّوه وكاتبوه بالقدوم إلى مصرهم ، لم يقل ذلك خوفاً من أن تنقل الاستخبارات العسكرية إلى ابن زياد ذلك فينال العقاب والحرمان ، وأيّد ابن الاَشعث مقالته ، فأستجاب ابن سعد إلى تأجيل الحرب ، وأوعز إلى رجل من أصحابه أن يعلن ذلك ، فدنا من معسكر الاِمام ورفع صوته قائلاً :

---------------------------
(1) تأريخ ابن الاَثير 3 : 285 .

العباس بن علي _ 110 _

  ( يا أصحاب الحسين بن علي قد أجّلناكم يومكم هذا إلى غد فان استسلمتم ونزلتم على حكم الاَمير وجهنا بكم إليه وان أبيتم ناجزناكم . . . ) (1) ، وأُرجئ القتال إلى صبيحة اليوم العاشر من المحرّم ، وظلّ جيش ابن سعد ينتظرون الغد هل يجيبهم الاِمام أو يرفض ما دعوه إليه ، الاِمام يأذن لاَصحابه بمفارقته : وجمع ريحانة رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) أهل بيته وأصحابه في ليلة العاشر من المحرم ، وعرض عليهم ما يلاقيه من الشهادة ، وطلب منهم أن ينطلقوا في رحاب الاَرض ويتركوه وحده ليقلى مصيره المحتوم ، وقد أراد بذلك أن يكونوا على بيّنة من أمرهم فقال لهم : ( أثني على الله أحسن الثناء ، وأحمده على السرّاء والضرّاء . . . اللهمّ إني أحمدك على أن أكرمتنا بالنبوة ، وعلّمتنا القرآن ، وفهّمتنا في الدين وجعلت لنا أسماعاً وأبصاراً وأفئدة ، ولم تجعلنا من المشركين .
   أمّا بعد: فإنّي لا أعلم أصحاباً أوفى ولا خيراً من أصحابي ، ولا أهل بيت خيراً من أهل بيتي ، فجزاكم الله جميعاً عنّي خيراً ، ألا وانّي لاَظنّ يومنا من هؤلاء الاَعداء غداً ، واني قد أذنت لكم جميعاً فانطلقوا في حلّ ليس عليكم منّي ذمام ، وهذا الليل قد غشيكم فاتخذوه جملاً ، وليأخذ كل رجل منكم بيد رجل من أهل بيتي ، فجزاكم الله جميعاً خيراً ، ثم تفرّقوا في سوادكم ومدائنكم حتى يفرج الله .

---------------------------
(1) حياة الاِمام الحسين 3: 165 .

العباس بن علي _ 111 _

  القوم انّما يطلبونني ولو أصابوني لُهوا عن طلب غيري . . . ) (1) ، وتمثّلت روعة الاِيمان ، وسرّ الاِمامة بهذا الخطاب العظيم الذي كشف جانباً كبيراً عن نفسية أبي الاَحرار ، فقد تجنّب في هذا الموقف الدقيق الحاسم جميع ألوان المنعطفات ، ووضع أصحابه وأهل بيته أمام الاَمر الواقع فقد حدد لهم النتيجة التي لا مفرّ منها وهي القتل والتضحية ، وليس هناك أي شيء آخر من متع الدنيا ، وقد طلب منهم أن يخلوا عنه وينصرفوا تحت جنح الظلام ، فيتخذونه ستراً دون كل عين ، فلعلّهم يخجلون أن يبتعدوا عنه في وضع النهار ، فقد جعلهم في حلّ من التزاماتهم تجاهه ، وقد عرّفهم أنّه بالذات هو الهدف لتلك الوحوش الكاسرة المتعطشة إلى سفك دمه ، فإذا ظفروا به فلا إرب لهم في طلب غيره .

جواب أهل البيت :
  ولم يكد يفرغ الاِمام من خطابه حتى هبّت الصفوة من أهل البيت ( عليهم السلام ) ، وعيونهم تفيض دموعاً ، وهم يعلنون ولاءهم له ، وتضحيتهم في سبيله ، وقد مثلهم أبو الفضل العباس ( عليه السلام ) فخاطب الاِمام قائلاً : ( لم نفعل ذلك ؟ !! لنبقى بعدك ، لا أرانا الله ذلك أبداً . . ) ، والتفت الاِمام إلى السادة من ابناء عمّه من بني عقيل ، فقال لهم : ( حسبكم من القتل بمسلم ، اذهبوا فقد اذنت لكم . . . ) ، وهبّت فيتة آل عقيل كالاَسود تتعالى أصواتهم ، قائلين : ( إذن ما يقول الناس : ، وما نقول : ، إنا تركنا شيخنا وسيّدنا ، وبني عمومتنا خير الاَعمام ، ولم نرم معهم بسهم ، ولم نطعن برمح .

---------------------------
(1) ابن الاَثير 3: 285 .

العباس بن علي _ 112 _

  ولم نضرب بسيف ولا ندري ما صنعوا ، لا والله لا نفعل ، ولكن نفديك بأنفسنا واموالنا وأهلينا نقاتل معك ، حتى نرد موردك ، فقبّح الله العيش بعدك . . . ) (1) ، لقد صمّموا على حماية الاِمام العظيم ، والدفاع عن أهدافه ومبادئه ، واختاروا الموت تحت ظلال الاَسنّة على الحياة التي لا هدف فيها ، جواب أصحابه : أمّا أصحاب الاِمام ( عليه السلام ) فهم أحرار هذه الدنيا ، وقد اندفعوا يعلنون للاِمام ( عليه السلام ) الفداء والتضحية دفعاً عن المبادىَ المقدّسة التي ناضل من أجلها الاِمام ، وقد انبرى مسلم بن عوسجة فخاطب الاِمام قائلاً : ( أنحن نخلّي عنك ، وبماذا نعتذر إلى الله في اداء حقّك ، أما والله لا أفارقك حتى أطعن في صدورهم برمحي ، وأضرب بسيفي ما ثبت قائمه بيدي ، ولو لم يكن معي سلاح أقاتلهم لقذفتهم بالحجارة حتى أموت معك . . ) ، لقد عبّرت هذه الكلمات عن عميق إيمانه بريحانة رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وانّه سيذبّ عنه حتى النفس الاَخير من حياته ، وانبرى بطل آخر من أصحاب الاِمام وهو سعيد بن عبدالله الحنفي فخاطب الاِمام قائلاً : ( والله لا نخلّيك حتى يعلم الله أنا قد حفظنا غيبة رسوله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) فيك ، أما والله لو علمت أنّي أقتل ، ثم أحيا ، ثم أحرق ، ثم أذرى يفعل بي ذلك سبعين مرّة لما فارقتك حتى ألقى حمامي دونك ، وكيف لا أفعل ذلك ، وانّما هي قتلة واحدة ، ثم هي الكرامة التي لا انقضاء لها أبدا . . . ) .
---------------------------
(1) تأريخ الطبري 6 : 238 .

العباس بن علي _ 113 _

  وليس في قاموس الوفاء أصدق ، ولا أنبل من هذا الوفاء ، فهو يتمنّى من صميم قلبه أن تجري عليه عملية القتل سبعين مرّة ليفدي الاِمام ( عليه السلام ) ، ليحفظ بذلك غيبة رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وكيف لا يستطيب الموت في سبيله وانّما هو مرّة واحدة ، ثم هي الكرامة الاَبدية التي لا انقضاء لها ، وانبرى زهير بن القين فأعلن نفس الاتجاه الذي أعلنه المجاهدون من إخوانه قائلاً : ( والله لوددت أنّي قُتلت ، ثم نشرت ، ثم قتلت حتى أقتل ألف مرّة ، وان الله ( عزّ وجلّ ) يدفع بذلك القتل عن نفسك ، وعن أنفس هؤلاء الفتيان من أهل بيتك . . ) (1) ، أرأيتم وفاء هؤلاء الاَبطال ، فهل تجدون لهم مثيلاً في تأريخ هذه الدنيا ، لقد ارتفعوا إلى مستوى من النبل والشهامة لم يبلغه أي إنسان وقد أعطوا بذلك الدروس المشرقة في الدفاع عن الحق ، وأعلن بقيّة أصحاب الاِمام ( عليه السلام ) الترحيب بالشهادة في سبيل إمامهم ، فجزاهم خيراً ، وأكّد لهم جميعاً أنّهم سينعمون في الفردوس الاَعلى ، ويحشرون مع النبيين والصدّيقين ، وهتفوا جميعاً : ( الحمد لله الذي أكرمنا بنصرك ، وشرّفنا بالقتل معك ، أو لا ترضى أن نكون معك في درجتك يا بن رسول الله . . )(2) ، لقد أُترعت نفوس هؤلاء الاَبطال بالاِيمان العميق ، فتحرّروا من جميع ملاذ الحياة ولهوها ، واتجهوا صوب الله ، فرفعوا راية الإسلام عالية خفّاقة في رحاب هذا الكون .

---------------------------
(1 و 2) حياة الاِمام الحسين 3: 168 ـ 169 .

العباس بن علي _ 114 _

إحياء الليل بالعبادة :
  وأقبل الإمام ( عليه السلام ) مع الصفوة الطيبة المؤمنة من أهل بيته وأصحابه نحو الله يناجونه بقلوبهم وعواطفهم ، وهم يسألونه العفو والغفران ولم يذق أحد منهم طعم الرقاد ، فقد كانوا ما بين راكع وساجد وقارىء للقرآن ، وكان لهم دويّ كدويّ النحل ، وكانوا ينتظرون انبثاق نور الصبح بفارغ الصبر لينالوا الشهادة بين يديّ ريحانة رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، وأما معسكر ابن زياد فقد باتوا وهم في شوق لطلوع الصبح ليريقوا دماء أهل البيت ( عليهم السلام ) ليقترّبوا بها إلى سيّدهم ابن مرجانة .
يوم عاشوراء
  وليس مثل يوم العاشر من المحرّم في مآسيه وكآبته وكوارثه ، فلم تبق محنة من محن الدنيا ، ولا فاجعة من فواجع الدهر إلاّ جرت على ريحانة رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) فلا يوم مثل ذلك اليوم الخالد في دنيا الاَحزان .

دعاء الامام :
  وخرج أبو الاَحرار من خبائه فرأى البيداء قد ملئت خيلاً ورجالاً وقد شهر أولئك البغاة اللئام سيوفهم لاِراقة دمه ، ودماء الصفوة البررة من أهل بيته وأصحابه لينالوا الاَجر الزهيد من الاِرهابي المجرم ابن مرجانة ، ودعا الاِمام بمصحف فنشره على رأسه ، ورفع يديه بالدعاء إلى الله قائلاً :

العباس بن علي _ 115 _

  ( اللهمّ أنت ثقتي في كل كرب ، ورجائي في كل شدة ، وأنت لي في كل أمر نزل بي ثقة وعدة ، كم من همّ يضعف فيه الفؤاد ، وتقلّ فيه الحيلة ، ويخذل فيه الصديق ، ويشمت فيه العدوّ أنزلته بك ، وشكوته إليك رغبة منّي إليك عمّن سواك ، ففرّجته وكشفته ، وكفيته ، فأنت وليّ كل نعمة ، وصاحب كل حسنة ، ومنتهى كل رغبة . . ) (1) ، لقد أناب الاِمام إلى الله ، وأخلص له ، فهو وليّه ، والملجأ الذي يلجأ إليه في كل نائبة نزلت به .

خطبة الاِمام :
  ورأى الاِمام ( عليه السلام ) أن يقيم الحجّة البالغة على أُولئك الوحوش قبل أن يقدموا على اقتراف الجريمة ، فدعا براحلته فركبها ، واتجه نحوهم ، فخطب فيهم خطابه التأريخي الحافل بالمواعظ والحجج ، فقد نادى بصوت عال يسمعه جلّهم : ( أيّها الناس اسمعوا قولي ، ولا تعجلوا حتى أعظكم بما هو حقّ لكم عليّ ، وحتى أعتذر إليكم من مقدمي عليكم ، فإن قبلتم عذري ، وصدقتم قولي وأعطيتموني النصف ، كنتم بذلك أسعد ، ولم يكن لكم عليَّ سبيل ، وان لم تقبلوا منّي العذر ، ولم تعطوا النصف من أنفسكم ، فاجمعوا أمركم وشركاءكم ثم لا يكن أمركم عليكم غمّة ، ثم امضوا إليَّ ولا تُنظرون ، إن ولّيي الله الذي نزّل الكتاب وهو يتولّى الصالحين . . ) .

---------------------------
(1) تأريخ ابن عساكر 13 : 14 .

العباس بن علي _ 116 _

  وحمل الاَثير هذه الكلمات إلى السيدات من عقائل النبوة ، ومخدرات الرسالة فتصارخن بالبكاء ، فبعث إليهنّ أخاه العباس ، وابنه عليّاً ، وقال لهما : سكّتاهنّ ، فلعمري ليكثر بكاؤهنّ ، ولما سكتن استرسل في خطابه فحمد الله وأثنى عليه ، وصلّى على جدّه الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وعلى الملائكة والاَنبياء ، وقال في ذلك : ما لا يحصى ذكره ، ولم يسمع لا قبله ، ولا بعده أبلغ منه في منطقه (1) ، وكان مما قاله : ( أيّها الناس ان الله تعالى خلق الدنيا فجعلها دار فناء وزوال ، متصرّفة بأهلها حالاً بعد حال ، فالمغرور من غرّته ، والشقيّ من فتنته ، فلا تغرنّكم هذه الدنيا ، فأنها تقطع رجاء من ركن إليها ، وتخيب طمع من طمع فيها ، وأراكم قد اجتمعتم على أمر قد أسخطتم الله فيه عليكم ، وأعرض بوجهه الكريم عنكم ، وأحلّ بكم نقمته ، فنعم الرب ربّنا ، وبئس العبيد أنتم ، أقررتم بالطاعة وآمنتم بالرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ثم أنكم زحفتم إلى ذريته وعترته تريدون قتلهم ، لقد استحوذ عليكم الشيطان فأنساكم ذكر الله العظيم ، فتبّاً لكم ولما تريدون ، إنّا لله وإنّا إليه راجعون هؤلاء قوم كفروا بعد إيمانهم فبُعداً للقوم الظالمين ) ، لقد وعظ الاِمام ( عليه السلام ) أعداءه بهذه الكلمات التي تمثّل هدي الاَنبياء ومحنتهم في أممهم ، لقد حذّرهم من فتنة الدنيا وغرورها ، وأهاب بهم من التورّط في قتل عترة نبيّهم وذريّته ، وانّهم بذلك يستوجبون العذاب الاَليم ، والسخط الدائم ، ثم استرسل الاِمام الممتحن في خطابه فقال : ( أيّها الناس : انسبوني من أنا ، ثم ارجعوا إلى أنفسكم ، وعاتبوها ، وانظروا هل يحلّ لكم قتلي ، وانتهاك حرمتي ، ألست ابن بنت نبيّكم ، وابن وصيّه ، وابن عمّه ، وأول المؤمنين بالله ، والمصدق لرسوله ، بما جاء من عند ربّه ، أو ليس حمزة سيّد الشهداء عمّ أبي ، أو ليس جعفر الطيّار عمّي ، أو لم يبلغكم قول رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) لي ولاَخي ( هذان سيّدا شباب أهل الجنّة ) فإن صدّقتموني بما أقول :

---------------------------
(1) تأريخ الطبري 6: 242 .

العباس بن علي _ 117 _

  وهو الحقّ ، والله ما تعمّدت الكذب منذ علمت أن الله يمقت عليه أهله ، ويضرّ به من اختلقه ، وإن كذّبتموني فان فيكم من إذا سألتموه أخبركم ، سلوا جابر بن عبد الله الاَنصاري ، وابا سعيد الخدري ، وسهل ابن سعد الساعدي ، وزيد بن أرقم ، وأنس بن مالك يخبروكم انّهم سمعوا هذه المقالة من رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) لي ولاَخي أما في هذا حاجز لكم عن سفك دمي ، . . ) ، وكان خليقاً بهذا الخطاب المشرق أن يرجع لهم حوازب عقولهم ، ويردّهم عن طغيانهم ، فقد وضع الاِمام النقاط على الحروف ، ودعاهم إلى التأمل ولو قليلاً ليمعنوا في شأنه أليس هو حفيد نبيّهم وابن وصيه ، وهو سيّد شباب أهل الجنة كما أعلن ذلك جدّه الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وفي ذلك حصانة له من سفك دمه وانتهاك حرمته ، ولكن الجيش الاَموي لم يع هذا المنطق ، فقد خلد إلى الجريمة ، واسودّت ضمائرهم ، وحيل بينهم وبين ذكر الله ، وتصدّى لجواب الاِمام شمر بن ذي الجوشن وهو من الممسوخين فقال له : ( هو يعبد الله على حرف إن كان يدري ما تقول . . ) ، وحقاً انه لم يع ما يقول الاِمام فقد ران على قلبه الباطل ، وغرق في الاثم وقد أجابه حبيب بن مظاهر وهو من أعلام الهدى والصلاح فقال له : ( والله انّي لاَراك تعبد الله على سبعين حرفاً ، وأنا أشهد أنّك صادق ما تدري ما يقول ، قد طبع الله على قلبك . . ) ، والتفت الاِمام إلى قطعات الجيش فخاطبهم : ( فإن كنتم في شكّ من هذا القول ، أفتشكّون أنّي ابن بنت نبيكم فوالله ما بين المشرق والمغرب ابن بنت نبيّ غيري فيكم ، ولا في غيركم ، ويحكم أتطلبونني بقتيل منكم قتلته ، أو مال لكم استهلكته ، أو بقصاص جراحة . . ) ، وغدوا حيارى لا يملكون جواباً لردّه ، ثم التفت الاِمام إلى قادة الجيش الذين دعوه بالقدوم إلى مصرهم فقال لهم : ( يا شبث بن ربعي ، ويا حجار بن أبجر ، ويا قيس بن الاَشعث ، ويا زيد بن الحرث ، ألم تكتبوا إليَّ ان قد أينعت الثمار ، وأخضر الجناب ، وإنّما تقدم على جند لك مجنّدة . . . ) ، وأنكر أُولئك الخونة كتبهم ، وما عاهدوا عليه الله من نصرهم للاِمام ، فقالوا له ( لم نفعل ذلك . . ) ، وبهر الاِمام من ذلك وراح يقول : ( سبحان الله !! بلى والله لقد فعلتم . . ) .

العباس بن علي _ 118 _

  وأعرض الاِمام عنهم ، ووجّه خطابه إلى جميع قطعات الجيش قائلاً : ( أيّها الناس : إذا كرهتموني فدعوني أنصرف عنكم إلى مأمني من الاَرض . . ) ، وتصدّى لجوابه قيس بن الاَشعث وهو من رؤوس المنافقين ، وقد خلع كل شرف وحياء فقال له : ( أو لا تنزل على حكم بني عمّك ، فإنّهم لن يروك إلاّ ما تحبّ ، ولن يصل إليك منهم مكروه . . ) ، فردّ عليه الاِمام قائلا ً : ( أنت أخو أخيك ، أتريد أن يطلبك بنو هاشم بأكثر من دم مسلم بن عقيل ، لا والله لا أعطيهم بيدي إعطاء الذليل ، ولا أفرّ فرار العبيد ، عباد الله إنّي عذت بربي وربّكم أن ترجمون ، أعوذ بربّي وربّكم من كل متكبّر لا يؤمن بيوم الحساب . . ) (1) ، ومثلت هذه الكلمات عزّة الاَحرار وشرف الاَباة ، ولم تنفذ إلى قلوب أُولئك الجفاة الذين غرقوا في الجهل والآثام ، وتكلّم أصحاب الاِمام مع معسكر ابن زياد ، وأقاموا عليهم الحجّة ، وذكّروهم بجور الامويين ، وما أنزلوه بهم من الجور والاستبداد ، ولم تُجدِ معهم النصائح شيئاً ، وراحوا يفخرون بنصرتهم لابن مرجانة ، وقتالهم لريحانة رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) .

خطاب آخر للامام الحسين :
  وانبرى سبط رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) مرّة أخرى إلى إسداء النصحية إلى الجيش الاَموي مخافة أن يدّعي أحد منهم أنّه غير عارف بالاَمر ، فانطلق ( عليه السلام ) نحوهم ، وقد نشر كتاب الله العظيم على رأسه ، واعتمّ بعمامة جدّه رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وتقلّد لامة حربه ، وكان على هيبة تحكي هيبة الاَنبياء والاَوصياء فقد علت أسارير النور على وجهه الكريم فقال : ( تَبّاً لَكُمُ أَيَّتُهَا الْجَماعَةُ وَتَرْحاً حينَ إِسْتَصْرَخْتُمُونا والِهينَ فَأَصْرَخْناكُمْ مُوجِفينَ (2) ، سَلَلْتُمْ عَلَيْنا سَيْفاً لَنا في ايمانِكُمْ ، وَحَشَشْتُمْ (3) .

---------------------------
(1) تأريخ الطبري 6 : 43 .
(2) موجفين : أي مسرعين إليكم .
(3) حششتم : أي أوقدتم النار .

العباس بن علي _ 119 _

  عَلَيْنا ناراً إِقْتَدَحْناها عَلى عَدُوِّنا وَعَدُوِّكُمْ ، فَأَصْبَحْتُمْ أُلَبّاً(1) لاََِعْدائِكُمْ عَلى أَوْلِيائِكُمْ بِغَيْرِ عَدْلٍ أَفْشَوْهُ فيكُمُ وَلا أَمَلٍ أَصْبَحَ لَكُمْ فيهِمْ ، مَهْلاً ـ لكُمُ الْوَيْلاتُ ـ تَرَكْتُمُونا وَالسَّيْفُ مِشيَمٌ (2) وَالْجَأْشُ طامِنُ وَالرَّأْي لَمّا يَسْتَحْصِفُ ، وَلكِنْ أَسْرَعْتُم إِلَيْها كَطَيْرَةِ الدَبا (3) ، وَتَداعَيْتُمْ إِلَيْها كَتَهافَتِ الْفَراشِ (4) ، فَسُحْقاً لَكُمْ يا عَبيدَ الاَُْمَّةِ ، وَشِذاذَ الاََْحْزابِ ، وَنَبَذَةَ الْكِتابِ ، ومُحَرِّفي الْكَلِمَ ، وَعَصَبَةَ الاَْثامِ ، وَنَفَثَةَ الشَّيْطانِ ، وَمُطْفِىََ السُّنَنِ ، أَهوَُلاءِ تَعْضُدُونَ ، وَعَنّا تَتَخاذَلُونَ ؟ ! أَجَلْ وَاللهِ غَدْرٌ فيكُمُ قَديمٌ وَشَجَتْ إِلَيْهِ أُصُولُكُمْ (5) وَتَأَزَّرَتْ عَلَيْهِ فُرُوعُكُمْ (6) ، فَكُنْتُمْ أَخْبَثَ شَجَرٍ شَجاً لِلنّاظِرِ وَأُكْلَةٌ لِلْغاصِبِ ، أَلا وَإِنَّ الدَّعِيَّ ابْنَ الَّدعِي قَدْ رَكَزَ بَيْنَ اثْنَتَيْنِ : بَيْنَ السِّلَّةِ (7) وَالذِّلَةِ ، وَهَيْهاتَ مِنَّا الذِّلَّةُ ، يَأْبَى اللهُ لَنا ذلِكَ وَرَسُولُهُ وَالْمُوَْمِنُونَ وَحُجُورٌ طابَتْ وَطَهُرَتْ وَأُنُوفٌ حِمِيَّةٌ وَنُفُوسٌ أَبِيَّةٌ : مِنْ أَنْ تُوَْثِرَ طاعَةَ اللِّئامِ عَلى مَصارِعِ الْكِرامِ .

---------------------------
(1) إلبا : أي قوة لاَعدائكم ، وذلك باجتماعهم .
(2) مشيم : أي السيف في غمده لا يسل .
(3) الدبا : بفتح الدال ، وتخفيف الباء الجراد قبل أن يطير .
(4) الفراش : جمع فراشة وهي صغار البق تتهافت في النار لضعف بصرها .
(5) وشجت : أي التفت عليه أصولكم .
(6) تأزرت : أي نبتت عليه فروعكم .
(7) السلة : بكسر السين استلال السيوف .