فقال لها أشعب : جعلت فداك وأنى لك بذلك والرجل اليوم زاهد ولا حيلة فيه ، فارفعي طمعك والحسي تورك تنفعك حلاوة فمك .
فأمرت بعض جواريها فوطئن بطنه حتى كادت تخرج أمعاؤه ، وخنقته حتى كادت نفسه أن تتلف ، ثم أمرت به فسحب على وجهه حتى أخرج من الدار إخراجاً عنيفاً ، فخرج على أسوأ الحالات ، واغتم أشعب غماً شديداً وندم على ممازحتها في وقت لم ينبغ له ذلك ، فأتى منزل ابن سريج ليلاً فطرقه فقيل : من هذا ؟ فقال : أشعب ، ففتحوا له فرأى على وجهه ولحيته التراب والدم سائلاً من أنفه وجبهته على لحيته , وثيابه ممزقة وبطنه وصدره وحلقه قد عصرها الدوس والخنق ومات الدم فيها ، فنظر ابن سريج إلى منظر فظيع هاله وراعه فقال له : ما هذا ويحك ؟ ! فقص عليه القصة ، فقال ابن سريج : إنا لله وإنا إليه راجعون ، ماذا نزل بك والحمد لله الذي سلم نفسك لا تعودن إلى هذه أبداً .
قال أشعب : فديتك هي مولاتي ولا بد لي منها ، ولكن هل لك حيلة في أن تصير إليها وتغنيها فيكون ذلك سبباً لرضاها عني ؟ قال ابن سريج : كلا والله لا يكون ذلك أبداً بعد أن تركته .
قال أشعب : قطعت أملي ورفعت رزقي وتركتني حيران بالمدينة لا يقبلني أحد ، وهي ساخطة علي فالله الله في ، أنا أنشدك الله ألا تحملت هذا الإثم فيّ .
فأبى عليه ، فلما رأى أشعب أن عزم ابن سريج قد تم على الامتناع ، قال في نفسه : لا حيلة لي وهذا خارج وإن خرج هلكت ، فصرخ صرخة أذن أهل المدينة لها ، ونبه الجيران من رقادهم ، وأقام الناس من فرشهم ، ثم سكت فلم يدر الناس ما القصة عند خفوت الصوت بعد أن قد راعهم ، فقال له ابن سريج : ويلك ما هذا ؟ قال : لئن لم تصر معي إليها لأصرخن صرخة أخرى لا يبقى إلا صار بالباب ، ثم لأفتحنه ولأريهم ما بي ، ولأعلمنهم كذا وكذا . . .
فلما رأى ابن سريج الجد منه قال لصاحبه : ويحك أما ترى ما وقعنا فيه ـ وكان صاحبه الذي نزل عنده ناسكاً ـ فقال : لا أدري ما أقول . . . نزل بنا من هذا الخبيث . . . إلى أن قال : فوقع ابن سريج فيما لا حيلة له فيه ،
فقال : امضي لا بارك الله فيك ، فمضى معه فلما صار إلى باب سكينة قرع الباب فقيل : من هذا ؟ فقال : أشعب . . . إلى أن قال : ثم أندفع يغني :
فقالت له سكينة : فهل عندك يا عبيد من صبر ، ثم أخرجت دملجاً من ذهب كان في عضدها وزنه أربعون مثقالاً فرمت به إليه
(1) . . . إلى آخر القصة ، وهي طويلة الذيل اقتصرنا على مورد الحاجة .
---------------------------
(1) الأغاني 45 : 17 ـ 51 .
عقيلة قريش آمنة بنت الحسين ( عليها السلام )
_ 66 _
رجال الخبر
الخبر مرسل ، فإن مصعب الزبيري رواه عن شيخ من المكيين لا يعرف من هو ، فالخبر مرسل لا اعتبار له من حيث الإرسال ، ومصعب الزبيري : ضعيف ، عرفت حاله ، والحسين بن يحيى : قال الذهبي في ميزان الاعتدال عن ابن الجوزي: يضع الحديث ، وكذلك ابن حجر في لسان الميزان
(1) .
فالخبر مرسل وفي سنده ضعفاء فهو ساقط عن الاعتبار .
أين هم أزواج سكينة وبنو هاشم عن كل هذا ؟ اعتمد الخبر على رواية المتناقضات فأظهر زهد ونسك ابن سريج المغني وعبث السيدة سكينة ، مع أن الخبر أظهر في مطاويه الإشارة إلى حرمة الغناء وتجنب ابن سريج عن ذلك ، إلا أن السيدة سكينة كانت تصر على مخالفة مناهي الشريعة ، وترتكب ما هو حرام إشباعا لرغبتها في الاستماع ، لا سيما الخبر سرد أحداث القصة عند وقت متأخر من الليل ، وأظهر أن السيدة سكينة لا ترتبط مع أية علقة زوجية يمكنها أن تحتشم زوجها ـ على الأقل ـ في ارتكاب ما ينافي الشرع ومن ثم الأخلاق السائدة ، مع ما هولوه من تعدد أزواج « آمنة » سكينة بنت الحسين ، وبلغ عدد أزواجها أكثر من سبعة ، ومع هذا فلا نرى لواحد من هؤلاء الأزواج دور في التصدي إلى ماترتكبه السيدة سكينة من مخالفات شرعية وعرفية ، يأنف من خلالها الغيور على حرمه ، ولا يرضى في انتهاك حرمته بما يقع من حليلته ، وهي بين أجانب خلعاء تعقد لهم مجالس الغناء في بيته دون وازع ولا من رادع .
---------------------------
(1) ميزان الاعتدال 541 : 1 ، لسان الميزان 386 : 2 .
عقيلة قريش آمنة بنت الحسين ( عليها السلام )
_ 67 _
أي غيور يرضى لزوجته أن ترتكب مثل هذه الأفعال الشائنة بسمعته والمنافية لغيرته ؟ وإذا لم يكن هناك دور للزوج في مثل هذه القصص ، فأين كان الإمام علي بن الحسين ( عليهما السلام ) وهو يرى أخته ترتكب خلاف الشريعة وما ينافي قيم الإسلام ؟ أين كان محمد بن علي الباقر ( عليهما السلام ) عن هذه التصرفات ؟ أين كان بنو هاشم وهم ـ على الأقل ـ يجابهون عدوا لدودا يصطنع لهم الأكاذيب والافتراءات ؟ فكان عليهم مراعاة جانب أعدائهم إن لم يراعوا جانب حرمة الشريعة .
مما يكشف سذاجه هؤلاء الوضاعين وبلادتهم حينما يختلقون أكاذيبهم بما ينافي الشرع والعادة والأعراف ، وليتهم توسلوا بغير ذلك لئلا ينكشف غباؤهم ولعبتهم الطائشة .
إنه خراج بعض الكور ، وإذا صور رواة الخبر بذخ سكينة وهي تعطي لأحد المغنين دملجاً وزنه أربعين مثقالاً ، فإن هذه التصرفات هي سمة خلفائهم الذين شهدت لياليهم الحمراء بذخهم وعبثهم بأموال المسلمين .
قال ابن عبد ربه الأندلسي في العقد الفريد : غنى إبراهيم الموصلي محمد بن زبيدة الأمين بقول الحسن بن هانئ فيه :
رشأ لولا مــلاحته | | خلت الدنيا من iiالفتن |
قال : فاستخفه الطرب حتى قام من مجلسه وأكب على إبراهيم يقبل رأسه ، فقام إبراهيم من مجلسه يقبل أسفل رجليه وما وطئتا من البساط ، فأمر له بثلاثة آلاف درهم ، فقال إبراهيم : يا سيدي قد أجزتني إلى هذه الغاية بعشرين ألف ألف درهم [ أي عشرين مليون درهم ] .
عقيلة قريش آمنة بنت الحسين ( عليها السلام )
_ 68 _
فقال الأمين: وهل ذلك إلا خراج بعض الكور
(1) ؟
هذه هي أعطيات الخلفاء في الليالي الحمراء ومن بيت مال المسلمين ، والمسلمون يعانون من الضيق في العيش والفقر والفاقة ، لذا فقد عمد هؤلاء الرواة إلى التستر على بذح أسيادهم ، وأتهام آل البيت عليهم السلام بتصرفات أعدائهم ؛ ليدفعوا عنهم تهورات هؤلاء وعبثهم .
حكم الغناء في الشريعة المقدسة :
ذهب علماؤنا ( رضوان الله تعالى عليهم ) إلى حرمة الغناء
(2) ، وادعوا الإجماع عليه ، بل عدوه من ضرورات المذهب للأدلة الواردة في حرمته من آيات وروايات لعلها متواترة .
كما ذهب إلى ذلك بعضهم ، فمن ذلك تفسير قوله تعالى: ( لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ )
(3) بالغناء كما في صحيحة محمد بن مسلم ، عن أبي عبد الله الصادق ( عليه السلام )
(4) .
وتفسير الغناء بالزور في قوله تعالى : ( وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ )
(5) كما في صحيحة زيد الشحام ، ومرسلة ابن أبي عمير ، وموثقة أبي بصير
(6) .
وما ورد في تفسير لهو الحديث بالغناء كما في صحيحة محمد بن مسلم
(7) .
---------------------------
(1) العقد الفريد 42 : 7 .
(2) نقل الإجماع على ذلك السيد العاملي في مفتاح الكرامة 52 : 4 ، حيث قال : أما حكمه فلا خلاف ، كما في مجمع البرهان ، في تحريمه وتحريم الأجرة عليه وتعلمه وتعليمه واستماعه . . .
(3) الفرقان 72 : 25 .
(4) الوسائل 304 : 17 ، ب 99 من أبواب ما يكتسب به ، ح 5 .
(5) الحج 30 : 22 .
(6) الوسائل 303 : 17 و 305 ، ب 99 من أبواب ما يكتسب به ، ح 2 و 8 و 9 .
(7) المصدر السابق : 304 ، ح 6 .
عقيلة قريش آمنة بنت الحسين ( عليها السلام )
_ 69 _
ومن الروايات ما تواتر من حرمة الغناء كما في رواية يونس قال : سألت الخراساني ( صلوات الله عليه ) عن الغناء وقلت : إن العباسي ذكر عنك أنك ترخص في الغناء ، فقال : « كذب الزنديق ما هكذا قلت له ، سألني عن الغناء فقلت له: إن رجلا أتى أبا جعفر ( عليه السلام ) فسأله عن الغناء فقال : يافلان إذا ميز الله بين الحق والباطل فأين يكون الغناء ؟ قال: مع الباطل ، فقال: حكمت »
(1) .
وعن عبد الأعلى قال : سألت أبا عبد الله ( عليه السلام ) عن الغناء وقلت : إنهم يزعمون أن رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) رخص في أن يقال : حيونا حيونا نحييكم ، فقال : « إن الله تعالى يقول : ( وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاء وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ * لَوْ أَرَدْنَا أَن نَّتَّخِذَ لَهْوًا لَّاتَّخَذْنَاهُ مِن لَّدُنَّا إِن كُنَّا فَاعِلِينَ * بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ )
(2) ـ ثم قال ـ : ويل لفلان مما يصف ، رجل لم يحضر المجلس »
(3) .
وفي مرسلة المقنع عن الصادق عليه السلام: « شر الأصوات الغناء »
(4) ،
وفي الخصال بسنده عن الحسن بن هارون قال : سمعت أبا عبد الله ( عليه السلام ) يقول : « الغناء يورث النفاق ويعقب الفقر »
(5) .
---------------------------
(1) الوسائل 306 : 17 ، ب 99 من أبواب ما يكتسب به ، ح 13 .
(2) الأنبياء 16 : 21 ـ 18 .
(3) الوسائل 307 : 17 ، ح 15 .
(4) المصدر السابق : 309 ، ح 21 .
(5) المصدر السابق : 309 ، ح 23 .
عقيلة قريش آمنة بنت الحسين ( عليها السلام )
_ 70 _
ويعضده الأخبار الدالة على تحريم الاستماع له كما في صحيحة مسعدة بن زياد قال : كنت عند أبي عبد الله ( عليه السلام ) فقال له رجل : بأبي أنت وأمي إني أدخل كنيفا ولي جيران ، وعندهم جوار يتغنين ويضربن بالعود ، فربما أطلت الجلوس استماعا مني لهن ، فقال : « لاتفعل » ، فقال الرجل والله ما أتيتهن وإنما هو سماع اسمعه بأذني ، فقال : « بالله أنت أما سمعت الله تعالى يقول : ( إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً ) » ؟ فقال : بلى والله وكأني لم أسمع بهذه الآية من كتاب الله تعالى من عجمي ولا عربي ، لا جرم أني لا أعود إن شاء الله تعالى ، وأني أستغفر الله ، فقال له : « فاغتسل وصل مابدا لك ، فإنك كنت مقيماً على أمر عظيم ما كان أسوأ حالك لو مت على ذلك ، إحمد الله وسله التوبة من كل ما يكره ، فإنه لا يكره إلا كل قبيح ، والقبيح دعه لأهله ، فإن لكلّ أهلا »
(1) .
وعن عنبسة ، عن أبي عبد الله ( عليه السلام ) قال : « استماع الغناء واللهو ينبت النفاق في القلب ، كما ينبت الماء الزرع »
(2) ، وما ورد في حرمة شراء المغنية وأن ثمنها سحت ، كما في الكافي عن الحسن بن علي الوشاء قال : سئل أبو الحسن الرضا ( عليه السلام ) عن شراء المغنية ؟ فقال : « قد تكون للرجل الجارية تلهيه ، وما ثمنها إلا ثمن الكلب ، وثمن الكلب سحت ، والسحت في النار »
(3) .
وعن سعيد بن محمد الطاطري ، عن أبيه ، عن أبي عبد الله ( عليه السلام ) قال : سأله رجل عن بيع الجواري المغنيات ، فقال : « شراؤهن وبيعهن حرام ، وتعليمهن واستماعهن نفاق »
(4) .
---------------------------
(1) الوسائل 331 : 3 ، ب 18 من أبواب الأغسال المندوبة ، ح 1 .
(2) الوسائل 316 : 17 ، ب 101 من أبواب ما يكتسب به ، ح 1 .
(3) المصدر السابق : 124 ، ب 16 ، ح 6 .
(4) المصدر السابق : 124 ، ح 7 .
عقيلة قريش آمنة بنت الحسين ( عليها السلام )
_ 71 _
إلى غير ذلك من الأخبار المتواترة ، وهي كما علمت مطلقة لا يمكن تخصيصها ، وإن التزم بعضهم ببعضها على أنها مخصصات للحرمة ، إلا أنها لا تصلح للتخصيص حقيقة لا كما فهمه البعض ، ولا مجال لذكر ما احتجوا بأنها مخصصات ، وكون الحرمة مشروطة بانضمام بعض المحرمات كمجالس اللهو ، ودخول الرجال على النساء وغير ذلك ، على أن المعارضات التي ذكرها البعض لا تقوى على معارضة ما ذكرناه من أخبار التحريم ؛ لمخالفتها لكتاب الله وموافقتها للعلامة ، وهي مرجحات لا يختلف في العمل بها أحد ، فتبقى حرمة الغناء ذاتا على حالها غير معارضة بما توهمه البعض بأنها معارضات .
هذا حكم الغناء في الشريعة ، والقصة المذكورة منافية لضرورات الدين ، ولإجماع الطائفة الحقة منذ عهد أئمتهم ( صلوات الله عليهم ) حتى يومنا هذا ، فكيف ينسجم واقعهم مع هذه الموضوعات بعد ذلك ؟ ! حقيقة الأمر ما هي ؟ ابن سريج نائحاً أم مغنياً ؟ وإذا أمعنا في بطلان هذه القصة وأمثالها ، فإن الإصفهاني يؤكد فيما يرويه في موضع آخر تنافي هذه القصة مع الواقع ، وتعارضها مع خبر النياحة الذي اشتهر بها ابن سريج .
فقد كان ابن سريج نائحاً ، وكانت السيدة « آمنة » سكينة تتحرى موارد النياحة بما يساعدها على التخفيف من مصائبهم أهل البيت ( عليهم السلام ) ، بل كانت النياحة أسلوباً جديراً في بيان ما أصاب أهل هذا البيت من فجائع ، وتصرفات الدهور وتقلبات الأيام ونوائبها ، لذا حرص أهل البيت ( عليهم السلام ) على النياحة كأسلوب مهم من أساليب بيان مظلوميتهم ، ومشاركة العواطف والأحاسيس العامة مع مأساتهم التي سببتها الأنظمة السياسية الطامحة إلى سحق كل القيم من أجل الوصول إلى الحكم والسلطة ، لذا حرص الأئمة الأطهار ( عليهم السلام ) إلى أساليب النياحة حينما وجدوا أن أحاسيس الناس تشاركهم متى ما أظهروا مصائبهم .
عقيلة قريش آمنة بنت الحسين ( عليها السلام )
_ 72 _
فالإمام زين العابدين ( عليه السلام ) طلب من الطرماح بن عدي أن يتقدم الركب الحسيني المفجوع عند دخوله المدينة ، وينعى الحسين ( عليه السلام ) ، مما حدى بالناس إلى الاجتماع واستقبال الإمام ( عليه السلام ) وعائلته بشكل يتناسب وعظم المصاب ، بل وإدانة النظام كذلك ، فكانت محاولة ناجحة للاحتجاج على السلطة بشكل لم يبق لاعتذار أزلامها في الإقدام على قتل سيد الشهداء ( عليه السلام ) مجال .
وهكذا كان الإمام محمد بن علي الباقر ( عليهما السلام ) يخصص مبلغا في كل عام للنياحة عليه ( عليه السلام ) في منى إمعانا في إظهار مظلوميتهم ، وإشارة إلى ما بلغه النظام من تنكيل وتقتيل لأهل هذا البيت العلوي الطاهر ، حتى انه ( عليه السلام ) أوصى بندبه عشر سنين في منى ، وهو موضع اجتماع الحجيج ؛ ليتسنى للمسلمين معرفة ماجرى على أهل هذا البيت ( عليهم السلام ) من ظلم واضطهاد .
وهكذا كان الإمام جعفر بن محمد الصادق ( عليهما السلام ) يقيم مجالس النياحة على جده الحسين ( عليه السلام ) حينما ينشده السيّد الحميري ويأمر أهله بالجلوس ، والإمام علي بن موسى الرضا ( عليهما السلام ) كان يأمر عياله بالاستماع إلى مراثي الإمام الحسين ( عليه السلام ) عندما ينشدها دعبل الخزاعي ، فيبكون ويأمرون شيعتهم بذلك .
عقيلة قريش آمنة بنت الحسين ( عليها السلام )
_ 73 _
هذا هو ديدن الأئمة الأطهار ( عليهم السلام ) ، يتحرون مواضع الندبة والبكاء على فجائعهم ، وليمعنوا في بيان مظلوميتهم ، لذا فإن السيدة « آمنة » سكينة بنت الحسين ( عليهما السلام ) كانت تستشعر هذا الإحساس ، وقد حرصت على إبراز ما تكنه نفوسهم الطاهرة من أحزان وآلام ، وهي لا تزال تعايش مصائب الطف ، وقتل إخوتها وأبيها بشكل مروع ، وتسييرهم أسارى من بلد إلى بلد ، وشعور الحزن والألم يتفاقم وهم لا يزالون مهضومي الحق ، مدفوعين عن مقامهم ، لذا فإنها ( عليهما السلام ) قريبة عهد بفجائع الطف ، والمناسب أن تتحرى ما يخفف من أحزانها ، ويعزز من موقف أهلها الميامين ببيان ما جرى عليهم ، والرواية التالية تؤكد هذا المنحى والاتجاه :
قال أبو الفرج الاصفهاني : إن سكينة بعثت إلى ابن سريج بمملوك لها يقال له : عبد الملك ، وأمرته أن يعلمه النياحة ، فلم يزل يعلمه مدة طويلة ، ثم توفي عمها أبو القاسم محمد بن الحنفية ، وكان ابن سريج عليلاً بعلة صعبة ، فلم يقدر على النياحة ، فقال لها عبدها عبد الملك : أنا أنوح لك نوحاً أنسيك نوح ابن سريج ، فقالت : أو تحسن ذاك ؟ قال : نعم ، فأمرته فكان في الغاية
(1) .
هذه الرواية إذا ما قارناها بخبر غناء ابن سريج للسيدة « آمنة » سكينة ، وجدنا أن مصعب الزبيري قد افتعل الخبر ونسجه على منوال نياحة ابن سريج ، فاستبدل الزبيري مفردات هذه الرواية بوضع خبر الغناء هكذا :
1 ـ استبدال النياحة بالغناء .
2 ـ استبدال عبارة « أن سكينة بعثت إلى ابن سريج بمملوك لها يقال له : عبد الملك ، وأمرته أن يعلمه النياحة » بعبارة خبر أشعب كالآتي :
قالت لأشعب : ويلك أن ابن سريج شاخص ! وقد دخل المدينة منذ حول ولم أسمع غناءه .
---------------------------
(1) الأغاني 249 : 1 و 250 .
عقيلة قريش آمنة بنت الحسين ( عليها السلام )
_ 74 _
3 ـ استبدال اسم عبد الملك وهو مملوكها باسم « أشعب » الخليع الماجن ، مدعيا الخبر ملازمته للسيدة سكينة ؛ لمضاحكتها ومؤانستها على غرار ما كان يفعله مع خلفاء بني أمية وآل الزبير ، فقد عرف « أشعب » بولائه لآل الزبير ، وهو ابن حميدة سيئة السمعة والصيت ، فقد كانت مولاة لأسماء بنت أبي بكر زوجة الزبير ، ولها تاريخها الأسود بما ذكر عنها بأنها : كانت تدخل بيوت أزواج النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وتحرش بينهن ، فأمر النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) بتعزيرها ، وقيل: دعا عليها فماتت
(1) .
وقال ابن حجر في لسان الميزان : كانت تنقل كلام أزواج النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) بعضهن إلى بعض فتلقي بينهن الشر ، فدعا عليها رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) فماتت
(2) .
هذا هو أشعب الذي تربى في بيوت الزبيريين ، ونقل عنه ملاحم العبث معهم ما شهدت به مطولات التاريخ ، فمتى أتيح له أن يكون مع سكينة بنت الحسين لا يفارقها ، وهو حليف عدو الهاشميين الألداء آل الزبير ، الذين عرفوا بمنافستهم لآل علي ( عليه السلام ) وعدائهم وبغضهم لهم ، وهو أمر لا يستقيم مع ماذكر من مرافقته للسيدة سكينة ، وفي الوقت نفسه فهو مولى لآل الزبير ؟ !
على أن مرافقة أشعب للسيدة سكينة « آمنة » ـ كما نقله الخبر ـ يتعارض مع القيم الإسلامية والأخلاقية التي عرف بها آل علي ، من ورع وقداسة وتقوى تأبى معها مخالطة الرجال الأجانب والاجتماع بهم ومؤانستهم .
---------------------------
(1) الإصابة في تمييز الصحابة 275 : 4 .
(2) لسان الميزان 507 : 1 .
عقيلة قريش آمنة بنت الحسين ( عليها السلام )
_ 75 _
وبهذا تنكشف جليا محاولات الوضع والتزوير على السيدة سكينة ، وما بذله أعداء آل البيت ( عليهم السلام ) من محاولات انتقاص هذا البيت الطاهر ، ودفع ما عرف به أعداؤهم من العبث والخلاعة ، وإلصاقها بهم ، ونسج مغامرات اللهو على منوال ما عرف به أعداء أهل البيت وشانئيهم .
محاولات وضع وتزوير أُخر :
لم يكتف آل الزبير وأتباعهم في اختلاق القصص ووضعها ، بل أنهم حاولوا ابتداع أسلوب آخر من تزوير الحقائق ، حيث جعلوا بعض الأسماء الصريحة المعروفة بالخلاعة والعبث وادعوا أنها هي سكينة بنت الحسين ، وهو أمر يثير الاستغراب حقا ، فالأسماء الحقيقية لهذه الوقائع شخصيات أثبتها المؤرخون في مواقع عدة والأشخاص معروفين ، في حين تأتي الروايات الزبيرية فتلصقها بالسيدة سكينة بنت الحسين ظلما وعدوانا ، ونماذج من هذا الخرق الذي ارتكبه الزبيريون تبينه الأخبار التالية :
1 ـ روى ابن عبد ربه الأندلسي أن الأحوص قال يوما لمعبد : إمض بنا إلى عقيلة حتى نتحدث إليها ونسمع من غنائها وغناء جواريها ، فمضيا فألفيا على بابها معاذا الأنصاري وابن صياد ، فاستأذنوا عليها فأذنت لهم إلا الأحوص ، فإنها قالت : نحن على الأحوص غضاب ، فانصرف الأحوص وهو يلوم أصحابه على استبدادهم بها وقال :
ضـنـت عقـيلة عنك اليوم iiبالزاد | | وآثرت حاجة الثاوي على الغادي (1) |
قال ابن عبد ربه في موضع آخر : إن عقيلة هذه هي جارية أبي موسى الأشعري ، وذكر قصتها منفردة .
---------------------------
(1) العقد الفريد 22 : 7 .
عقيلة قريش آمنة بنت الحسين ( عليها السلام )
_ 76 _
إلا أن الإصفهاني لسذاجته نسب عقيلة هذه إلى أنها من ولد عقيل بن أبي طالب ، فقال : وللأحوص مع عقيلة هذه أخبار قد ذكرت في مواضع أخر ، وعقيلة امرأة من ولد عقيل بن أبي طالب
(1) ، وأكذوبة الإصفهاني على أنها من ولد عقيل لم تكف آل الزبير ، حتى أمعنوا في التحريف فجعلوا عقيلة هذه هي سكينة بنت الحسين ( عليهما السلام ) .
قال الإصفهاني في نفس الموضع : وقد ذكر الزبير ، عن ابن بنت الماجشون ، عن خاله أن عقيلة هذه هي سكينة بنت الحسين كنى عنها بعقيلة
(2) ، هكذا أمعن الزبيريون في تزوير الحقائق ، واتهام السيدة سكينة بأمور تتنافى وأبسط القيم الإسلامية ، ووسموها بأقبح الصفات من البذخ واللهو والعبث ، ولم يكتفوا حتى قرنوها بالأحوص الذي قال عنه الإصفهاني بأنه : كان قليل المروءة والدين ، هجاء للناس ، مأبونا فيما يروى عنه
(3) .
2 ـ قال أبو الفرج الاصفهاني : كانت سعدى بنت عبدالرحمن بن عوف جالسة في المسجد الحرام ، فرأت عمر بن أبي ربيعة يطوف بالبيت ، فأرسلت إليه : إذا فرغت من طوافك فأتنا ، فأتاها ، فقالت: لا أراك يابن ربيعة إلا سادرا في حرم الله ، أما تخاف الله ؟ ويحك إلى متى هذا السفه ؟ ! قال : أي هذه ، دعي عنك هذا من القول ، أما سمعت ماقلت فيك ؟ قالت : لا ، فما قلت ؟ فأنشدها قوله :
قالت سعيدة والدموع iiذوارف | | منها على الخدين والجـلباب |
إلى آخر الأبيات
(4) .
---------------------------
(1) الأغاني 258 : 4 .
(2) المصدر السابق .
(3) المصدر السابق : 231 .
(4) الأغاني 12 : 16 . وقد مر الحديث حول القصة والأبيات ، فراجع صفحة : 49 ـ 52 و 74 .
عقيلة قريش آمنة بنت الحسين ( عليها السلام )
_ 77 _
هذا ما ذكره الإصفهاني من الخبر وقصة الأبيات ، إلا أن المحرفين لم يرقهم ذلك فحرفوه ، وجعلوه على ألسنة المغنين بلفظ « سكينة » بدل « سعيدة » وقد اعترف الإصفهاني بهذه المشكلة فقال :
وهذا الشعر تغني فيه :
قالت « سكينة » والدموع ذوارف | | . . . . . |
وفي موضع :
« أسعيد » ما ماء الفرات وبرده . . . « أسُكين » ، وإنما غيره المغنون ، ولفظ عمر ما ذكر فيه في الخبر
(1) ، أي الخبر المتقدم .
3 ـ روى أبو علي القالي في أماليه قول عمر بن أبي ربيعة هكذا :
جددي الوصل يا قريب وجودي ii | لمـحب فـراقـه قـد ألما | (2) |
---------------------------
(2) الأغاني : 162 .
(3) أمالي أبو علي القالي 305 : 2 .
عقيلة قريش آمنة بنت الحسين ( عليها السلام )
_ 78 _
فأبدلوا لفظة « قريب » بلفظ « سكين » أي ترخيم سكينة .
4 ـ روى ابن قتيبة في المعارف: إن عائشة بنت طلحة تزوجها مصعب بن الزبير فأعطاها ألف ألف درهم ، فقال أنس بن زنيم الديلي لأخيه [ عبد الله بن الزبير ] :
أبـلغ أمـير المـؤمنين رسـالة بـضع الفـتاة بألف ألف iiكـامل لو لأبي حـفص أقـول مـقالتي |
| من ناصح لك لا يريد iiخـداعـا وتبيت سـادات الجـيوش جياعا وأقص شأن حديثهم لا رتاعا (1) |
إلا أن الإصفهاني رواها عن مصعب ، عن محمد بن يحيى هكذا : ولما تزوج مصعب سكينة على ألف ألف ، كتب عبد الله بن همام على يد أبي السلاس إلى عبد الله بن الزبير :
أبـلــغ أمـير المـؤمنين رسـالة بـضــع الفـتاة بألف ألف iiكـامل لو لأبـي حـفص أقـول مـقالـتي |
| مـن نـاصـح لك لا يريد iiخـداعا وتـبـيـت سـادات الجيوش جياعا وأقـص شـأن حديثهم لا رتاعا (2) |
هذا هو دأب الوضاع ، يقلبون الحقائق ، ويحرفون الكلم ، طعنا منهم في مخالفيهم أو مخالفي أسيادهم ، ويجهدون في دفع كل قبيح عنهم ، ليوصمون به مخالفيهم ، كما فعل من قبل معاوية بن أبي سفيان في الطعن على علي عليه السلام ، ظنا منه إطفاء نوره ، ويأبي الله إلا أن يتم نوره .
---------------------------
(1) المعارف لابن قتيبة : 233 .
(2) الأغاني 164 : 16 .