لقد عاد الاِمام في جميع الاَعراف الدولية والسياسية أعظم حاكم ظهر في الشرق ، وأول حاكم قد تبنّى حقوق المظلومين والمضطهدين ، وأعلن حقوق الانسان ، وأما خصومه الحقراء فهم أقزام البشرية ، وأشرار خلق الله ، فقد جنوا على الاِنسانية جناية لا تعدلها أية جناية ، فقد حجبوا هذا العملاق العظيم أن يقوم بدوره في بناء الحضارة الاِنسانية ، وتطوير الحياة العامة في جميع مجالاتها الاقتصادية والاجتماعية والسياسية .
3 ـ استخدام معاهد التعليم :
واستخدم معاوية معاهد التعليم ، وأجهزة الكتاتيب لتغذية النشء ببغض أهل البيت ( عليهم السلام ) الذين هم المركز الحسّاس في الاِسلام ، وغذّت هذه الاَجهزة الناشئة المسلمة ببغض عترة النبيّ ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وذريته ، ولم يكن ذلك إلاّ إجراءاً مؤقّتاً ، فقد عكس الله إرادته ، وخيّب آماله ، فها هو الاِمام أمير المؤمنين ملء فم الدنيا ، قد استوعب ذكره المعطر جميع لغات الاَرض ، وهو أنشودة الاَحرار في كل زمان ومكان والكوكب اللامع في سماء الشرق يهتدي بضوئه المصلحون ، ويسير على منهجه المتّقون ، وها هو معاوية وبنو أميّة قد صاروا جرثومة الفساد في الاَرض ، ولا يذكرون إلاّ مع الخسران وسوء المصير ، لقد هزم معاوية في الميدان السياسي والاجتماعي ، وأبرزت مخططاته السياسية المناهضة لاَهل البيت ( عليهم السلام ) واقعه النفسي الملّوث بالجرائم والآثام واستبان للجميع أنّه أحطّ حاكم ظهر في الشرق العربي والاِسلامي .
العباس بن علي
_ 60 _
إشاعة الظلم :
وأشاع معاوية الظلم والجور في جميع أنحاء العالم الاِسلامي ، فقد سلّط على المسلمين ولاة إرهابيين ، قد نزعت الرحمة من قلوبهم فأسرفوا باقتراف الجرائم والاِساءة إلى الناس ، وكان من أشدّهم قسوة ، وأكثرهم جرماً الاِرهابي زياد بن أبيه فقد صبّ على العراق وابلاً من العذاب الاَليم ، فكان يسوق المتّهمين إلى ساحات الموت والاِعدام من دون اجراء أي تحقيق معهم ، فقد كان يحكم بالظنّة والتهمة ، ـ كما أعلن ذلك في بعض خطبه ـ ولم يتحرّج من سفك الدماء بغير حقّ ، ولم يتأثّم في نشر الرعب والخوف بين الناس ، فكان كأخيه اللاشرعي معاوية قد انتهك جميع حرمات الله .
لقد عجّت البلاد الاِسلامية من الظلم والجور ، حتى قال القائل: ان نجا سعد فقد هلك سعيد ، وكان من أشدّ الناس بلاءً وأعظمهم محنة شيعة أهل البيت ( عليهم السلام ) فقد أمعنت السلطة في ظلمهم ، والاعتداء عليهم فزجّت الكثير منهم في ظلمات السجون وزنزانات التعذيب ، وسلمت منهم الاَعين ، وأذاقتهم جميع صنوف التعذيب ، لا لذنب اقترفوه وانّما لولائهم لأَهل البيت ( عليهم السلام ) .
وقد شاهد أبوالفضل ( عليه السلام ) الصور المفجعة من الاضطهاد والتنكيل التي حلّت بشيعة أهل البيت ، مما زاده ذلك إيماناً بضرورة الجهاد ، والقيام بثورة ضدّ السلطة الاَموية ، لاِنقاذ الاَمة من محنتها ، وإعادة الحياة الاِسلامية بين المسلمين .
منح الخلافة ليزيد :
واقترف معاوية أخطر جريمة في الاِسلام فقد منح الخلافة الاِسلامية إلى ولده يزيد الذي كان ـ فيما أجمع عليه المؤرّخون ـ مجرداً من جميع القيم الاِنسانية ، وغارقاً في الآثام والجرائم وكان جاهلياً بما تحمل هذه الكلمة من معنى ، فلم يؤمن بالله ولا باليوم الآخر كما أعلن ذلك فيما أثر عنه من شعر ، فقد قال حينما أشرفت سبايا آل النبيّ ( صلى الله عليه وآله وسلم ) على دمشق :
العباس بن علي
_ 61 _
نعب الغراب فقلت صح أولا تصح فـلقد قـضيت مـن النبي iiديوني |
نعم لقد استوفى ديون الاَمويين من ابن فاتح مكّة فقد قتل أبناءه وسبى ذراريه ، وقال مرّة اُخرى :
لست من خندف إذ لم انتقم من بـني أحـمد مـا كـان iiفعل |
هذا هو يزيد في الحاده ومروقه من الدين وقد سلّطه معاوية على رقاب المسلمين ، فأمعن في إعادة الحياة الجاهلية ، وإزالة الاِسلام فكراً وعقيدة من الصعيد الاجتماعي ، كما أخلد للمسلمين المحن والكوارث ، وذلك بإبادته لعترة النبيّ ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، وسبيه لذراريه .
إغتيال الشخصيات الاِسلامية :
وأقدم معاوية على اغتيال الشخصيات الاِسلامية التي لها مكانة مرموقة في العالم الاِسلامي ، والتي تحظى باحترام بالغ في نفوس المسلمين ، حتّى لا يزاحم أحد منهم ولده يزيد ، ولا تتجه إليهم الاَنظار ، وفعلاً قام باغتيال هؤلاء وهم :
العباس بن علي
_ 62 _
1 ـ سعد بن أبي وقاص :
أما سعد بن أبي وقاص فهو فاتح العراق ، وأحد أعضاء الشورى الذين رشحهم عمر إلى الخلافة الاِسلامية ، وقد ثقل وجوده على معاوية فدسّ إليه سمّاً فقتله (1) .
2 ـ عبد الرحمن بن خالد :
أمّا عبد الرحمن بن خالد فكان له رصيد شعبي في أوساط أهل الشام وقد استشارهم معاوية فيمن يعقد له البيعة بعد وفاته فأشاروا عليه بعبدالرحمن ، فأسرّها معاوية في نفسه ، وأضمر له السوء ، ومرض عبد الرحمن فأوعز معاوية إلى طبيب يهودي أن يعالجه ويسقيه سمّاً فسقاه السمّ فمات على أثر ذلك (2) .
3 ـ عبد الرحمن بن أبي بكر :
كان عبد الرحمن بن أبي بكر من أبرز العناصر المعارضة لمعاوية في أخذه البيعة ليزيد ، وقد أعلن معارضته له ، وأشيع ذلك في يثرب ودمشق ، وقدم له معاوية رشوة لينال رضاه ، وكانت مائة ألف درهم فأبى أن يقبلها ، وقال : لا أبيع ديني بدنياي ، وتعزو بعض المصادر أن معاوية دسّ له سمّاً فقتله (3) .
---------------------------
(1) مقاتل الطالبيين: 29 .
(2) حياة الاِمام الحسين 2 : 216 .
(3) حياة الاِمام الحسين 2 : 216 .
العباس بن علي
_ 63 _
هند الذي جهد في ظلمه ، وصبّ عليه ألواناً قاسية من المحن والكوارث فسلب منه الخلافة ، وتتبع شيعة أبيه قتلاً وسجناً ، واسمعه سبّه ، وسبّ أبيه وأخيراً سقاه السمّ فقطع أحشاءه .
تجهيزه :
وقام سيّد الشهداء ( صلى الله عليه وآله وسلم ) بتجهيز جثمان أخيه فغسّل جسده الطاهر ، وحمله المشيّعون ، وفي طليعتهم العلويون ، وهم يذرفون أحرّ الدموع على فقيدهم العظيم ، وجاءوا به إلى المرقد النبوي ليواروه بجواره .
فتنة الاُمويين :
ولما جيء بالجثمان المقدّس إلى قبر الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ليوارى إلى جنبه ثار الاَمويون وعلى رأسهم الوزغ ابن الوزغ مروان بن الحكم ، فرفعوا أصواتهم أمام المشيّعين ( أيدفن الحسن بجوار جدّه ، ويدفن عثمان بأقصى المدينة لا كان ذلك أبداً . . ) ، واشتدّوا كالكلاب نحو السيّدة عائشة ، وقد عرفوا انحرافها عن أهل البيت فأثاروا حفيظتها قائلين : ( لئن دفن الحسن بجوار جدّه ليذهبنّ فخر أبيك ، وصاحبه . . ) ، فوثبت وهي مغيظة محنقة تشقّ الجماهير ، وقد رفعت عقيرتها قائلة : ( لئن دفن الحسن بجوار جدّه ـ لتجز هذه ـ وأومأت إلى ناصيتها . . ) ، والتفتت إلى المشيّعين قائلة : ( لا تدخلوا بيتي من لا أحبّ . . ) ، وقد أعربت بذلك عن كوامن حقدها على آل البيت ( عليهم السلام ) ، ويتساءل السائلون من أين جاء لها البيت ، ألم يروِ ابوها عن النبيّ ( صلى الله عليه وآله وسلم ) أنّه قال :
العباس بن علي
_ 64 _
( نحن معاشر الاَنبياء لا نورث ذهباً ولا فضّة ) فبيت النبيّ ـ حسب هذه الرواية ـ كبيت من بيوت الله لا يملكه أحد ، وانّما هو لجميع المسلمين ، وعلى هذا فكيف سمحت لاَبيها وصاحبه أن يدفنا فيه ، وإذا لم تعمل عائشة بهذه الرواية وان النبيّ ( صلى الله عليه وآله وسلم ) كبقيّة الاَنبياء يرثه ذرّيته ، فالامام الحسن ( عليه السلام ) هو الذي يرثه لاَنّه سبطه ، أما أزواج النبيّ ( صلى الله عليه وآله وسلم ) فلا يرثن من البيت ، وانّما يرثن من البناء حسبما ذكر الفقهاء ، وعلى أيّ حال فقد تمادى الاَمويون بالشر ، وظهرت خفايا نفوسهم المنطوية على الحقد والعداء لآل البيت فقد أو عزوا إلى عملائهم برمي جنازة الاِمام ، فرموها بقسيّهم وسهامهم ، وكادت الحرب أن تقع بين الهاشميين والاَمويين ، فقد أسرع أبو الفضل العبّاس ( عليه السلام ) إلى مناجزة الاَمويين ، وتمزيقهم ، فمنعه أخوه الامام الحسين ( عليه السلام ) من القيام بأي عمل امتثالاً لوصيّة أخيه ، فقد أوصاه بأن لا يهراق في امره ملَ محجمة من دم ، وجيء بالجثمان الطاهر إلى بقيع الغرقد ، فواروه فيه ، وقد واروا معه الحلم والشرف والفضيلة ، وقد انطوت بذلك أروع صفحة مشرقة من صفحات النبوة والاِمامة .
لقد شاهد أبو الفضل العبّاس ( عليه السلام ) الاَحداث المروعة التي حلّت بأخيه الامام أبي محمد ( عليه السلام ) فزهدته في الحياة ، وكرهت له العيش ، وحببت له الثورة والجهاد في سبيل الله .
العباس بن علي
_ 65 _
معارضة الامام الحسين لمعاوية :
ولمّا تمادى معاوية في سياسته الملتوية المناهضة لمصالح المسلمين والمعادية لاَهدافهم ، قام أبو الاَحرار الاِمام الحسين ( عليه السلام ) بالاِنكار على معاوية ، وأخذ يعمل بشكل مكثف إلى فضح معاوية ، ويدعو المسلمين إلى الانتفاضة والثورة على حكومته ، ونقلت اجهزة الاَمن والمباحث في يثرب إلى معاوية هذه النشاطات السياسية المناهضة لحكومته ففزع من ذلك أشدّ الفزع ، ورفع إليه مذكّرة شديدة اللهجة يطلب فيها الكفّ عن معارضته ، وهدّده باتخاذ الاجراءات القاسية ضدّه ان لم يستجب له ، فأجابه أبو الاَحرار بجواب شديد اللهجة وضعه فيه على طاولة التشريح ، ونعى عليه سياسته الظالمة التي تفجّرت بكل ما خالف كتاب الله وسنّة نبيّه ، وندّد بما اقترفه من ظلم تجاه الاَحرار والمصلحين أمثال حجر بن عدي وعمرو بن الحمق الخزاعي ، ورشيد الهجري ، وغيرهم من أعلام الفكر في الوطن الاِسلامي .
انّ جواب الاِمام أبي الشهداء من ألمع الوثائق السياسية ، فقد وضع الاِمام فيها النقاط على الحروف ، وعرض بصورة مفصّلة الاَحداث الرهيبة التي جرت أيام حكومة معاوية ، كما حدّد فيها موقفه المتّسم بالثورة على حكومة معاوية
(1) .
مؤتمر الامام الحسين في مكّة :
وعقد الاِمام أبو عبدالله الحسين ( عليه السلام ) مؤتمراً سياسياً في مكّة المكرّمة حضره جمهور غفير من المهاجرين والاَنصار والتابعين ممن شهدوا موسم الحج ، فقام فيهم خطيباً ، وتحدّث ببليغ بيانه عمّا ألمّ بهم وبشيعتهم من ضروب المحن والبلاء في عهد الطاغية معاوية ، وقد روى سليم بن قيس قطعة من خطابه جاء فيه بعد حمد الله والثناء عليه :
---------------------------
(1) نصّ الرسالة ذكرها ابن قتيبة في الاِمامة والسياسة 1|189 والكشي في رجاله .
العباس بن علي
_ 66 _
( أمّا بعد! فان هذا الطاغية ـ يعني معاوية ـ قد فعل بنا وبشيعتنا ما قد رأيتم وعلمتهم ، وشهدتم ، وانّي أريد أن أسألكم عن شيء ، فإن صدقت فصدقوني وان كذبت فكذّبوني ، اسمعوا مقالتي ، واكتبوا قولي ، ثم ارجعوا إلى أمصاركم ، وقبائلكم ، فمن أمنتم من الناس ، ووثقتم به فادعوهم إلى ما تعلمون من حقنا ، فانّي أتخوّف أن يدرس هذا الاَمر ، ويغلب ، والله متمّ نوره ولو كره الكافرون ) .
ويقول سُليم بن قيس : وما ترك الحسين شيئاً مما أنزله الله فيهم من القرآن إلاّ تلاه وفسّره ، ولا شيئاً مما قال رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) في أبيه وأخيه ، وفي نفسه وأهل بتيه إلاّ رواه ، وفي كل ذلك يقول أصحابه : اللهم نعم قد سمعنا وشهدنا ، ويقول التابعي : اللهمّ قد حدّثني به من أصدقه ، وأئتمنه من الصحابة ، فقال (عليه السلام) : أنشدكم الله إلاّ حدّثتم به من تثقون به وبدينه . . )
(1) .
وكان هذا أوّل مؤتمر سياسي عرفه المسلمون في ذلك الوقت ، فقد شجب فيه الامام سياسة معاوية الهادفة إلى حجب المسلمين عن أهل البيت ( عليهم السلام ) وستر فضائلهم ، وقد دعا الاِمام حضّار ذلك المؤتمر إلى إشاعة مآثرهم ، وإذاعة مناقبهم ، وما ورد في حقّهم من النبيّ ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ليعرف المسلمون النوايا الشريرة التي يبّيتها معاوية ضدّ أهل البيت الذين هم العصب في جسم الاَمة الاِسلامية .
هلاك معاوية :
واستقبل معاوية الموت ، ونفسه قلقة ومضطربة مما اقترفه من الاَحداث الجسام التي باعدت بينه وبين الله ، فكان يقول متبرّماً : ويلي من ابن الاَدبر ـ يعني حجر بن عدي ـ ان يومي منه لطويل ، نعم ان يومه لطويل وان حسابه لعسير أمام الله لا في حجر فقط ، وانّما لدماء المسلمين التي سفكها بغير حقّ ، فقد قتل عشرات الآلاف من المسلمين ، وأشاع في بيوتهم الثّكل والحزن والحداد .
---------------------------
(1) حياة الاِمام الحسين 2: 228 ـ 229 .
العباس بن علي
_ 67 _
وهو الذي حارب دولة الاِسلام ، وأقام الدولة الاَموية التي اتخذت مال الله دولاً ، وعباد الله خولاً ، وهو الذي سلّط على المسلمين عصابة من أشرار خلق الله أمثال زياد بن أبيه الذي أمعن في إذلال المسلمين ، وظلمهم بغير حقّ ، وهو الذي استخلف من بعده ولده يزيد صاحب الاَحداث والموبقات في الاِسلام ، وشبيه جدّه أبي سفيان في اتجاهاته وميوله المعادية لله ولرسوله ، وهو الذي دسّ السمّ إلى ريحانة رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وسبطه الاِمام الزكي أبي محمد ( عليه السلام ) ، وهو الذي أعلن سبّ أهل البيت ( عليهم السلام ) على المنابر ، وجعل ذلك جزءاً من حياة المسلمين العقائدية إلى غير ذلك من الموبقات التي اقترفها والتي تجعل حسابه شاقاً وعسيراً أمام الله ، وعلى أيّ حال فقد هلك معاوية فأهون به هالكاً ومفقوداً فقد انكسر باب الجور ، وتضعضعت أركان الظلم ، كما أبّنه بذلك الزعيم العراقي الكبير يزيد بن مسعود النهشلي ، أما خليفته وولي عهده يزيد فلم يكن حاضراً عند وفاته ، وإنما كان مشغولاً برحلات الصيد وعربدات السكر ونغمة العيدان ، وبهذا ينتهي بنا الحديث عن حكومة معاوية التي هي أثقل كابوس مرّ على العالم الاِسلامي في ذلك العصر ، وقد شاهد سيّدنا أبو الفضل العباس ( عليه السلام ) المآسي الرهيبة التي دهمت المسلمين في ظلال هذا الحكم ، مَعَ الثورة الحُسيْنيّة ورافق أبو الفضل العباس ( عليه السلام ) الثورة الاِسلامية الكبرى التي فجّرها أخوه أبو الاَحرار وسيّد الشهداء الاِمام الحسين ( عليه السلام ) ، تلك الثورة العملاقة التي كانت من أهمّ الثورات العالمية ، ومن أكثرها عطاءً لشعوب الاَرض ، فقد غيّرت مجرى التاريخ وهزّت العالم بأسره ، وحرّرت الانسان المسلم ، ودفعت القطعات الشعبية من المسلمين إلى التمرّد على الظلم ، ومناهضة الجور والطغيان .
العباس بن علي
_ 68 _
قد ساهم قمر بني هاشم وفخر عدنان في هذه الثورة المباركة مساهمة إيجابية وفعّالة ، وشارك أخاه الحسين في جميع فصولها ، وقد وعى جميع أهدافها وما تنشده من خير ورحمة للشعوب المحرومة والمضطهدة ، فآمن بها إيماناً مطلقاً ، لقد كان العبّاس أهمّ عضو بارز في هذه الثورة المشرقة ، وقد لازم أخاه ممتثلاً لاَمره ، منفّذاً لرغباته ، شادّاً لعضده ، مؤمناً بقوله ، مصدقاً لمبادئه ، لم يفارقه في مسيرته الخالدة من يثرب إلى مكّة ، ثم إلى أرض الكرامة والشهادة ، ففي كل موقف من ثورة الاِمام الحسين ( عليه السلام ) ، كان العبّاس معه ، وشريكاً له ، . . ونتحدّث ـ عن بعض الفصول التأريخية لهذه الثورة العظمى التي كان العباس العلم البارز فيها .
رفض الامام الحسين لبيعة يزيد :
وأعلن الاِمام الحسين ( عليه السلام ) رسمياً رفضه الكامل لبيعة يزيد ، وذلك حينما استدعاه حاكم المدينة الوليد بن عقبة في غلس الليل ، وقد فهم الاِمام ما أراد منه ، فأستدعى عضده وأخاه أبا الفضل العبّاس وسائر الفتية من أهل بيته ليقوموا بحمايته ، وأمرهم بالجلوس في خارج الدار فاذا سمعوا صوته قد علا فعليهم أن يقتحموا الدار لانقاذه ، ودخل الامام على الوليد فاستقبله بحفاوة وتكريم ، ثم نعى إليه هلاك معاوية ، وما أمره به يزيد من أخذ البيعة من أهل المدينة عامة ومن الحسين خاصة ، فاستمهله الاِمام حتى الصبح ، ليجتمع الناس ، وقد أراد أن يعلن أمامهم رفضه الكامل لبيعة يزيد ، ويدعوهم إلى التمرّد على حكومته ، وكان مروان بن الحكم الذي هو من رؤوس المنافقين ، ومن أعمدة الباطل حاضراً ، فاندفع لاشعال نار الفتنة ، فصاح بالوليد :
العباس بن علي
_ 69 _
( لئن فارقك الساعة ، ولم يبايع لا قدرت منه على مثلها أبداً حتى تكثر القتلى بينكم وبينه ، أحبسه فان بايع ، وإلاّ ضربت عنقه . . ) ، ووثب أبي الضيم في وجه مروان ، فقال محتقراً له : ( يا بن الزرقاء أأنت تقتلني أم هو ؟ ، كذبت والله ولؤمت . . ) ، ثم التفت أبو الاَحرار إلى الوليد فأخبره عن عزمه ، وتصميمه في رفضه لبيعة يزيد قائلاً : ( أيّها الاَمير ، إنّا أهل بيت النبوة ، ومعدن الرسالة ، ومختلف الملائكة ، ومحلّ الرحمة ، بنا فتح الله ، وبنا ختم ، ويزيد رجل فاسق ، شارب الخمر ، قاتل النفس المحرّمة ، معلن بالفسق ، ومثلي لا يبايع مثله ، ولكن نصبح وتصبحون ، وننظر وتنظرون ، أيّنا أحقّ بالخلافة والبيعة . . ) (1) ، لقد أعلن الاِمام رفضه لبيعة يزيد في بيت الامارة ورواق السلطة ، وهو غير حافل بالحكم القائم ، فقد وطّن نفسه على التضحية والفداء لينقذ المسلمين من حكم إرهابي عنيف يستهدف إذلالهم ، وإرغامهم على ما يكرهون ،
لقد كان أبو الاَحرار عالماً بفسق يزيد وفجوره ومروقه من الدين ، ولو أقرّ لحكومته لساق المسلمين إلى الذلّ والعبودية ، وعصف بالعقيدة الاِسلامية في متاهات سحيقة من مجاهل هذه الحياة ، ولكنّه سلام الله عليه صمد في وجه الاعاصير هازئاً من الحياة ، ساخراً من الموت ، فبنى للمسلمين عزّاً شامخاً ، ومجداً رفعياً ، ورفع كلمة الاِسلام عالية في الاَرض ، إلى مكّة المكرّمة : وصمّم أبو الاَحرار على مغادرة يثرب ، والتوجه إلى مكّة المكرّمة ليتّخذ منها مقرّاً لبثّ دعوته ، ونشر أهداف ثورته ، ويدعو المسلمين إلى الانتفاضة على الحكم الاَموي الذي يمثّل الجاهلية بجميع أبعادها الشريرة ، وقبل أن يتوجّه إلى مكّة خفّ إلى قبر جدّه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وهو حزين قد أحاطت به الاَزمات فشكى إليه ما ألمّ به من المحن والبلوى ، ثم توجّه إلى قبر سيّدة النساء أمّه الزكيّة فألقى عليها نظرات الوداع الاَخير ، وزار بعد ذلك قبر أخيه الزكيّ أبي محمد ( عليه السلام ) ثم توجّه مع جميع أفراد عائلته إلى مكّة التي هي حرم الله ليعوذ ببيتها الحرام الذي فرض الله فيه الاَمن لجميع عباده ، وكان أخوه أبو الفضل إلى جانبه قد نشر رايته ترفرف على رأسه ، وقد تولّى جميع شؤونه وشؤون عائلته ، وقام خير قيام بما يحتاجون إليه .
---------------------------
(1) حياة الاِمام الحسين 2 : 255 .
العباس بن علي
_ 70 _
وسلك أبو الاَحرار في مسيره الطريق العام فأشار عليه بعض من كان معه بأن يحيد عنه ـ كما فعل ابن الزبير ـ مخافة أن يدركه الطلب من السلطة فأجابه بكل شجاعة وثقة في النفس :
( لا والله ما فارقت هذا الطريق ، أو أنظر إلى أبيات مكة حتى يقضي الله في ذلك ما يحبّ ويرضى . . ) ،
وانتهى ركب الاِمام إلى مكّة ليلة الجمعة لثلاث ليال مضين من شعبان وحطّ رحله في دار العبّاس بن عبد المطلب ، وقد احتفى به المكّيون خير احتفاء ، وجعلوا يختلفون إليه بكرة وعشية ، وهم يسألونه عن أحكام دينهم ، وأحاديث نبيّهم ، كما توافد لزيارته القادمون إلى بيت الله الحرام من الحجّاج والمعتمرين من سائر الآفاق ، ولم يترك الاِمام ( عليه السلام ) لحظة تمرّ من دون أن يبثّ الوعي الديني والسياسي في نفوس زائريه من المكيّين وغيرهم ، ويدعوهم إلى التمرّد على الحكم الاَموي الذي عمد على إذلالهم وعبوديتهم .
فزع السلطة بمكّة :
وفزعت السلطة المحلّية بمكة من قدوم الاِمام إليها ، واتخاذها مقراً لدعوته ، ومركزاً لاِعلان ثورته ، وكان حاكم مكّة الطاغية عمرو بن سعيد الاَشدق ، فقد رأى بنفسه تزاحم المسلمين على الاِمام ، وسمع ما يقولونه ان الاِمام أولى بالخلافة الاِسلامية وأحقّ بها من آل أبي سفيان الذين لا يرجون لله وقاراً ، فخف مسرعاً نحو الاِمام فقال له بغيظ : ( ما أقدمك إلى البيت الحرام ؟ . . ) ، وكأن بيت الله العظيم ملك لبني أميّة ، وليس هو لجميع المسلمين ، فأجابه الاِمام بثقة وهدوء : ( أنا عائذ بالله ، وبهذا البيت . . . ) .
العباس بن علي
_ 71 _
ورفع الطاغية بالوقت رسالة إلى سيّده يزيد بن معاوية أحاطه بها علماً بمجيء الامام إلى مكّة ، واختلاف الناس إليه ، والتفافهم حوله ، وان ذلك يشكّل خطراً على حكومته ، ففزع يزيد كأشدّ ما يكون الفزع حينما قرأ رسالة الاَشدق فرفع في الوقت مذكّرة إلى ابن عباس يتهدّد فيها الحسين على تحرّكه ، ويطلب منه التدخّل فوراً لاِصلاح الاَمر وحجب الحسين عن مناهضته ، فأجابه ابن عبّاس برسالة ، نصحه فيها بعدم التعرّض للحسين ، وانه انّما هاجر إلى مكّة فراراً من السلطة المحلّية في يثرب التي لم ترع مكانته ، ومقامه ، ومكث الاِمام ( عليه السلام ) في مكّة ، والناس تختلف إليه ، وتدعوه إلى إعلان الثورة على الاَمويين ، وكانت مباحث الاَمن تراقبه أشدّ ما تكون المراقبة ، وتسجّل جميع تحرّكاته ونشاطاته السياسية ، وما يدور بينه وبين الوافدين عليه ، وتبعث بجميع ذلك إلى دمشق لاطلاع يزيد عليه .
تحرّك الشيعة في الكوفة :
وحينما أشيع هلاك معاوية في الكوفة أعلنت الشيعة أفراحها بموته وعقدوا مؤتمراً شعبياً في بيت أكبر زعمائهم ، وهو سليمان بن صرد الخزاعي ، واندفعوا إلى إعلان الخطب الحماسية فيها وقد عرضوا بصورة شاملة إلى ما عانوه من الاضطهاد والتنكيل ، في أيّام معاوية ، وأجمعوا على بيعة الاِمام الحسين ، ورفض بيعة يزيد ، وأرسلوا في نفس الوقت وفداً منهم ليحثّ الاِمام على القدوم إلى مصرهم لتشكيل حكومته ليعيد لهم الحياة الكريمة التي فقدوها في ظلال الحكم الاَموي ويبسط في بلادهم الاَمن والرخاء ، وترجع بلدهم عاصمة للدولة الاِسلامية كما كانت أيّام أبيه الاِمام أمير المؤمنين ( عليه السلام ) ، وكان من بين ذلك الوفد عبدالله البجلي ، وأخذ الوفد يسرع في سيره حتّى انتهى إلى مكّة ، فعرض على الامام مطاليب أهل الكوفة ، وألحّوا عليه بالاسراع إلى القدوم إليهم .
العباس بن علي
_ 72 _
رسائل الكوفة :
ولم يكتف الكوفيون بالوفد الذي بعثوه إلى الاِمام ، وانّما عمدوا إلى إرسال آلاف الرسائل إليه أعربوا فيها عن عزمهم الجادّ على نصرته ، والوقوف إلى جانبه ، وانّهم يفدونه بأرواحهم وأموالهم ، ويطلبون منه الاِسراع إلى مصرهم ليشكّل فيه دولة القرآن والاِسلام التي هي غاية آمالهم وحملوا الاِمام المسؤولية أمام الله والتأريخ إن لم يستجب لدعوتهم ، ورأى الاِمام ( عليه السلام ) أنّه قد قامت عليه الحجّة الشرعية ، وان الواجب يحتّم عليه إجابتهم .
إيفاد مسلم إلى الكوفة :
ولمّا تتابعت الوفود والرسائل من أهل الكوفة على الاِمام ، وهي تحثّه على القدوم إليهم ، لم يجد بُدّاً من إجابتهم ، فأوفد إليهم ثقته وكبير أهل بيته ، والمبرز من بينهم بالفضيلة وتقوى الله ابن عمّه مسلم بن عقيل ، وكانت مهمّته خاصة ومحدودة ، وهي الوقوف على واقع الكوفيين ، ومعرفة أمرهم ، فإن صدقوا فيما قالوا توجّه الاِمام إليهم وأقام في مصرهم دولة القرآن ، ومضى مسلم يجد في السير لا يلوي على شيء حتى انتهى إلى الكوفة فنزل في بيت زعيم من زعماء الشيعة ، وسيف من سيوفهم ، وهو المختار بن أبي عبيدة الثقفي ، الذي كان يتمتّع بخبرة سياسية واسعة ، وشجاعة فائقة ، ودراية تامة بالشؤون النفسية والاجتماعية ، وقد فتح المختار أبواب داره إلى مسلم ، وصار بيته مركزاً للسفارة الحسينيّة ، ولما علمت الشيعه بقدوم مسلم سارعوا إليه مرحّبين به ، ومقدمين له جميع ألوان الحفاوة والدعم ، والتفوا حوله ، طالبين منه أن يأخذ منهم البيعة للاِمام الحسين ( عليه السلام ) ، واستجاب لهم مسلم ففتح سجلاً للمبايعين وقد أحصي عددهم في الاَيام القليلة بما يزيد على ثمانية عشر ألفاً ، وفي كل يوم يزداد عدد المبايعين منهم ، وألحّوا عليه أن يراسل الاِمام بالاِسراع إلى القدوم إليهم ليتولّى قيادة الاَمة ، . .
العباس بن علي
_ 73 _
ومن الجدير بالذكر أن السلطة المحليّة في الكوفة كانت على علم بمجريات الثورة ، وقد وقفت منها موقف الصمت ، فلم تتخذ أي اجراءات ضدّها ، ويعود السبب في ذلك إلى ان حاكم الكوفة النعمان بن بشير الاَنصاري كان من المنحرفين عن يزيد بسبب مواقفه المعادية للاَنصار ، ومضافاً إلى ذلك فان ابنته كانت زوجة المختار الذي استضاف مسلماً ووقف إلى جانبه ، ومن الطبيعي أنّه لم يرق لعملاء الاَمويين وأذنابهم موقف النعمان المتّسم بالليونة وعدم المبالاة بالثورة ، فبادروا إلى الاتصال بدمشق ، وعرّفوا يزيد بموقف النعمان ، وطلبوا المبادرة بإقصائه ، وتعيين حاكماً حازماً
يستطيع القضاء على الثورة ، وإخضاع الجماهير إلى حكمه ، وفزع يزيد من الاَمر ، فأرسل إلى مستشاره الخاص سرجون ، وكان دبلوماسياً محنّكاً ، فعرض عليه ما ألمّ به وطلب منه أن يرشده إلى حاكم يتمكّن من السيطرة على الاَوضاع المتفجّرة في الكوفة ، فأشار عليه بتولّيه الاِرهابي عبيد الله بن زياد فانّه شبيه بأبيه في التجرّد من كلّ نزعة إنسانية ، وعدم المبالاة في اقتراف أبشع الجرائم ، فأستجاب يزيد لرأيه ، وكتب لأبن زياد مرسوماً بولايته على الكوفة بعد أن كان والياً على البصرة فقط ، وبذلك فقد أصبح العراق كلّه خاضعاً لسيطرته ، وأصدر إليه الاَوامر المشدّدة بالاِسراع إلى الكوفة لاستئصال الثورة ، والقضاء على مسلم .
سفر ابن زياد إلى الكوفة :
وحينما تسلّم ابن زياد المرسوم في ولايته على الكوفة توجّه إليها فوراً ، وأخذ يجد في السير لا يلوي على شيء مخافة أن يسبقه إليها الاِمام الحسين ( عليه السلام ) ، وحينما أشرف على الكوفة غيّر ملابسه ، ولبس ثياباً يمانية وعمامة سوداء ليوهم على الكوفيين أنّه الامام الحسين ، وقد اعتقدوا بذلك فأحاطوا به مرحّبين بقدومه ، وهاتفين بحياته ، فاستاء ابن زياد من ذلك كأشدّ ما يكون الاستياء ، وأسرع في سيره مخافة أن ينكشف أمره ، فيقتل ، ولما انتهى إلى قصر الامارة ، وجد الباب مغلقاً فطرقه فأشرف عليه النعمان ، وقد توهّم أنه الامام الحسين ( عليه السلام ) فأنبرى يخاطبه بلطف قائلاً : ( ما أنا بمؤدّ إليك أمانتي يا بن رسول الله ، وما لي في قتالك من ارب ) . . فصاح به ابن مرجانة : ( افتح لا فتحت فقد طال ليلك . . ) .
العباس بن علي
_ 74 _
سوعرفه بعض من كان خلفه فصاح بالجماهير : ( انّه ابن مرجانة ، وربّ الكعبة . .) ،
وكان ذلك الصاعقة على رؤوسهم فولّوا منهزمين إلى دورهم ، وقد ملئت قلوبهم خوفاً ورعباً ، وبادر الطاغية نحو القصر فاستولى على المال والسلاح ، وأحاط به عملاء الاَمويين أمثال عمر بن سعد وشمر بن ذي الجوشن ، ومحمد بن الاَشعث وغيرهم من وجوه الكوفة فجعلوا يحدثونه عن الثورة ، ويعرفونه بأعضائها البارزين ، ويضعون معه المخططات الرهيبة للقضاء عليها ، ولمّا أصبح الصبح جمع ابن مرجانة الناس في المسجد الاَعظم ، فأعلمهم بولايته على مصرهم ، ومنّى أهل الطاعة بالصلة ، وأهل المعصيّة بالعقاب الصارم ثم عمد إلى نشر الخوف والاِرهاب بين الناس ، وقد أمسك جماعة لم يجر معهم أي تحقيق فأمر بإعدامهم ، وملاَ السجون بالمعتقلين ، واتخذ من ذلك وسيلة للسيطرة على البلاد ، ولمّا علم مسلم بقدوم ابن مرجانة ، وما قام به من الاَعمال الاِرهابية تحوّل من دار المختار إلى دار الزعيم الكبير هانىَ بن عروة ، وهو سيّد الكوفة ، وزعيمها المطاع ، وقد عرف بالولاء والمودّة لأَهل البيت ( عليهم السلام ) ، وقد استقبله هانئ بحفاوة وتكريم ، ورحّب به كأعظم ما يكون الترحيب وفتح داره على مصراعيها لشيعة مسلم ، واتخاذ القرارات لدعم الثورة ، ومناهضة خصومها .
المخطّطات الرهيبة :
واتّخذ ابن مرجانة سلسلة من المخططات أدّت إلى نجاحه في الميادين السياسية ، والتغلّب على الاَحداث ، فبعد أن كانت الكوفة تحت قبضة مسلم انقلبت رأساً على عقب ، وصارت مع ابن زياد ، ومن بين تلك المخططات التي تمّ تنفيذها ما يلي :
العباس بن علي
_ 75 _
التجسّس على مسلم :
وأول بادرة سلكها ابن مرجانة هي التجسس على مسلم ، ومعرفة نشاطاته السياسية ، والاحاطة بنقاط الضعف والقوة عنده والوقوف على جميع ما يجري عنده من الاَحداث ، وقد اختار للقيام بهذه المهمة مولاه معقلاً ، وكان فطناً ذكياً ذا معرفة بالسياسة الماكرة ، وأعطاه ثلاثة آلاف درهم ، وأمره بالاتصال بأعضاء الثورة ، وإعلامهم بأنه من الموالي الذين عرف أكثرهم بالولاء لاَهل البيت ( عليهم السلام ) ، وأنه قد جاء إلى مصرهم حينما بلغه أن داعية الاِمام الحسين ( عليه السلام ) قدم إليهم ليأخذ البيعة منهم له ، وان عنده مالاً ليوصله له ليستعين به على حرب عدوّه ، ومضى معقل في مهمته ، وجعل يفتّش عمن له معرفة بسفير الحسين فأرشد إلى مسلم بن عوسجة وهو من أعلام الشيعة ، وأحد القادة الطليعيين في الثورة ، فأتصل به ، وأظهر له الولاء المزيّف لأَهل البيت ، والتعطّش الكاذب لرؤية سفيرهم مسلم ، فأنخدع ابن عوسجة بكلامه ، وغرّه تلهّفه المصطنع لرؤية داعية الحسين ، فأدخله على مسلم فبايعه ، وأخذ المال منه ، وجعل يتردّد عليه في كل يوم فكان ـ فيما يقول المؤرّخون أوّل داخل عليه ، وآخر خارج عنه ، وقد وقف على جميع شؤون الثورة ، وعرف أعضاءها ، والمتحمّسين لها وما يستجدّ فيها من شؤون ، وكان ينقل ذلك حرفياً إلى سيّده ابن مرجانة وبذلك فقد أحاط بجميع مجريات الاَحداث ، ولم يخف عليه أي شيء منها .
اعتقال هانئ :
وقدم ابن زياد على أخطر عملية كُتب له فيها النجاح لتنفيذ مخططاته ، فقد قام باعتقال هانىَ بن عروة سيد الكوفة ، والزعيم الاَوحد لقبائل مذحج التي كانت تشكّل الاَكثرية الساحقة من سكّان الكوفة ، وقد أشاع بذلك موجة من الخوف والاِرهاب عند جميع الكوفيين ، كما وجّه ضربة قاسية ومدمّرة للثورة فقد استولى الرعب والفزع على انصار مسلم ، ومنوا بهزيمة نفسية ساحقة وعلى أي حال فان هانىَ حينما مثل أمام الطاغية استقبله بشراسة وعنف وطلب منه بالفور تسليم ضيفه الكبير مسلم ، فأنكر هانئ أن يكون عنده لاَنّه أحاط أمره بكثير من السرية والكتمان .
العباس بن علي
_ 76 _
فأمر ابن زياد بإحضار الجاسوس معقل ، فلما حضر سقط ما في يد هانىَ وأطرق برأسه إلى الاَرض. ولكن سرعان ما سيطرت شجاعته على الموقف ، فانتفض كالاَسد ساخراً من ابن زياد ومتمرداً على سلطته ، فامتنع كأشدّ ما يكون الامتناع من تسليم ضيفه إليه لاَنّه بذلك يسجّل عاراً وخزياً عليه ، فثار الطاغية في وجهه ، وثم أمر غلامه مهران أن يدنيه منه ، فأدناه ، فاستعرض وجهه المكرم بالقضيب ، وضربه ضرباً عنيفاً حتى كسر أنفه ، ونثر لحم خدّيه وجنبيه على لحيته حتى تحطّم القضيب ، وسالت الدماء على ثيابه ، ثم أمر باعتقاله في أحد بيوت القصر .
انتفاضة مذحج :
ولمّا شاع اعتقال هانىَ اندفعت قبائل مذحج نحو قصر الامارة ، وقد قاد جموعها الانتهازي القذر عمرو بن الحجاج ، وهو من أذناب السلطة ومن أحقر عملائها ، وقد رفع عقيرته ليسمعه ابن زياد قائلاً : ( أنا عمرو بن الحجاج ، وهذه فرسان مذحج ، ووجوهها لم نخلع طاعة ، ولم نفارق جماعة . . ) ، وحفل كلامه بالخنوع والمسالمة للسلطة ، وليس فيه أي اندفاع لأِنقاذ هانئ ، وانّما فيه التأييد والدعم لابن زياد ، ولذا لم يكترث به ، وأوعز إلى شريح القاضي ، وهو من وعاظ السلاطين ، ومن دعائم الحكم الاَموي فأمره أن يدخل على هانئ ، ويخرج لهم ، ويخبرهم بأنّه حيّ سالم وانّه يأمرهم بالانصراف إلى منازلهم ، ودخل على هانئ فلما بصر به صاح مستجيراً : ( ياللمسلمين أهلكت عشيرتي !! أين أهل الدين ، أين أهل المصر ، أيخلوني وعدوهم . . ) ، والتفت إلى شريح ، وقد سمع أصوات أسرته قائلاً : ( يا شريح انّي لاَظنّها أصوات مذحج وشيعتي من المسلمين ، انّه إن دخل عليَّ عشرة نفر أنقذوني . .) ، وخرج شريح الذي باع آخرته وضميره على ابن مرجانة ، فقال لمذحج : ( نظرت إلى صاحبكم ، انّه حي لم يقتل . . ) .
العباس بن علي
_ 77 _
وبادر ابن الحجاج عميل الاَمويين وخادمهم فرفع صوته لتسمعه مذحج قائلاً : ( إذا لم يقتل فالحمد لله . . ) ، وولّت قبائل مذحج منهزمة كأنّما أتيح لها الخلاص من سجن ، وقد صحبت معها الخيانة والخزي ، ومن المؤكّد أن هزيمة مذحج بهذه السرعة كانت نتيجة اتفاق سرّي بين زعمائها وبين ابن مرجانة للقضاء على هانىَ ، ولولا ذلك لهجمت على السجن وأخرجته ، لقد تنكّرت مذحج لزعيمها الكبير الذي كان محسناً عليها فلم تف بحقوقه ، وتركته أسيراً بيد الاِرهابي ابن مرجانة ، وهو يمعن في إذلاله وقهره ، في حين أن مذحج كانت لهم السيادة على الكوفة .
ثورة مسلم :
ولما علم مسلم ما جرى على هانىَ العضو البارز في الثورة من الاعتداء والاعتقال ، بادر إلى اعلان الثورة على ابن زياد ، فأوعز إلى أحد قاده جيشه عبدالله بن حازم أن ينادي في أصحابه ، وقد ملاَ بهم الدور ، فأجتمع إليه زهاء أربعة آلاف مقاتل أو أربعون ألفاً ، كما في رواية أخرى ، وتعالت أصواتهم بشعار المسلمين يوم بدر ( يا منصور أمت . . ) ، وقام مسلم بتنظيم جيشه فأسند القيادات العامة إلى من عرفوا بالولاء والاِخلاص لاَهل البيت ( عليهم السلام ) ، وزحف بجيشه نحو قصر الاِمارة ، وكان ابن زياد قد خرج إلى الجامع ، وقد ألقى خطاباً على الجماهير تهدّد فيه على كل من يخلع يد الطاعة ، ويناهض الدولة ، وحينما أنهى خطابه سمع الضجّة وأصوات الثوّار وهتافاتهم بسقوطه فهاله ذلك ، وسأل عن السبب فأخبر أن مسلم بن عقيل قد أقبل في جمهور من شيعته لحربه ، ففزع الجبان ، واختطف الرعب لونه ، وأسرع نحو القصر يلهث كالكلب من شدّة الفزع والخوف وضاقت عليه الدنيا إذ لم تكن عنده قوة عسكرية تحميه سوى ثلاثين شرطياً وعشرين رجلاً من أشراف الكوفة الذين عرفوا بالعمالة للاَمويين .
وتضاعف جيش مسلم ، وقد نشروا الاعلام والسيوف ، ودقّت طبول الحرب ، وأيقن الطاغية بالهلاك إذ لم يكن يأوي إلى ركن شديد .
العباس بن علي
_ 78 _
حرب الأعصاب
وأمعن الطاغية في أقرب الوسائل ، وأكثرها ضماناً لاِنقاذه فرأى أن لا طريق له سوى حرب الاَعصاب ، ونشر الدعايات الكاذبة ، وكان عالماً بتأثيرها على نفوس الكوفيين ، فأوعز إلى عملائه من أشراف الكوفة ووجوهها أن يندسّوا بين صفوف جيش مسلم ، فيذيعون الاِرهاب ، وينشرون الخوف ، وانطلق العملاء بين قطعات جيش مسلم ، فأخذوا يبثّون الاَراجيف والكذب ، وتناولت دعاياتهم ما يلي :
أ ـ تهديد أصحاب مسلم بجيوش أهل الشام ، وانّها سوف تنكل بهم إن بقوا مصرّين على متابعة مسلم .
ب ـ ان الحكومة سوف تقطع مرتباتهم وتحرمهم من جميع مواردهم الاقتصادية .
ج ـ إن الدولة ستزجّ بهم في مغازي أهل الشام .
د ـ إن الحكومة ستعلن فيهم الاَحكام العرفية ، وتسوسهم بسياسة زياد بن أبيه التي تحمل اشارات الموت والدمار .
وكانت هذه الاشاعات كالقنابل على رؤوسهم ، فقد انهارت أعصابهم واضطربت قلوبهم ، وجبنوا كأبشع ما يكون الجبن ، وولّوا منهزمين على أعقابهم ، وهم يقولون : ( ما لنا والدخول بين السلاطين . . ) ، ولم يمض قليل من الوقت حتى فرّ معظمهم ، وبقي ابن عقيل مع جماعة قليلة وقصد بهم نحو الجامع الاَعظم ليؤدّي صلاة العشائين ، ففرّوا منهزمين في أثناء الصلاة ، فقد قذف في قلوبهم الرعب ، وسرت فيهم أوبئة الخوف ، وما أنهى ابن عقيل صلاته حتى انهزموا جميعاً ولم يبق معه إنسان يدلّه على الطريق أو يأويه ، وقد لبس الكوفيون بذلك ثياب العار والخزي ، وأثبتوا أن ولاءهم لاَهل البيت ( عليهم السلام ) كان عاطفياً ، وغير مستقرّ في دخائل قلوبهم ، وأعماق نفوسهم وأنّهم لا ذمّة ولا وفاء لهم .
العباس بن علي
_ 79 _
سار مسلم فخر بني هاشم متلدّداً في أزقّة الكوفة ، وشوارعها يلتمس فيها داراً لينفق فيه بقية الليل ، فلم يظفر بذلك ، فقد خلت المدينة من المارة ، كأنّما أعلن فيها منع التجول ، فقد أغلق الكوفيون عليهم الاَبواب مخافة أن تعرفهم مباحث الاَمن ، وعيون ابن زياد بأنّهم كانوا مع ابن عقيل فتلقي عليهم القبض ، وتعرّضهم للتنكيَل وسوء العذاب في ضيافة طوعة :
وبقي ابن عقيل حائراً لا يدري إلى ابن مأواه وملجئه ، فقد أحاطت به تيّارات من الهموم ، وكاد قلبه أن ينفجر من شدّة الاَلم العاصف واستبان له انّه ليس في المصر رجل شريف يقوم بضيافته وحمايته ، ومضى متلدّداً في أزقّة الكوفة ، وأنهى به السير إلى سيّدة كريمة ، يقال لها طوعة هي سيّدة من في المصر بما تملكه من إنسانية وشرف ونبل ، وكانت واقفة على باب دارها تنتظر قدوم ابنها ، وهي فزعة عليه ، من الاَحداث الرهيبة التي مُني بها المصر ، ولما رآها مسلم بادر نحوها فسلّم عليها ، فردّت عليه السلام ، ووقف مسلم ، فأسرعت قائلة : ( ما حاجتك؟ . . ) ، ( اسقيني ماءاً . . ) ، وبادرت السيدة فجاءته بالماء فشرب منه ، ثم جلس فارتابت منه فقالت له : ( ألم تشرب الماء ؟ . . ) ، ( بلى . . ) ، ( اذهب إلى أهلك ان مجلسك مجلس ريبة . . ) ، وسكت مسلم فأعادت عليه القول ، وطلبت منه الانصراف من باب دارها ومسلم ساكت ، فذعرت منه ، وصاحت به : ( سبحان الله ! ! إنّي لا أحلّ لك الجلوس على بأبي . . ) ، ولمّا حرّمت عليه الجلوس نهض ، وقال لها بصوت خافت حزين النبرات :
العباس بن علي
_ 80 _
( ليس لي في هذا المصر منزل ولا عشيرة ، فهل لك إلي أجر ومعروف أن تقومي بضيافتي في هذه الليلة ، ولعلّي أكافئك بعد هذا اليوم . . ) ، وشعرت المرأة بأن الرجل غريب ، وانّه ذو شأن كبير ، ومكانه عظمى ، وانّه سيقوم بمكافئتها إن أسدت عليه إحساناً ومعروفاً فبادرته قائلة : ( ما ذاك يا عبد الله ؟ ! ! ) فقال لها وعيناه تفيضان دموعاً : ( أنا مسلم بن عقيل كذّبني القوم وغرّوني . .) ، فذهلت السيّدة ، وقالت في دهشة وإكبار : ( انت مسلم بن عقيل ؟ . ) ، ( نعم . . ) ،
وسمحت السيّدة بخضوع وإكبار لضيفها الكبير بتشريف منزلها وقد حازت المجد والشرف بذلك ، فقد آوت سليل هاشم وسفير ريحانة رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، وتحمّلت المسؤولية من السلطة بضيافتها له ، وأدخلت السيّدة ضيفها العظيم في بيت غير البيت الذي كانت تأوي إليه ، وجاءته بالضياء والطعام ، فأبى أن يأكل ، فقد مزّق الاَسى قلبه الشريف ، وأيقن بالرزء القاصم ، وتمثّلت أمامه الاَحداث التي سيواجهها ، وقد شغل فكره الاِمام الحسين ( عليه السلام ) الذي كتب إليه بالقدوم إلى الكوفة وانّه سيلاقي ما لاقاه ، ولم يمض قليل من الوقت حتى قدم بلال ابن السيدة طوعة ، فرأى أمّه تكثر من الدخول والخروج إلى البيت الذي فيه مسلم لتقوم بخدماته ورعايته ، فأنكر عليها ذلك ، وسألها عن السبب فأبت أن تخبره ، فألحّ عليها ، فأخبرته بالاَمر بعد أن أخذت عليه الاَيمان والمواثيق بالكتمان ، وطارت نفس الخبيث فرحاً وسروراً ، وأنفق ليله ساهراً يترقّب بفارغ الصبر انبثاق نور الفجر ليخبر السلطة بمقام مسلم عندهم ليتزلّف بذلك إليها ، وينال الجائزة منها ، وقد تنكّر هذا الوغد لجميع الاَعراف ، والاَخلاق العربية التي تلزم بقرى الضيف ، وحمايته من كل مكروه ، وكانت هذه الظاهره سائدة حتى في العصر الجاهلي ، وقد دلّ ما فعله هذا الجلف على انهيار القيم الاَخلاقية والانسانية ليس عنده فحسب ، وانّما في أغلبية ذلك المجتمع الذي فقد جميع ما يسمو به الاِنسان من القيم الكريمة .